عربي
Saturday 27th of April 2024
0
نفر 0

الإمام الجواد (ع) وإعجاز الإمامة

من مؤلفات الاستاذ راشد الراشد، باحث اسلامي وقيادي في تيار العمل الإسلامي البحريني.

الإمام الجواد (ع) وإعجاز الإمامة

عند دراسة حياة الإمام الجواد (ع) قد لاتبرز للوهلة الأولی اسئلة عن طبيعة الأوضاع والظروف السياسية والإجتماعية التي تسلم خلالها الإمام (ع) زمام الأمور، رغم أهميتها وخطورتها في تحديد وفهم طبيعة تحرك الإمام (ع)، إذ إن هناك موضوعاً آخر أكثر حيوية ويستقطب كل الإهتمام في هذه الدراسة وهو عمر الإمام حينما تسلم مهام الإمامة.

من المعروف أن للإمامة شروط ومقومات ومواصفات اساسية لابد من توافرها في شخصية الإمام (ع) حتی يمكن تسميته علی أنه إمام وأنه مفترض الطاعة علی الناس من قبل الله _عز وجل_، وحينما تتجسد كل تلك المقومات في شخصيته ما لزم علی الناس طاعته والإنصياع لأوامره مهما كانت وفي أي تجاه.

إمامة الجواد (ع) إجابة شافية لتساؤلات عديدة كانت في صدور المشككين حول الإمامة ووجوب الإلتزام بخطها ومنهجها الفكري والسياسي في الأمة، فعمره الشريف _كما تثبت كل المصادر التاريخية حين تسلم مهام الإمامة وتجسدت فيه كل المواصفات اللازمة(1) لم يتجاوز الثامنة ربيعاً من عمره الشريف.

لقد رأت الأمة بأم عينها كيف كان يتصدی الإمام الجواد (ع) رغم صباه إلی مهام الإمامة بكل أهلية وكفاءة، ولعلنا نستطيع أن نسجل الآتي كخلاصة مهمة لفهم إمامة الإمام الجواد (ع) وهي إن إمامته تأكيد مباشر علی أن الإمامة هي منصب إلهي، خصه الله _عزوجل_ لآل بيت رسول الله (ص)، حسبما نصت عليه عشرات بل مئات الروايات المنقوله والمروية عن نبي الإسلام محمد (ص)(2). لا يمكن لأي أحد آخر أن يتقمص دور الإمامة مهما بلغ من العلم والقدرة.

لقد ظهرت بوادر الثقة بالذات أكثر حينما وجد المسلمون أن صبياً لم يبلغ الحلم حتی، يستطيع أن يجابه أعقد المسائل والأمور في غاية من البساطة والسهولة، وأزاح بذلك سحابة الغموض التي كانت تظلل أذهان البعض حول الإتجاه الحق الذي يمثل الإسلام جاء به الرسول الأكرم (ص).

فلم تدع إمامة الإمام الجواد (ع) المبكرة مجالاً للشك والريبة في صدور أولئك الذين تأثروا بنسبة أو بأخری بعوامل التضليل والتشكيك التي كانت تثيرها السلطات الحاكمة ومن يرتبط بها مصلحياً حول شرعية وجودها كرأس هرم يمثل الإسلام وأهله. مضافاً إليها الحملات المتواصلة للتشكيك بخط أهل البيت (ع) كسلطة تستمد شرعيتها من قبل السماء، وكما صرح بذلك الرسول الأكرم (ص) في أكثر من موقف وموقع في حياته.

إن اطلالة سريعة علی مجمل سيرة الإمام الجواد (ع) كفيلة بأن تعطينا رؤية وبصيرة ثاقبة نفهم من خلالها معنی الإمامة ومن ثم الولاية التي أمرنا الشارع المقدس بالإلتزام بها.

وفي هذه الدراسة المتواضعة عن حياة وسيرة الائمة الإثنی عشر _عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكی السلام _لا يسعنا إلّا أن نقف وقفة متأنية لقراءة بعضاً من أهم فترات الإمامة الخصبة، عقائدياً وسياسياً وإجتماعياً، وذلك بإمامة صغير في السن كبير في موقعه العلمي والقيادي في الأمة.

