عربي
Tuesday 14th of May 2024
0
نفر 0

الهيـبَة في خِـلافَة عُـثمان

بدأ الأمويون يهيئون لهذه الخطة منذ اليوم الاول لخلافة عثمان ، وذلك ، عن طريق نفوذهم في الحكم ، حيث أصبح زمام السلطة بأيديهم يوجهونه أنى شاؤا ، دون أن يجرأ على معارضتهم في ذلك أحد ، واذا ما حاول بعض المخلصين من الصحابة ذلك ، وجدوا في الخليفة حاجزاً يحميهم ، ويداً طولى تساعدهم على تنفيذ مخططاتهم .
الهيـبَة في خِـلافَة عُـثمان

بدأ الأمويون يهيئون لهذه الخطة منذ اليوم الاول لخلافة عثمان ، وذلك ، عن طريق نفوذهم في الحكم ، حيث أصبح زمام السلطة بأيديهم يوجهونه أنى شاؤا ، دون أن يجرأ على معارضتهم في ذلك أحد ، واذا ما حاول بعض المخلصين من الصحابة ذلك ، وجدوا في الخليفة حاجزاً يحميهم ، ويداً طولى تساعدهم على تنفيذ مخططاتهم .
ويلاحظ المتتبع ، أن الخلافة بدأت تفقد هيبتها ـ كسلطة زمنية ودينية ـ في السنة الثانية من خلافة عثمان ، وأخذت تتحول الى سلطة زمنية فحسب ، تقوم على القوة ، والقهر ، والإغراء بالمال ، بعيداً عن طابعها الحقيقي .
نعم ، بدأت فكرة التحويل من اليوم الاول لخلافة عثمان ، ويبدو ذلك واضحاً من خلال ما قاله بعض أقطاب الامويين في أكثر من مناسبة .
روى الشعبي ، قائلا : « فلما دخل عثمان رحله ـ يعني بعد البيعة ـ دخل اليه بنو أمية حتى امتلأت بهم الدار ، ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب ( وكان أعمى ) : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالو : لا . قال : يا بني أميَّة ، تلقفوها تلقف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ، ما من عذاب . ولا حساب . ولا جنة ، ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة » (1) .
وقصد مرة قبر حمزة أسد الله وأسد رسوله ، فلما وصل اليه « ركله برجله ، وقال : يا أبا عمارة ، إن الامر الذي اجتلدنا عليه بالسيف ، أمسى في يد غلماننا يتلعبون به » (2) .
وفي السنة الثانية من خلافته ، مورست خطة التحويل عمليا ، فبالاضافة الى الهبات والقطائع الضخمة التي كان يمنحها الخليفة الى المقربين ـ كما ستقرأ ـ ، كان الولاة من بني أمية يستغلون منصب الولاية لتكريس مقدرات الامة لمصالحهم الشخصية ويتصرفون مع المسلمين من هذا المنطلق المنحرف عن الخط الاسلامي ، فكان بعضهم يرى أن الفيئ الذي أفاءه الله على المسلمين إنما هو بستان لقريش ليس لأحد دونها حق فيه ، كما قال سعيد بن العاص والي الكوفة مخاطبا بعض جلسائه (3) .
بل أكد ذلك الوليد بن عقبة بقوله ، مخاطبا سعداً : « لا تجزعنَّ أبا إسحاق ، كل ذلك لم يكن ، وانما هو الملك ، يتغداه قوم ، ويتعشاه آخرون ! »(4) .
قالها الوليد حين ولي إمارة الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص عنها .
وبذلك ، يتضح أن خلافة عثمان كانت فرصة لانقضاض الأمويين على مقدرات الامة وأرزاقها ، ولو لا يقظة بعض أقطاب المسلمين وحذرهم ، لتم لهم ذلك بسرعة ، لكن المعارضة المستمرة كانت تحول دون ذلك ـ جزئياً ـ معارضة أبي ذر الغفاري وأمثاله .
ولو أن عثمان تقبل من مخلصي الصحابة ما كانوا يلفتونه اليه ، ويحذرونه منه ، لما انتهى الأمر الى ما انتهى ، ولظلت الخلافة الاسلامية في مركزها وهيبتها، فان إفراطه في التغاضي عن سلوك ولاته والمقربين منه كانت نتيجته : فقدان هيبة الخلافة في أيامه .

