عربي
Saturday 27th of April 2024
0
نفر 0

دولة الموعود -9

نحن أمام تحصيل حاصل. إنماء وحشي للثروة قد يتيح منافذ وفرصا على المستوى الفردي تستطيع أن تتباها بها الرأسمالية المخاتلة لإغراء الغالبية العظمى التي رسم لها سقفا من الاحلام لن تخرج منه أبدا. لكنها الكارثية على المستوى الجماعي. يجب على الأغلبية الساحقة في هذه السوق الداروينية التي تبتلع الصغار والمتوسطين باستمرار أن تتطلع لتعمل أكثر ولكن في الوقت نفسه عليها أن لا تصل إلى مبتغاها حتى لا تتحسن أحوالها لتبرح نطاق الشغيلة.

غياب العدالة وسورة الأزمات البنيوية للاقتصاد الرأسمالي وتكاثر السكان وتراجع الموارد وتلوث البيئة وانفجار وضعية الشركات العابرة للحدود في ظل عولمة جارفة لكل أشكال القوانين التي تحمي نظم التكلفة السياسية والاجتماعية والبيئية، كل هذا يعني أن الفقر هو صناعة رأسمالية بامتياز. إن الانسداد الأعظم لم يطال الفكر السياسي فحسب، بل إننا أمام ضرب كارثي من الانسداد الاعظم في الاقتصاد السياسي. على الرغم من أن تساوي البشر في معدل الاستهلاك الجنوني وتحول الأمم جميعا إلى مصاف الأمم المصنعة الكبرى يظل حلما ساذجا في ظل الشروط المجحفة التي يفرضها النظام الرأسمالي على الدول الفقيرة أو تلك السائرة في طريق النمو ـ ذلك لأن الأمر لا يتطلب كثير تأمل ـ فالفقر والتخلف هو الذي يؤمن الهامش الأمثل للمركز. إننا جميعا جزء ضروري ووظيفي للرأسمالية. فهي لا تقوم بالمركز فقط ، بل تكتمل بوجود هامش مهدور المصير . وهذا الأخير ليس مسألة جزافية ، بل هو صنيعة النسق الرأسمالي الذي بقدر ما يتيح للمركز نموا مضطردا فأيضا يعمل على تأميل تفقير مضطرد للهامش. لكن دعنا نحلم قليلا مع هذا النظام ونسايره في أحلامه تلك. فحتى لو أصبحنا جميعا في هذا العالم مصنعين في مستوى الدول العظمى فإن ذلك سيكون كارثة على البيئة لا تتحملها البتة. إن نمط الانتاج ونوع الطاقة المستهلكة اليوم في هذه الصناعات تنذرنا بمستقبل كارثي. لا يوجد من يخطئ هذه الحقيقة حتى من أولئك الذين يتحايلون للامتناع عن دفع التكلفة البيئية. إن الطبيعة كما يقولون متسامحة تتحمل كل الاختلال البيئي الناتج عن التدخل الخاطئ للانسان وسوء تدبير الموارد الطبيعية. يقولون أيضا إن الطبيعة ستعود لتوازنها متى كف هذا الأخير عن التدخل. نقول هذا مؤكد ما لم يستمر الاستنزاف. ولا ندري هل حقا نحن أمام ذلك المصير أو المستقبل المشترك الذي بشرت به التنمية المستديمة، وهل في سياق هذا التدبير الخاطئ والجنوني للبيئة سنسمح للأجيال القادمة ببعض من هذا الامتياز. هذا حقا لا يهمنا الآن بقدر ما يهمنا الوقوف عند فكرة التسامح البيئي وعلاقة ذلك بالجواب عن وضعية دولة الموعود. لا نريد أن نضع أرقاما لتوصيف الحالة المزرية للطبيعة اليوم ولا ما هو متوقع غدا. لكن السؤال الذي يظل مطروحا: هل دولة الموعود تستطيع أن تفي بكل وعودها في مستقبل ينذر بالمأساة البيئية. قد يكون لفكرة التسامح البيئي قدرة على تفسير ذلك. لكن ماذا لو لم يعد في مكنة الطبيعة أن تغفره للانسان بعد أن تنفذ مواردها أو يفسد مناخها بصورة لا تطاق. هذا إنما يفيدنا، بأن دولة الموعود سيكون لها موعد مع العالم قبل استفحال الوضع البيئي بصورة لا رجعة فيها ولا تسامح. إن الطاقة اليوم تعد بنضوب ، وحسنا أن يكون ذلك سببا في انطلاقة جديدة للبحث عن طاقة بديلة ونظيفة. إن مظاهر دولة الموعود تؤكد على أنها دولة تنعم بآخر مستويات التقنية النظيفة. بل إن كل ما تعد به يؤكد على أنها دولة تخضع لنمط اقتصادي مختلف جذريا، بحيث لا مكان لنظرية التفقير والأزمات وما شابه ذلك. وبالتأكيد لا مجال لأي شكل من أشكال الملتوسية هنا ، ما دامت الموارد ستتضاعف في نموها أكثر من الحجم السكاني . إن دولة الموعود تؤكد على أن الموارد ستظهر بشكل لم يسبق له مثيل. فالمستقبل واعد بالرفاه. لذا علينا أن نتأمل بعضا من تلك الروايات التي تقول مثلا[18]:

ـ أخرج البخاري عن أبي هريرة أن الرسول ـ ص ـ:" لا تقوم الساعة ، حتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته. وحتى يعرضه فيقول الذي يعرض عليه : لا أرب لي به".