وقبل ذلك لابد _أيضاً_ لابد من الإطلاله ولو بشكل سريع وموجز علی خصوصيات ومميزات الفترة التي تسلم فيها الإمام الجواد (ع) مهام الزعامة والقيادة من حيث الأوضاع السياسية و الإجتماعية وموقع كلٍ من العباسيين والتحرك الإسلامي من خارطة الصراع السياسي الدائر حينها.

باستطاعتنا من خلال عدد من الروايات قراءة الأوضاع حينها وتحديداً بعد إستشهاد الإمام الرضا (ع).

وأبرز الأسئلة التي تثار في هذا الصدد:

هل تغيرت سياسة المأمون العباسي تجاه التحرك الإسلامي بسبب اغتياله الإمام الرضا (ع)؟

وما هي أهم الإجراءات والتدابير التي إتخذها العباسيون لتدشين مرحلة ما بعد الإمام الرضا (ع)؟

وما هو موقف التحرك الإسلامي إزاء التطورات التي أعقبت رحيل الإمام الرضا (ع)؟

وكيف تمت مواجهة ظروف المحنة الجديدة؟

وما هي أبرز ملامح عهد الإمام الجواد (ع)؟

ومن الذي إستطاع أن يحقق الإنجازات والمكاسب الأفضل في هذه الفترة من عمر الصراع؟

* * *

كما يتضح من قرائتنا لعدد من الروايات التي تعالج هذه الفترة الحساسة من تاريخ الإسلام الرسالي الصحيح هو أن الأمة كانت تترقب وتنتظر الإمام المعصوم الذي يمتلك مواصفات الإمامة كخليفة شرعي بعد الإمام الرضا (ع) وأهم تلك الصفات امتلاكه المعجزة وكونه أفضل البشر وأحسنهم علماً وأخلاقاً وفضيلة، إضافة إلی وجود نص واضح من قبل الرسول والائمة الأطهار (ع) علی إمامته.

وكان مدعی الإنتظار والترقب أنه لم يكن لدی الإمام الرضا (ع) سوی ابنه الذي لم يتجاوز الثمان سنوات من عمره الشريف، وإضافة إلی ذلك الدعايات المضللة التي كانت تروجها "الواقفية" حول هذا الموضوع والتي بدأت تشق طريقها في صفوف المشككين أو المرتابين.

بالطبع كان لدی الخاصة من أتباع أهل البيت (ع) علماً بمسألة إمامة الجواد (ع)، وإنما كانت المشكلة في العامة حيث هي بحاجة إلی أكثر من دليل وبرهان علی إمامة الإمام (ع).

وهنا نقف بين نظريتين، الأولی نظرية الغيب المطلق والتي تفسر ظواهر الأحداث والأمور كلها بالقوة الأزلية، والثانية نظرية أفكار الغيب في تفسير أحداث الدهر والزمان.

تعتمد النظرية الأولی علی أن الأنبياء والرسل هم مسددون من قبل السماء، وليس بمقدور أي إنسان آخر أداء ولو جزء بسيط من أدوارهم ومسئولياتهم التي تحملوّها وأدوها في حياتهم لأن الآخرين يفتقدون إلی التسديد الإلهي، بينما تنكر النظرية الثانية أي تدخل للسماء في تصرفات الرسل وتشكك في الجوانب الغيبية لتحرك الرسل وتعتبرها سخافات غير صحيحة، فيفسر أصحاب النظرية الأولی الإنتصارات والإنجازات التي حققها الرسول الأكرم (ص) في غزواته وحروبه _مثلاً_ بالغيب المطلق بينما يری أصحاب النظرية الأخری إنما هي من صنع إرادة الإنسان نفسه.

والإتجاه الصحيح الذي نؤمن به بين هاتين النظريتين هو الإتجاه الوسط الذي يری أن التاريخ صنيع الإنسان ولكن في الوقت نفسه للغيب تأثيره في حياة الإنسان ذاته.

ولا شك أن العصمة هي واحدة من المسائل المرتبطة بالغيب، فهي شأن من شئون السماء والتي لا دخل للبشر فيها. وحينما نتحدث عن إمامة الجواد (ع) إنما نتحدث عن جانب مهم جداً من الغيب.

عن عبدالله بن جعفر أنه قال: دخلت علی الإمام الرضا (ع) أنا ورضوان بن يحی وأبو جعفر (ع) قائم قد أتی له ثلاث سنين فقلنا له: «جعلنا الله فداك أن _وأعوذ بالله_ من حدثٍ حدث فمن يكون بعدك»؟

قال (ع): ابني هذا « وأومأ إليه».