سيَـاسـَة عُثمان في إختِيَار الوُلاة

لقد اختار عثمان الولاة والعمال الاداريين ، على غير القاعدة المتعارفة لدى المسلمين ، ولدى من سبقه من الخلفاء .
فالمعروف ، أن القاعدة التي ينطلق منها هذا الاختيار ، تبتني على أسس بعيدة عن منطق القرابة ، والرحم ، والعشيرة ، بل ترتكز على دعائم اسلامية ، يجمعها التقى والصلاح ، وحسن الادارة والأمانة ، فالولاية لا تعدو كونها ممثلية صغرى للخلافة التي هي أول ممثلية ـ في المفهوم الاسلامي ـ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . لذلك ، فان اختيار الولاة كان ينصبّ على ذوي السابقة في الدين ، والجهاد في الاسلام .
والملاحظ ، أن عثمان خالف القاعدة في ذلك ، فاختار أقاربه ، وذوي رحمه ممن كانوا متهمين في دينهم ، بل كان فيهم من أمره في الفسق معروف مشهور .

فمن هؤلاء الولاة :

1 ـ عبد الله بن سعد بن أبي سرح : ولاَّه عثمان على مصر .

وكان عبد الله هذا ، قد أسلم وكتب الوحي لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فكان أذا أملى عليه : عزيز حكيم . يكتب : عليم حكيم ، وأشباه ذلك . ثم ارتد ، وقال لقريش : إني أكتب أحرف محمد في قرآنه حيث شئت ، ودينكم خير من دينه .
فلما كان يوم الفتح ، فرَّ الى عثمان بن عفان ، وكان أخاه من الرضاعة ، فغيبه عثمان حتى اطمأن الناس ، ثم أحضره عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطلب له الأمان ، فصمت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طويلا ، ثم أمَّنه ، فأسلم وعاد ، فلما انصرف ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأصحابه : لقد صَمَتّ ليقتله أحدكم . . » (5)

2 ـ معاوية ابن أبي سفيان :

وكان عاملا لعمر على دمشق والاردن ، فضمَّ اليه عثمان ولاية حمص وفلسطين والجزيرة ، وبذلك مدَّ له في أسباب السلطان الى أبعد مدى مستطاع (6) . وأمر معاوية واضح غير خفي .

3 ـ الوليد بن عقبة :

ولاه عثمان الكوفة سنة 25 للهجرة . والوليد هذا ، هو الذي وصفه القرآن الكريم بالفسق . ففيه نزلت الآية الكريمة « يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا » وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد بعثه في صدقات بني المصطلق، فخرجوا لاستقباله ، فظن انهم أرادوا قتله ، فرجع الى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأخبره انهم منعوا صدقاتهم ، الخ . . » (7)
وقد ولاه عثمان الكوفة بعد عزل سعد بن ابي وقاص ، فالتفت الوليد الى سعد مسلياً اياه ، قائلا له : « لا تجزعن أبا اسحاق كل ذلك لم يكن وانما هو الملك يتغداه قوم ، ويتعشاه آخرون » . قال المسعودي : ثم عزله عثمان فيما بعد ، لما شاع وذاع من فسقه ، فقد كان يشرب مع ندمائه ومغنيه الى الصباح . وذات يوم آذنه المؤذنون بصلاة الصبح ، فخرج متفضلا في غلائله ، فتقدم الى المحراب ، فصلى بهم الصبح أربعاً ، وقال أتريدون أن أزيدكم ؟ فقال له بعض من كان في الصف الاول خلفه : ما تزيد ؟ لا زادك الله من الخير ، والله لا أعجب إلا ممن بعثك الينا والياً وعلينا أميراً . . » (8) الى آخر الحكاية .

