عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

حقوق الإنسان.. في شريعة حمورابي

مقدمة:
يعتبر إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 الصادر بموجب قرار الأمم المتحدة تحت رقم 217 الف (د-3) في كانون الأول تتويجاً لجهود الإنسان عبر العصور وهو يسعى من أجل الحصول على حقوقه في الحرية والعدل والمساواة بما يليق بإنسانيته وكرامته وحقه في حياة حرة كريمة على أرض الله الواسعة.
وقد أوضح هذا الإعلان في مقدمته ضرورة الإعتراف بكرامة البشر المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وأكد أيضاً على الحقوق المتساوية لجميع البشر في الحرية والعدل والمساواة والسلام بغض النظر عن الجنس والمعتقد والإعتبارات الأخرى(1).
ويحاول هذا البحث المتواضع أن يؤكد على ان حقوق الإنسان التي نالت اهتمام عدد كبير من الباحثين والفلاسفة الأوربيين لها امتدادات وجذور أصيلة في الفكر العراقي القديم عبر العصور المتلاحقة. وفي الوقت الذي يشير فيه هذا البحث الى محطات مهمة اهتمت بحقوق الإنسان عبر تعاقب العصور، فانه يركز على شريعة حمورابي باعتبارها من أقدم الشرائع التي تناولت حقوق الإنسان ووضعت التشريعات اللازمة لها ضمن تلك المرحلة الزمنية، وهدف هذا البحث هو الإشارة الى جهود جبارة على طريق تحقيق حياة لائقة بالبشر على الأرض في الفكر العراقي القديم وهي جهود سبقت جهود الباحثين الأوربيين بفترات زمنية طويلة.
- أول سابقة قضائية في التاريخ:
يؤكد كريمر في كتابه (هنا بدأ التاريخ) ان أول سابقة قضائية في تاريخ البشر وردت مسجلة في إحدى الوثائق السومرية تعود الى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد وتتحدث هذه الوثيقة عن ثلاثة رجال اشتركوا في جريمة قتل ولسبب مجهول أخبروا زوجة القتيل بجريمتهم وكانت يد القانون قوية، فتمّ إلقاء القبض على المجرمين وتمّ عرض قضيتهم أمام الملك أور- نينورتا في العاصمة وقام الملك بدوره، فحوّل القضية إلى جمعية الشعب في مدينة نُفَّر وموقعها الآن قريب من مدينة عفك، لكي تنظر الجمعية في هذه الجريمة وتتخذ القرارات المناسبة لمعاقبة المجرمين، وتشير الوثيقة الى أن سبعة رجال من الجمعية قاموا بمهمة الإدعاء العام وأعلنوا ان طائلة العقاب يجب أن لا تطال المجرمين الثلاثة فقط وإنما تشمل زوجة القتيل التي تسترت على الجريمة، وقد انبرى من هذه الجمعية رجلان قاما بمهمة الدفاع عن الزوجة وأثبتا ان الزوجة بريئة من الجريمة وبالفعل صدر قرار الحكم بإدانة المجرمين الثلاثة وتبرئة ساحة الزوجة(2).
هذه الواقعة تؤكد بما لا يقبل الجدل ان تطبيق العدالة التي تعتبر واحدة من أهم حقوق الإنسان الأساسية قد تمّ تطبيقها بالفعل وبشكل متطور يكاد يقترب مما يحصل في هذا العصر، حيث ان تقاليد هذه المحاكمة لا تكاد تختلف عن تقاليد المحاكمات التي تحدث الآن رغم انها حدثت في زمن موغل في القدم وهذه الواقعة نموذج واحد من نماذج تأريخية عديدة.
يؤكد الدكتور يوسف حبي في كتابه (الإنسان في أدب وادي الرافدين) ان الشرائع العراقية القديمة تسبق أقدم ما هو معروف من شرائع وقوانين في سائر المجتمعات والحضارات الأخرى بعشرات القرون، فلم تصلنا شريعة متكاملة من وادي الرافدين تسبق القرن الخامس قبل الميلاد. أما القانون اليوناني، فلا يتعدى تدوينه القرن السادس قبل الميلاد ويعود القانون الروماني بتاريخه أيضاً ليقف عند حدود القرن الخامس قبل الميلاد، وتعتبر إصلاحات أور كاجينا، التي تعود الى عام 2355 قبل الميلاد، من أهم وأقدم الإصلاحات الإجتماعية والإقتصادية المعروفة في تاريخ البشر(3).
