عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

الإحساس بالجمال

الإحساس بالجمال
إن الله جميل يحب الجمال ، وصور الجمال في الكون والحياة، دليل على قدرة الله وعظمته وحكمته، والقيم العليا في مبادئ السماء، ترمز إلى نواحٍ جمالية مثلى، لأنها ينبوع السعادة الحقيقية للبشر في كل زمان ومكان، فالخير والفضيلة، والحب والصدق، والعدل والرحمة، والتآخي والبر، والطهر والعفاف، وغير ذلك من الأمور الإيجابية البناءة، التي تملأ القلب بالرضى والسرور، هي في مجموعها جماع السعادة الدنيوية والأخروية، وهي تعبير عن الجمال المعنوي الذي لا حدود له...
واتساق الكائنات الحية والجامدة، وامتداد السماء بصفائها وسحبها وأمطارها، وتدفق الأنهار والبحار وما تحويه من نعم، وتنوع المزروعات والحيوانات والطيور، ثم السنن الكونية الدقيقة المنظمة التي لا تكون بدونها أية حياة، وتعاقب الليل والنهار، واختلاف الألسنة والألوان والسمات والأفرجة والعقول.. هذا.. وذاك.. وغيرهما تنبض بما لا يمكن وصفه أو التعبير عنه من الجمال المعجز..
لكن ـ لحكمة يعلمها الله ـ هناك من لهم أعين لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، وقلوب لا يفقهون بها، إنهم كالأنعام بل هم أضَّل، وقد دعت الآيات القرآنية إلى تأمل هذا الكون، واكتشاف روعة التنظيم والتنسيق والجمال فيه، حتى يزداد الإنسان إيماناً ويقيناً، ويسعد بتلك الثروة الهائلة التي تغمر الإنسان والكون في كل موقع (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)(1).
وتذوق الجمال واليقين من أعظم نعم الله، وقد رمز إليها أحد الصالحين بقوله (إن بين جنبي من اللذة، ما لو علمها الملوك لقاتلوني عليها بالسيوف).
وتمثل الخطيئة والشر والفساد والظلم والاستغلال والغفلة والبعد عن مبادئ السماء، تمثل صورة بشعة للقبح الذي يضاد الجمال...
والأدب ـ كفن جميل ـ إذا ما سار على النهج السليم، وروعيت فيه القواعد الجمالية شكلاً ومضموناً، أوحى إلى القارئ بصور للجمال متنوعة مؤثرة، فالقصة بما فيها من أحداث وشخصيات وتنسيق وقيم وتشويق، تخلب لب الطفل، في كل زمان ومكان، وتجعله يشعر بالمتعة والرضا والإئتناس، وتمده بالمعرفة والخبرة، فيستشعر تلك (اللذة) الروحية التي تفوق في روعتها ماديات الحياة ومغرياتها.
إن تنمية التذوق الجمالي لدى الطفل، له وثيق الصلة بسلوكه المستقبلي وحكمه على الأمور، واتخاذه للمواقف المؤثرة في الحياة، سوف يشغف بكل ما هو جميل.

وسوف يأنف من كل قبيح أو بشع..

