عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

نظرية الصدفة في خلق العالم:

2 - نظرية الصدفة في خلق العالم:

هنالك نظرية تقول بأن الموجودات والكائنات في العالم خلقت صدفة من دون خالق والذي نفهمه من الصدفة - هنا - أحد المعنين فالمعنى الأول هو المعنى الشائع اجتماعياً كما لو تلتقي عزيزاً فارقته منذ فترة طويلة من دون سابق تخطيط ففي أثناء مرورك بالسوق تلتقي به - مثلاً - فتقول: صدفة التقيت به من دون سابق إنذار أو خطور في الذهن بل كان اللقاء عفوياً ومثال آخر أنك تبحث عن حاجة مفقودة وعزيزة عليك وأنت ماض في أعمالك فجأةً تشاهدها أمامك تقول صادفتها صدفةً فهذا المعنى وبهذا التوجه لا يمكن أن ننكر العوامل المسببة لهذا اللقاء المفاجئ مع الشخص الصديق أو الحاجة المفقودة فهنالك أسباب طبيعية متعددة رتبت هذا اللقاء منها الخروج في هذا الوقت ولهذا المكان وخروج صديقي متزامناً معي ولكل دوافعه الذاتية والشيء الذي يمكن تسجيله هو أن هذا اللقاء تم، ولكن دون قصد أونيّة أو تخطيط في الذهن، وبهذا المعنى لا مناقشة لنا فيه لأنه خارج عن بحثنا بل سنناقش المعنى الثاني الذي يدخل في صميم بحثنا.

والمعنى الثاني هو ما يذهب إليه البعض من الفلاسفة والمفكرين ويقصدون بالصدفة أن الأشياء والوجودات في العالم وجدت دون سبب أو علة للإيجاد وإنما من طبيعتها الوجدان والظهور أو الفقدان والضمور فليست مرتبطة بأي جهاز تخطيطي أو عقل مدبر ومخطط وبالطبع يقدّم هؤلاء الصدفيون أدلتهم على دعواهم تلك، وتتلخص أدلتهم بأنهم ما شاهدوا بداية التكوين والخلق فلذلك لم يحصل لهم الجزء بوجود علل للخلق والوجود وأنهم حالياً يشاهدون الموجودات باختلاف أنواعها مخلوقة ولها قوانينها المعينة.

(كلّ في فلك يسبحون). [سورة الأنبياء: الآية 33].

وهذه القوانين الخاصة بكل عنصر في هذا الكون الرحب إنها مستمرة في نظامها بشكلٍ طبيعي ومنضبط ولا تتوقف عن عملها إلا بعوامل خارجية كالجاذبية والضغط الجوي كما يذهب إلى ذلك نيوتن فالتفاحة تسقط من الشجرة إلى الأرض بعوامل الجاذبية الأرضية فينتهي عملها ضمن قانون الشجرة لقانون خارجي آخر وهذه الاستمرارية التي نراها في نظم الكون دون علة ودون سبب بل من طبيعتها ذلك فهي وجدت دون علة وسبب وبقيت دون ذلك أيضاً فإذن وجدت صدفة واستمرت كذلك صدفة وينسحب هذا التصور إلى كل الوجود والخلق فإن هذا العالم وجد صدفة من كبير أجزائه إلى صغيرها كما أجاب أحدهم حينما سئل عن القميص الذي يرتديه بقوله أن هنالك حقول القطن وجدت صدفة في أرضٍ معينة وبمرور الزمن نضجت المحاصيل القطنية وأينعت فما المانع أن تجئ الرياح الشديدة على هذه المحاصيل وتقطف القطن من الحقول وبالفعل أخذت القطن صدفة ثم ساقته إلى آفاق السماء وهنالك في الآفاق العليا وبعد مرور ملايين السنين وعلى أثر تقلبات الجو في طبقات السماء العليا وفي وسط الأمطار والرياح العاتية تمتّ تصفية القطن من كل شائبة وبمرور الزمن تلونت هذه القطع القطنية المنتظمة بألوان عديدة ثم فصّلت بأشكال وأحجام مختلفة وبتنسيق دقيق وبألوان زاهية وبمرور الزمن أخذت الرياح تعيد الأمانة إلى أهل الأرض - صدفةً - وما المانع في أن يوماً من الأيام يكون الإنسان على سطح داره رافعاً يديه إلى السماء وصدفة يأتي القميص الذي فصّل ورتّب مناسباً للجسم ضمن مقاييسه المعينة وصدفةً يدخل في يديّ - أنا مثلاً - وتدفعه الرياح ليستقر في جسمي كما ترى ثم نلاحظ وإذا به قميص قطني جميل ملوّن بالشكل المناسب.

