عربي
Tuesday 14th of May 2024
0
نفر 0

أهذا هو العبّاس "عليه السلام"

إن الحسين شعر بحزنٍ عميق بعمق البحار، كما شعر من قبل رسول الله بحزن مماثل، حينما واجه جسد عمّه حمزة بن عبد المطلب بعد معركة "أحد" و قد مثّل به الاعداء، ولولا أن الحسين كان يعرف أنّه راحل الى الموت في اثر اخيه، لطارت روحه الزكية مع روح ابي الفضل إلى جنة الخلد، فقال عليه السلام وهو ينظر إلى تلك الجثّة: "قتلة كقتلة النبيين وأولاد النبيين".

 

فعلى مرّ التاريخ كان أعداء الرسل ينكلّون بقتلاهم، و لا يلتزمون بأية حدودٍ في المواجهات العسكرية. كيف و يزيد و جنده كانوا يختزنون كل الاحقاد التي حملها من قبل جده ابو سفيان و جدته هند و التي دفعتهما الى التمثيل بجسد حمزة -ع.

 

* * *

 

ترى كيف استطاعوا قتل العبّاس و لم يكن أحدٌ يجرأ من ذي قبل على مواجهته؟..

 

لقد كان العبّاس مثل أبيه علي بن أبي طالب، الذي يخشى الجميع من مواجهته، وذلك لأنه ما صارع أحداً إلا وصرعه، وما نازل أحداً إلا وقتله.

 

ففي معركة "صفين" عندما طلب الأمام من معاوية بأن يخرج إليه شخصياً و يقاتل معه، اقترح عمرو بن العاص أن يقبل التحدي ويخرج لمنازلة الإمام، لكنّ معاوية رفض ذلك قائلاً: "لا.. وإنما نخرج إليه بجمعنا".

 

و يبدو أن العدوّ هنا في كربلاء أيضاً لم يكن يملك القدرة على قتل العبّاس، لولا أنهم خرجوا إليه بجمعهم، واستطاعوا أن يقطعوا يديه، و يصيبوا عينه، و يمطروه بالنبال اولاً، و هذا ما جرأهم على أن يضربوه بعمود الحديد على رأسه، فخرّ صريعاً على الأرض.

 

العبّاس بمقدار ما كان شديد البأس على العتاة فقد كان رقيق القلب تجاه النساء والأطفال والمستضعفين جميعاً، فقد كان يتفجّر عاطفة انسانيّة كلما كان يرى ما بهن من الظمأ و العطش، وقد قتل في سبيل هؤلاء، و هو الوحيد الذي قتل يوم عاشوراء لقضية محددة، هي محاولة إرواء عطش النساء والأطفال والرضع، ذلك أنه بعد أن قتل كل الأصحاب والأقرباء بمن فيهم أخوته من أبيه وأمه و لم يبق أحدٌ إلا هو و الحسين، ازداد حصار العدوّ عليهم شراسة، إذ أن شمر بن ذي الجوشن كان يستعجل وضع النهاية لتلك المعركة الدامية التي كان بنو أمية وجندهم يريدون فيها أخذ الثأر من رسول الله، "وما فعل بأشياخهم ببدر و حنين" و ذلك تحت عمامة الإسلام وخيمته.

 

لقد كانت خلافة يزيد ثمرة المؤامرات الواسعة التي حاكها أبو سفيان للقضاء على الإسلام وعلى أهل بيت الرسول، بالحرب حيناً، وبالدسائس حيناً، و بالقتل والقتال حيناً آخر.

 

وكان إعصار القتل وغريزته قد بلغت الذروة عندما أقدموا على قتل تلك الذرية الطاهرة، بعد أن حاصروهم بالجوع والعطش والحراب، وكانت رائحة الدماء الزكية التي أريقت بغزارة في ذلك اليوم قد استحثت فيهم كل الغرائز الحيوانية، وكما يفعل مجموعة من الذئاب بعد صيد الغزال الذي ما إن ينزف تحت أيديهم حتى يزداد حماسهم لتقطيع أوصاله، فإنهم كانوا في أوج حماسهم للقضاء على الحسين بأسرع و ابشع ما يمكن، لكنّ وجود العبّاس إلى جانبه كان يسلب منهم القدرة على تنفيذ ذلك، فكم من هجومٍ شنّوه على مخيم أبي عبد الله في تلك اللحظات الأخيرة، واستطاع هو وأخوه من ردّهم على أعقابهم.