4 ـ سعيد بن العاص :

عيَّنه عثمان والياً على الكوفة ، بعد أن عزل الوليد عنها ولم يكن سعيد ، ليخفي ما في نفسه من الرغبة في التسلط على فيئ المسلمين إن امكنت الفرصة من ذلك . بل أكد على ذلك بقوله لبعض جلسائه : « انما هذا السواد بستان قريش » (9)

5 ـ عبد الله بن عامر بن كريز :

وكان عبد الله هذا من أبرز الدعاة الى سياسة التضييق والافقار والاشغال ، التضييق على المسلمين الذين نادوا مطالبين عثمان بالعدالة ، ورفع الجور ، وعزل العمال .
فقد أشار على عثمان بذلك حين استشاره ، بقوله : « أرى لك يا أمير المؤمنين ، أن تشغلهم بالجهاد عنك ، حتى يذلوا لك ، ولا يكون هِمَّةُ أحدهم إلا في نفسه ، وما هو فيه من دُبُر دابته وقُمَّل فروته . . » (10)

سَـياستـهُ في المَـال

يصف المؤرخون عثمان ، بأنه كان جوادا وصولا بالأموال . وقدم أقاربه وذوي أرحامه على سائر الناس . وسوَّى بين الناس في الأعطية . وكان الغالب عليه مروان بن الحكم ، وأبو سفيان بن حرب (11) وان تقريبه بني أمية وتقديمه اياهم على سائر المسلمين ، كان سببا في جرأة بعض الصحابة عليه . حتى ان بعضهم وصمه بالكذب على مرأى ومسمع من حشود المسلمين ، حين كان يخطب لصلاة الجمعة . فقد أقبل عبد الله بن مسعود ـ خازن بيت المال ـ فقال مخاطبا المسلمين :
«أيها الناس ، زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته ، وانما كنت خازنا للمسلمين ، وهذه مفاتيح بيت مالكم . . » (12)
«ولو كانت هذه الهبات من أمواله الخاصة ، لما أثارت اعتراض أحد ، ولكنها كانت من بيت المال » (13)
«فقد ورد في حديث عبد الرحمن بن يسار قوله : « وكان عثمان اذا أجاز أحدا من أهل بيته بجائزة ، جعلها فرضا من بيت المال » (14)

اغداقه على الأمويين:

ومجمل القول ، فان هبات عثمان لاقربائه وذوي ارحامه ، بلغت حدا بفوق الوصف ، ولا سيما بالمقايسة مع طبيعة المجتمع الاسلامي آنذاك .
وعلى سبيل المثال ، نذكر بعض النصوص التي تعطينا صورة مجملة عن ذلك .
1 ـ « أرجع الحكم : ـ طريد رسول الله ـ من منفاه ، ووصله بمائة ألف » .
2 ـ اقطع مروان بن الحكم : فدك ، وكانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بدعوى الميراث تارة ، وآخرى بالنحلة ، فدُفعت عنها .
3 ـ أعطى عبد الله بن أبي سرح : ـ أخاه من الرضاعة ـ جميع ما أفاء الله على المسلمين من فتح افريقية ، من غير أن يشركه فيه أحد .
4 ـ افتتحت ارمينية : في أيامه ، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان .
5 ـ زوّج ابنته عائشة : من الحرث بن الحكم بن العاص ، فاعطاه مائة ألف درهم .
6 ـ زوج ابنته : من عبد الله بن خالد بن أسيد ، وأمر له بستماية ألف درهم ، وكتب الى عبد الله بن عامر أن يدفعها اليه من بيت مال البصرة .
7 ـ حمى المراعي : حول المدينة كلها ، من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية .
8 ـ والاغرب من ذلك : « أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصدق على المسلمين بموضع سوق بالمدينة يعرف بـ « مهزور » فأقطعه عثمان للحرث بن الحكم أخي مروان .
9 ـ أعطى أبا سفيان : بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال (15)
10 ـ قدمت ابل : الصدقة على عثمان ، فوهبها للحرث بن الحكم .
وكان عثمان يقول في ذلك « هذا مال الله اعطيه من شئت ، وأمنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم » ويقول : « لنأخذنّ من ذلك حاجتنا ، وان رغمت أنوف أقوام » (16)

