عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

الخلق العظيم

الخلق العظيم


لكي نحكم على موقف العهود اللاحقة بعهد النبوة من المنظومة الحقوقية الإلهية، ولكي نعرف حجم التخريب والتدمير الذي ألحقته تلك العهود بالمنظومة الحقوقية الإلهية، لا بد من دراسة سريعة لحالة المنظومة الحقوقية الإلهية في عهد النبوة المحمدية الأرشد، لأن عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المثال الأرفع، وهو عهد الكمال المطلق، ففي عهده بدأت، وفي عهده اكتملت وطبقت تطبيقا كاملا ودقيقا، وتم نقلها من النص إلى التطبيق، ومن الكلمة إلى الحركة، سواء على صعيد الدعوة، أو على صعيد الدولة، أو على صعيد المرحلة التي توسطت تحول الدعوة إلى دولة.
وبدراسة عهده المبارك واستيعابه يحصل الباحث على الميزان الحق الذي يزن به كل عهد من العهود اللاحقة بعهد النبوة، وعلى المقياس القويم الذي يقيس به تلك العهود قربا وبعدا، إصلاحا وخرابا.
- جناحا المنظومة الحقوقية في عهد النبوة الأرشد
في عهده المبارك (صلى الله عليه وآله وسلم) حصرت المنظومة الحقوقية الإلهية باثنين لا ثالث لهما هما بمثابة جناحي طير السعد وهما:
1 - قرآن كريم منزل من عند الله.
2 - بيان الرسول لهذا القرآن.
تلك ببساطة مجموعة القواعد الحقوقية المعتمدة أثناء الدعوة المحمدية، وحال قيام دولته الإيمانية المباركة، بعد أن تحولت الدعوة إلى دولة.
وغني عن البيان أن بيان الرسول لهذا القرآن يأخذ شكل: القول أو شكل الفعل أو شكل التقرير على وجه الحصر، ومهما كان شكل هذا البيان النبوي فهو جزء لا يتجزأ من المنظومة الحقوقية الإلهية، وهو بمثابة جناحها الأيسر، والقرآن الكريم هو جناحها الأيمن، ويتعذر على الطائر أن يطير إلا بجناحيه.
- يقينية المنظومة الحقوقية الإلهية
القرآن الكريم هو كلام الله الذي أوحاه إلى نبيه لفظا ومعنى، تلك حقيقة إيمانية مطلقة قائمة على الجزم واليقين، وهي أساس العقيدة الأول. والنبي الأعظم هو رسول الله المكلف ببيان القرآن بيانا قائما على الجزم واليقين، بحيث يكون هو نفس المقصود الإلهي حسب أحوال المكلفين وقدرة الواقع على التحمل والحركة، وتلك حقيقة مطلقة وهي أساس العقيدة الثاني.
والرسول الكريم بالضرورة هو أفهم خلق الله بهذا القرآن، وأعلمهم به، وأكثرهم قدرة على بيانه، وهو معد ومهيأ إلهيا ليكون الأفهم والأعلم بالقرآن، والأقدر على بيانه، وهو الأفضل لقيادة المؤمنين بالله تعالى على هدى هذا القرآن، وترشيد حركة المجتمع على هداه، تلك حقيقة ثالثة قائمة على الجزم واليقين، وهي أيضا الأسس الثالث للعقيدة.
وقد فصلت هذه الحقائق في كتابي نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام، فليرجع إليه من أراد التفصيل.
- الوحدة العضوية بين القرآن والبيان
كما أنه لا غنى للطير عن أحد جناحيه، كذلك لا غنى للمنظومة الحقوقية الإلهية عن أحد جناحيها، فلا غنى للقرآن عن النبي لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المبين لهذا القرآن، ولا غنى للنبي عن هذا القرآن لأنه دليل نبوته، وعنوان الرسالة الإلهية إلى بني البشر، والقرآن حافل بآلاف المعاني والمقاصد بوصفه القانون النهائي للجنس البشري، والنبي وحده هو القادر على معرفة المعنى المحدد للنص المحدد، الذي ينطبق على هذه الواقعة أو تلك.
