عربي
Saturday 27th of April 2024
0
نفر 0

الامام الهادي عليه السلام زمن المنتصر

بعد ان أزال الله تعالى تلك الغمّة التي خيّمت بثقلها في ایام المتوکل من أجواء الإمام الهادي (عليه السلام)، وكشف الغيمة السوداء التي ملأ قتامها آفاقه وآفاق من يدور في فلك الحقّ، حين قطّع المتوكّل سيفه العزيز عليه، فمضى واحداً من سلسلة (أمراء المؤمنين) الذين أذلّوا المؤمنين وعباد الله الصالحين!.
الامام الهادي عليه السلام زمن المنتصر

بعد ان أزال الله تعالى تلك الغمّة التي خيّمت بثقلها في ایام المتوکل من أجواء الإمام الهادي (عليه السلام)، وكشف الغيمة السوداء التي ملأ قتامها آفاقه وآفاق من يدور في فلك الحقّ، حين قطّع المتوكّل سيفه العزيز عليه، فمضى واحداً من سلسلة (أمراء المؤمنين) الذين أذلّوا المؤمنين وعباد الله الصالحين!.
وتنفّس الناس الصّعداء، واستروحوا روح هدوء الأعصاب بعد ذي اللّحية الصفراء الذي بعثره زند (باغر) التركيّ أشلاءً، ونثره إرباً إرباً.. في ليلةٍ عاش أولها في دار الملك والسلطان، وقضى آخرها وجهاً لوجهٍ مع سوء عمله، ومصيره البئيس التّعيس..
وقعد المنتصر - المتشيّع - فأمر بالكفّ عن آل أبي طالب، وأن لا يمنع أحد من زيارة الامام الحسين (عليه السلام) في كربلاء بعد أن كان أبوه - المتوكل - قد منعهم من ذلك وهدم القبر الشريف منذ سنة ستّ وثلاثين ومائتين، وتهدّد من يزوره بالتعذيب والقتل!. وقد روى أبو جعفر الطبريّ هذه الحادثة في تاريخه قائلاً:
(وفيها - سنة 236 هـ - أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن عليّ وهدم ما حوله من المنازل والدّور، وأن يحرث ويبذر، وأن يمنع النّاس من إتيانه.
فذكر أنّ صاحب الشّرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثةٍ بعثنا به إلى المطبق - الحبس - فهرب الناس وامتنعوا من المصير إليه، وحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه)(1).
أما المسعودي فقال في مروج الذهب:
(وكان آل أبي طالب قبل خلافته - أي المنتصر - في محنةٍ عظيمةٍ وخوفٍ على دمائهم، قد منعوا من زيارة قبر الامام الحسين والغريّ من أرض الكوفة - أي مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) - وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد؛ وكان الأمر بذلك من المتوكل سنة ستّ وثلاثين ومائتين. وفيها أمر المعروف (بالذّيريج) بالسّير إلى قبر الامام الحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما وهدمه ومحو أرضه وإزالة أثره، وأن يعاقب من وجد به. فبذل الرغائب لمن تقدّم على هدم هذا القبر فكلّ خشي العقوبة وأحجم، فتناول (الذّيريج) مسحاةً وهدم أعالي قبر الحسين، فحينئذٍ أقدم الفعلة فيه.. وإنّهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللّحد فلم يروا فيه أثر رمّةٍ ولا غيرها. ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر فأمّن النّاس وتقدّم بالكفّ عن آل أبي طالب وترك البحث عن أخبارهم، وأن لا يمنع أحد من زيارة الحيرة لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه، ولا قبر غيره من آل أبي طالب، وأمر بردّ فدك إلى ولد الحسن والحسين، وأطلق أوقاف آل أبي طالبٍ وترك التعرّض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم)(2).
وقال ابن الأثير في تاريخه الكامل: (وفي سنة 236 هجريّة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن عليّ (عليه السلام)، وهدم ما حوله من المنازل والدّور، وأن يبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه. فنادى بالناس في تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثةٍ حبسناه في المطبق؛ فهرب الناس وتركوا زيارته وخرّب وزرع..