تقريبه لذوي النفوذ والثراء

لم تقتصر هبات عثمان على آله وذوي رحمه ، بل شملت المبرزين في قريش من ذوي النفوذ ، وخصوصا بعض أعضاء الشورى ، الذين امتدت أعناقهم الى الخلافة ، فزرعت في نفوسهم نوعا من الشعور بالحرمان ، يقابله نوع من الطموح الى الحكم ، فكان عثمان يغدق عليهم من بيوت الاموال .
بالاضافة الى ذلك ، فقد سهل لهم تنمية هذه الثروات « فقد قام باجراء مالي فتح به للطبقة الثريَّة أبوابا من النشاط المالي ، وأتاح لها فرص التمكين لنفسها وتنمية ثرواتها ، وذلك ، حين اقترح أن ينقل الناس فيئهم من الارض الى حيث أقاموا ، فمن كان له أرض في العراق أو الشام أو في مصر ، له أن يبيعها ممن له أرض بالحجاز ، أو غيره من بلاد العرب .
وقد سارع الاثرياء الى الاستفادة من هذا الاجراء ، فاشتروا بأموالهم المكدسة أرضين في البلاد المفتوحة ، وبادلوا أرضهم في الحجاز ، أرضين في البلاد المفتوحة ، وجلبوا لها الرقيق والاحرار ، يعملون فيها ويستثمرونها ، وبذلك نمت هذه الثروات نموا عظيما وازدادت هذه الطبقة الطامحة الى الحكم ، والطامحة الى السيادة قوة الى قوتها » (17)
ونذكر من اولئك النفر الذين صار اليهم مال عظيم وثراء فاحش في عهد عثمان .

1 ـ الزبير بن العوام :

أحد أعضاء الشورى . «ترك احدى عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، ودار بالكوفة ، ودارا بمصر ، وكان له أربع نسوة ، فأصاب كلَّ إمرأة بعد رفع الثلث ( مليون ومائتا الف ) قال البخاري : فجميع ماله : خمسون ألف ألف وثمانمائة الف الخ . . » (18)
وقال المسعودي : وخلف الزبير ألف فرس ، وألف عبد وأمة . . (19)

2 ـ طلحة بن عبيد الله التيمي :

أحد أعضاء الشورى أيضا . كانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار . وترك ما قيمته ثلاثين مليون درهما (20)

3 ـ عبد الرحمن بن عوف الزهري :

أحد اعضاء الشورى . قال ابن سعد في طبقاته : ترك عبد الرحمن الف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً . وقال : وكان فيما خلفه : ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة ، فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا .

4 ـ سعد بن ابي وقاص :

ترك يوم مات ، مائتين وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق .(21)

5 ـ زيد بن ثابت :

خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس ، غير ما خلف من الاموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار .

6 ـ يعلي بن منية :