وباستعراضنا لتاريخ الهدايات الإلهية لم نجد أن الله تعالى قد أرسل رسالة بدون رسول، أو أنزل كتابا إلا على عبد، وهذا يؤكد أن النبوة فن واختصاص بأمور البيان، تماما كاختصاص الطبيب بالطب والمهندس بالهندسة... إلخ. وتلك أمور لم يغفلها المشرع الوضعي على قصوره، فما من منظومة حقوقية سائدة، إلا وخصص لها فرد أو جهاز يتولى بيانها للمكلفين.
- الجزم واليقين والظن والتخمين
قد يقول قائل إن القرآن الكريم قد نزل بلسان عربي مبين، وأن بإمكان أي قارئ للعربية أن يفهم القرآن، وأن يستوعب الكثير من معانيه، هذا صحيح ولكن الآية الواحدة مشحونة بالمعاني والمفاهيم والمقاصد، وليس المطلوب أي معنى، أو أي فهم، أو أي مقصد، إنما المطلوب عين المعنى والمفهوم والمقصد الذي عناه الله تعالى بهذه الآية، وخصصه بالذات ليحكم هذه الحادثة، أو تلك، في هذا الزمن، أو ذلك.
ففهم أي شخص للنص القرآني هو فهم قائم على الظن والتخمين، فهو يتصور حسب مبلغه من العلم أن هذا الفهم هو المطلوب وهو الحاكم لتلك الحادثة، ولكنه لا يجزم أن هذا هو المقصود الإلهي، وإذا جزم فلا برهان على جزمه.
أما فهم الرسول أو المكلف إلهيا ليقوم مقامه، فهو فهم قائم على الجزم واليقين بأن هذا المعنى أو ذلك هو عين المقصود الإلهي المخصص لحكم هذه الحادثة، أو تلك، في هذا الزمن، أو ذاك.
والدليل القاطع على صحة الجزم واليقين أن الله اختاره وهيأه وكلفه بالبيان مباشرة، ثم اختار من بعده الإمام، وهو مكلف بأن يكون مرجع الأمة الأوحد في زمانه، والكاشف الأوحد عن المقاصد الإلهية الواردة في أحكام المنظومة الحقوقية الإلهية.
- مخاطر الظن والتخمين
يستقيم أمر العباد ما دام المرجع الذي يبين أحكام المنظومة الحقوقية الإلهية بيانا قائما على الجزم واليقين موجودا، ومتاحة أمامه الفرصة لممارسة مهام البيان والقيادة معا، فإذا حيل بين هذا المرجع وبين ممارسة مهامه في البيان والقيادة، فإن حبل المنظومة الحقوقية الإلهية يهتز، ويتعذر عليها أن تقوم بدورها على الوجه الأكمل، لسبب بسيط أنها لا تستطيع أن تحلق بجناح واحد، ولأن استبعاد الإمام المختص ببيان الأحكام بيانا قائما على الجزم واليقين، يعني كسر جناح المنظومة الحقوقية الإلهية، وإجبارها على التحليق بجناح واحد.
عملية استبعاد الإمام المختص إلهيا ببيان الأحكام جريمة، وعملية تعطيل الشريعة الإلهية جريمة أيضا، فإذا جمعوا الجريمتين معا فإن سعيهم سيكشف، ولا يمكن الدفاع عنه، فاستبعاد الإمام المختص إلهيا عملية يمكن تغطيتها بالقول بأن المصلحة اقتضت ذلك، والمصلحة العامة كلمة مطاطة، ويمكن تمريرها على العامة، وقوة الغالب قادرة على قمع الخاصة، أما تعطيل الشريعة فعملية مكشوفة تماما.
ولمعالجة هذه الحالة صار الغالب هو المرجع، وهو المختص ببيان الأحكام، وبما أن الحاكم الغالب غير مؤهل، فإنه يجمع حوله طائفة من العلماء، ويخولهم صلاحية بيان الأحكام، فيخرج كل واحد منهم برأي وفهم، ومعنى، ومقصد، فيختار الحاكم الغالب، الفهم، والمعنى، والمقصد الذي يريد، ويتوغل أصحاب الأفهام في صفوف العامة، ويزعم كل صاحب فهم أن فهمه هو الأصوب، ويستقطب كل صاحب فهم طائفة، ثم تتحول الطوائف إلى أحزاب وشيع، كل حزب بما لديهم فرحون، وتتفرق الأمة داخليا، وتشتت، ويذهب ريحها، وتتحول إلى حقل تجارب لعنعنات الأحزاب، ومكر قادتها، وتخرج طائعة من يسر الجزم واليقين إلى عسر الفرض والتخمين، ومن سعة اليقين إلى ضيق الشك، وتتعطل عمليا أحكام المنظومة الحقوقية الإلهية، وتتصور الأمم الأخرى أن البيان الذي أشاعته المرجعيات البديلة هو عين البيان الإلهي، وبما أن بيان المرجعيات البديلة قائم على الظن والتخمين، تكف الأمم عن بحث الإسلام وعن دراسته.