تعتبر وثيقة إصلاحات أور كاجينا من أهم الوثائق في التاريخ لأنها نادت ولأول مرة بأهمية حقوق الإنسان وتأكيدها على حريته ورفضها لكل ما يضطهد هذه الحرية كما ان مفردة (الحرية) التي هي أمل شعوب العالم أجمع، وردت لأول مرة في التاريخ في هذه الوثيقة(4).
- شرائع سبقت شريعة حمورابي:
سبقت شريعة حمورابي، التي تعتبر من أهم وأقدم الشرائع في التاريخ، شرائع أخرى بالغة الأهمية فهي الممهدات الأولى التي ساعدت وسارعت بالوصول الى شريعة بالغة الأهمية في التاريخ ونعني بها شريعة حمورابي، وحقيقة الأمر ان حمورابي بذكائه وفطنته استفاد من جميع الشرائع التي سبقته، فأخذ أهم ما فيها من تشريعات اضافة الى تشريعاته.
وأهم الشرائع التي سبقت شريعة حمورابي هي:
1- وثيقة إصلاحات أور كاجينا التي أشرنا اليها وقد تمّ العثور على جميع نسخ هذه الوثيقة في تنقيبات البعثات الفرنسية في مدينة (لكش) عام 1878 وترجمها لأول مرة العلامة الفرنسي فرانسوا تورو دانجان ويشير الباحثون الى أن الملك السومري أور كاجينا ترك كتابات مهمة وسن قوانين وفرت للشعب السومري الحرية والعدالة الإجتماعية إلا ان هذه الكتابات لم تصل الينا، وقد يعثر المنقبون في المستقبل على هذه الكتابات التي يمكن أن تضاف الى وثيقة الإصلاح المعروفة لدينا.
2- شريعة أور نمو: تعتبر هذه الشريعة من أقدم الشرائع المعروفة وأورنمو مؤسس سلالة أور الثالثة (2111-2003) قبل الميلاد، ويعتقد الباحثون ان هناك شرائع أخرى سبقت شريعة أور نمو قد يكشف المستقبل عنها بجهود الباحثين في هذا الميدان وقد احتوت شريعة أور نمو على 31 مادة قانونية، كما ضمت هذه الشريعة ما يشبه أصول القوانين الحديثة عن مبررات إصدار هذا التشريع(5).
3- شريعة لبت عشتار: تتألف شريعة لبت عشتار من أربع كسر ٍٍ تمّ العثور عليها من قبل باحثين من جامعة بنسلفانيا حيث عثروا على هذه الكسر في السنوات الأولى من بداية القرن العشرين وقام بدراستها وترجمتها الباحث الأمريكي فرنسيس ستيل ونشرها لأول مرة عام 1947، وبعد سنتين نشر فرنسيس اضافة لهذه الشريعة وجدها في كسرة أثناء التنقيبات تعرف عليها كريمر وفيها تكملة لبعض القوانين في هذه الشريعة.
ولبت عشتار هو خامس ملوك سلالة آيسن (2012 – 1794) قبل الميلاد ويعتقد الباحثون ان قانون لبت عشتار كان مدوناً على مسلة كبيرة كانت مقامة في مكان يتجمّع فيه أكبر عدد من الناس وهذه الحقيقة يمكن استنتاجها من مقدمة القانون وخاتمته.
4 – قانون اشنونا: تمّ العثور على ألواح من قانون اشنونا من خلال التنقيبات التي قامت بها المؤسسة العامة للآثار في العراق في موقع تل حرمل الواقع في بغداد وذلك سنة 1945. وفي نفس العام أعلن الباحث العراقي المعروف طه باقر عن اكتشاف لوحين خلال التنقيبات المذكورة مُدوّنين بشريعة كانت تعرف بقوانين أشنونا وتاريخ هذه القوانين غير معروف على وجه الدقة والتحديد إلا انه وكما يؤكد الباحثون يسبق شريعة حمورابي بنصف قرن أو أكثر.
