فصل في معنى العرش
قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله اعتقادنا في العرش أنه حملة جميع الخلق و العرش في وجه آخر هو العلم إلى آخره. قال الشيخ أبو عبد الله المفيد رحمه الله العرش في اللغة هو الملك قال الشاعر بذلك
إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم و أودت كما أودت أياد و حمير
يريد إذا ما بنو مروان هلك ملكهم و بادوا و قال آخر
أ ظننت عرشك لا يزول و لا يغير
يعني أ ظننت ملكك لا يزول و لا يغير. و قال الله تعالى مخبرا عن واصفي ملك ملكة سبإ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
تصحيحالاعتقاد ص : 76
وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ يريدون لها ملك عظيم فعرش الله تعالى هو ملكه و استواؤه على العرش هو استيلاؤه على الملك و العرب تصف الاستيلاء بالاستواء قال الشاعر
قد استوى بشر على العراق من غير سيف و دم مهراق
يريد به قد استولى على العراق فأما العرش الذي تحمله الملائكة
تصحيح الاعتقاد ص : 77
فهو بعض الملك و هو عرش خلقه الله تعالى في السماء السابعة و تعبد الملائكة ع بحمله و تعظيمه كما خلق سبحانه بيتا في الأرض و أمر البشر بقصده و زيارته و الحج إليه و تعظيمه و قد جاء في الحديث أن الله تعالى خلق بيتا تحت
تصحيح لاعتقاد ص : 78
العرش سماه البيت المعمور تحجه الملائكة في كل عام و خلق في السماء الرابعة بيتا سماه الضراح و تعبد الملائكة بحجه و التعظيم له و الطواف حوله و خلق البيت الحرام في الأرض و جعله تحت الضراح.
و روي عن الصادق ع أنه قال لو ألقي حجر من العرش لوقع على ظهر البيت المعمور و لو ألقي حجر من البيت المعمور لسقط على ظهر البيت الحرام و لم يخلق الله عرشا لنفسه ليستوطنه تعالى الله عن ذلك لكنه خلق عرشا أضافه إلى نفسه تكرمة له و إعظاما و تعبد الملائكة بحمله كما خلق بيتا في الأرض و لم يخلقه لنفسه و لا ليسكنه تعالى الله عن ذلك كله لكنه خلقه لخلقه و أضافه لنفسه إكراما له و إعظاما و تعبد الخلق بزيارته و الحج إليه
فأما الوصف للعلم بالعرش فهو في مجاز اللغة دون حقيقتها و لا وجه لتأويل قوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى بمعنى أنه احتوى على العلم و إنما الوجه في ذلك ما قدمناه. و الأحاديث التي رويت في صفة الملائكة الحاملين للعرش أحاديث آحاد و روايات أفراد لا يجوز القطع بها و لا العمل عليها و الوجه الوقوف عندها و القطع على أن العرش في الأصل هو الملك و العرش المحمول جزء من الملك تعبد الله بحمله الملائكة على ما قدمناه
تصحيح الاعتقاد ص : 79
فصل في النفوس و الأرواح
قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله اعتقادنا في النفوس أنها هي الأرواح و أنها الخلق الأول و أنها خلقت للبقاء و أنها في الأرض غريبة و في الأبدان مسجونة. قال الشيخ أبو عبد الله كلام أبي جعفر في النفس و الروح على مذهب الحدس دون التحقيق و لو اقتصر على الأخبار و لم يتعاط ذكر معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه. قال الشيخ أبو عبد الله النفس عبارة عن معان أحدها ذات الشيء و الثاني الدم السائل و الثالث النفس الذي هو الهواء و الرابع الهوى و ميل الطبع. فأما شاهد المعنى الأول فهو قولهم هذا نفس الشيء أي ذاته و عينه
تصحيح الاعتقاد ص : 80
و شاهد الثاني قولهم كلما كانت له نفس سائلة فحكمه كذا و كذا و شاهد الثالث قولهم فلان هلكت نفسه إذا انقطع نفسه و لم يبق في جسمه هواء يخرج من جوانبه و شاهد الرابع قول الله تعالى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ يعني الهوى داع إلى القبيح و قد يعبر بالنفس عن النقم قال الله تعالى وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يريد به نقمه و عقابه
فصل
قال الشيخ المفيد و أما الروح فعبارة عن معان أحدها الحياة و الثاني القرآن و الثالث ملك من ملائكة الله تعالى و الرابع جبرئيل ع. فشاهد الأول قولهم كل ذي روح فحكمه كذا و كذا يريدون كل ذي حياة و قولهم في من مات قد خرجت منه الروح يعنون به الحياة و قولهم في الجنين صورة لم تلجه الروح يريدون لم تلجه الحياة. و شاهد الثاني قوله تعالى وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا يعني به القرآن. و شاهد الثالث قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ الآية. و شاهد الرابع قوله تعالى قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعني جبرئيل ع. فأما ما ذكره الشيخ أبو جعفر و رواه أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد بألفي
تصحيح الاعتقاد ص : 81