يقول (هلسكي): لو جلست ستة من القرود على آلات كاتبة وظلت تضرب على حروفها ملايين السنين فلا نستبعد أن نجد في بعض الأوراق الأخيرة التي كتبوها قصيدة من قصائد شكسبير فكذلك كان الكون الموجود الآن نتيجة لعمليات ظلت تدور المادة لبلايين السنين)(2).

أما الرد على أصحاب هذه النظريات فيأتي في عدة نقاط أهمها:

1 - إن قانون الاستمرارية الذي يستدلون به على أنه بلا سبب فيسحبونه إلى نكران السبب الأول للإيجاد، كيف يمكن أن نصدق ذلك وننكر علة الاستمرار في النظام؟ بل العكس فإن سبب الاستمرار يمكن أن نسحبه إلى وجوب إيجاد علة أولية لهذا النظام المستمر ثم إن قانون الاستمرارية لا ينكر وجود العلة في الإيجاد، وفي الاستمرار أو في التوقف عن الاستمرارية فلا أحد ينكر علة وجود النظام في الكون والمسألة فطرية سواء كانت المادة ساكنة أو متحركة فإنها ساكنة لسبب وتتحرك لسبب وتقف عن الحركة لسبب آخر فمن غير المنطق أن نضع قانون الاستمرارية سبباً لنكران علة الوجود فلا ربط بينهما بهذه الصورة.

2 - ثم في مثال (هلسكي) نفسه حيث جلوس القردة وطبعها بالآلة على الأوراق آلاف أو ملايين السنين كي تنتج قصيدة لشكسبير وفي الحقيقة أن هذا المثل يناقض فكرة اللاسبب فهو من جانبنا نحن المنكرين للصدفة في خلق العالم وليس من جانب الصدفيين حيث إن القصيدة هذه جاءت عبر تفاعلات عدة أسباب وعلل لإنتاجها فالقرود والضرب على الآلة الكاتبة والآلة نفسها والحبر والورق والزمن كلها أسباب تتفاعل لإنتاج هذه القصيدة - إن وقع ذلك - فلا نستطيع أن نقول إن القصيدة طبعت من وحدها صدفة دون سبب.

3 - ثم إننا حينما نقف أمام الأنظمة الكونية الدقيقة التي يحدثنا العلم الحديث عن عظمتها وإبداعها لحريٌّ بنا أن نقف منها موقف المتأمل الواعي فلو نظرت إلى نفسك بإمعان وبدقة لأعدت النظر في هذه النظرية من جديد واعتبرتها من المسليات الذهنية للإنسان الجليس كحكايات ألف ليلة وليلة، ويكفي أن نعرف أن في كل عين للإنسان توجد أربعة عشر مليون خلية عصبية لو تغير موقع عصب من هذه الأعصاب - لا سمح الله - أصيبت العين بمرضٍ معين يشخصه المتخصصون.

هل تقول إن هذه العين وجدت صدفة وتعمل وتستمر في نشاطها صدفة دون أية أسباب وعلل، فهل يعقل؟ أن أضرب رجلاً على وجهه بقوة وأدعي في المحكمة أن يدي صدفة ارتفعت وصفعت وجه هذا الرجل بقوة من دون أي سبب بل الصدفة والصدفة وحدها لعبت دورها وهي علة الضرب!!

ماذا ننتظر من هذا الإدّعاء إلاَّ أن يأمروا بي للسجن أو إلى مستشفى المجانين ويقولون لي - بعد ذلك - إننا جئنا بك إلى هذا المكان صدفة دون سبب وستستمر فيه دون سبب أو علة هل يصدّق عاقل ذلك؟

وفي كتاب (العلم يدعو للإيمان) مثال جيد يقول فيه (كريس موريسون) المؤلف والعالم الأمريكي (لو تناولت عشر قطع وكتبت عليها الأعداد من واحد إلى عشرة ثم رميتها في جيبك وخلطتها خلطاً جيداً ثم حاولت أن تخرج منها من الواحد إلى العاشر بالترتيب العددي بحيث تلقي كل قطعة في جيبك بعد تناولها مرةً أخرى فإمكان تناول القطعة رقم 1 في المحاولة الأولى 1/10.

وإمكان تناول القطعة رقم1، متتابعين هو1/ 100.

