عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

حكومة الامام

حكومة الامام

الشيء المؤكّد الذي لا خلاف فيه أنّ الإمام أمير المؤمنين علي بن البي طالب عليه‌ السلام قد انتخب انتخاباً شاملاً من جميع قطعات الشعب ، فقد سارعت القوات المسلحة التي أطاحت بحكومته إلى مبايعته كما بايعته الجماهير العامة في مختلف الأقاليم الإسلامية سوى الشام ، ونفر قليل في يثرب كان من بينهم سعد بن أبي وقاص ، وعبدالله بن عمر
وبعض الأمويين الذين أيقنوا أن الإمام عليه‌ السلام يبسط العدالة الاجتماعية في الأرض ، ويحقق المساواة الكاملة بين المسلمين فلا امتياز لأحد على أحد ، وبذلك تفوت مصالحهم ، فلم يبايعوه ، ولم يقف الإمام معهم موقفاً معادياً فلم يوعز إلى السلطات القضائية والتنفيذية باتخاذ الإجراءات الحاسمة ضدّهم ، وذلك عملاً بما منحه الإسلام من الحريّات العامة لجميع الناس ، سواء كانوا من المؤيّدين للدولة أو من المعارضين لها بشرط أن لا يحدثوا فساداً في الأرض ، أو يقوموا بعصيان مسلّح ضدّ الدولة فانّها تكون مضطرّة إلى اتخاذ الاجراءات القانونية ضدّهم.
وعلى أيّ حال فقد بويع الإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام بيعة عامة عن رضى واختيار من جميع أبناء الشعوب الإسلامية ، وأظهروا في بيعته جميع مباهج الفرح والسرور ، ولم يظفر بمثل هذه البيعة أحد من الخلفاء الذين سبقوه أو تأخّروا عنه.
وفور تقلّد الإمام عليه‌ السلام للخلافة تبنى بصورة إيجابية وشاملة العدل الخالص ، والحق المحض ، وتنكّر لكل مصلحة شخصية تعود بالنفع عليه أو على ذويه ، وقدم مصالح الفقراء والمحرومين على جميع المصالح الأخرى ... كانت سعادته أن يرى الأوساط الشعبية تنعم بالخير والسعادة ، ولا مكان للحاجة والاعواز عندها ، ولم يعرف في تاريخ هذا الشرق حاكم مثله في عطفه وحنانه على البؤساء والمحرومين.
ولا بدّ لنا من وقفة قصيرة للحديث عن بعض شؤون الحكم عند الإمام عليه‌ السلام فإن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسيرة ولده أبي الفضل عليه‌ السلام فانّه يكشف عن روعة التربية الكريمة التي تربّى عليها في عهد أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض ، والتي تركت في نفسه حبّ التضحية والفداء في سبيل الله ، كما يكشف عن الأسباب الوثيقة التي دعت القوى الطامعة ، والمنحرفة إلى الوقوف في وجه حكومة الإمام عليه‌ السلام ، ومناهضتهم لأبنائه من بعده ، وفيما يلي ذلك :
منهج حكم الإمام :
أمّا منهج الحكم وفلسفته عند الإمام عليه‌ السلام فقد كان مشرقاً وحافلاً بمقومات الارتقاء ، والنهوض للشعوب الإسلامية ، وفيما أعتقد أنّه لم تعرف الإنسانية في جميع أدوارها نظاماً سياسياً تبنّى العدل الاجتماعي ، والعدل الاقتصادي والسياسي مثل ما تبّناه الإمام ، وسنّه من المناهج الرائعة في هذه الحقول ونشير إلى بعضها :
١ ـ بسط الحريّات :
وآمن الإمام عليه‌ السلام بضرورة منح الحريّات العامة لجميع أبناء الأمّة ، وان ذلك من اولوّيات حقوقها ، والدولة مسؤولة عن توفيرها لكل فرد من أبناء الشعب ، وان حرمانهم منها يخلق في نفوسهم العقد النفسية ، ويمنع من التقدّم الفكري ، والتطوّر الاجتماعي في أبنائها ، ويخلد لهم الخنوع والخمول ، ويعود عليهم بالاضرار البالغة ، أمّا مدى هذه الحرية وسعتها فهي :
ألف ـ الحريّة الدينية :
يرى الإمام عليه‌ السلام أن الناس أحرار فيما يعتقدون ويذهبون من أفكار دينية ، وليس للدولة أن تحول بينهم وبين عقائدهم كما أنّه ليس لها أن تحول بينهم وبين طقوسهم الدينية ، وانهم غير ملزمين بمسايرة المسلمين في الأحوال الشخصية ، وانّما يتّبعون ما قنن من تشريع عند فقائهم.
ب ـ الحريّة السياسية :
