عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

التنازع على النفوذ في الدولة العباسية

التنازع على النفوذ في الدولة العباسية
بلغت الدولة العباسية عصرها الذهبي في أيام خلفائها الأولين، وخصوصًا الرشيد والمأمون فاتسع سلطانها في أيامهم وامتدت سطوتها على معظم العالم المعمور في ذلك العهد، فبلغت الهند شرقًا والمحيط الأطلسي غربًا وبلاد سيبيريا وبحر قزوين شمالًا وبلاد النوبة جنوبًا.
فلما نكب البرامكة ثم استبد الجند التركي بالحكومة أصبحت الأحكام فوضى، وخصوصًا بعد المتوكل؛ لأنهم أقدموا على قتله وكان ذلك فاتحة جرأتهم على الخلفاء بعده من عزل وتولية وقتل وسمل. فعجز الخلفاء عن القيام بشؤون الدولة، وهم أصحابها المسؤولون عنها والأحكام تصدر بأسمائهم، وإن كانوا مدفوعين إلى إجراءاتهم ببعض أرباب النفوذ في بلاطهم، من الوزراء والقواد.
فأقدرهم على إرضاء الخليفة أو أشدهم دهاءً ومكرًا يفضي النفوذ إليه، فإذا ملك قياد الحكومة بذل جهده في حشد الأموال، إذ لا يأمن أن يستبدل هذا الخليفة بآخر لا يرضاه، أو لعل بعض أعدائه يغلبه بدسائسه وسعايته فيعزله، فإذا لم يكن له مال عاش ذليلًا مهانًا.
على أن القواد كانوا يحاولون الاستئثار بالنفوذ في بلاط الخليفة بالتهديد أو بالوشاية، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص.
ويقال بالإجمال إن النفوذ أصبح ضائعًا بين الوزراء والقواد، وكلاهما لا يرجون من وراء عنايتهم وجهدهم منفعة لأنفسهم، غير ما يكتسبونه من المال في أثناء نفوذ كلمتهم.
فأصبح الغرض الأول من تمشية الأحكام إنما هو حشد المال. فالوزير الذي يتولى أمور الدولة ولا يدري ما يكون مصيره بعد عام أو عامين من عزل أو قتل أو حبس لا يهمه غير الكسب من أي طريق كان، ولا يبالي بما قدم يترتب على ذلك فيما بعد، عملًا بالقاعدة التي وضعها ابن الفرات كبير وزراء ذلك العصر، وهي قوله:
«إن تمشية أمور السلطان على الخطأ خير من وقوفها على الصواب».(1)
وانتبه الخلفاء إلى مطامعهم، فأصبحوا إذا عزلوا وزيرًا صادروه وأخذوا أمواله، وقد فصلنا ذلك في باب المصادرة في الجزء الثاني من هذا الكتاب، ثم عمت المصادرة سائر رجال الحكومة، حتى الرعية، وأصبحت بتوالي الأيام المصدر الرئيسي لتحصيل المال. فالعامل يصادر الرعية، والوزير يصادر العمال، والخليفة يصادر الوزراء ويصادر الناس على اختلاف طبقاتهم، حتى أنشأوا للمصادرة ديوانًا خاصًّا مثل سائر دواوين الحكومة فكان المال يتداول بالمصادرة كما يتداول بالمتاجرة. (2)

أنواع المصادرة ومقاديرها

قال الوزير ابن الفرات: «تأملت ما صار إلى السلطان من مالي فوجدت ١٠ ملايين دينار، وحسبت ما أخذته من الحسين بن عبد الله الجوهري (ابن الجصاص)، فكان مثل ذلك» فكأنه لم يخسر شيئًا؛ لأنهم كانوا يقبضون بالمصادرة، ويدفعون بالمصادرة.
وإذا صودر أحدهم على مال لم يكن في وسعه أداؤه كله معجلًا أجلوه بالباقي، وساعدوه على تحصيله أو جمعه برد جاهه وتغيير زيه وإنزاله في دار كبيرة فيها الفرش والآلة الحسنة؛ ليستطيع التمحل في جمع الأموال من الناس.(3)
وتعددت أسباب المصادرة وجهاتها، حتى أصبح كل صاحب مال أو منصب عرضة لها. وهاك قائمة بما قبضه ابن الفرات من المصادرة على أيام الراضي بالله، ننشرها بنصها حرفيًّا أنموذجًا لأنواع المصادرات ومقاديرها(4)