- الإلحاق والتقول
قلنا إن المنظومة الحقوقية الإلهية جناحا طير واحد، أحد جناحيه القرآن الكريم، وجناحه الآخر بيان النبي لهذا القرآن، بأشكاله الثلاثة: القول، والفعل، والتقرير.
وقبل أن ينتقل النبي إلى جوار ربه أعلن للملأ الجهة المخولة بالبيان، وهم عترته أهل بيته، وبالتحديد الأئمة المعصومون من هذه العترة، فعميد أهل البيت المهيأ إلهيا هو المخول بالبيان، والقيادة السياسية معا.
وبسبب نظام التغلب أقصيت عمادة البيت الطاهر رسميا عن الحكم، والمرجعية، والبيان، وأسندت هذه المهام إلى الغالب ومن والاه، فألحقوا العرف، والإجماع، والقياس، والمصالح المرسلة، بالمنظومة الحقوقية الإلهية، وتقولوا على الله، بأنها جزء من منظومته، مع أن هذه المنظومة إذا أقرت عرفا من الأعراف بعد تهذيبه، فإن العرف لا يستمد شرعيته من ذاته، بل يستمد الشرعية والانتماء من المنظومة الحقوقية الإلهية، والإجماع بجوهره عندهم هو إيجاد حكم لحادثة لا حكم لها، وغير وارد أن يكون الإجماع ضد حكم، فكيف نوفق بين هذه التصورات وبين التأكيدات الإلهية بأن الله تعالى قد نزل القرآن تبيانا لكل شئ؟ (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) (1)
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (2)
(وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) (3)،
بل كيف نوفق بين هذه التصورات، وبين الإعلان عن كمال الدين، وتمام النعمة الإلهية؟ (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي)(4).
السبب في هذه الإلحاقات والتقولات يكمن في إصرار الحاكم الغالب في كل زمان على استبعاد الإمام المخول إلهيا بالبيان، القائم على الجزم واليقين، وإصرار هذا الغالب بأنه القائم مقام النبي بالبيان مع أنه غير مخول بذلك، ولا هو معد إلهيا ليقوم مقام النبي بمهمة بيان القرآن!!
ولو أتيحت الفرصة للإمام الشرعي المعد إلهيا والمخصص لبيان القرآن، لوجد العباد حكم كل شئ في القرآن الكريم، ولكشف لهم هذا الإمام عن الأحكام الشرعية كشفا قائما على الجزم واليقين، ولكن الغالب نحى الإمام عن مهمته، وحاول أن يقوم مقام الإمام فعجز، ولكنه يخفي عجزه.
- تفعيل المنظومة الحقوقية الإلهية في عهد النبوة
بمعنى كيف تعمل المنظومة الحقوقية الإلهية في عهده النبوة؟ كيف تقوم بترشيد حركة المجتمع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والعقائدية، والدولية، وفق أحكامها؟ كيف تنقلها من عالم النص إلى عالم التطبيق سواء في عهد النبوة، أو بعد عهد النبوة؟ هذا عين ما قصدناه بمصطلح التفعيل.
إن المطلوب هو إحلال الترتيبات الإلهية لإدارة وترشيد حركة المجتمع محل الترتيبات الوضعية، بمعنى أن عقيدة وضعية فاسدة تحكم هذا المجتمع أو ذاك، ونتيجة تحكم هذه العقيدة، ونتيجة لترتيباتها تردت حالة هذا المجتمع أو ذاك، وتعذر تغييرها ، وإنقاذ المجتمع بدون إلغاء هذه العقيدة الوضعية الفاسدة وإحلال العقيدة الإلهية محلها، على اعتبار أن العقيدة الإلهية هي خطة الإنقاذ الإلهي للمجتمع.