عندئذ يجد في نفسه الرغبة لفعل الخير، والبعد عن الشر، بشکل فطري او عقائد ي انطلاقا من الآية الشريفة (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(2) وسوف تتكون في ضميره وعقله جذور راسخة للقيم الفاضلة، لأنه حريص ـ بتكوينه ـ على الإستمتاع بما فيها من جمال وخير وحسن عاقبة، وستكون وسيلة لإرضاء ربه، واستقامة أمره، وخدمة مجتمعه، ولسوف ينظر إلى الوجود من حوله نظرة تعمق وفهم وتذوق وتأمل، ويبهر بما لله من قدرة وعظمة، وتترعرع في داخله أزاهير الحب والبهجة والنقاء...
إن الطفل ينزعج أيما انزعاج وهو يستمع إلى قصص البشاعة والقسوة أو يقرؤها، وقد يملؤه الخوف والذعر، فيلجأ إلى من حوله ليحتمي بهم، وتفزعه مشاهد الدماء والقتل والظلم الفادح، وتطارده الكوابيس في نومه، وتتلون نظرته إلى الحياة بلون قاتم مخيف محزن، ولهذا فإن الذين يكتبون للأطفال، يجب ألا يغرقوا في مثل تلك المشاهد والأحداث المرعبة، بحجة أن الحياة فيها الخير والشر، وفيها القبح والجمال، والظلم والعدل، إن الإنحياز إلى الجوانب الخيرة المشرقة في الحياة أمر حيوي بالنسبة لأدب الأطفال، ولا بأس من الإشارة بطريقة عابرة غير تفصيلية لما قد يعتمل في أحداث الحياة من انحرافات وخطأ حتى لا يخدع الطفل، ويكتشف في المستقبل أننا خدعناه، هذا هو الأسلوب الأمثل في تصوير الحياة والناس للطفل، كما يمكن للكاتب أن يلمح إلى أن الشر عاقبته وخيمة، وأن الخير يفضي إلى السعادة والفلاح ورضا الله والناس.
والطفل أقرب إلى تذوق الجمال من الكبار، فقد يرى الجمال في قطعة من الحديد الصدئ، أو دمية صغيرة، أو زجاجة فارغة. فيقتني هذه أو تلك ويحرص عليها، ثم إن نضوج الكبار وخبراتهم وحاستهم النقدية، تجعلهم أقل إستمتاعاً بما يقرأون أو يسمعون من قصص، لكن الطفل يستغرق في تصوراته وأوهامه وهو يقرأ أو يسمع وينتشي أيما نشوة، ويضع لنفسه عالماً فريداً مشوقاً، وينهمك فيه، ويكاد ينسى كل ما حوله، وكاتب الأطفال ـ عندما يدرك ذلك ـ يستطيع أن يفهم أية فرصة نادرة تلك، وأية مسئولية كبرى يحملها، وهو ينقش على تلك الصفحة البيضاء ما يريد من قيم وافكار ومشاعر.
مرة أخرى نقول إن من أهم وظائف أدب الأطفال، تنمية الإحساس بالجمال، ذلك الجمال الروحي الذي لا حدود له، بل إن الجمال الحسي لدى تذوق الطفل له يتحول إلى جمال معنوي، وما البصر إلا عامل مساعد في هذه العملية التحويلية الغريبة، يثريها عوامل عدة أخرى منها مدى درجة الإستعداد، والخبرات المختزنة، والحالة النفسية، وقوة التخيل والشفافية.