وكان المتوكل شديد البغض لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ولأهل بيته، وكان يقصد من يبلغه عنه أنّه يتولّى عليّاً وأهله بأخذ المال والدم.
وكان من جملة ندمائه عبادة المخنّث، وكان يتعرض للامام علي عليه السلام بالسيئ من القول والمتوكل يشرب ويضحك!.
ففعل ذلك يوماً والمنتصر حاضر، فأومأ إلى عبادة يتهدّده؛ فسكت خوفاً منه.
فقال المتوكل - لعبادة -: مالك؟!. وأخبره.
فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين، إنّ الّذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس، هو ابن عمّك، وشيخ أهل بيتك، وبه فخرك. فكل أنت لحمه ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه.
فقال المتوكل للمغنّين: غنّوا جميعاً:
غار الفتى لابن عمّه رأس الفتى في حر أمّه!.
فكان هذا من الأسباب التي استحلّ بها المنتصر قتل المتوكل - أبيه - .
وقيل إن المتوكل كان يبغض من تقدّمه من الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق، في محبّة عليٍّ وأهل بيته. وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنّصب والبغض لعليٍّ، منهم:
عليّ بن الجهم الشاعر، وعمر بن الفرج الرّخّجي، وأبو السّمط، وابن أترجّة، وكانوا يخوّفونه من العلويّين ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم؛ ثم حسّنوا له الوقيعة في أسلافهم الّذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين. ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان، فغطّت هذه السيّئة على جميع حسناته)(3).
ويكفي هذا الخليفة نقصاً أن تصل بذاءة لسانه - وهو على طاولة الشراب وفي مجالس لهو - يكفيه أنّه نال من عرض زوجته (أمّ المنتصر) لمّا دافع عن كرامة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، إذ قال لابنه (رأس الفتى في حر أمّه) وروي أنّه قالها بصراحةٍ (كذا الفتى في حر أمّه) أي فرجه في فرج أمّه.
ثم تكفيه هذه الشهادة من ثلاثة مؤرّخين أجلاّء ذكروا مخازيه وسوء سلوكه وقبح عقيدته، وفساد ما كان عليه من تصرّف!. وتصوّر - بعدها - مبلغ مناصبته العداوة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) في وصيّه وأخيه وابن عمّه، وفي ابن بنته وابن وصيّه وأبي أوصيائه البررة (عليهم السلام)، لتقف على ما كان عليه بعض حكّام المسلمين الذين تسمّوا بأمراء المؤمنين!.
ولذا ألقى الخليفة الجديد رجله على المكبح، وغيّر وجهة السّير لمّا أعلن رفع الكابوس الثقيل الجاثم على صدور المؤمنين، فارتاحت النّفوس لذلك، وابتلع الكلّ ريقهم..
وقد قال ابن الأثير في تاريخه الكامل: (كان المنتصر عظيم الحلم، راجح العقل.. كثير الإنصاف.. وأمر الناس بزيارة عليّ والحسين (عليهما السلام)، وآمن العلويّين وكانوا خائفين أيام أبيه، وأطلق وقوفهم، وأمر بردّ فدك إلى ولد الحسين والحسن ابني عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) (4).
وفي عصره المعتدل لم تغب عن الأذهان دلائل عظمة إمامنا الهادي (عليه السلام) التي كانت تظهر لأوليائه وخصومه - بالرغم من أنّ واضعي التاريخ قد ضنّوا بذكر شيءٍ.. وبخلوا بكلّ شيء! - إلاّ أنّه رشح إلينا من أخباره نزر قليل يعطي صورةً معبّرةً عن (وجوده) وجوداً منظوراً كإمامٍ لا يرضيه إلاّ ما يرضي الله عزّ وجلّ، ولا يغضبه إلاّ ما يغضب الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله)، فلا يهادن باطلاً ولو صدر من أخيه وأقرب الناس إليه.