عام فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف فهو حديث من أحاديث الآحاد و خبر من طرق الأفراد و له وجه غير ما ظنه من لا علم له بحقائق الأشياء و هو أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بألفي عام فما تعارف منها قبل خلق البشر ائتلف عند خلق البشر و ما لم يتعارف منها إذ ذاك اختلف بعد خلق البشر و ليس الأمر كما ظنه أصحاب التناسخ و دخلت الشبهة فيه على حشوية
تصحيح الاعتقاد ص : 82
الشيعة فتوهموا أن الذوات الفعالة المأمورة و المنهية كانت مخلوقة في الذر
تصحيح الاعتقاد ص : 83
تتعارف و تعقل و تفهم و تنطق ثم خلق الله لها أجسادا من بعد ذلك
تصحيح الاعتقاد ص : 84
فركبها فيها و لو كان ذلك كذلك لكنا نعرف نحن ما كنا عليه و إذا
تصحيح الاعتقاد ص : 85
ذكرنا به ذكرناه و لا يخفى علينا الحال فيه أ لا ترى أن من نشأ ببلد من البلاد
تصحيح الاعتقاد ص : 86
فأقام فيه حولا ثم انتقل إلى غيره لم يذهب عنه علم ذلك و إن خفي عليه لسهوه عنه فذكر به ذكره و لو لا أن الأمر كذلك لجاز أن يولد إنسان منا ببغداد و ينشأ بها و يقيم عشرين سنة فيها ثم ينتقل إلى مصر آخر فينسى حاله ببغداد و لا يذكر منها شيئا و إن ذكر به و عدد عليه علامات حاله و مكانه و نشوئه أنكرها و هذا ما لا يذهب إليه عاقل و كذا ما كان ينبغي لمن لا معرفة له بحقائق الأمور
تصحيح الاعتقاد ص : 87
أن يتكلم فيها على خبط عشواء و الذي صرح به أبو جعفر رحمه الله في معنى الروح و النفس هو قول التناسخية بعينه من غير أن يعلم أنه قولهم فالجناية بذلك على نفسه و على غيره عظيمة. فأما ما ذكره من أن الأنفس باقية فعبارة مذمومة و لفظ يضاد ألفاظ القرآن. قال الله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ و الذي حكاه من ذلك و توهمه هو مذهب كثير من الفلاسفة الملحدين الذين زعموا أن الأنفس لا يلحقها الكون و الفساد و أنها باقية و إنما تفنى و تفسد الأجسام المركبة و إلى هذا ذهب بعض أصحاب التناسخ
تصحيح الاعتقاد ص : 88
و زعموا أن الأنفس لم تزل تتكرر في الصور و الهياكل لم تحدث و لم تفن و لن تعدم و أنها باقية غير فانية و هذا من أخبث قول و أبعده من الصواب و بما دونه في الشناعة و الفساد شنع به الناصبة على الشيعة و نسبوهم إلى الزندقة و لو عرف مثبته ما فيه لما تعرض له لكن أصحابنا المتعلقين بالأخبار أصحاب سلامة و بعد ذهن و قلة فطنة يمرون على وجوههم فيما سمعوه من الأحاديث و لا ينظرون في سندها و لا يفرقون بين حقها و باطلها و لا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها و لا يحصلون معاني ما يطلقونه منها. و الذي ثبت من الحديث في هذا الباب أن الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين منها ما ينقل إلى الثواب و العقاب و منها ما يبطل فلا يشعر بثواب و لا عقاب. و قد روي عن الصادق ع ما ذكرناه في هذا المعنى و بيناه فسئل عمن مات في هذه الدار أين تكون روحه
فقال ع من
تصحيح الاعتقاد ص : 89
مات و هو ماحض للإيمان محضا أو ماحض للكفر محضا نقلت روحه من هيكله إلى مثله في الصورة و جوزي بأعماله إلى يوم القيامة فإذا بعث الله من في القبور أنشأ جسمه و رد روحه إلى جسده و حشره ليوفيه أعماله فالمؤمن تنتقل روحه من جسده إلى مثل جسده في الصورة فيجعل في جنة من جنان الله يتنعم فيها إلى يوم المآب و الكافر تنتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه فتجعل في نار فيعذب بها إلى يوم القيامة
و شاهد ذلك في المؤمن قوله تعالى قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي و شاهد ما ذكرناه في الكافر قوله تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ فأخبر سبحانه أن مؤمنا قال بعد موته و قد أدخل الجنة يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ و أخبر أن كافرا يعذب بعد موته غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة يخلد في النار. و الضرب الآخر من يلهى عنه و تعدم نفسه عند فساد جسمه فلا يشعر بشيء حتى يبعث و هو من لم يمحض الإيمان محضا و لا الكفر محضا. و قد بين الله تعالى ذلك عند قوله إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً فبين أن قوما عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتى يظن
تصحيح الاعتقاد ص : 90
بعضهم أن ذلك كان عشرا و يظن بعضهم أن ذلك كان يوما و ليس يجوز أن يكون ذلك عن وصف من عذب إلى بعثه أو نعم إلى بعثه لأن من لم يزل منعما أو معذبا لا يجهل عليه حاله فيما عومل به و لا يلتبس عليه الأمر في بقائه بعد وفاته.
و قد روي عن أبي عبد الله ع أنه قال إنما يسأل في قبره من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا فأما ما سوى هذين فإنه يلهى عنه
و قال في الرجعة إنما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا فأما ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب
source : دارالعرفان