عربي
Saturday 27th of April 2024
0
نفر 0

جعفر وادعاؤه الإمامة

جعفر، من أبناء الإمام الهادي(عليه السلام) وقد انحرف عن خط آبائه الطاهرين، وسلك طريق الهوى والمنكرات.
وليس انحراف جعفر بأعجب من انحراف ابن نوح نبي الله (عليه السلام) الذي قال الله تعالى في شأنه:(يا نوح إنه ليس من أهلك،إنه عملٌ غير صالح)(1).
ولم يكن انحراف جعفر عن خط آبائه المعصومين بسبب إهمال والده في تربيته، ولا البيئة التي كان يعيش فيها، بل كان بسبب مجالسته للفسقة والمنحرفين، ومن الواضح أن المجالسة مؤثرة.
ولا نعلم بالضبط كيفية اتصاله وارتباطه بالمنحرفين، الذين وصموه بالخزي، وجروا عليه الويلات، وأبعدوه عن خط أهل البيت (عليهم السلام).
والعجيب أن الإمام العسكري (عليه السلام) في الوقت الذي كان يظهر ولده الإمام المهدي (عليه السلام) للثقاة من شيعته ويخبر الخواص من أصحابه بولادته لم يخبر أخاه جعفراً بذلك، ولم يعرف جعفر أن لأخيه ولداً، ولعله كان يعلم ذلك ولكنه كان يتجاهله، لأسباب وأهداف.
وقبل وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) بخمسة عشر يوماً، كتب الإمام رسائل عديدة لشيعته من أهل المدائن وسلم الرسائل إلى خادمه أبي الأديان، وقال له:
(امض بها (أي الرسائل) إلى المدائن، فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل إلى (سر من رأى) يوم الخامس عشر(أي من سفره) وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل.
قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي فإذا كان ذلك فمن؟ أي: فمن الإمام بعدك؟
قال: من طالبك بجوا بات كتبي فهو القائم بعدي.
فقلت: زدني؟ أي: اذكر لي المزيد من العلائم؟
قال: من يصلي علي فهو القائم بعدي.
فقلت: زدني؟
قال: من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي.
ثم منعتني هيبته أن أسأله عما في الهميان.
وخرجت بالكتب (الرسائل) إلى المدائن وأخذت جواباتها، ودخلت (سر من رأى) يوم الخامس عشر –كما ذكر لي (عليه السلام)- فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه (أي: أخ الإمام العسكري) بباب الدار، والشيعة من حوله يعزونه و يهنئونه. (أي يهنئونه بالخلافة والإمامة).
فقلت ـ في نفسي -: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة، لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور!!.
فتقدمت فعزيت وهنأت، فلم يسألني عن شيء. ثم خرج عقيد (خادم الإمام العسكري) فقال: يا سيدي قد كفن أخوك، فقم وصل عليه فدخل جعفر والشيعة من حوله، -يقدمهم السمان والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة- فما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي (صلوات الله عليه) على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه، فلما هم بالتكبير خرج صبي (صلوات الله عليه) بوجهه سمرة، بشعره قطط بأسنانه تفليج فجبذ (أي: جذب) برداء جعفر بن علي وقال:
(تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة على أبي).
فتأخر جعفر، وقد إربد وجهه واصفر، فتقدم الصبي وصلى عليه، ودفن إلى جانب قبر أبيه (عليه السلام) ثم قال –الصبي-: يا بصري هات جوا بات الكتب التي معك؟ فدفعتها إليه، وقلت –في نفسي-: هذه بينتان (أي علامتان) بقي الهميان.
ثم خرجت إلى جعفر بن علي وهو يزفر فقال له حاجز الو شاء: يا سيدي من الصبي؟ليقيم الحجة عليه.
فقال: والله ما رأيته قط ولا أعرفه.
فنحن جلوس إذ قدم نفرٌ (أي: جماعة) من قم، فسألوا عن الحسن بن علي (عليه السلام) فعرفوا موته. قالوا: فمن؟ (أي: فمن الإمام بعده؟) فأشار الناس إلى جعفر، فسلموا عليه، وعزوه، وهنئوه، وقالوا: إن معنا كتباً ومالاً، فتقول (أي: فهل تقول) ممن الكتب؟ وكم المال؟
فقام جعفر ينفض أثوابه ويقول: تريدون منا أن نعلم الغيب؟!.