ولكننا لن ننتقل من مرحلة إلى مرحلة قبل أن نطلع القارئ على تنصيب بعض أولئك الخلفاء. بعد أن عرضنا لكيفيّة تنصيب المتوكل سابقاً. فقد قال ابن الأثير:
(في سنة 346 هجرية قتل المتوكل. وكان هو والفتح بن خاقان قد عزما على الفتك بالمنتصر بوصيفٍ وبغا وبعض قوّاد الأتراك صباح غد. وكان ابنه المنتصر قد واعد هؤلاء الأتراك على قتل أبيه المتوكل لأنه يومها كثر عبثه به فكان مرةً يشتمه، ومرةً يأمر بصفعه، ومرةً يتهدّده بالقتل، ثم قال للفتح: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إن لم تلطمه - يقصد المنتصر - فقام إليه فلطمه مرّتين!)(5) ثم كان ما كان ممّا ذكرناه عن قتلهما وقال:
(وفي اليوم التالي اجتمع القوّاد والكتّاب والوجوه والشاكريّة والجند وسائر الناس، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب - الوزير وشاهد التزوير - قرأ كتاباً يخبر فيه أنّ الفتح بن خاقان قتل المتوكل، فقتله المنتصر به، ودعاهم إلى المبايعة، فبايعوا!!)(6).
فدماء المسلمين في عرف العباسيّين.. أجراها الله تعالى ملكاً لهم يدفعونه ثمن عروش الظّلم.. وهي في ميزان الأمراء.. أرخص من الماء.. والهواء!.
أمّا الدّهماء من حولهم.. فسريعاً ما ينادون: مات الزعيم.. يحيا الزعيم!. واللّعب كلّه في عين الله عزّ سلطانه..
قال عبد الله بن طاهر: (خرجت إلى سرّ من رأى لأمر من الأمور أحضرني المتوكل له، فأقمت سنة. ثم ودّعت وعزمت الانحدار إلى بغداد، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أستأذنه في ذلك وأودّعه.
فكتب: فإنّك بعد ثلاثٍ يحتاج إليك. وسيحدث أمر إن انحدرت استحسنته.
فخرجت إلى الصيد وأنسيت ما أشار إليّ به أبو الحسن (عليه السلام). فعدلت إلى المطوة - أي الدابّة التي يمتطيها، يركبها - وقد صرت إلى مصري - بلدي - وأنا جالس مع خاصّتي إذ بمائة فارسٍ يقولون لي: أجب أمير المؤمنين، المنتصر.
فقلت: ما الخبر؟
قالوا: قتل المتوكل، وجلس المنتصر واستوزر أحمد بن الخصيب، فقمت من فوري راجعاً)(7).
فسبحان من لم يحجب عن حجّته أمراً، ولا أسدل دون علمه بالأشياء ستراً، ليكون الحجة البالغة على الخلق أجمعين، وليكون آيةً بيّنةً دالّةً على قدرته في اصطفاء من شاء من العالمين.
وقال المنتصر بن المتوكل - الخليفة بن الخليفة، وكان متشيّعاً للإمام (عليه السلام) بعلمٍ من أبيه الذي كان من أجل ذلك يكرهه ويزدريه.. قال -:
(زرع والدي الآس في بستان وأكثر منه. فلمّا استوى الآس كلّه وحسن، أمر الفرّاشين أن يفرشوا الدّكان - أي المقعد المرتفع - في وسط البستان، وأنا قائم على رأسه.
فرفع رأسه إليّ وقال: يا رافضيّ سل ربّك الأسود - أي الإمام (عليه السلام) - عن هذا الأصل الأصفر، ما له بين ما بقي من هذا البستان قد اصفرّ؟!. فإنك تزعم أنه يعلم الغيب.
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّه ليس يعلم الغيب.
فأصبحت وغدوت إليه (عليه السلام) من الغد، وأخبرته بالأمر.
فقال: امض أنت واحفر الأصل الأصفر، فإنّ تحته جمجمة نخرة، واصفراره لبخارها.
قال: ففعلت ذلك، فوجدته كما قال (عليه السلام).