ـ أخرج الحاكم عن أبي سعيد، عن الرسول ـ ص ـ " يخرج في آخر أمتي المهدي ، يسقيه الله الغيث ، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمة".

ـ روى الصدوق عن الامام الباقر:" القائم منا منصور بالرعب مؤيد بالنصر تطوي له الأرض وتظهر له الكنوز ولا يبقى في الارض خراب إلا عمر".

ـ يروي المجلسي قول علي بن أبي طالب:" ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها ولأخرجت الأرض نباتها ولذهبت الشحناء من قلوب العباد واصطلحت السباع والبهائم حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام لا تضع قدميها إلا على النبات وعلى رأسها زينتها لا يهيجها سبع ولا تخافه".

ـ يروي الشافعي عن أبي سعيد الخدري عن الرسول ـ ص ـ :"تتنعم أمتي ( في عصر المهدي) نعمة لم يتنعموا مثلها قط، ترسل السماء عليهم مدرارا ولا تدع الارض شيئا إلا اخرجته".

ـ في عقد الدرر عن النبي ـ ص ـ :" وتزيد المياه في دولته وتمد الانهار وتضاعف الارض أكلها".

مثل هذه الروايات ونظائرها فاضت بها المتون الاسلامية، يجب استيعابه خارج اللغة والنمط الحضاري الذي ذكرت فيه مثل هذه النبوءات. فأفضل وسيلة لمزيد من الاستيعاب هو إعادة تأمل مضامينها في ضوء النموذج الحضاراتي المعاصر. إنها قضايا موجهة لنا أكثر مما هي موجهة للأسلاف. ومن هنا فمثل هذه المظاهر تؤكد على أن دولة الموعود غير معنية بالتكهنات آنفة الذكر، تلك التي تنذر بعودة الندرة والتلوث والفقر والمجاعة والمستقبل الكارثي للانسان. إنها تؤكد بذلك على أنها باراديغم مختلف تنتهي معه رحلة الاجتماع السياسي وتقف عنده أيضا محاولات الاقتصاد السياسي. إن المستقبل البشري والاجتماع السياسي الانساني لا يمكن أن يقرأ بصورة إيجابية فيما تؤكده تقارير تنتمي إلى العقل السياسي والاقتصادي الذي بات واضحا أنه لا يملك ما يقوله عن المستقبل سوى ذلك الشكل من التحذير والترهيب. لكن يظل دائما السؤال الذي يطرح و طرحه مشروع، حول إمكانية إعادة تطهير الاجتماع الانساني والبيئة من الفساد في دولة الموعود؟

ندرك أن العملية لا تقتصر على أحياز ضيقة ولا حتى على حيز المؤمنين. الامر يطال الكوكب برمته ومن عليه. لا ننسى أن دولة الموعود هي كونية. وعملية كهذه ليست محصورة ويسيرة، بل هي انقلاب حضاري وبيئي سيجعل العالم أمام نمط مختلف عن كل ما سبقه. إنها ثورة الانسانية المنتظرة بقيادة الموعود. قراءة الاخبار في شموليتها تؤكد على أن ارتفاع معدل الأمن إلى أقصاه وغياب الندرة ونهاية سلك الأزمات البنيوية في الاقتصاد وشعار دعه يعمل دعه يمر الذي لن يظل كما في النظام الرأسمالي شعارا لطبقة من المتنفذين وأيضا ليس شعارا يتحلل به المستثمر من كل التزاماته الاجتماعية والاخلاقية..كما يؤكد على ارتفاع في مستوى التحسن البيئي ونظافة وسائل الانتاج وتغيير نمط الاستهلاك وكل هذا مع وجود عدالة كافية لتوزيع الثروة بالقسط، جدير بخلق مناخ صحي لانطلاق اقتصاد كبير وتحقق قدر هائل من الوفرة للنوع.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في رحاب بقية الله: المهدوية عقيدة النجاة
المهدوية في الكتب والشرائع السماوية
الأدیان الثلاثة والبشائر بالمهدی علیه السّلام
قصة بناء مسجد جمكران
علل الغيبة
الانحراف العقائدي عن القضية المهدوية
مشاهدة الإمام الغائب عليه السلام عند شهادة والده ...
نظرة في احاديث المهدي
بعض الاعمال في عصر الانتظار
أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

 
user comment