وفرصة سحب البنسات التي عليها أرقام 1، 2، 3 متتالية هي نسبة 1/1000.

وفرصة سحب 1، 2، 3، 4 متتالية هي 1/ 10.000.

وهكذا حتى تصبح فرصة سحب البنسات بترتيبها الأول 1 - 10 بنسبة واحد إلى عشرة بلايين محاولة).

وعلى هذا نجزم بأنه من المستحيل أن يكون وجود العالم وما فيه من الصدفة كما لا يقبل بهذا التفسير أبسط إنسان على وجه الأرض حينما تعتدي عليه أو تسرق منه شيئاً بحجة الصدفة العمياء فلا يقبل عاقل بذلك ولا أية محكمة في العالم ترضى أن تكون الصدفة دليل البيّنة للمدّعي فمثلاً: يسرق إنسان ما بعض المجوهرات والذهب ويدّعي أنها صدفة دخلت جيبه دون سببٍ آخر، فبالتأكيد إنه أمر مردود من الأساس لأن قانون العلية مسألة بديهية فطرية لا يستطيع أحد نكرانه وفي حالة النكران ستهدم كل أسس العلم والبداهة.

فكيف لو نظر الإنسان إلى هذا الكون الرحب بدقته وعظمته وقوانينه المعقدة الداخلية وعلاقته بالعالم الخارجي ضمن ضوابط دقيقة فهل ينظر إلى نظرية الصدفة نظرة اعتبار. والكون كله يدل على الخالق المبدع. فلذا سنتحدث عن بعض الأدلة العلمية في الأحاديث القادمة بعونه تعالى.


 

3 - قراءة في الاحتمالات لعلة الوجود: 

بعد أن توصلنا فيما سبق إلى أن نظرية أزلية المادة ونظرية الصدفة في خلق الوجود لا تقومان على أسس علمية وعقلية وتمّ تفنيدهما والآن نريد أن نتوصل إلى معرفة (علة الوجود) وما هي الاحتمالات في هذه العلة فلو أخذنا أنفسنا مثلاً وتساءلنا من الذي أوجدنا؟ وما هي الاحتمالات في علة خلقنا وسبب وجود أنفسنا؟

وقبل الإجابة على هذا السؤال يمكن أن نقرر أن أنفسنا ما كانت مخلوقة سابقاً ثم وجدت أي أننا قبل الولادة للدنيا ما كنا موجودين في هذا العالم حالياً نحن موجودون وكلٌ منّا يعرف عمره أي بداية وجوده وحتى اللحظة الراهنة. فنحن ما كنا في الوجود وحالياً موجودين وفي يومٍ ما ستنتهي حياتنا: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) كما يقول القرآن الكريم في سورة الرحمن: الآيتان 26، 27.

وفي حديث للإمام الرضا (عليه السلام) حينما سئل عن الدليل على وجود الله فأجاب: (أنت لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك ولا كوّنك من هو مثلك..). وهكذا يحصر الإمام احتمالات المبدع والخالق ومن ثمّ يحاور السائل ويطلب منه أن يحاور نفسه أيضاً لكي لا يقع تحت تأثير معين بل يضفي أجواء الحرّية ليتوصل السائل إلى الحقيقة بملء إرادته.

وبعد تلك الملاحظة وهذه الرواية وأمثالها الكثير، نعيد التساؤل الأول من الذي أوجدنا؟ وقد اتفقنا على أننا ما كنّا في الوجود فوُجدنا فما هي احتمالات الموجد لنا؟ والاحتمالات ثلاثة لا رابع لها وينطبق نفس الأمر على العالم بأسره وعلى الطبيعة المحيطة كلها ودعنا الآن ندرس الاحتمالات الثلاثة:

الاحتمال الأول: نحن أوجدنا أنفسنا ونحن دبرنا جسمنا وروحنا وكيّفنا ظروفنا في الولادة والدوام ضمن هذا النظام الحياتي.

الاحتمال الثاني: إن الذي أوجدنا هو مثلنا فأفاض علينا بالوجود.

الاحتمال الثالث: إن الذي أوجدنا ليس مثلنا.