- الترتيبات الإلهية والترتيبات الوضعية
الترتيبات الإلهية خطوط عريضة، وتفصيلية يضعها الله نفسه لإدارة وترشيد حركة مجتمع الإيمان، وهي ترتيبات قائمة على الجزم واليقين، يشرف على توضيحها وبيانها وتنفيذها رجل مرتبط ارتباطا وثيقا بالله تعالى، بحيث يكون بيانه وتوضيحه للترتيبات الإلهية هو عين المقصود الإلهي لا زيادة ولا نقصان، ويكون تنفيذه للخطة الإلهية على العموم وبالتفصيل هو عين المشيئة الإلهية بالتنفيذ لا زيادة ولا نقصان، وهذا يستدعي أن يكون هذا الرجل هو الأفهم والأعلم بالترتيبات الإلهية، وأفضل الموجودين، وأصلحهم للقيادة والمرجعية معا، وتلك صفات موضوعية خفية لا يعلمها إلا الله تعالى، ومن هنا اختص جلت قدرته بتحديد هذا الرجل، وتكليفه بقيادة خطة الإنقاذ الإلهي، أو وضع الترتيبات الإلهية موضع التنفيذ.
بينما الترتيبات الوضعية هي مجرد تصورات ظنية يضعها فرد، أو شلة، أو فئة، ويقدمونها للناس على أساس أنها خطة إنقاد، أو منهج إدارة وترشيد لحركة المجتمع، ويفرضونها على المجتمع بالحديد وبالنار، ويشرف على تنفيذها رجل لا برهان معه، ولا سند له من الشرعية، سوى أنه الغالب. فهو الذي يبين التصورات الظنية، وهو الذي ينفذها، تدعمه فئة تتقاسم وإياه المنفعة، ويتنعمون معا، بينما يشقى السواد الأعظم.
- أركان الترتيبات الإلهية
خطة الإصلاح الإلهي، أو المنظومة الحقوقية الإلهية، أو الترتيبات الإلهية لإنقاذ هذا المجتمع أو ذاك، تتكون من ثلاثة أركان:
الركن الأول: قيادة سياسية ومرجعية معا: وهي تتكون من نبي مرسل يتولى بيان الخطة الإلهية، أو توضيح التعليمات الإلهية توضيحا قائما على الجزم واليقين، ونقل هذه التعليمات الإلهية إلى واقع حي، وحركات ملموسة، فهو المرجع اليقيني الأوحد لكل ما يتعلق بالخطة الإلهية، أو مجموعة قواعد المنظومة الحقوقية الإلهية، فلا مرجع سواه، وإن تعددت المراجع بأمره فقوله هو الفصل، فهو المهيمن عليها، وهو الموجه لها، تصدر نهائيا عن حكمه، وتسلم بيقينية هذا الحكم، وبنفس الوقت هو القيادة السياسية، يقود بنفسه، ويستعين بغيره. وقوله وفعله وتقريره هو جزء من المنظومة الحقوقية، يقرأ معها، وتفهم به.
الركن الثاني: منظومة حقوقية إلهية: وهي كتاب الله المنزل من عند الله باللفظ والمعنى، مع ما يستتبعه من تفضل إلهي بالتوضيح، وهذا الكتاب هو بمثابة خطة إلهية
لإنقاذ وإصلاح المجتمع، أو بمثابة تعليمات إلهية لنقل المجتمع من حالته الراهنة إلى الحالة التي يريدها الله، أو إن شئت فقل: إنها مجموعة القواعد الحقوقية الإلهية التي ترشد حركة الانتقال من المجتمع المتخلف إلى المجتمع المتطور، وهي بذاتها القواعد التي ستحكم حركة المجتمع بعد نقله إلى مستوى التصور اليقيني الوارد في نصوص وروح المنظومة الإلهية، ويمكنك القول: إنها مجموعة القوانين الإلهية الجاهزة للتنفيذ.
الركن الثالث: أمة من الناس: تقبل بالقيادة والمرجعية معا، وتواليها، وبنفس الوقت تقبل بالمنظومة الحقوقية الإلهية كقانون نافذ يحكم الحوادث، والعلاقات والحقوق. فإذا قبلت هذه الأمة بالمنظومة الحقوقية وحدها، ورفضت القيادة والمرجعية، فإنها تكون قد رفضت الترتيبات الإلهية ضمنا، وإذا قبلت الأمة المرجعية والقيادة السياسية ورفضت المنظومة الحقوقية الإلهية، فإنها تكون ضمنا قد رفضت الترتيبات الإلهية.