فقلنا: وهو في هذا السن؟

قال (ع): نعم وهو في هذا السن، أن الله _تبارك وتعالی_ احتج بعيسی (ع) وهو ابن سنتين(3).

ويقول محمد بن الحسن بن عمار في رواية ثانية إنه كان عند علي بن جعفر الصادق (ع) جالساً بالمدينة وكنت قد أقمت عنده سنتين أكتب ما سمع من أخيه «يعني أبا الحسن» اذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا (ع) مسجد رسول الله (ص) فوثب علي بن جعفر الصادق (ع) بلا حذاء ولا رداء فقبل يده وعظمه فقال له أبوجعفر: ياعم أجلس رحمك الله. فقال: يا سيدي كيف أجلس وأنت قائم؟ فلما رجع علي بن جعفر إلی مجلسه جعل أصحابه يوبخونه، ويقولون: أنت عم أبيه وتفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا إذا كان الله _عز وجل_ لم يؤهل هذه الشيعة وأهل هذا الفتی ووضعه حيث وضعه فأنكر فضله؟ نعوذ بالله مما تقولون بل أنا له عبد(4).

حقاً لقد كانت إمامة الجواد (ع) فتنة جديدة للمسلمين حيث عليهم التسليم لأمر الله _عز وجل_، خاصة وأن هناك من بين المسلمين كبار الفقهاء والمحدثين كالريان وأبو الصلت الهروي مع اننا نؤمن وعلی قناعة تامة بأن إمامة الجواد (ع) وهو في سن مبكرة من عمره الشريف قد أزاحت التردد والشك والريبة في نفوس البعض بشأن الإمامة لما وجدوا في شخص الإمام الجواد (ع) وهو صبي يافع المعجزة والأهلية حيث تكشف لنا العديد من الروايات ذلك وأنهم سألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها وله تسع سنين(5).

ولذلك كله لن تتغير سياسة المأمون العباسي تجاه التحرك الإسلامي ظاهرياً. فقد واصل طريق التودد والتقريب ولسبب رئيسي واحد وهو:

إبعاد الشبهة عنه حول حادثة اغتيال الإمام الرضا (ع). حيث أن أي تغيير تجاه خط الإمامة بعيد مقتل الإمام الرضا (ع) من شأنه أن يثير الشبهات حول حقيقة موت الإمام (ع) مما يشكل خطراً ما حقاً علی كل الإدعاءات والشعارات التي رفعها العباسييون تجاه التأييد لخط الإمامة المتمثل بأهل البيت (ع).

وتنقل لنا الرواية الآتية تفاصيل مهمة عن الأوضاع والظروف التي عاشتها الأمة بعد مقتل الإمام الرضا (ع) تقول الرواية:

إنه لما قبض الرضا (ع) كان سن أبي جعفر (ع) نحو سبع سنين فاختلف كلمة الناس في بغداد وفي الإمصار واجتمع الريان بن الصلت وصفوان بن يحيی، ومحمد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجاج. ويونس بن عبد الرحمن وجماعة من وجوه الموالين وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلول يبكون ويتوجعون من المصيبة، لأنهم من قادة الحركة آنذاك، فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء من لهذا الأمر والی من نعقد إلی يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر (ع) فقام إليه الريان بن الصل ووضع يده في حلقه ولم يزل يلطمه ويقول له «أنت تظهر الإيمان لنا وتبطن الشك والشرك إن كان أمره من الله جل وعلا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه وإن كان لم يكن من عند الله فلو عمر وقت سنة فهو واحد من الناس» فأقبلت المجموعة عليه تعذله وتوبخه. وكان وقت الموسم فاجتمع م فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً فخرجوا إلی الحج وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر (ع) فلما وافوه أتوا دار جعفر الصادق (ع) لأنها كانت فارغة ودخلوها وجلسوا علی بساط كبيرة وخرج إليهم ابن موسی فجلس في صدر المجلس وقام مناد وقال: هذا ابن رسول الله (ص) فمن أراد السؤال فليسأله فسئل عن أشياء فأجاب عنها بغير الواجب فورد علی الموالين ماحيرهم وغمهم واضطرب الفقهاء وقاموا وهموا بالإنصراف، وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر (ع) يكمل لجواب المسائل لما كان من عند الله ما كان، ومن الجواب بغير الواجب، ففتح عليهم باب من صور المجلس. ودخل موفق وقال: «هذا أبا جعفر فقاموا إليه بأجمعهم ليستقبلوه وسلموا عليه فدخلوا صلوات الله عليه وهويلبس قميصان وعمامة بذؤابتين وفي رجله نعلان وجلس وأمسك الناس كلهم، فقال صاحب المسألة، وسأله عن مسائله فأجاب عنها بالحق ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: «إن عمك عبد الله أفتی بكيت، فقال: لا اله إلّا الله، يا عم إنه عظيم عند الله أن نقف غداً بين فيقول لك لم تفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الأمة من هو أعلم منك».