ونعني بها منح الناس الحرية التامة في اعتناق المذاهب السياسية التي تتفق مع رغباتهم وميولهم ، وليس للدولة أن تفرض عليهم رأياً سياسياً مخالفاً لما يذهبون إليه ، كما أنّه ليس لها أن تفرض عليهم الإقلاع عن آرائهم السياسية الخاصة ، وانّما عليها أن تقيم لهم الأدلة والحجج الحاسمة على فساد ذلك المذهب ، وعدم صحّته ، فان رجعوا إلى الرشاد فذاك ، وإلاّ فتتركهم وشأنهم ما لم يحدثوا فساداً في الأرض ، أو يخلّوا بالأمن العام ، كما اتفق ذلك من الخوارج الذين فقدوا جميع المقوّمات الفكرية ، والركائز العلمية ، وراحوا يتمادون في جهلهم وغيّهم ويعرضون الناس للقتل والإرهاب ، فاضطرّ الإمام عليه‌ السلام إلى مقاومتهم بعد أن أعذر فيهم.
ومن الجدير بالذكر أن مما يتفرّع على الحرية السياسية حريّة النقد لرئيس الدولة وجميع أعضائها ، فالناس أحرار فيما يتولّون ، وينقدون ، وقد كان الخوراج يقطعون على الإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام خطابه ، ويخدشون عواطفه بنقدهم الذي لم يكن واقعياً ، وانّما كان مبنيّاً على الجهل والمغالطة ، فلم يتّخذ الإمام أي إجراء ضدّهم ، ولم يسقهم إلى المحاكم والقضاء لينالوا جزاءهم ، وبذلك فقد عهد الإمام إلى نشر الوعي العام ، وبناء الشخصية المزدهرة للإنسان المسلم.
هذه بعض صور الحرية التي طبّقت أيام حكم الإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام وهي تمثّل مدى أصالة منهجه السياسي الذي يساير التطور والابداع.
٢ ـ نشر الوعي الديني :
واهتم الإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام بصورة إيجابية بنشر الوعي الديني ، وإشاعة المثل الإسلامية بين المسلمين ، باعتبارها الركيزة الأولى لإصلاح المجتمع وتهذيبه.
انّ من أُولى معطيات الوعي الديني اقصاء الجريمة ، ونفي الشذوذ والانحراف عن المجتمع ، وإذا لم يتلوّث بذلك ، فقد بلغ غاية الازدهار والتقدّم.
ومن المقطوع به انّا لم نجد أحداً من خلفاء المسلمين وملوكهم قد عني بالتربية الدينية كما عُني الإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام ، فقد حفل نهج البلاغة بالكثير من خطبه التي تهزّ أعماق النفوس ، وتدفعها إلى سلوك المناهج الخيّرة ، واعتناق الفضائل ، وابعادها عن اقتراف الجرائم ، وقد أثمرت خطبه في إيجاد طبقة من خيار المسلمين وصلحائهم ، قاوموا الانهيار الأخلاقي ، وناهضوا التفسخ والتحلل الذي شاع أيام حكم الأمويين ، وكان من بين هؤلاء رشيد الهجري وميثم التمّار وعمرو بن الحمق الخزاعي ، وغيرهم من بناة الفكر الإسلامي.
٣ ـ نشر الوعي السياسي :
أمّا نشر الوعي السياسي في أوساط المجتمع الإسلامي فهو من أهمّ الأهداف السياسية التي تبنّاها الإمام عليه‌ السلام في أيّام حكومته.
ونعني بالوعي السياسي هو تغدية المجتمع وإفهامه بجميع الطرق والوسائل بالمسؤولية أمام الله تعالى ، على مراقبة الأوضاع العامة في الدولة وغيرها من سائر الشؤون الاجتماعية للمسلمين حتى لا يقع أيّ تمزّق في صفوفهم ، أو ايّ تأخّر أو ضعف في حياتهم الفردية والاجتماعية ، وقد ألزم الإسلام بذلك ، قال رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم :
« كلّكم راع ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته .. » ألقى النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم المسؤولية على جميع المسلمين في رعاية شؤونهم ، والعمل على حفظ مصالحهم ، ودرأ الفساد عنهم.
ومن بين الاَحاديث المهمّة الداعية إلى مقاومة أئمّة الظلم والجور هذا الحديث النبوي الذي ألقاه أبو الأحرار على جلاوزة ابن مرجانة وعبيدة قال : « أيّها الناس : إنّ رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم ، قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ و آله وسلم يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله .. » (١).