خلف بعد موته خمسمائة ألف دينار ، وديونا على الناس ، وعقارات ، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار .
قال المسعودي : وهذا باب يتسع ذكره ، ويكثر وصفه فيمن تملك من الاموال في أيامه . (22)
هذه لمحة سريعة عن سياسة عثمان ، حيال المال ، ونهجه في اختيار الولاة ، وتقريبه للامويين ، وفتحه المجال أمامهم ، وأمام غيرهم من خاصته للوصول الى مراكز النفوذ في الدولة الاسلامية .
قال العقاد : فكانت له نظرة للامامة ، قاربت أن تكون نظرة الى الملك ، وكان يقول لابن مسعود ـ كلما ألحَّ عليه في المحاسبة ـ « مالك ولبيت مالنا ؟ » وقال في خطبته الكبرى ، يرد على من أخذوه بهباته الجزيلة . . « فضل من مال ، فلِم لا أصنع في الفضل ما أريد ، فلِمَ كنت إماما . ؟ » (23)
في قبال هذه الفئة المتخمة من الناس ، كانت هناك فئة أخرى من خيرة الصحابة حرمهم عثمان من عطائهم ، كأبي ذر ، وعبد الله بن مسعود (رضي الله عنهم ) . ونقم عثمان عليهم ، لأنهم كانوا صريحين في جنب الله ، لا تلومهم في الله لومة لائم ، فشرَّد الاول ، وكسر أضلاع الثاني .