ثم سأله الحاضرون مسائل كثيرة أجاب عنها.

ومن جانب آخر كانت موجة الإستياء تعم البلاد الإسلامية علی سر غموض مقتل الإمام الرضا (ع).

وهنا يمكننا تلخيص أهم مميزات هذه الفترة الحسامة من تاريخ الإمامة في عهد الإمام الجواد (ع) بما يلي:

1_ إمامة الإمام الجواد (ع) وهو صغير في السن مما كان _كما تبين_ هو موضع حيرة وتساؤل من قبل الكثيرين حول الخليفة الشرعي كإمام للمسلمين بعد الإمام الرضا (ع)، ومن جهة ثانية أزاحت إمامته بعض الشك والحيرة اللتان ظلتا تراود أذهان بعض العامة حول حقيقة الإمامة لما رأوا المعجزة والدليل، فكانت حياته تمثل الدليل القاطع علی إعجاز الإمامة وسرها.

2_ موجة إستياء جماهيرية عامة ومطالبتها بالكشف عن حقيقة مقتل الإمام الرضا (ع)، مما يتطلب موقعاً واضحاً من قبل المأمون العباسي.

3_ موجة إستياء داخل البيت العباسي علی المأمون العباسي لما كان منه من تقريب البيت العلوي، واشراكهم في الإدارة والدولة.

ولما كانت ملامح المرحلة تتسم بهذه الخصوصيات فإنها كانت لصالح الحركة الرسالية التي استطاعت تجميع قواها بعد أن زادت ثقتها في سلامة وصحة إتجاهها الإيديولوجي والفكري علی الساحة بسبب إعجاز الإمامة التي لم تستطع محاولة العباسيين طمسها أو تغييبها عن أنظار وأسماع العامة من جماهير الأمة، في الوقت الذي كان علی الدولة العباسية أن تعالج الموقف بصورة عامة مع جماهير الأمة التي إستاءت كثيراً لمقتل الإمام الرضا (ع) من جهة وازدادت التصاقاً وتلاحماً بالحركة الرسالية وبقيادة الإمام الجواد (ع)، كما كان علی الدولة العباسية _أيضاً_ أن تعالج الموقف بصورة خاصة مع جملة المعارضة الداخلية في البيت العباسي لما كان من رفضهم لسياسة المأمون من تقربه للبيت العلوي وتيار الحركة الرسالية.

والسؤال الآن: كيف واجه العباسيون في هذه الفترة تلك الظروف؟

في البدء لابد من معرفة إنه لم يكن من السهل أمام العباسيين تغيير سياستهم من خط الإمامة.

مهما تصدع الحال داخل البيت العباسي، ولسببين رئيسيين هما:

الأول: نجم الحركة الرسالية المتصاعد في نفوس الغالبية العظمی من جماهير الأمة، حيث لم يكن من السهل مواجهتها أو إعلان الحرب ضدها، أو لا أقل لم تكن فرصة ذلك متاحة أو متوافرة حينها.

الثاني: لكي لا يحدث التناقض بين مارفعته الدولة العباسية من شعارات الرضا من آل محمد منذ نشوئها ولحد هذه الفترة التاريخية.