فخرج الخادم (أي: خادم الإمام المهدي (عليه السلام) فقال: معكم كتب فلان وفلان، وهميان فيه ألف دينار، عشرة دنانير منها مطلية (بالذهب).
فدفعوا إليه الكتب والمال، وقالوا: الذي وجه بك لأخذ ذلك هو الإمام... إلى آخر الحديث.
نستفيد من هذا الحديث أموراً عديدة:
إن جعفر الكذاب كان قد رشح نفسه للإمامة الكبرى والخلافة العظمى، في حين أنه كان فاقداً مؤهلات الإمامة، وعارفاً بموبقاته وفجوره ومخازيه، وهذا يدل على عدم ورعه، وقلة مبالاته بالدين، إذ كان من اللازم عليه أن ينفي عن نفسه هذا المقام الأرفع، حينما رأى بعض الناس يهنئونه بالخلافة والإمامة، ولكنه لم يقل شيئاً يدل على ذلك، بل كان يتقبل التهاني من الناس.
كان المشهور بين الشيعة: أن الإمام لا يصلي عليه (صلاة الميت) إلا الإمام، لأن الصلاة على الميت تعتبر دعاءاً من المصلي للميت، وبالنسبة للصلاة على جثمان الإمام فهي خاصة بالإمام الذي بعده، وحينما تقدم جعفر ليصلي على جثمان الإمام العسكري (عليه السلام) شاء الله تعالى أن يكشف الغطاء للجماهير التي تجمهرت لأداء الصلاة على الإمام العسكري، ويعرفهم الإمام الحقيقي، تحدياً لجعفر، وإتماماً للحجة على الأمة الإسلامية، ولهذا خرج الإمام المهدي (عليه السلام) وجذب رداء جعفر الذي هم بالتكبير للصلاة على جثمان الإمام العسكري، وتلكم كلمة تعتبر في أعلى درجات الفصاحة والبلاغة، وهي بالرغم من إيجازها وقلة ألفاظها تعتبر قليلة النظير. قال (عليه السلام):(تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة على أبي)!!.
قال له: (تأخر ولم يسمح له بأداء الصلاة، وقال: (يا عم) وبهذه الكلمة أخبر الإمام أن جعفراً عمه، فالإمام ابن أخِ جعفر.
(فأنا أحق بالصلاة على أبي) إن الإمام المهدي (عليه السلام) يثبت –بهذه الكلمة- الأولوية بالصلاة على الإمام العسكري (عليه السلام).
ويقول: (على أبي) فهنا إثبات للنسب، وإثبات للإمامة، لأن الإمام لا يصلي عليه إلا الإمام، ولأنه ولي الميت، وأولى الناس بميراثه.
إّذن: فجعفر ليس بإمام، وليس وارثاً للإمام العسكري، لأن الإمام المهدي هو الكل في الكل، وجعفر لا حق له في الموضوع بتاتاً.
وترى جعفراً يتراجع عن الساحة، ولا يستطيع أية مقاومة أمام ذلك الصبي، ترى.. أين ذهبت قدرته؟! وكيف سلبت منه إمكانية التكلم.. ولو بكلمة واحدة؟!! وكيف يخاف الرجل –الذي خلفه الجماهير- من ذلك الصبي؟!.
نعم، إنها هيبة الإمام، وقوى الإمامة المتوفرة في الإمام المهدي (عليه السلام)، المفقودة عند جعفر وأمثاله!!.
ولماذا اصفر لون جعفر؟! ولماذا إربد وجهه؟! ولماذا تحمل الخيبة والفشل أمام الناس المهنئين له بالإمامة؟! ولماذا كذب نفسه بنفسه، حينما انسحب عن الصلاة على الإمام العسكري (عليه السلام) لأجل كلمة (تأخر يا عم) التي سمعها من ذلك الصبي؟!.
أنظر إلى الحق كيف يظهر! وإلى الباطل كيف يندحر!.