- القبول المقبول
القبول الوحيد المقبول والمنتج هو أن تأخذ الأمة بالاثنين معا:
1 - توالي المرجعية والقيادة السياسية، ولا تتولى غيرهما.
2 - تقبل بالمنظومة الحقوقية الإلهية، كما تفسرها المرجعية والقيادة السياسية المعينة من الله تعالى، والمختصة بالبيان والقيادة.
وبغير ذلك فإن الترتيبات الإلهية ستزول عاجلا أم آجلا، وترتفع البركة والألفة، وينقسم الناس إلى شيع يذوق بعضهم بأس بعض، ويعود المجتمع إلى الوراء، ثم يحل به الدمار!
وقبل أن ينتقل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جوار ربه بلغ العامة والخاصة: أن علي بن أبي طالب هو بعينه ولي المؤمنين من بعده، وبين اثني عشر إماما يتولون الإمامة من بعده إماما بعد إمام، كل إمام يعين بنص من سبقه عليه. ويلاحظ أن عميد أهل البيت الكرام في كل زمان هو إمام الأمة، وهذا يفسر ربط القرآن وأهل البيت معا، فهما الثقلان، والهداية لا تدرك إلا بهما معا، والضلالة لا يمكن تجنبها إلا بهما معا.
- الترتيبات الوضعية
لا تختلف من حيث الشكل عن الترتيبات الإلهية فهي تتكون أيضا من ثلاثة أركان:
1 - قائد سياسي ومرجع، وهو الغالب، يعين نفسه، أو تعينه الفئة المستفيدة من وجوده.
2 - منظومة حقوقية من صنع الغالب وبطانته.
3 - أمة مغلوبة على أمرها، أو مدلس عليها، تقبل بالقائد السياسي، والمرجع الغالب وبالمنظومة الحقوقية الوضعية التي يضعها هذا الغالب، بنفسه أو بواسطة غيره، ويبينها ويفسرها وينفذها على الوجه الذي يريد، بنفسه أو بواسطة غيره.
- الترتيبات المركبة وأركانها
وهي ثمرة الخلط الجبري بين الترتيبات الإلهية والترتيبات الوضعية، وتتم عملية الخلط جبريا بواسطة قوة متغلبة يتعذر عليها أن تتجاهل كل الترتيبات الإلهية، وبنفس الوقت لا تتحقق أهدافها بإعمال كامل الترتيبات الإلهية، أو أنها ترى أن الترتيبات الإلهية لم تعد مناسبة، وأن الأفضل إجراء تعديل جوهري عليها. ومن هنا ابتدعت فكرة الترتيبات المعدلة، أو المركبة، فصارت الترتيبات الجديدة، لا هي إلهية، ولا هي وضعية، إنما هي ترتيبات مركبة.
الركن الأول في الترتيبات المركبة: حسبنا كتاب الله: بمعنى أن التمسك بكتاب الله وحده كمنظومة حقوقية وكقانون نافذ يجزي وحده، ويغني عمن سواه، وقد سادت هذه المقولة والنبي على فراش الموت، ثم كتبت لها الغلبة بعد أن انتقل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جوار ربه، وهذه واقعة ثابتة وقد سقنا الأدلة القاطعة على وقوعها في هذا البحث، وفي كتابنا نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام.
الأمة هي وحدها المختصة بتعيين القيادة السياسية والمرجعية، وليس الله: بمعنى أن الأمة هي وحدها المخولة باختيار الشخص الذي يتولى المرجعية، أي بيان القرآن والقيادة السياسية معا.
ويقول رواد هذه النظرية إن الله تعالى خلى على الناس أمرهم، وترك هذه الأمور للأمة لتختار وفق مشيئتها، وحسب قواعد الشورى، من تراه، ولئن سألتهم أين هي قواعد الشورى التي تحكم عملية الاختيار؟ لأجابوك على الفور: تلك قواعد جاءت من إجماع الأمة، ومن فعل الحكام الصالحين.