معَـارضَـة أبـي ذرّ

إن هذا الانحراف الواضح في سياسة عثمان ، هو الذي فتح عليه أبواب المعارضة في عدة جبهات . في المدينة ، والشام ، ومصر ، والعراق ! ومن أجلاَء الصحابة وعظمائهم .
فقد ألزمتهم هذه السياسة بالتحرك المعاكس لها ، أملا في ارجاع الحق الى نصابه . وتداركا لما قد تسببه من نتائج خطيرة على المجتمع الاسلامي كافة .
وهم ـ مع هذا كله ـ كانوا لا يتوانون في إسداء النصيحة للخليفة ، واضعين في حسابهم وحدة المصير . لكنه كان لا يلتفت اليهم ، ولا الى نصائحهم ، بل يقابلهم بأسلوب خشن ، في حين كان يصغي لمروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية ، واضرابهم من المنحرفين وممن أمرهم في الاسلام واضح .
لقد كان أبو ذر ( رضي الله عنه ) من جملة أولئك المخلصين ، فلم يتلكأ في ابداء النصيحة لعثمان بل كان يجهد في ذلك ، فيصارحه ، ويصارح غيره من ولاته بما أحدثوه وبدَّلوه في مسرى الخلافة الاسلامية ، وحرفهم إياها عن الطريق المميز لها .
يظهر هذا من قول ابي ذر له : « نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ـ يعني معاوية ـ فاستغشني » (24)
لكن الطرف الثاني ، كان يعير لهذه النصائح أذنا صمَّاء . ويتمادى في سياسته تلك غير آبه ولا مكترث بما يجري من حوله . واذا أراد أن يجيب في بعض الاحيان ، فانه يرمي من ينصحه ، بالكذب والافتراء تارة ، وبتدبير المكائد وشق عصا الامة ، تارة أخرى ! الى غير ذلك مما يبعث في نفس الناصح نوعا من الشعور باليأس ، والاشمئزاز ، والفشل في مهمته الاصلاحية ، فيجعله مضطرا للمجاهرة بقول الحق ، في كل مناسبة . وكل مكان ، بوحي من ضرورة وجوب : الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من ركائز الاسلام ومقوماته .
وهذا ما حصل فعلا لأبي ذر مع عثمان حين أمعن بالاستمرار في سياسته .
لقد جاهر أبو ذر ( رضي الله عنه ) بمعارضته للولاة والمقربين ، وكشف أوراقهم ، غير خائف ولا مكترث .
وفي هذه المرحلة ، نرى أبا ذر ( رضي الله عنه ) قد اتصف بصفة مميزة عن باقي الصحابة حول هذا الامر . يصح لنا تسميتها بصفة : الاقحام . فهو في دوره هذا ينسى نفسه بعض الاحيان ، فيتحرر من الذات وعلائقها ، ومن كل تقاليد محيطه ، ويقحم نفسه ليحرر كلمته ، فكانت المناسبات منبرا له ، منبرا حرا غير مقيد بزمان ولا بمكان ، وكانت كلمته ، الكلمة الجريئة التي لا تعرف الوجل ، ولا الرياء ، ولا المداهنة . كان يقولها في الطرقات وفي الشوارع وبين الناس ، وعلى أبواب قصر الخضراء ، يقولها ، حفاظا لعهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحيطة على الاسلام .
قال ابن ابي الحديد : « إن عثمان لما أعطى مروان وغيره بيوت الاموال ، واختص زيد بن ثابت بشيء منها ، جعل أبو ذر يقول بين الناس ، وفي الطرقات ، والشوارع : بشر الكانزين بعذاب أليم ! ويرفع بذلك صوته ، ويتلو قوله تعالى : « والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم » (25)
وهذه الآية إنما تندد وتتوعد فئة معينة من أصحاب الثروة . وهم الذين يجمعونها من طرق غير مشروعة ، كالذين كانوا يأخذون ما أفاء الله على المسلمين ، ويستأثرون به دون غيرهم ، في عهد عثمان ، بأرقام خيالية ، كما عرفنا . أو الذين يأخذونها عن طرق مشروعة ـ كالكسب ـ ولكن لا يؤدون زكاتها المفروضة .
فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الأية . قال : « كل ما يؤدي زكاته فليس بكنز ، وان كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لا يؤدى زكاته ، فهو كنز ، وان كان فرق الارض(26)
وقد ذكر البخاري هذه الآية في كتاب الزكاة (27)
وأبو ذر ، رضي الله عنه ، أكرم مقاما وأعلى شأنا من أن يتخذ مذهبا معينا في المال ، في قبال ما هو ضروري في الاسلام ـ كما يدعي بعض المؤرخين ـ كيف وهو نفسه كان يمتلك الشياه والمواشي ، ويأخذ عطاءه كل سنة والبالغ أربعمائة دينار ذهباً .؟
إذن كان تكريره لهذه الآية على سبيل إلفات المسؤولين ـ آنذاك ـ الى أن ما جمعوه أو أعطوه على حساب بقية المسلمين ، انما هو جريمة في حقهم . وأنهم سيلقون جزاءهم العادل يوم القيامة .