قال - أبوه المتوكل -: يا بنيّ لا تخبرنّ أحداً بهذا الأمر، ولن نحدّثك بمثله)(8).
وليس من العلم الطبيعيّ أنّ اصفرار ذلك الآس نتج عن بخار تلك الجمجمة.. ولا كلّ شجرة أس تحتاج إلى دفن جمجمةٍ نخرةٍ بجانبها حتى يصفرّ ثمرها إذا استوى ونضج.. ولم نعرف تفسيراً سهلاً لما قصده الإمام (عليه السلام) بهذا اللّغز الذي فهمه المتوكل حالاً وأمر ابنه المنتصر بأن لا يخبر به أحداً، ثم وعده بألاّ يعود إلى مثل تلك الغلطة معه!.
وأيسر ما نقدّره أنّ تلك الجمجمة شاهد على جريمةٍ كبرى من جرائم المتوكل التي بارز الله تعالى فيها وأهل دينه، قد ارتكبها سرّاً وأخفاها عن الناس وعن أقرب المقرّبين إليه لبشاعتها وقبحها، وقد دفن من قتله يومها تحت شجرات الآس، ففضحها الإمام (عليه السلام)، أطلع المتوكل على أنّه على علم بها وأنّه يعرف كثيراً من الغيب.. ويعلم كثيراً من الغيب الذي يرتكبه (خليفة) يدّعي الإسلام ويرتكب الفجور والمنكرات والآثام.. فألقم حجراً، وقال لابنه: لن نحدّثك بمثله..
قال أحمد بن محمد بن عيسى: (حدّثني أبو يعقوب، قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام مع أحمد بن الخصيب - وزير المنتصر - يتسايران وقد قصّر أبو الحسن عليه السلام عنه.
فقال ابن الخصيب: سر جعلت فداك!.
قال أبو الحسن عليه السلام : أنت المقدّم - وهذا إخبار له بأنه يموت قبله.
فما لبثنا إلاّ أربعة أيامٍ حتى وضع الوهق على ساق ابن الخصيب، وقتل)(9).
- والوهق حبل في أحد طرفيه أنشوطة يربط بهما ويشدّ على رجلي من رمي للقتل أو أريد ضربه.
قال الراوي: وألحّ قبل هذا ابن الخصيب على أبي الحسن (عليه السلام) في الدار التي كان قد نزلها، وطالبه بالانتقال منها وتسليمها إليه. فبعث إليه أبو الحسن (عليه السلام): لأقعدنّ بك من الله مقعداً لا تبقى لك معه باقية!. فأخذه الله في تلك الأيام)(10).
وابن الخصيب هذا، وزير للمنتصر كما ذكرناه كان قد استوزره وندم على استيزاره لأنه كان طاغية متكبراً (فقد ركب ذات يوم فتظلّم له متظلّم، فأخرج رجله من الركاب فزّج بها صدر المتظلّم فقلته!. فتحدّث الناس في ذلك، وقال بعض الشعراء:
قل للخليفة: يا بن عمّ محمد أشكل وزيرك، إنّه ركّال
أشكله عن ركل الرّجال، فإن ترد مالاً، فعند وزيرك الأموال
وقد كان ابن الخصيب قليل الخير، كثير الشّر، شديد الجهل)(11).
وأشكل وزيرك، أي اربطه برجليه وشدّهما إلى بعضهما كما تربط الدابّة لمنعها من اللّبيط.. والرّكل هو أن يلبط الرّجل غيره برجله استهانةً به..
فيا ويح راكل ذلك المتظلّم برجله ركلاً قتله به!.. والويل لوزير متكبّرٍ جاهلٍ، كثير الشّر.. فإنّه لمّا دفعه الإمام (عليه السلام) ليقدّمه أثناء السّير معه، أراه مقعده من النار، منذ اللّحظة التي قال له فيها: أنت المقدّم!. فقد دعّه - منذئذٍ - إلى جهنّم التي (عليها ملائكة غلاظ شداد لاّ يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)(12) حيث لقي ابن الخصيب عندهم منزلاً جديباً!.