والخلاصة: أن عملية اختيار المرجعية والقيادة شأن خاص بالأمة ولا علاقة لأي كان به، بمعنى أن القواعد التي تحكم اختيار الشخص الذي يتولى البيان والمرجعية والقيادة السياسية، هي في أصلها وجوهرها قواعد وضعية، وضعتها الأمة بالاستناد إلى مبدأ الإجماع، وتحت مظلة مبدأ الشورى، وسأقوم بتوثيق ذلك، ويمكن لمن أراد الوقوف على تفصيل ذلك مراجعة مباحث هذا الكتاب، ومراجعة كتابنا النظام السياسي في الإسلام، ونظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام، وكتابنا مرتكزات الفكر السياسي.
الركن الثالث: الغلبة والتغلب والغالب: المنظومة الحقوقية الإلهية لا يمكن تطبيقها بدون مرجعية تتولى مهمة البيان، وبدون قيادة سياسية تعمل على ترشيد حركة المجتمع وفق قواعد هذه المنظومة، وقد تعثرت فكرة الشورى حتى في سقيفة بني ساعدة، وتعذر تطبيقها عمليا وسياسيا، فالحل الأمثل بنظر رواد التاريخ هو إفساح المجال أمام فارس قوي مسلم، يقهر كل خصومه، ويغلبهم، ويجمع الأمة تحت إمرته، ويأخذ باللين، أو بمنتهى الشدة، كل خارج على حكمة، وكل مشكك بشرعية وجوده، باعتبار أن هذا الفارس هو رمز وحدة الأمة، وباعتبار أن الخارج على هذا الفارس والمشكك بشرعية حكمه، خارج على وحدة الأمة، متمرد على القضاء الإلهي، على حد تعبير معاوية بن أبي سفيان. ومن هنا صارت الغلبة سببا شرعيا مكسبا للحكم، .
الركن الرابع: العهد: اكتشف الخلفاء الحكام أن موت الحاكم، وترك الأمة دون بيان من يخلفه، مفسدة حقيقية، وليس من مصلحة الأمة أن يتركوها هملا لا راعي لها، فضلا عن ذلك فإن المصارعة بين الفرسان الأقوياء عمل يؤدي لعدم الاستقرار، وإلى إراقة الدماء، فمن هنا نشأت فكرة ولاية العهد، فالخليفة الحاكم يعهد لمن يليه، وتستمر عملية العهد حتى يأتي فارس فيغلب الغالب ويحل محله، ثم يعهد لابنه أو أخيه أو صديقه.
والجدير بالذكر أن هنالك إجماعا بين رواد هذه النظرية بأن الرسول لم يعهد لأحد، وأنه ترك أمته ولا راعي لها! فجاء الخلفاء وتداركوا هذه الناحية، وسدوا هذا الفراغ!
الغالب كائنا من كان: فهو القائم مقام النبي والمتمتع بكامل صلاحياته، إلا أنه لا يوحى إليه. فالغالب هو الذي يبين القرآن، أو يعين من يبينه، وهو مرجع الأمة، أو يعين لها المرجع الذي يمارس أعمال المرجعية تحت إشرافه، وهو قائدها السياسي، ورمز وحدتها، وهو ينظر في أمورها حال حياته، وتبع ذلك أن ينظر لها حال وفاته، فيعين لها من يقوم مقامه بعد وفاته، على حد تعبير ابن خلدون.
وقد هيمنت هذه الترتيبات المركبة، وسادت الحياة السياسية من بعيد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سقوط آخر سلاطين بني عثمان، باستثناء فترة محددة لا تتجاوز سنيها عدد أصابع اليدين.
المصادر :
1- آية 89 النمل
2- آية 44 النمل
3- آية 64 النمل
4- آية 3 المائدة

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

القدرية
محكمة خليفية تقضي بإعدام حسين مرزوق وسجن آخرين ...
الوعد والوعيد
شاهد عیان یتکلم عن کارثة منی 2015/ لقد رأينا ...
العلاقة الزوجية بين الرومانسية والجنس
الإعراض عن اللغو
من هم الشیعة ومن أین ؟؟
نص رسالة "محمد رسول الله" لـ"المقوقس" ...
الحياة مع زوج شكاك.. جحيم لا يطاق!
التجلي لموسى عليه السلام

 
user comment