الحفاظ على حالة التوتر الصحية وتوجيهها

على الرغم من حالة (التوتر) الفطرية الكامنة في الطفل، إلا أننا في حاجة إلى رعاية تلك الحالة، مخافة الزيغ والإنحراف، أو النكوص والتضاؤل، أو الإفراط.
والتوتر الذي نعنيه هنا هو لون من التوقد أو الحماس، تحتويه النفس، ويدفعها إلى الرغبة في العمل والنمو والإبداع، أو بتعبير آخر الرغبة في الطموح، وتحقيق الذات، وأن يحلم الإنسان الطفل بالكمال الأمثل، وإذا كنا من قبل قد تحدثنا عن (التوزان النفسي) لدى الطفل، فإننا هنا نحاول ترجمة هذا التوازن إلى فعل إيجابي، وعاطفة مشدودة نحو الخير والفضيلة والنمو والإنتاج.
والإيمان فكر وعاطفة، وبالتالي فإن العبادات والجهاد، والعمل على التمكين للدعوة، والمشاركة في خدمة المجتمع، وتبني القيم العالية، والتصدي للشر والرذيلة، وغير ذلك من الأمور الأساسية في حياة الفرد، تحتاج دائماً إلى عنصري الفكر والعاطفة، والتأثير متبادل بين العنصرين، ولا يغني أحدهما عن الآخر، بل يرى الكثيرون أن الفطرة أقرب إلى العاطفة منها إلى العقل، وإن كانا متلازمين بنسبٍ متفاوتة.
والإسلام في شموله، حرَّض على تنقية العواطف من الأدران، وشفائها من الأسقام، وتوجيهها الوجهة الإيجابية البناءة، ويلعب الفن الجميل دوراً أساسياً في إنضاج العاطفة وحراستها والحفاظ على اشتعالها وتوهجها، ومن هنا كان حرصنا على أن يعي الذين يكتبون للأطفال هذه الأمور الهامة في تكوين الطفل وتربيته نفسياً وفكرياً وعاطفياً، لا بقصد إيجاد التوازن فحسب، ولكن لشحن الطاقات، وتحريك الأعضاء، وتشكيل السلوك.
ولقد تناول مفكرو الإسلام هذه الناحية بطرائق عدة، ويكادون يجمعون على أهمية القدوة والعبادة والرياضة النفسية، وعدم الإمتلاء الجسدي، أو الشبع المادي، والحرص الشديد على الإلتزام بالقيم والمبادئ الإسلامية، والتقرب بالنوافل، والإستمتاع بالقناعة والإيثار والتضحية، وجعل الغاية رضا الله، والتسابق الدؤوب في ذلك المجال (وفي ذلك فليتنافس المتنافسُون)، والإيقان التام بأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وبأننا خير أمة أخرجت للناس، وذلك ليس من باب التعالي الأجوف، أو العنصرية المقيتة ـ حاشا لله ـ ولكن استناداً لما في الإسلام من مبادئ إلهية، تسمو فوق تشريعات الأرض، وتصورات الفلاسفة، ومزاعم محرفي الكتب السماوية، فالطفل المسلم يجب أن يعتز ويفخر بانتمائه لهذا الدين العظيم، وهذه الأمة الفاضلة، التي تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وتتحرك تحت راية التوحيد، فهي بذاك وغيره خير أمة...
ويجب ألا نغضب أو نثور ونحن نرى أطفالنا يتفجرون نشاطاً وحماسة، فهذه حالة صحية، وإنما المهم أن توجه التوجيه السليم، فلا تكبت بالعنف والقهر والعقاب، وإنما تستغل في رواية قصص المغامرات والبطولات الهادفة، وتشجيعهم على ممارسة أنواع معينة من الألعاب الرياضية، وشغل وقتهم بأنشطة علمية وهوايات حرفية، وتشجيعهم على الوفاء بالشعائر الدينية المختلفة طبقاً لمقدرته وسنه، وتنمية حب الكشف والفضول العلمي والبحث.
وعندما يكبر الطفل، سوف يجد لديه الرغبة في ارتياد الآفاق، والشغف بالرحلات، ويحاول أن يكون طياراً أو مهندساً أو عالماً أو طبيباً، أو داعية إسلامياً إلى غير ذلك من صور التكيف الإيجابي للشخصية المتسقة..
وعندما ننظر في تراثنا والتراث العالمي، نجد المفكرين الكبار قد تعرضوا لهذه القضية، فسماها بعضهم (القوة الروحية)، أو (التوتر) أو (العشق المقدس) و (الشعلة المقدسة)، أو (تربية الذات)، إلى غير ذلك من المسميات، لكن الذي يعنينا في هذا المجال، هو انعكاس ذلك التصور على نفس الطفل ووجدانه وسلوكه، بالمقاييس الإسلامية الصحيحة، وبأبسط العبارات نقول إننا نريد من الطفل أن يكون نشطاً، وتوَّاقاً للعمل الجاد، والعلم النافع، والسلوك المستقيم، وحب التضحية والإيثار، والإعتزاز بدينه وقيمه، ولا شك أن الحفاظ على هذه المشاعر أو العواطف قوية متقدة، فعالة متحركة، مسيطرة وواضحة، هو ما نطلق عليه (حالة التوتر) Tension وهو مصطلح نفسي، تترجمه العبارات الجامعة التي ذكرناها آنفاً.
وأول الألوان الأدبية التي يمكن توظيفها في هذا المجال هي القصة التي تقدم للطفل بما فيها من حبكة وموضوع وبيئة زمانية ومكانية وتشخيص وأسلوب ووحدة فنية، وهي العناصر المتفق عليها لفن قصة الأطفال، وكل عنصر من عناصر القصة له دور هام في نجاح الهدف من قراءة القصة أو سماعها، ويمكننا أن نلاحظ ذلك على الطفل بعد أن يشهد تمثيلية في التلفاز أو مسرحية، أو يقرأ قصة، فنراه يندفع قائلاً أريد أن أكون مثل هذا البطل، أو يحاول الطفل تقليد بطله المحبوب في حركاته وأحاديثه، بل يسعى لأن يلبس ملابساً مثل ملابسه، وقد يجمع الطفل أصدقاءه، ويحاول تقديم ما سمعه أو شاهده بأسلوب التمثيلية المبسطة التي يقوم هو فيها بالإخراج وتلقين أصدقائه ما بقي في ذهنه من عبارات، وما أكثر الأطفال الذين يقلدون الإعلانات التجارية وما فيها من أغانٍ وحركات.. بل ورقصات ويؤدون ذلك بأسلوب ماهر، يبلغ درجة كبيرة من الإتقان، حتى كادت مثل هذه الإعلانات أن تضر بالطفل، أو على حد تعبير (بيير بلفيه) تصيب خياله بالمرض. وكاتب قصص الأطفال الأمين يستطيع أن يحمي حالة التوتر تلك من التميع والإحباط والإنحراف.
المصادر :
1- النحل : 18
2- الزلزلة : 7 و8

source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الولاء لأهل البيت عليهم السلام
الظلم ممارسةً وتَحَمُّلاً ودولةً لها أركان
القضية الفلسطينية في كلمات الإمام الخميني ( قدس ...
لا توفيق مع الغشّ
تحرير المدينة المنورة والحجاز
من شهد واقعة الطف
آداب المعلّم والمتعلّم في درسهما
الألفاظ الدخيلة والمولَّدة
الحجّ في نهج البلاغة -4
مكانة الشهيد

 
user comment