وبقي الإمام (عليه السلام) في منزله رغماً عن أنفه.. وبمرتبته التي رتّبه الله تعالى فيها.
وابن الخصيب هذا، قد فعل الأفاعيل قبل موته، واختلس هو وبقيّة كتّاب القصر أموال المسلمين واكتنزوها في خزائنهم. (ففي سنة تسع وعشرين ومائتين للهجرة، حبس الواثق الكتّاب وألزمهم أموالاً عظيمةً، وأخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه، ومن سليمان بن وهب، كاتب إيتاخ، أربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار، ومن إبراهيم بن رياح وكتّابه مائة ألف دينار، ومن أحمد بن الخصيب وكتّابه ألف ألف دينار - مليون! - ومن نجاح ستّين ألف دينار، ومن أبي الوزير مائة ألف وأربعين ألف دينار)(13)! (والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذابٍ أليم يوم يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم)(14) يا أيّها الكاتب المتكبّر، والوزير المتجبّر..
(وروي أن الحسن العسكريّ (عليه السلام) اتّصل بأبي الحسن، عليّ بن محمد العسكريّ (عليه السلام) - أي بأبيه في هذا العهد - أنّ رجلاً من فقهاء شيعته كلّم بعض النّصاب فأفحمه بحجّته حتى أبان فضيحته. فدخل - أي الرجل الفقيه من شيعته - على عليّ بن محمدٍ (عليه السلام) وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب - وسادة عظيمة - وهو جالس خارج الدّست وبحضرته خلق من العلويّين وبني هاشم؛ فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدّست وأقبل عليه فاشتدّ ذلك على أولئك الأشراف.
فأمّا العلوية فأجلّوه عن العتاب.
وأمّا الهاشميّون فقال له شيخهم: يا بن رسول الله، هكذا تؤثر عامّيّاً - غير ذي حسبٍ ونسبٍ - على سادات بني هاشم من الطالبيّين والعباسيّين؟!.
فقال (عليه السلام): إيّاكم وأن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم: (ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيبا مّن الكتب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثمّ يتولّى فريق مّنهم وهم مّعرضون)(15). أترضون بكتاب الله حكماً؟
قالوا: بلى.
قال: أليس الله يقول: (يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجلس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الّذين آمنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجت..)(16)؟! فلم يرض للعالم المؤمن إلاّ أن يرفع عن المؤمن من غير العالم، كما لم يرض للمؤمن إلاّ أن يرفع على من ليس بمؤمن.
أخبروني عنه، قال: (يرفع الله الذّين آمنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجاتٍ) أو قال: يرفع الذين أوتوا شرف النسب درجات؟!.
أو ليس قال الله: (هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون)(17)؟!! فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله!. إنّ كسر هذا (الرجل) لفلانٍ الناصب، بحجج الله التي علّمه إيّاها، لأفضل من كلّ شرفٍ في النسب.
فقال العباسي: يا بن رسول الله، قد أشرفت علينا - أي قدّمت علينا في الشرف.. هو ذا تقصير بنا عمّن ليس له نسب كنسبنا وما زال منذ أول الإسلام يقدّم الأفضل في الشرف على من دونه فيه.
فقال (عليه السلام): سبحان الله! أليس عباس بايع أبا بكرٍ وهو تيميّ والعباس هاشميّ؟!.
أو ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطّاب، وهو هاشميّ أبو الخلفاء، وعمر عدويّ؟!.
وما بال عمر أدخل البعداء من قريشٍ في الشورى، ولم يدخل العباس؟!.
فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشميّ على هاشمي منكراً، فأنكروا على عباس بيعته لأبي بكر، وعلى عبد الله بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته!.
فإن كان ذلك جائزاً، فهذا جائز.
فكأنّما ألقم الهاشميّ حجراً)(18).