ويسأله بعض أهل البصيرة من الشيعة: يا سيدي من الصبي؟.
سأله السائل عن ذلك الصبي، كي يعترف جعفر بالإمام المهدي (عليه السلام) بعد أن رأى نفسه أمام أمرٍ واقع، ولكنه حلف بالله تعالى قائلاً: والله ما رأيته قط ولا أعرفه.
عجيب أمرك يا جعفر!! إن أحمد بن إسحاق القمي الأشعري –وهو في قم- يعرف هذا الصبي، وأنت لا تعرفه؟! وكثيرون من الشيعة الغرباء رأوا الإمام المهدي في عهد والده الإمام العسكري (عليهما السلام) وأنت ما رأيته؟!!.
هذا إذا كنت صادقاً في يمينك وحلفك بالله تعالى:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة*** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ويا ليت جعفراً اكتفى بهذا الموقف المخزي المخجل، ويا ليته تراجع عن ادعائه الإمامة المزعومة، ويا ليت الحاضرين – الذين شهدوا موقف جعفر في الصلاة - عاد إليهم وعيهم، وعرفوا الحق من الباطل.. ولكن للناس أهدافا، وفي القلوب أمراضا.
وليتهم لم يشيروا إلى جعفر، حينما وصل وفد أهل قم إلى مدينة سامراء، وبلغهم خبر وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) وسألوا عن الإمام بعده.
وليتهم لم يدعوا إمامته، كيلا يزيد خجلاً على خجل، وفضيحة على أخرى.
ولكن القميين الأذكياء، العارفين بعلائم الأمامة سألوه أن يخبرهم بكل ما معهم من الرسائل والأموال، كي يتأكدوا من صحة إمامة جعفر المشكوكة.
وهنا ينفض جعفر أثوابه ويقول: (تريدون منا أن نعلم الغيب) يفعل ما يفعله البريء من التهمة، النزيه عن كل افتراء، ويا ليته عرف الفرق بين علم الغيب وبين علم الإمام الذي هو تعلم من ذي علم.
ويا ليته تذكر الآلاف من الأحاديث المروية عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن آبائه الطاهرين، الأئمة الهداة حول المستقبل، من الملاحم وغيرها.
ويا ليته عرف كلام جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) – لما أخبر عما يجري على البصرة من صاحب الزنج، وعن الأتراك – فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت – يا أمير المؤمنين- علم الغيب، فقال الإمام:(ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم، وإنما علم الغيب: علم الساعة، وما عدده الله سبحانه بقوله: (إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير)(2) فيعلم الله سبحانه ما في الأرحام: من ذكرٍ أو أنثى، وقبيح أو جميل، وشقي أو سعيد، ومن يكون في النار حطباً، أو في الجنان للنبيين مرافقا فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه فعلمنيه، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضم عليه جوانحي).
وما زال جعفر مصراً على غيه وعناده وضلاله، فقد ذهب إلى المعتمد العباسي- وهو الحاكم الذي دس السم إلى أخيه الإمام العسكري (عليه السلام) بالأمس وقتله- ليخبره بوجود الإمام المهدي (عليه السلام)، وكأن جعفراً جاسوس للمعتمد ضد
أهل البيت (عليهم السلام).
فأمر المعتمد بإلقاء القبض على السيدة نرجس زوجة الإمام العسكري (عليه السلام)، فألقوا القبض عليها، وطالبوها بالإمام المهدي، ولكنها أنكرته تقية، ولم يعبأ الخليفة بإنكارها، بل أمر بتسليمها إلى قاضي سامراء (ابن أبي الشوارب) لتكون تحت الرقابة المشددة، ولكن الله تعالى فرج عنها بعد فترة قليلة.
ألا.. لعن الله الرئاسة الشيطانية المزيفة التي يضحي المجرمون في سبيلها بشرفهم وضمائرهم ودينهم وعقائدهم.. وتباً لكل من يتبع هوى نفسه فيفعل ما يشاء ويقول ما يريد!.