ابتزاز الأموال

فالوزير يتولى الوزارة عامًا أو عامين، ثم يعزل أو يستقيل وله عدة ملاين من الدنانير، فضلًا عن الضياع والمباني، وقد اكتسب هذه الثروة بالرشوة ونحوها من أسباب المظالم. وكان الوزير لا يولي عاملًا على ولاية ما لم يقبض منه مالًا على سبيل الرشوة يسمونه «مرافق الوزراء».
ومن أغرب حوادث التولية بالرشوة أن الخاقاني وزير المقتدر بالله ولي في يوم واحد تسعة عشر ناظرًا للكوفة وأخذ من كل واحد رشوة. وإذا لم يكن للعامل أو الناظر ما يفي المبلغ المتفق عليه مع الوزير، دفع بعضه معجلًا وأجل البعض الآخر إلى مدة معينة أو غير معينة، والخلفاء يعلمون ذلك ولا ينكرونه أو يرون فيه غرابة أو ظلمًا.
والعامل الذي يتولى عمله بالرشوة وهو لا يزال مدينًا ببعضها يهون عليه ابتزاز أموال الرعية — أو هو يطلب الولاية لهذه الغاية — فيأخذ العمال في حشد الأموال، إما بالتلاعب في جباية الحكومة، فينفقون دينارًا في بعض مصالحها فيقيدونها عليها عشرة دنانير، أو باستخراج أموال الرعية بالرشوة، أو بضرب الضرائب الفادحة على الباعة وأهل الأسواق في المدن(5)
أو بسلب الفلاحين في القرى بعض غلاتهم، وقد يقاسمونهم إياها فإن بعض العمال كان يبعث رجاله إلى البيدر فيقسمونه كما يشاءون، وإذا تكلم الأكار (الفلاح) شتموه وحلقوا لحيته وضربوهوقد لا يرضيهم ذلك فيغتصبون الضياع برمتها. (6)
ومن أغرب طرق الاغتصاب أن يغتصب العامل أو الوزير أو غيرهما من رجال الدولة ضيعة لبعض الناس، فيأخذها بغير ثمن ويستغلها لنفسه، وإذا استحق عليها الخراج أداه صاحبها الأول، مخافة أن يثبت الملك لمغتصبها إذ يدون خراجها باسمه في الديوان فيبطل حق مالكها في ملكيتها،(7)
فيضطر المالك إلى دفع الخراج أعوامًا ريثما يتوفق إلى من ينصفه ممن يفضي النفوذ إليهم من أهل العدالة أو يهتدي إلى وساطة أو حيلة.
ناهيك بما كانوا يغتصبونه من أموال الرعية باقتضاء خراج الأرض مضاعفًا أو مكررًا، على أنهم قد يرون لهم نفعًا من ترك خراج بعض الأرضين، فيتركونه لأصحابها على أن يخدموهم في مصلحة لهم، وربما بلغ مقدار الخارج المتروك مالًا كثيرًا جدًّا.
فقد كان لرجل يدعى أبا زنبور في وزارة ابن الفرات ضياع مساحتها مئة فرسخ بمئة فرسخ لم يأخذ منه من حقوق بيت المال درهمًا،(8)
وكثيرًا ما كانوا يتركون أمثال هذه الضياع بلا خراج لأهل الوساطة أو الدالة أو النفوذ عند الخليفة أو غيره.