ولذلك نجد أن المأمون العباسي قد إتجه بالفعل إلی ممارسة الإدوار التي تقربه ظاهرياً بالبيت العلوي، فعمد إلی تزويج(6) الإمام الجواد (ع) بإبنته (أم الفضل)، ولنفس الأسباب التي دعته يضغط علی الإمام الرضا (ع) بقبول ولاية العهد والتي منها: محاولته لتذويب إتجاه الحركة الرسالية في الدولة العباسية، ومواصلة تضليله الرأي العام علی أنه لازال يحتفظ بولائه وحبه ودعمه لخط أهل البيت (ع)، إضافة إلی أهدافه الأخری في تشويه صورة الائمة (ع) في أذهان العامة من الناس.

ومن خلال السيرة ربما نلمح إعتقاد المأمون بأن يرفض الإمام الجواد (ع) طلب الزواج من ابنته لكي لا يشاع عنه (ع) في الأمة علی أنه (ع) حبذ أروقة الخلافة علی ممارسة مسؤوليته في توجيه الناس إلی الحق، ودفعهم باستمرار إلی الجهاد والبذل والعطاء في سبيل القيم الحقة والمباديء الخيرة.

ولكن الحقيقة يمكن اكتشافها بقليل من التعمق والفهم الواعي لتخطيط الائمة (ع) وحياتهم الجهادية كفيلة بأن تعطينا الصورة الواضحة لتلك الحقيقة، فكما قبل الإمام الرضا (ع)ذ بولاية العهد(7)، يقبل هنا الإمام الجواد (ع) مصاهرة المأمون، ويضاف إلی تلك المبررات إنه بقبول الزواج من ابنة الخليفة من شأنه أن تقيده من أن يقوم بأي عملية إغتيال أو إعتقال للإمام (ع). وفي هذا مكسب عظيم لتحرك الإمام (ع) في الأمة. وقد أثارت خطوة المأمون هذه وقبول الإمام الجواد (ع) بها سخط واعتراض العباسيين، خشية من أن تتحول مهام الخلافة والقيادة إلی بني فاطمة (ع).

حتی أنهم قالوا له (8): نناشدك يا أمير المؤمنين ألّا تقدم علی هذا الأمر الذي عزمت من تزويج ابن الرضا (ع)، فإنا نخاف أن يخرج عنا أمر قد ملكنا الله عزوجل وينزع منا عزاً قد البسناه الله وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً، وقد كنا في خشية من عملك مع الرضا (ع)، فكفانا الله المهم في ذلك، فالله أن تردنا إلی غم قد إنحسر عنا.

فقال لهم المأمون: أمّا مابينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكان أولی بكم، وأمّا ما كان يفعل من قبلي فقد كان قاطعاً للرحم، وأعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمت علی ما كان مني من إستخلاف الرضا (ع)...ولقد سألته أن يقوم بالأمر وانزعه من نفسي فإني وكان أمر الله قدراً مقدوراً!!

وأمّا أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتفوِّقه علی أهل الفضل كافة في العلم والثقافة مع صغر سنه.

وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلمون أن الرأي ما رأيت فيه.

فقالوا: إن هذا الفت‍ی وان راقك منه هديه فإنه صبي لامعرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم: ويحكم إني أعرف بهذا الفتی منكم، وإن أهل هذا البيت علمهم من الله تعالی لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يثبت لكم به ذلك.

قالوا: قد رضينا بذلك فخلَّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء، من فقه الشريعة فإن أصاب لم يكن لنا اعتراض وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه، فإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب منه، فرضي المأمون بذلك، فاجتمع رأيهم علی يحيی بن أكثم قاضي قضاة الديار الإسلامية في ذلك العهد أن يسأل الإمام الجواد (ع) عن المسائل الغامضة في الفقه الإسلامي، وحان الموعد واجتمع الناس، وجاء الإمام الجواد (ع) وحضر ابن أكثم، وجلس يحيی بين يديه والمأمون بجانب الإمام يهيمن علی المجلس فالتفت إبن أكثم إلی الخليفة وقال:

يأذن لي أمير المؤمنين أن اسأل أبا جعفر عن مسألة؟ فقال المأمون استأذنه في ذلك، فاقبل عليه يحيی قائلاً: جُعلت فداك، تأذن لي في مسألة؟ قال ابو جعفر (ع) سل ما شئت.