وفد آخر من أهل قم:
وترى جعفراً يصر على باطله ولا يتنازل عنه، وتتكرر الحوادث فتزيد –معها- فضيحة جعفر، وذلك حينما وصل وفد آخر من أهل قم إلى سامراء، كما روي عن علي بن سنان الموصلي قال: حدثني أبي قال: (لما قبض سيدنا أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) وفد من قم والجبال وفودٌ بالأموال التي كانت تحمل على الرسم والعادة، ولم يكن عندهم خبر وفاة الحسن (عليه السلام) فلما أن وصلوا إلى (سر من رأى) سألوا عن سيدنا الحسن بن علي (عليهما السلام) فقيل لهم: إنه قد فُقِد.
فقالوا: فمن وارثه؟
قالوا: أخوه جعفر بن علي.
فسألوا عنه فقيل لهم: إنه قد خرج متنزهاً، وركب زورقاً في (دجلة) يشرب ومعه المغنون!!.
قال: فتشاور القوم... فقالوا: هذه ليست من صفة الإمام. وقال بعضهم: امضوا بنا حتى نرد هذه الأموال على أصحابها.
فقال أبو العباس محمد بن جعفر الحميري القمي: قفوا بنا حتى ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره بالصحة.
فلما انصرف جعفر، دخلوا فسلموا عليه وقالوا: يا سيدنا نحن من أهل قم، ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها، وكنا نحمل إلى سيدنا أبي محمد الحسن ابن علي الأموال.
فقال: وأين هي؟
قالوا: معنا.
قال: احملوا إلي.
قالوا: لا.. إن لهذه الأموال خبراً طريفاً.
قال: وما هو؟
قالوا: إن هذه الأموال تجمع، ويكون فيها –من عامة الشيعة-: الدينار والديناران، ثم يجعلونها في كيس ويختمون عليه، وكنا إذا وردنا بالمال على سيدنا أبي محمد (عليه السلام) يقول: جملة المال كذا وكذا دينار من عند فلان كذا، ومن عند فلان كذا. حتى يأتي على أسماء الناس كلهم، ويقول ما على الخواتيم من نقش.
فقال: جعفر: كذبتم!.. تقولون على أخي ما لا يفعله، هذا علم الغيب، ولا يعلمه إلا الله.
فلما سمع القوم كلام جعفر، جعل بعضهم ينظر إلى بعض.
فقال لهم جعفر: احملوا هذا المال إلي؟.
قالوا:إنا قوم مستأجرون، وكلاء لأرباب المال ولا نسلم المال إلا بالعلامات التي كنا نعرفها من سيدنا الحسن بن علي (عليه السلام) فإن كنت (أنت) الإمام فبرهن لنا وإلا رددناها إلى أصحابها، يرون فيها رأيهم.
قال (الرواي): فدخل جعفر على المعتمد العباسي - وكان بسر من رأى- فاستعدى عليهم فلما أُحضروا، قال المعتمد: احملوا هذا المال إلى جعفر؟.
قالوا: إنا قوم مستأجرون، وكلاء لأرباب هذه الأموال، وهي وداعة لجماعة وأمرونا بأن لا نسلمها إلا بعلامة ودلالة، وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام).
فقال الحاكم: فما كانت العلامة التي كانت لكم مع أبي محمد؟.
قال القوم: كان يصف لنا الدنانير وأصحابها، والأموال وكم هي فإذا فعل ذلك سلمناها إليه، وقد وفدنا إله مراراً فكانت هذه علامتنا معه ودلالتنا، وقد مات، فإن يكن هذا الرجل صاحب الأمر فليقم لنا ما كان يقيمه لنا أخوه، وإلا رددناها إلى أصحابها.
قال جعفر: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قوم كذابون، يكذبون على أخي، وهذا علم الغيب.
فقال العباسي: القوم رسل، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
قال (الراوي): فبهت جعفر ولم يرد جواباً.
فطلب الوفد من الحاكم العباسي أن يرسل معهم حارساً يصبحهم حتى يخرجوا من المدينة، فأمر بذلك.
فلما أن خرجوا من البلد، خرج إليهم غلام أحسن الناس وجهاً، كأنه خادم، فنادى: يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أجيبوا مولاكم؟
فقالوا: أنت مولانا؟
قال: معاذ الله... أنا عبد مولاكم، فسيروا إليه.