 

لقد كانت حرب السيوف تسمح لمقاتل شجاعٍ واحد أن يقلّب ميزان القوة بمفرده، فيمنع الكثرة من أن تغلب القلّة، فما دام هنالك من يستطيع صد الرجال الذين يتقدمون في الهجوم فإنه قادر على صدّ من خلفهم، فلقد عجزوا عن تنفيذ مئاربهم، كما كان يرغب في ذلك شمر بن ذي الجوشن، بل إن الحسين وأخاه العبّاس شنّا أكثر من هجوم عليهم، بعد أن بقيا وحيدين في الميدان.

 

ترى من كان يجرأ على مواجهة قلب عليّ- عليه السلام- الذي أودع في صدر الحسين و العبّاس؟

 

ومن كان يستطيع ان يتطاول على سيفين من سيوف رسول الله مودعين في زندي العبّاس والحسين؟

 

إلا أنه بمقدار ما كان العدوّ يستعجل النهاية بقتل الذرية الطاهرة من أجل حطام الدنيا، بنفس المقدار كانت نفس العبّاس تتوق لاستقبال الشهادة، حتى يفد على رب كريم غفور، و يعانق، وراء جدار الموت، كلاً من رسول الله، وعلياً، والشهداء الذين سبقوه.

 

لقد كان العبّاس - في تلك اللحضات- على عجلة من أمره لدخول الجنة، كما كان أعدائه على عجلة من أمرهم لكسب الجائزة عند عبيد الله بن زياد.

 

و بمقدار ما كان حبّ الدنيا قد أعمى بني أمية وجندهم، بمقدار ما كان حبّ الآخرة قد أجنّ أصحاب الحسين، و ذلك ما كان يدفعهم إلى استسهال الموت في سبيل الله.

 

ألم يخرج "عابس بن شبيب" قبل ساعات من مقتل العبّاس وهو حاسر الرأس، من دون مغفرٍ ولا درع، لمواجهة ثلاثين ألف مقاتل من الذين يحملون كافة الأسلحة المتاحة في ذلك اليوم.

 

و عندما قيل له: "ما انت صانع؟ امجنون انت؟!"

 

اجاب "لا تلوموني، فإن حبّ الحسين قد أجنني"!؟

 

لقد كانت رغبة الشهادة تزداد لدى العبّاس، كلما كانت تقلّ لديه فرص الانتصار على العدوّ..

 

و ها هو يقف الآن أمام الحسين ليقول: "أبا عبد الله".

 

ثم يصمت.. كان يعرف أن ما يريده سيكون شديد الوقعة على قلب أخيه، ليس من أجله هو، بل من أجل النساء الثواكل اللاتي أودعن كل أملهن فيه، بعد أن صرعت سيوف البغي أصحاب الحسين جميعاً، ولم يبقى احدٌ غيره.

 

أعاد العبّاس كلامه، و كان وجهه إلى الأرض خجلاً من اخيه، فقد كان يطلب منه الفراق!.

 

سكت قليلاً، أضاف بعدها: "هل تأذن لي في القتال؟".

 

وكان ذلك يعني هل تأذن لي بالموت!

 

كان كلّ الذين استشهدوا في يوم عاشوراء قد أخذوا الإذن منه، وكان -ع- يعطيهم ذلك بسهولة، بل ان البعض كان يكتفي بقوله: "السلام عليك يا أبا عبد الله".

 

و يجيبه الحسين -ع- "وعليك السلام"، ثم يتلو قوله تعالى، {منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، و ما بدّلوا تبديلا}.

 

وقد قال أحدهم له "أفلا نروح إلى الجنة؟"

 

فقال الحسين: "بلى، رُح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها"، و لكن لا أحد من الأصحاب كان مثل العبّاس، فهو الحصن الأخير أمام طوفان الشرّ، و السّد المنيع الذي يعجز العدوّ عن تجاوزه، و غيابه كان يعني انفتاح الباب على كل الاحتمالات.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمام الحسن (عليه السلام) ومصلحة الإسلام العليا
الدرس الحسيني ووظيفة الأجيال
من حياة الأئمة الثلاث عليهم السلام
أقوال علماء أهل السنة في اختصاص آية التطهير ...
الاكراه على الفعل المحظور
وصايا الامام الجواد عليه السلام
في رحاب مولد الإمام الرضا (عليه السلام) مراجعة ...
أدوار السيدة زينب (عليها السلام) ومهامها
لمحات من كمالات السيدة زينب (ع)
مناظرة الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع الزنديق ...

 
user comment