أما الاحتمال الأول

فهذا لا يمكن أن نصدّقه لأننا أثبتنا سلفاً عدم وجودنا قبل أن نوجَد فكيف أوجدنا أنفسنا من العدم؟ أي حينما آمنا ببداية زمنية لوجودنا فقبلها ما كنا موجودين فوجُدنا بمعنى اننا في مرحلة زمنية كنا عدماً ثم صار لنا وجوداً فالذي يكون عدماً ثم وجوداً ثم عدماً لا يمكن أن يكون - هو - قد أوجد نفسه أو أفناها، هذا أولاً وثانياً لو - جدلاً - نحن أوجدنا أنفسنا لأوجدناها كاملة دون نقص غير ضعيفة ولا محتاجة إلى الموجودات والأشياء الأخرى في الحياة ومن ثم لاستطعنا أن نُبقي أنفسنا دون أن نموت لأن الإبقاء أسهل من الإيجاد والإبداع والخلق علماً بأن الموت والفناء أمر محزن للإنسان وبالفعل - وقهر عباده بالموت والفناء - والإنسان يحب البقاء في الحياة ولكنه من المستحيل التحكم في فترة البقاء ودرء الأجل أو أبعاده وتأجيله.

(يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيدة) [سورة النساء: الآية 78].

وهكذا نرى في الوجدان إننا لا نستطيع إعادة الحياة إلى أعزّ الخلق إلينا مهما أوتينا من قوة علمية وحتى أنفسنا لا نستطيع أن ندافع عنها حين الضرر الصحي فضلاً عن الموت فنرى البعض مُبتلى بالأمراض الجسمية أو النفسية وأما الموت فحتميته أمر لابد منه وقد قال سبحانه وتعالى:

(كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة..). [سورة آل عمران: الآية 185].

فإذا لم نستطع دفع الضرر والإبقاء على النفس من الفناء فقطعاً نحن لا نستطيع أن نوجد أنفسنا فالمسألة - فعلاً - خارجة عن إرادتنا وكيف لا نصدّق ذلك والحال نحن لا ندري ماذا في أجوافنا واحشائنا وداخلنا وحتى المتخصصين في تشريح جسم الإنسان يقفون موقف المتحير لعظيم الصنع والإبداع في الكيان الإنساني العجيب.

قال سبحانه: (أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون). [سورة الطور: الآية 35].

وبالفعل إن هذه الأمور التي لا يمكننا أن نتحكم فيها كما لا يمكن لأي أحد أن يختار جنسه ولون شعره ولون بشرته وطوله وحتى مسقط رأسه ومكان موته كذلك، قال عز وجل:

(إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت..). [سورة لقمان: الآية 34].

فكيف يمكننا أن نوجد أنفسنا من العدم:

وهكذا ينتهي الاحتمال الثاني أيضاً بأن الذي أوجدنا هو مثلنا! بمعنى آخر لو كان الذي أوجدنا مثلنا ويتصف بأوصافنا لاستطعنا نحن كذلك أن نوجِدَ خلقاً مثلنا وهذا الأمر لا يدعيه عاقل فضلاً عن الجزم والاعتقاد به وإذا كنا غير قادرين وكلّ منا غير قادر أن يوجد مثله فيأتينا الكلام السابق وهو عدم استطاعتنا على أن نبقيهم كما هم عليه الآن والحال أن الكثير من أصدقائنا واعزائنا يموتون ونحن نتقطع أسىً وغصة عليهم دون أن نقدر على إبقائهم وإعادة الأرواح إلى أبدانهم ومؤكد أن هذا العمل أقل بكثير من الإيجاد التام للإنسان فلذا ينفجر الإنسان بكاءً على فقدان أحبائه وهذا عمل المقهورين وعمل العاجزين تنفيساً عن الألم - وقهر عباده بالموت والفناء -.

فإذن نحن لا نستطيع أن نوجد أمثالنا ولا أمثالنا يستطيعون أن يوجدونا هذا من الناحية العملية أما إذا رجعنا إلى حديثنا الماضي في أن أصل الوجود لابد أن يتصف بصفات الأزلي لا الحادث المصنوع والمحدود فنقول إن أنفسنا أو أمثالنا لا يمتلكون صفات الأزلي بل يتميزون بصفات الحادث حيث التغيير والحاجة إلى الغير والتركيب وكلها من صفات الحادث.

فإذن نحن لسنا قادرين على أن نوجد أنفسنا ولا أن نوجد أمثالنا قطعاً ويقيناً. وهكذا لابد أن يكون لهذا الكون الرحب العجيب بنظامه ودقته ولهذا الإنسان العجيب بأجهزته الدقيقة لابد أن يكون من أوجده ليس مثله وإنما يتمتع بصفات الأزلي الأبدي كاملة وسبحانه الذي يقول في محكم كتابه:

(فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). [سورة الشورى: الآية 11].