وقد كان أبو ذر في سعة من ابداء هذا النقد الصريح القاسي الذي يسبب له عيشا ضنكا في ظل سُخط الخليفة والمقربين من حوله ، وظلَّ تهديداتهم إياه بالفقر أو القتل ، على حد تعبيره : « إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل (28) . . فقد كان بوسعه أن يحظى بكل ما يتمناه من التكريم والعطاء والقرب لدى عثمان ، لكنه مع هذا ، كان يجد في هذه السعة ضيقا ، وحرجا عليه يلزمانه بقول الحق ، وان كان مُرَّاً ، ففضَّل الضيق في الحق ، على السعة في الباطل ، وفضَّل أن يرضي الله بسخط عثمان وغضبه ، ولا يغضب الله تعالى برضا عثمان .
وكانت أقوال أبي ذر تبلغ عثمان ، فيسكت ، ويغضي حيث لا مناص عن السكوت والإغضاء وما عساه أن يفعل مع صحابي من ذوي السابقة في الدين مشهود له بالفضل على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيمنعه عن قراءة القرآن ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
كيف ، وفي منعه له عن ذلك تعدّ واضح على أحكام الاسلام سوف يفتح عليه أبوابا جديدة من المعارضة .
قال ابن ابي الحديد : ثم أنه أرسل اليه مولى من مواليه : أن انته عما بلغني عنك !
فقال أبو ذر : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله فوالله لئن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب الي وخير لي من أن اسخط الله برضا عثمان » (29)
ويلاحظ المتتبع ، أن أبا ذر ، كان مؤدبا غاية الأدب مع عثمان نفسه ، فكان يتحاشى أن يسمعه كلاما يسيء اليه ، أو يرد عليه بأجوبة غليظة . بينما في الوقت ذاته نجده لا يتحرج من توجيه الكلام الشديد الى بطانته وبعض ولاته . ومرد ذلك لأمرين .
أحدهما : أن أبا ذر الصحابي الجليل قمة في الاخلاق والفضيلة ، والخصال الحميدة التي ينبغي للمؤمن أن يتخلَّق بها ، فلا يسب ولا يشتم ، ولا يتهم الطرف المقابل بما هو بعيد عنه .
ثانيهما : أن حواره مع الخليفة كان يبتني على الاحتفاظ بالصفة التي أعطيت له . فهو ينظر الى عثمان في محاوراته معه ، من زاوية سلطته الزمنية ، لا من زاوية ذاته .
أما نظرته الى حاشيته ، وبعض ولاته ، فانها تختلف اختلافا كليا عن ذلك ، فهو يعرفهم على حقيقتهم ، كما يعرف نواياهم ، فلا يترك لأحد منهم فرصة للتقول على الله بغير الحق ، بل يجبههم بالأجوبة المقذعة حينا ، والمسكتة حينا آخر ، ويكيل لهم الصاع صاعين في ذلك .
قال عثمان يوما ـ والناس حوله ـ : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ، فاذا أيسر قضى ؟
فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك !
فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديين ! أتعلمنا ديننا ؟ !
فقال عثمان : ما أكثر اذاك لي ، وأولعك بأصحابي ؟ إلحق بمكتبك ،
وكان مكتبه بالشام إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيأذن له في ذلك » . لم يعد الخليفة يطيق وجود أبي ذر وأمثاله في المدينة ، فأمره باللحوق بالشام ، وفي هذا الامر تعجيل على أبي ذر بالرحيل اليها ، وتقييد لحريته في الإقامة بالمدينة متى أحب . لقد غضب عثمان على أبي ذر ، فظن أن غضبه هذا سيضع حدَّاً لنشاط أبي ذر ، لكن الذي حصل هو العكس . خصوصا بعد ان انقطعت الشعرة التي كانت بينهما .
المصادر :
1- شرح النهج 9 / 53
2- حياة الامام الحسن 1 / 212 نقلا عن ابن عساكر 6 / 407
3- راجع الكامل 3 / 139
4- الكامل 3 / 83
5- الكامل 2 / 249
6- ثورة الحسين / 40
7- مجمع البيان 9 / 132 / الحجرات
8- مروج الذهب 2 / 334
9- للتفصيل راجع الكامل 3 / 139
10- نفس المصدر / 150
11- اليعقوبي 2 / 173
12- نفس المصدر ـ 169
13- 3 ثورة الامام الحسين / 36
14- اليعقوبي 2 / 168
15- شرح النهج 1 / 198 ـ 199 والغدير 8 / 267 الى 280
16- الغدير 8 / 281
17- ثورة الحسين ـ بتصرف 36 ـ 37
18- الغدير 8 / 282 نقلا عن صحيح البخاري
19- المسعودي 3 / 333
20- الغدير 8 ص 484 نقلا عن الطبقات لابن سعد 3 / 96 و 3 / 105
21- الغدير 8 / 284
22- المسعودي 3 / 333
23- عثمان 211 / 212
24- شرح النهج 8 / 259
25- المصدر السابق / 256
26- الميزان 9 / 256
27- البخاري / باب اثم مانع الزكاة 2 / 110
28- اعيان الشيعة 16 / 353 عن حلية الاولياء
29- شرح النهج 8 / 256


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم في حديث لو اجتمع ...
الأزارقة
مناظرات الامام الرضا عليه السلام
يطور العلوم الطبيعية ووسائل المعيشة:
تاريخ الثورة -2
الفاطميون بين حقائق التاريخ وظلم المؤرخين
من فضائل الإمام علي (عليه السلام) في كتب أهل السنة
عبد المطلب بن هاشم جد النبي (ص) وكبير قريش
تأملات وعبر من حياة النبي ابراهيم عليه السلام
الاحداث السخيفة بدأت من السقيفة

 
user comment