5 – شريعة حمورابي: بعد جولة سريعة تعرفنا من خلالها على أشهر القوانين والشرائع العرقية القديمة نصل الى أهم هذه الشرائع وهي شريعة حمورابي التي تمثل خلاصة وافية لكل ما جاء في الشرائع القديمة اضافةً الى الشرائع الجديدة التي سنَّها حمورابي في مسلته الشهيرة.
في السنة الثلاثين من حكمه وبعد أن استطاع أن يوحد البلاد بعد أن كانت مجزأةً على شكل دويلات صغيرة، أصدر حمورابي شريعته الشهيرة التي تعتبر من أهم الشرائع التي اهتمت بحقوق الإنسان في العدل والحرية والمساواة. ويرى الباحثون ان أهم عمل قام به حمورابي هو تشريعه للقوانين وتثبيتها على الحجر وتوزيعها على المدن البابلية لكي يطلع عليها الناس ويسير القضاة والحكام على هدي بنودها في تطبيق العدل وإقرار حقوق الناس.
سجّل حمورابي قوانينه على مسلة كبيرة من حجر الدايوريت الأسود وهي على شكل مسلة اسطوانية الشكل يبلغ طولها 225 سنتمتراً وقطرها 60 سنتمتراً وهي مسلة اسطوانية ولكنها ليست دائرية تماماً، وقد تمّ العثور على المسلة في سوسا عاصمة عيلام أثناء حفريات البعثة التنقيبية الفرنسية ما بين عامي 1901 -1902. وقد رتب حمورابي مواد شريعته في أربعة وعشرين حقلاً وكتبت بالخط المسماري وباللغة البابلية على غرار شريعة لبت عشتار وتحتوي المسلة على 282 مادة تناولت جوانب الحياة البابلية المختلفة. ويرجح الباحثون ان مواد المسلة تزيد على 300 مادة والتخريب الحاصل في أحد أجزاء المسلة لم يمكن الباحثين من معرفة عدد المواد المخربة على وجه الدقة والتحديد.
نقل هذه المسلة الى مدينة سوس الملك العيلامي شتروك ناخوتني بعد أن غزا بابل سنة 1171 قبل الميلاد وقد محا ناخوتني من المسلة بعض الأسطر ليسجل هذا الملك عليها بطولاته وانتصاراته غير ان اللعنات التي تحتويها خاتمة الشريعة على مَن يعبث أو يغير في نصوصها منعت الملك شتروك ناخوتني من تدوين اسمه على هذه المسلة.
نلاحظ في القسم الأعلى من المسلة نحتاً بارزاً يمثل الإله شمش وهو إله الشمس جالساً على عرشه وهو يسلم بيده اليمنى للملك حمورابي الواقف أمامه بهيبة وخشوع، أدوات القياس ليتسنى له بواسطة الحسابات الدقيقة إعمار البلاد لخدمة أبناء شعبه.
تناولت شريعة حمورابي جميع ما يتعلق بتنظيم الحياة في ذلك الوقت، فالمواد من 1 الى 5 تتعلق بالقضاء والشهود، والمواد من 6 الى 25 تتعلق بالسرقة والنهب وجزاء السارق والناهب، والمواد من 26 الى 41 تتعلق بتنظيم الجيش، وهناك مواد عديدة أخرى تناولت الحقول والبساتين والبيوت والقروض ونسبة الفائدة والتعامل مع التجار الصغار والتجار الكبار والديون والإئتمان. ويتضمن القسم الثامن من المادة 127 الى المادة 194 كل ما يتعلق بالشؤون العائلية كالزواج والطلاق والإرث والتبني والتربية والروابط العائلية وإنجاب الأطفال، وفيما يتعلق بتطبيق العدالة وعقوبات القصاص تتناول المواد من 195 الى 214 كل ما يتعلق بالخصومات بين الأشخاص والأضرار التي يحدثها البعض للبعض الآخر اضافة الى جوانب عديدة أخرى تناولتها بنود هذه المسلة وحاولت من خلالها إقرار العدالة والمساواة والحرية الشخصية التي تحترم الأعراف والتقاليد السائدة في ذلك الوقت.