فالوجود كما نراه (الكون والإنسان) لابد أن يوجده الذي يستوعبه بالكامل أي بمستوى رفيع من الصفات الخاصة التي تنتج هذا الإبداع لا أن يكون الموجِد (بالكسر) بمستوى هذا الوجود إبداعاً أو أقل منه مستوىً! فالكمال المطلق صفة الموجِد الأكبر الذي يحتوي ويستوعب كل الوجود ويسيِّر قوانينه ويتحكم في خلقته ومصير العالم وحقاً إن الطريق لمعرفة الخالق للكون يبدأ من معرفة النفس فالذي يريد أن يعرف خالقه يجب أن يعرف نفسه والأسرار المودعة فيه ليرى عظمة الموجد لها والمدبر لقوانينها (فمن عرف نفسه فقد عرف ربه) كما ورد في الأثر، وبعد أن نتعرف على عظمة الموجد والمبدع لهذه النفس الإنسانية ولهذا التكوين الإنساني ولهذا الوجود الكوني ندرك تماماً إن الموجودات ناقصة رغم عظمتها ومحدودة رغم آفاقها قياساً بالخالق المبدع فهو ليس مثلنا وبالتالي نستنتج أن ما هو موجود في أنفسنا وفي الوجود العام ليس موجوداً في خالقنا العظيم لأنه (ليس كمثله شيء) كما مرّ معنا.

فأنا محدود والخالق ليس محدوداً، فأنا عاجز والخالق قادر وأنا محتاج والخالق غني عن كل شيء وأنا أنتهي وأفنى بنهاية زمنية والخالق لا ينتهي بزمن وأنا كانت لي بداية والخالق ليست له بداية فهو أزلي أبدي سرمدي خالد.

فهو واحد أحد (ليس مقابل الاثنين والثلاثة والأربعة) بل هو واحد أحد لا نظير له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا شبيه له ولا مثيل.

سئل الإمام الرضا (عليه السلام) ما الدليل على وجود الله؟ فأجاب: (أنت لم تكن ثم كنت وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك ولا كونك من هو مثلك.. ثم قال: إني لما نظرت إلى جسدي ولم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجر المنفعة إليه علمت أن لهذا البنيان بانياً فأقررتُ به..)(3).

فإذن لا أنا أوجدت نفسي يقيناً وبتجرد ولا أوجدني الذي هو مثلي يقيناً وبتجرد أيضاً ويبقى الاحتمال الثالث الذي لا خيار غيره وهو أن الذي أوجدنا ليس مثلنا - والآن قد تكون اللغة قاصرة عن التعبير الدقيق لهذا المعنى وحتى العقل الإنساني كذلك قاصر عن أن يصل لمعرفة كنه الخالق الكريم - وبين اللغة والعقل في قصورهما يمكن أن نخرج بنتيجة علمية واضحة وهي أن الذي أوجدنا ليس مثلنا أما كيف يكون؟ وما هي ماهيّته وكنهه؟ هذا ما أجاب عليه الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال: (اللهم... حمداً لا ينقطع عدده ولا يفنى مدده فلسنا نعلم كنه عظمتك إلاَّ أنا نعلم أنّك حي قيوم لا تأخذك سِنة ولا نوم... لم ينتهِ إليه نظر ولم يدرك بصر أدركت الأبصار وأحصيت الأعمال...).

هذا هو الدليل من داخل أنفسنا ولنا حديث عن الأدلة الخارجية عن النفس ونكتفي بالإشارة هنا إلى تكملة حديث الإمام الرضا (عليه السلام) علّنا نفصّل في الأدلة الخارجية في الصفحات القادمة إن شاء الله قال (عليه السلام): (... فأقررتُ به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المبينات... علمت أن لهذا مقدِّراً منشئاً..).

ويجيب الإمام علي (عليه السلام) ببساطة عن إثبات الصانع فقال: (البعرة تدل على البعير والروثة تدل على الحمير وآثار القدم تدل على المسير فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة لا يدلان على اللطيف الخبير؟) هذا ونحوه محكي عن الأعرابي..(4).

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

[الردّ على مزعمة الأناجيل أنّ المسيح يكذب على ...
خصائص نظرية المجسمة ق(1)
المُناظرة التاسعة والاربعون /مناظرة السيد محمد ...
البداء والإرادة المُناظرة الخامسة -3
الحثّ على الجهاد
الکفارات في الاسلام
التقية في الاسلام
رسـالة الحـقوق
اثر التقوى في الحياة الزوجية
آل البيت عند الشيعة

 
user comment