قال: فسرنا معه حتى دخلنا دار مولانا الحسن بن علي (عليهما السلام) فإذا ولده القائم سيدنا (عليه السلام) قاعد على سرير كأنه فلقة قمر، عليه ثياب خضر، فسلمنا عليه، فرد علينا السلام ثم قال: جملة المال كذا وكذا دينار، حمل فلان كذا وفلان كذا ولم يزل يصف، حتى وصف الجميع.
ثم وصف ثيابنا ورحالنا وما معنا من الدواب، فخررنا سجداً لله عز وجل، شكراً لما عرفنا، وقبلنا الأرض بين يديه، وسألناه عما أردنا فأجاب، فحلمنا إليه الأموال.وأمرنا القائم (عليه السلام) أن لا نحمل إلى سر من رأى بعدها شيئاً من المال، فإنه ينصب لنا –ببغداد- رجلاً تحمل إليه الأموال، وتخرج من عنده التوقيعات.
قالوا: فانصرفنا من عنده ودفع (أي الإمام) إلى أبي العباس محمد بن جعفر القمي الحميري شيئاً من الحنوط والكفن فقال له: أعظم الله أجرك في نفسك.
قال: فما بلغ أبو العباس عقبة همدان حتى توفي (رحمه الله).
وكان بعد ذلك، تحمل الأموال إلى بغداد إلى النواب المنصوبين بها، وتخرج من عندهم التوقيعات).
قال الشيخ الصدوق (رحمه الله) –بعد نقل هذا الحديث في كتابه إكمال الدين: هذا الخبر يدل على أن الخليفة كان يعرف هذا الأمر (أي أمر الإمامة) كيف هو؟ وأين هو؟ وأين موضعه؟ فلهذا كف عن القوم وعما معهم من الأموال، ودفع جعفر الكذاب عنهم، ولم يأمر بتسليمها إليه.
إلا أنه كان حب أن يحفى هذا الأمر ولا ينشر، لئلا يهتدي إليه الناس فيعرفونه، وقد كان جعفر الكذاب حمل إلى الخليفة عشرين ألف دينار، لما توفي الحسن بن علي (عليه السلام) وقال له: يا أمير المؤمنين.. تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته!!.
فقال الخليفة: اعلم أن منزلة أخيك لم تكن بنا، إنما كانت بالله عز وجل، ونحن كنا نجتهد في حط منزلته والوضع منه، وكان الله عز وجل يأبى إلا أن يزيده كل يوم رفعة، لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة.
فأن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك، لم نغن عنك شيئا.
ومن هذا الحديث الذي يشبه السابق نستفيد أيضاً بعض الأمور التي لا بأس بالإشارة إليها كالتالي:
إلحاح جماعة من الناس على تعيين جعفر للإمامة، وهنا تبرز علامة استفهام بل علامات استفهام.
لما اختارت هذه الجماعة المشبوهة وانسحابه عن الساحة، وانهيار معنوياته مع وفد القميين الأول: ما هو الداعي إلى التركيز على إمامة هذا الإنسان المشبوه المفضوح؟.
تكذيب جعفر للشيعة، حول إخبار الأئمة بما معهم من الأموال وتفاصيلها، فإن كان جعفر فاقداً لصفات الإمام وجاهلاً بهذه الخصائص فلماذا ينفي ذلك عن أخيه الإمام العسكري (عليه السلام) ويكذب الشيعة، ذلك التكذيب الفظيع؟.
أليس الأفضل أن ينفي علمه بهذه الأمور، ويعلن جهله بهذه المواضيع حتى لا يكذب أمراً واقعياً وحقيقة ثابتة؟.
مطالبة القميين بالأموال، ظلماً وزوراً، مع عدم استحقاقه لتلك الأموال، وهو يعلم ذلك، وهذا يدل على عدم تورعه من المحرمات، ولعله لو كان يقبض منهم الأموال لكان يصرفها في خموره وفجوره!.
استعانة جعفر بالسلطة الظالمة الغاشمة ضد الشيعة، وتجاوب السلطة معه. إن هذا لعجيب.