الجاسوسية واللصوصية

ومن وسائل ابتزاز الأموال أن يقسط الوزير أو من يقوم مقامه على أرباب الدواوين والقضاة أو غيرهم مالا على وجه القرض، على أن يسبب لهم عوضه من أهل النواحي،(9)
فتقع الخسارة على الرعية. فتضايق أهل الأسواق في المدن والفلاحون في القرى والرساتيق وضاقت أبواب الرزق على الناس، وأصبحت الحقوق فوضى، من استطاع حيلة في اختلاس المال سرًّا أو جهرًا استخدمها، وكثر العيارون والشطار في المدن، وتعدد اللصوص في القرى، وفيهم جماعة أصلهم من جنود الدولة، طمع الوزراء أو القواد في أرزاقهم فخرجوا يتعرضون للمارة ويسلبونهم أموالهم وأمتعتهم، وإذا عوتبوا أو حوكموا احتجوا بذلك.
وكان قطاع الطرق يسطون على قوافل التجار ويأخذون أموالها باعتبار أنها حق لهم؛ لأن أصحابها لم يؤدوا زكاتها لبيت المال وقد منعوها، وتجردوا فتركت عليهم فصارت أموالهم بذلك مستهلكة، واللصوص في حاجة إليها بسبب فقرهم فإذا أخذوا تلك الأموال — وإن كره التجار أخذها — كان ذلك لهم مباحًا؛ لأن عين المال مستهلكة بالزكاة وهم فقراء يستحقون أخذ الزكاة شاء أرباب الأموال أو كرهوا؛(10)
لأن الزكاة صدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين وتفرق في فقرائهم، وكان لها شأن كبير في أول الإسلام ثم أهملت في أواسط الدولة العباسية، فاتخذ اللصوص ذلك حجة لسلب أموال التجار.
وزد على ذلك ما نجم عن فساد الأحكام من الضيق المالي وغلاء الأسعار في المدن، وما انتشب من الفتن بين الأحزاب ولا سيما السنة والشيعة، وراجت الدسائس وتكاثرت السعايات برجال الدولة، وانتشرت الجاسوسية في قصور الخلفاء ودواوين الوزراء والكتاب. وأصبح لكل منهم جواسيس على الآخرين ينقلون إليه أخبارهم، فتسابق أسافل الناس إلى السعاية بأفاضلهم، يرفعون إلى الخليفة أو إلى صاحب النفوذ في دولته كتبًا يختلقون بها المطاعن على الأبرياء للانتفاع بأذاهم.
وأكثر ما تكون وشايتهم بأهل الدولة في حال اعتزالهم، أو فيمن يخافونهم إذا ألقيت مقاليد الأحكام إليهم، وقد يجتمع عند الخليفة أو الوزير صناديق مملوءة بتلك الكتب، فإذا تكاثرت أو ذهبت الحاجة إليها أحرقوها.(11)
فلما فسدت الأحكام في دار الخلافة، واستبد الوزراء والقواد بشؤون الدولة، رأى العمال في الولايات أن يجتزئوا من ذلك الاستبداد في ولاياتهم، فأخذوا يستقلون فتشعبت المملكة العباسية إلى ممالك. ومنها ما جاءها التغلب من الخارج ففتحها، كما أصاب مصر لما فتحها الفاطميون.

تفرق المملكة العباسية

لما أصبحت الدولة العباسية فيما تقدم من فساد الأمور، والفوضى في سلطتها وأحكامها ، أو بين الوزراء والأجناد، أو بين الخدم والنساء، وذهبت هيبة الخلفاء بما أصابهم من التضييق والاحتقار، هان على عمالهم في أطراف المملكة أن ينفصلوا عنهم بأحكامهم الإدارية والسياسية، وأن يستأثروا بجباية أعمالهم وهو الاستقلال.
وكان أسبقهم إليه أبعدهم عن مركز الخلافة. وأسبق عمال العباسيين إلى ذلك إبراهيم بن الأغلب في شمال إفريقيا استقل سنة ١٨٤ﻫ، ولا يعد استقلاله من نتائج فساد الدولة؛ لأنه حدث في عصر الرشيد والدولة العباسية في معظم سطوتها، وإنما ساعده على ذلك بعده عن مركز الخلافة.
وأم استقلال العمال بذهاب هيبة الخلفاء أو اختلال شؤون الدولة، مثل تواليهم في التغلب على الخلفاء. وتدرج كل من هذه الأمم من العمالة إلى الإمارة إلى الملك أو السلطنة. فأول فأنشأوا الإمارات الصغرى ثم الدول الكبرى، وكذلك فعل الأتراك والأكراد.
المصادر :
1- تاريخ الوزراء ١١٩.
2- تاريخ الوزراء ٣٠٦.
3- الفرج بعد الشدة ٥١ ج١.
4- تاريخ الوزراء ٢٢٤.
5- ابن الأثير ١٢٩ و٢٠٣ ج١٢.
6- تاريخ الوزراء ٩٣.
7- الأغاني ٤٧ ج٢٠.
8- تاريخ الوزراء ٩٤.
9- تاريخ الوزراء ٢٦٢.
10- الفرج بعد الشدة ٥١ ج١.
11- تاريخ الوزراء ٢٢٤.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الظلم ممارسةً وتَحَمُّلاً ودولةً لها أركان
القضية الفلسطينية في كلمات الإمام الخميني ( قدس ...
لا توفيق مع الغشّ
تحرير المدينة المنورة والحجاز
من شهد واقعة الطف
آداب المعلّم والمتعلّم في درسهما
الألفاظ الدخيلة والمولَّدة
الحجّ في نهج البلاغة -4
مكانة الشهيد
المجالس والبعد السياسي

 
user comment