قال يحيی: ما تقول _جُعلت فداك_ في محرم قتل صيداً؟

فقال أبو جعفر: قتله في حل أو حرم؟

§ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟

§ قتله عمداً أو خطأً؟

§ حراً كان المحرم أو عبداً؟

§ صغيراً كان أو كبيراً؟

§ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟

§ من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها؟

§ من صغار الصيد أم من كبارها؟

§ مصراً علی ما فعل أو نادماً؟

§ في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟

§ محرماً كان بالعمرة إذ قتله بالحج كان محرماً؟

فتحير يحيی بن أكثم وبان في وجهه العجز والإنقطاع ولجلج حتی عرف الحاضرون أمره، فقال المأمون: الحمد الله علی هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ثم توجه إلی أهل بيته، فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم أقبل علی أبي جعفر (ع) فقال له: اتخطب يا أبا جعفر؟ فقال: نعم، فقال له المأمون: أخطب لنفسك جعلت فداك، قد رضيتك لنفسي واما مزوجك أم الفضل إبنتي، وان رغم قوم لذلك.

فقال أبو جعفر: الحمد الله إقراراً بنعمته ولا اله الله إخلاصاً لوحدانيتهِ وصلی الله عل‍ی محمد سيد برينه والأصفياء من عترته...أمّا بعد: فقد كان من فضل الله علی الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه:

(وانكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم)

ثم إن محمد بن علي بن موسی يخطب أم الفضل بن عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد (ص)، وهو خمسمائة درهم جياداً، فهل زوجته بها علی هذا الصداق المذكور؟

فقال المأمون: نعم قد زوجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي علی الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح، قال أبو جعفر (ع) قد قبلت ذلك ورضيت به.

وهكذا واصل الإمام الجواد (ع) جهاده ونشاطه علی المنوال المتقدم من حياة والده الإمام الرضا (ع) مع قليل من التغيير الذي حدث بسبب صغر سن الإمام (ع) وما أثارته في وسط الأمة الإسلامية.

وأخذ الإمام الجواد (ع) علی عاتقه المهام الآتية:

1_ مواصلة البناء الفكري والعقائدي عبر الإجتجاجات وبث المعارف الإسلامية في مختلف الشئون الحياتية والعبادية، وقد تقدمت واحدة من عشرات بل مئات الروايات التي تفيدنا في هذا المقام.

2_ مواصلة بناء الكيان الرسالي الذي اشتد عوده ونمی لمّا دخلت الحركة الرسالية في مرحلتا المتقدمة من المشاركة السياسية في الحكم، حيث أتاح ذلك فرصة عظيمة لتنفيذ الخطط الرسالية في الأمة وعلی هامش واسع من الحرية وبأمكانات محدودة كانت توفرها أرضية الدولة والحكم.

وذاع صيت الإمام الجواد (ع) في أنحاء العالم الإسلامي وجاءته وفودها تتری لتستلهم منه العلم والمعرفة فكانت المدينة التي قضی فيها أكثر حياته، مركزاً للإشعاع الرسالي، وقد أدی ذلك حنق المعتصم ثاني الخلفاء الذين عاصرهم الإمام (ع). وضاق ذرعاً من الأنباء المتتابعة التي تصله عن نشاطات الإمام (ع) وزيارة مقدار التفاف جماهير الأمة حوله (ع) كقيادة شرعية سياسياً وفكرياً وعقائدياً.

ورغم أن المأمون قبل وفاته أوصی المعتصم بشأن العلويين علی أن يحسن صحبتهم ويتجاوز عن مسيئهم وأن يقبل عليهم، علی أن حقوقهم تجب من وجوه شتی لكن ما أن تسلم الأخير أزمة الحكم راح يثبت أركان حكمه بكل وجوه القدرة المستطاعة. وبدأ تفكيره ينصب منذ اللحظات الأولی لتسلمه أزمة الحكم علی نشاط تحرك الإمام الجواد (ع) وكيفية اجهاضه والحيلولة دون تفاعل جماهير الأمة مع اطروحة الحركة الرسالية التي يقودها الإمام (ع).

ولما كان المعتصم العباسي قد ولد من أم تركية فقد مال إلی أخواله الأتراك واشتری العديد منهم من أيدي مواليهم ليزرع في كيان الحكم والدولة الإسلامية، فجمع من حوله منهم أربعة آلاف مجند ألبسهم أنواع الديباج والحلي المذهبة وأبانهم عن سائر الجنود(9).