فالحاكم العباسي يأمر القميين بتسليم الأموال إلى جعفر، فهل كان ذلك بدافع الحب لجعفر؟ أم كان اعترافاً ضمنياً بإمامة جعفر وتشويهاً لجمال الإمامة، وتدنيساً لقداستها، وتحطيماً لمعنويتهاً، وتغييراً لمفهوم الإمامة في المجتمع الشيعي؟.
ويا ليت الفضيحة كانت تنتهي عند هذا الحد، ويا ليت جعفراً كان يكتفي بهذا المقدار من المأساة، ولكنه ذهب إلى السلطة ليتفاوض معها، ويحمل عشرين ألف دينار إلى الحاكم العباسي، ثمناً للاعتراف بإمامته.
مسكين هذا الرجل!.. أنظر إليه كيف يتشبث بالوسائل الفاشلة، لتثبيت مقامه، وتقوية مكانته؟! وكيف يستعين بالباطل للقضاء على الحق؟! وكيف يبرر الوسيلة لتحقيق غايته الجهنمية؟!.
إننا لا نتعجب من جعفر وتصرفاته ومحاولاته.. فقد رأينا في زماننا أمثال جعفر الفاقدين للشعبية والسمعة الطيبة، المنبوذين في المجتمع الديني، كيف يبايعون الحكام مائة بالمائة، لتعترف لهم السلطة ببعض المزايا التافهة والخصائص المادية!.
وأخيراً.. يتفطن الحاكم العباسي إلى أن تجاوبه مع جعفر، لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يجديه أي نفع، لأن أصول عقيدة الإمامة عند الشيعة متكاملة الجوانب، مستجمعة الصفات، مدروسة الأطراف، مترابطة من جميع الجهات، ولا يمكن التلاعب بها، ولا تغيير مجراها ومفهومها، فتراه يتنازل عن فكرته الأولى، ويعطي الحق لوفد قم ويقول: القوم رسل، وما على الرسول إلا البلاغ المبين!.
وبهذه الكلمة تنغلق الأبواب في وجه جعفر، ويخيب ظنه وتنقطع آماله من تلك اللحظة!.
ويخاف القميون من شر جعفر، وشرور الجماعة التي تدور حول جعفر، فيطلبون من المعتمد العباسي أن يحميهم برقابة أمنية، حتى يخرجوا من مدينة سامراء.
ويلبي الحاكم طلبهم ويرسل معهم الحرس، حتى يخرجوا من البلد بسلام.
ولا تسأل عن الحيرة التي استولت على القميين حول أمر الإمام الذي يقوم مقام الإمام العسكري (عليه السلام).. فما الذي يصنعون؟ وكيف يعودون إلى بلادهم قبل التعرف على إمام الحق؟.
وهنا شملهم اللطف الإلهي من تلك الحيرة، وانتشلهم من تلك الورطة وجاءهم الغلام المرسل من عند الإمام المهدي (عليه السلام) وناداهم بأسمائهم، وأرشدهم إلى مقر الإمام المهدي (عليه السلام) وتشرفوا بلقاء الإمام (عليه السلام) فانحلت المشكلة وانكشف الغطاء وزالت الحيرة.
وبعد هذا كله.. ادعى جعفر أنه هو الوارث الوحيد للإمام العسكري (عليه السلام) متحدياً وجود الإمام المهدي (عليه السلام) ومنكراً نسل أخيه الإمام العسكري (عليه السلام)، واستولى على تركة الإمام العسكري كلها، وتحقق كلام الإمام الحسين (عليه السلام) في شأنه، حيث قال لرجل من همدان:(قائم هذه الأمة هو التاسع من ولدي، وهو صاحب الغيبة، وهو الذي يقسم ميراثه وهو حي).
 
الهوامش:
1- سورة هود: الآية 46.
2- سورة لقمان: الآية 34.

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في رحاب بقية الله: المهدوية عقيدة النجاة
المهدوية في الكتب والشرائع السماوية
الأدیان الثلاثة والبشائر بالمهدی علیه السّلام
قصة بناء مسجد جمكران
علل الغيبة
الانحراف العقائدي عن القضية المهدوية
مشاهدة الإمام الغائب عليه السلام عند شهادة والده ...
نظرة في احاديث المهدي
بعض الاعمال في عصر الانتظار
أتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

 
user comment