فتعالى الله العزيز الوهّاب.. وسلامه وتحيّاته وبركاته على خزّان علمه الذين زقّوا العلم زقّاً!. فإنّ من حاول أن يغوص في بحر علمهم غرق.. ومن عارض حقّهم بباطله زهق.. ومن سلّم إليهم واتّبع أمرهم وسمع قولهم - الذي هو قول الله وقول رسوله - لحق بركب الهدى، ونجا من الضلال واللّهث وراء حطام الدنيا، لأنّهم حملة رسالة الحقّ والعدل التي أنزلها الله تبارك وتعالى إلى خلقه؛ وهم حماتها ومستودع سرّ الله وأمناؤه على دعوته..
هذا، وإنّ الله تعالى لا يسأل يوم القيامة عن الأنساب ولا عن العشائر والقبائل إذ قال عزّ من قائل: (فإذا نفخ في الصّور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون* فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون)(19)! فنسب المرء يوم القيامة يقرّره علمه؛ وإنّ محمداً (صلّى الله عليه وآله) قال لبضعته الشريفة الغرّاء فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين: يا فاطمة اعملي فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً؛ وهو (صلّى الله عليه وآله) شفيع الأمّة يوم الحساب، في حين أنّ عمّه أبا لهبٍ كافر معاند ضال قد خلّد القرآن الكريم ذمّه إلى الأبد.
وقد قدّمنا أنّ عهد المنتصر كان عهداً فرّج الله تعالى فيه عن الشيعة نوعاً ما، ومع ذلك فقد بخل المؤرّخون بذكر أيّ شيءٍ جرى عهدئذٍ على يد الإمام (عليه السلام)، وضنّوا بوصف أعماله وتحرّكاته، وخلت من ذلك كتبهم الطافحة بذكر الحوادث والأحداث.. ثم توفّي المنتصر سنة 248 للهجرة وبويع المستعين الذي هو أحمد بن محمد بن المعتصم، ودام عهده إلى سنة 251 هجريّة حيث مات وتولّى الأمر من بعده المعتزّ الذي سمّ الإمام (عليه السلام) في عهده المشؤوم(20).
المصادر :
1- تاريخ الأمم والملوك: ج 7 ص 365
2- تاريخ الأمم والملوك: ج7 ص 365
3- الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 287 - 288
4- الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 310 - 311
5- الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 302 وص 305
6- المصدر السابق
7- مدينة المعاجز: ص 552 - 553
8- مدينة المعاجز: ص 552 - 553
9- الإرشاد: ص 311 - 312 وكشف الغمة: ج 3 ص 170 - 171 وإعلام الورى: ص 342 وبحار الأنوار: ج 50 ص 139 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح: ص 238 وهو في مناقب آل أبي طالب: ج 4 ص 407 والكافي: م 1 ص 501 ومدينة المعاجز: ص 541
10- المصدر السابق
11- مروج الذهب: ج 4 ص 48 وص 51 و ص 52 والكامل لابن الأثير: ج 5 ص 269 و ص 287
12- التحريم: 6
13- مروج الذهب: ج 4 ص 48 و ص 51 و ص 52 والكامل لابن الأثير: ج5 ص 269 و 287
14- التوبة: 34
15- آل عمران: 23
16- المجادلة: 11
17- الزمر: 9
18- الاحتجاج: ج 2 ص 455 وحلية الأبرار: ج 2 ص 454 - 455
19- المؤمنون: 101 - 102.
20- الكامل لابن الأثير: ج 5 ص 311 و ص


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ولادة الإمام الهادي (عليه السلام)
أمامة وفضائل الامام الهادي عليه السلام
أدعية الإمام الهادي ( عليه السلام )
كرامات الإمام الهادي ( عليه السلام )
الإمام الهادي عليه السلام والفرق الضالّة
الإمام الهادي عليه السلام وقضية حفيده المهدي ...
تاريخ حياة الإمام الهادي (عليه السلام)(القسم ...
من حياة الامام الهادي عليه السلام
مكانة الإمام الهادي ( عليه السلام ) العلمية
کرامات الامام علی الهادی علیه السلام

 
user comment