وجدير بالذكر انّ النسخة الأصلية من مسلة حمورابي معروضة الآن في متحف اللوفر الفرنسي ولا يملك العراق وهو صاحب هذه المسلة إلا نسخة جبسية معروضة في القاعة البابلية في المتحف العراقي الذي تم نهبه عند سقوط النظام السابق.
يشير حمورابي في مقدمة مسلته الى أن الإلهين آنو وأنليل نادياه باسمه حمورابي الأمير التقي الذي يخشى الآلهة ليوطد العدل في البلاد وويقضي على على الخبيث والشرير لكي لا يستعبد القوي الضعيف ولكي يعلو العدل كالشمس ويتير البلاد من أجل خير البشر وتتواصل المقدمة لتوضح أمجاد حمورابي الذي أتقن بناء المعابد الكبيرة ووضع المصائد لأعداء الآلهة، حامي مدينة لارسا والذي أعاد تأسيس مساكن كيش وبعد مقدمة طويلة تعدد أمجاد حمورابي وعمق علاقته بالآلهة وتأكيده على السير على هدي ما تريده هذه الآلهة من خير على الأرض تبدأ تفاصيل بنود شريعة حمورابي التي تقع كما أسلفنا في 282 مادة وقد وردت مواد هذه الشريعة كاملة في كتاب (الشرائع العراقية القديمة) للدكتور فوزي رشيد الذي يعتبر واحداً من أهم المصادر التي تناولت الشرائع العراقية القديمة ويمكن الرجوع لهذا الكتاب لمعرفة تفاصيل بنود شريعة حمورابي.
- خاتمة:
من المؤكد ان بنود القوانين والشرائع القديمة عموماً ومسلة حمورابي على وجه التحديد لم يعد لها من أثر وفاعلية في حياتنا المعاصرة، فقد وضعت هذه الشرائع والقوانين لأزمنة قديمة وكانت تمتلك كامل فاعليتها في تلك العصور وكانت ذات تأثير كبير في حياة البشر وكانت بنود شريعة حمورابي حاسمة وقاسية على مَن يعتدي على الآخرين ليسلب حقوقهم حيث نجد مثلاً في المادة الأولى من هذه الشريعة انّ الرجل إذا اتهم رجلاً آخر بتهمة القتل ولكنه لم يستطع إثبات هذه التهمة فان الإعدام يكون نصيب مَن لفق تهمة القتل بدون وجه حق.
وقد عملت بنود هذه الشريعة على إحقاق الحق والعدل والمساواة بين الجميع دون استثناء وهذا لا يعني ان هذه القوانين والشرائع لا تمتلك أهميتها بعد أن اجتازتها العصور، فهي تؤكد بما لا يقبل الجدل والمناقشة على ان العراقيين القدماء هم أول مَن أشار الى مفردة الحرية، وهم أول مَن أكد على أهمية حقوق الانسان في العدل والحرية والمساوة بما يوفر الحياة الحرة الكريمة للبشر، وقد سبقوا بهذه الشرائع والقوانين الحضارة الغربية بعشرات القرون، بل ان هذه الحضارة الغربية هي أول مَن استفاد من بنود هذه الشرائع والقوانين رغم محاولة تهميش دورها التأريخي لأسباب عديدة لا مجال لذكرها في هذا البحث يقف في مقدمتها المستشرقون الأجانب.
========================= المصادر:
1 – موسوعة ويكيبيديا/ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
2 – هنا بدأ التاريخ/ س. ن كريمر.
3 – الانسان في أدب وادي الرافدين/ د. يوسف حبي.
4 – الشرائع العراقية القديمة/ الدكتور فوزي رشيد.
5 – فؤاد قزانجي/ صحيفة المدى/ 4 تموز 2009.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

حقوق الانسان علويا
حقوق الإنسان في الإسلام
حقوق العِشرة عند الامام الصادق عليه السلام‏
عُبادة بن الصامت
العدل الاِلهي و المصائب والبلايا
دور التجربة النبوية في بناء منظومة الحقوق ...
حقوق الانسان بين الكونية والخصوصيات
من هو اول من ارتكب جريمة حرق الانسان في الاسلام
العائلة بين النظرية الرأسمالية والاسلامية
حقوق الأبوين في الاسرة

 
user comment