وتوازت خطة المعتصم هذه مع خطة أخری تستدعي جلب الإمام (ع) من المدينة إلی بغداد ليكون قريباً من أنظار السلطة. وهكذا تم إستدعاء الإمام (ع) ليحط الرحال في بغداد. التي ما أن وصلها وجد الأتراك يسرحون ويمرحون في مقدرات الأمة. إذ أنهم استطاعوا شيئاً فشيئاً أن يأخذوا الحكم فعلياً من المعتصم بل وأخذوا يحدثون الانقلابات العسكرية.

وآلت الأوضاع السياسية إلی الخراب والدمار في عهد المعتصم وكثرت الإنقلابات العسكرية التي كان الأتراك يقومون بها لمجرد أن يخالف الخليفة الذي ينصبونه أهوائهم، وأخذوا يشيعون في الأمة أبشع مظاهر الإنحلال والفساد. وواجه الإمام الجواد (ع) هذه المحنة بمزيد من الفاعلية والنشاط في بغداد رغم احتمالات الخطر المتعددة في إتجاه تصفيته واغتياله، وانشقت ثورة محمد بن القاسم بن علي بن الإمام سجاد (ع)(10) وكانت أبرز ثورة رسالية في عهد الإمام الجواد (ع).

لقد كانت هذه الثورة إحدی النتاجات الهامة لفاعلية الحركة الرسالية حيث كانت تكريساً وتطبيقاً حياً للقيم والمثل التي تحملها الحركة، وما الدولة والحكم إلّا ضرورة من ضرورات البعد الحضاري في التحرك الرسالي أما في قبالة تردي الأوضاع وتأزم الأحوال لابد من مجابهة عنيدة تتسم بأقصی حالات البطولة والرجولة في سبيل المحافظة علي رسالة الإسلام وحمايتها من كل شر مستطير، وظل الإمام (ع) في كفاح مستمر وحرب شاملة علی جبهة الفكر والعقيدة ضد دولة بني العباس حتی دس إليه المعتصم السم ليقضي علی شعلة وهاجة أخری من مشاعل النور والهداية في الأمة ليأتي من بعده الإمام الهادي (ع) متمماً ومكملاً للمسيرة الرسالية المباركة في الوقت الذي تمتلك الحركة الرسالية عدداً وفيراً من العلماء والكوادر الكفوءة التي تربت في أحضان الحركة طوال السنوات الماضية، خاصة تلك التي قضاها الإمام الجواد (ع) في المدينة.

----------------

1) منها: العصمة، وجود المعجزة لدیه، ك ونه أفضل الناس علماً وفضلاً.

2) للوقوف علی تلك النصوص یمك ن مراجعة ك تب الحدیث المشهورة في مقدمتها موسوعة بحار الأنوار، سفینة البحار، الك افي، وسائل الشیعة.

3) موسوعة البحار/ ج50 ص35.

4) موسوعة بحار الأنوار/ ج 50 ص 36.

5) راجع بهذا الشأن الجزء الخمسون من موسوعة بحار الأنوار.

6) للمزید من التفاصیل حول قضیة زواج الامام (ع) من ابنة المأمون راجع موسوعة بحار الأنوار للمجلسي/ ج 50.

7) راجع مبررات ذلك في الفصل السابق.

8) الامام الجواد (قدوة وأسوة) للمدرسي نقلاً عن موسوعة البحار الجزء الخمسون.

9) المسعودي/ ج3 ص 465.

10) ك ان جلیل القدر وتلقبه العامة بالصوفي لإنه ك ان یدمن لبس الصوف الأبیض الخشن و ك ان من أهل العلم و الفقه.

 


source : www.sibtayn.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مختصر عن حياة الإمام محمد بن علي الجواد عليه ...
الامام محمّد الجواد علیه السلام
عبادة الإمام الجواد ( عليه السلام )
مدرسة الإمام الجواد ( عليه السلام )
سيرة الامام الجواد (ع)
كلام الإمام الجواد ( عليه السلام ) في توحيد الله
الإمام الجواد(عليه السلام) والبناء الثقافي ...
أقوال الإمام الجواد (عليه السلام) في الأخلاق ...
وفود الفقهاء على الإمام الجواد ( عليه السلام )
في ذكری ميلاد الإمام محمد بن علي الجواد (علیه ...

 
user comment