وكان هذا الحديث الشريف من المحفّزات لسيّد الشهداء عليه‌ السلام على إعلان الجهاد المقدّس ضدّ الحكم الأموي الجائر الذي استحلّ ما حرّم الله ، ونكث عهده ، وخالف سنّة رسوله ، وعمل في عباد الله بالإثم والعدوان.
انّ الوعي السياسي الذي أشاعه الإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام بين المسلمين أيّام حكمه قد خلق شعوراً ثورياً ضد الظالمين والمستبدّين ، فقد انبرى المجاهدون الأبطال ممن غذّاهم الإمام بهذه الروح إلى مقارعة الطغاة ، وكان على رأسهم أبو الأحرار سيّد الشهداء واخوه البطل الفذّ أبو الفضل العباس عليه‌ السلام ، والكوكبة المشرقة من شباب أهل البيت عليهم‌السلام وأصحابهم المجاهدين ، فقد هبّوا جميعاً في وجه الطاغية يزيد لتحرير المسلمين من الذلّ والعبوديّة وإعادة الحياة الحرّة الكريمة بين المسلمين ...
وقد سبق هؤلاء العظماء المصلح الكبير حجر بن عديّ الكندي ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ورُشيد الهجري ، وميثم التمّار وغيرهم من أعلام الحرية ودعاة الإصلاح الاجتماعي ، فقد ثاروا بوجه الطاغية معاوية بن أبي سفيان ممثّل القوى الجاهلية ، ورأس العناصر المعادية للإسلام ، وعلى أي حال فقد غرس الإمام أمير المؤمنين عليه‌ السلام روح الثورة على الظلم والطغيان في نفوس المسلمين ، وأهاب بهم أن لا يقارّوا على كظّة ظالم أو سغب مظلوم.
٤ ـ إلغاء المحسوبيات :
وكان مما عني به الإمام عليه‌ السلام في أيّام حكومته إلغاء المحسوبيات إلغاءً مطلقاً ، فالقريب والبعيد عنده سواء ، فليس للقريب امتياز خاص ، وانّما شأنه شأن غيره في جميع الحقوق والواجبات كما ساوى بصورة موضوعية بين العرب والموالي مما جعل الموالي يدينون له بالولاء ، ويؤمنون بإمامته.
لقد ألغى الإمام جميع صنوف المحسوبيات ، وصور العنصريات ، وساوى بين المسلمين على اختلاف قومياتهم مساواة عادلة لم يعهد لها نظير في تاريخ الأمم والشعوب ، فقد حملت مساواته روح الإسلام وجوهره وحقيقته النازلة من ربّ العالمين ، فهي التي تجمع ولا تفرّق ولا تجعل في صفوف المسلمين أي ثغرة يسلك فيها أعداء الإسلام لتشتيت شملهم ، وتصديع وحدتهم.
٥ ـ القضاء على الفقر :
أمّا فلسفة الإمام عليه‌ السلام في الحكم فتبتني على محاربة الفقر ولزوم اقصاء شبحه البغيض عن الناس لأنّه كارثة مدمّرة للمواهب والأخلاق ، ولا يمكّن الأمّة أن تحقّق أي هدف من أهدافها الثقافية والصحيّة وهي فقيرة بائسة ، إن الفقير يقف سدّاً حائلاً بين الأمّة وبين ما تصبو إليه من التطوّر والتقدّم والرخاء بين أبنائها ... ومن الجدير بالذكر أن من بين المخططات التي تزيل شبح الفقر وتوجب نشر الرخاء بين الناس ، والتي عني بها الإسلام بصورة موضوعية وهي :
أ ـ توفير المسكن.
ب ـ إقامة الضمان الاجتماعي.
ج ـ توفير العمل.
د ـ القضاء على الاستغلال.
ه‍ ـ سدّ أبواب المرابين.
و ـ القضاء على الاحتكار.
هذه بعض الوسائل التي عني بها الإسلام في اقتصاده ، وقد تبنّاها الإمام في أيّام حكومته ، وقد ناهضتها القوى الرأسمالية القرشية ودفعت بجميع إمكانياتها للإجهاز على حكم الإمام ، الذي قضى على مصالحهم الضيّقة ، وبهذا نطوي الحديث عن منهج الإمام وفلسفته في الحكم.
المصدر: حياة الامام الحسين ٣ : ٨٠.

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

من هم قتلة عثمان
من الراوي في قضية ميلاد أمير المؤمنين (ع) في ...
السلاجقة والتشيع .
نصوص السماء لا من انتخاب المنتخبين فعلي ان وجد ...
ملامح عصر الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام )
ابتکار نظرية الصحابة
غزوة بدر الكبرى أسبابها وأهميتها
مناظرة أمير المؤمنين(ع) مع رجل من أهل الشام في ...
احتجاج الإمام علي(ع) بحديث الغدير
الاسرة والحقوق الزوجية

 
user comment