عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

العلم والدِّين



أما أن يسم الأديان كلها بالنقيصة ويعمها بالاتهام لأنه وجد منها ديناً واحداً جائر القصد منحل القواعد فهذا هو الجنف في الحكم والزيغ عن الهدى.

ونشأ الشرقي هنا. فوجد بين يديه ديناً يحكم الصلة ما بينه وبين العلم حتى أوشك أن يتبنى حقائقه ويدخله في حدوده، فعقائد لا تنهض إلا على أساس من العلم، ودرجات التقوى فيه لا تبلغ إلا بالمعرفة ورسوخ القدم في معارفه لا يحصل إلا بسعة الأفق، سعة الأفق في خصائص الكون وبعد الغور في أسرار التكوين.

ووجد كتاباً يقول في التعريف بخطر العلم وفي تبجيل حملته: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتو العلم درجات)(1)، ويقول في تمييز هذا الفريق على من سواهم من الناس: ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. إنما يتذكر أولو الألباب)(2) . ويقول أيضاً: ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)(3).  ويقول في ترشيح هذه الفئة للمقامات الكبرى من الدين: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء)(4).

وسمع من أحاديث الرسول(ص) قوله المتواتر بين طوائف المسلمين: (( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) وقوله(ص): (( العلم رأس الخير كله. والجهل رأس الشر كله))

(1) المجادلة:11.

(2) الزمر:9.

(3) العنكبوت: 43.

(4) فاطر: 28.

وعلم من مقررات هذا الدين ومن نصوص كتابه أن الجهل قاعدة كل محرم ورأس كل مأثم، وأن الجهلاء من الخلق أبعدهم عن هدى الله وأحراهم بغضبه واحقهم بعذابه. وأن هذه الدواب السائمة من البشر التي تعمد فتسد عن عقولها منافذ النور وتطمس من قلوبها معالم الهدى، لها في موازين هذا الدين منحدر في الضلال لا تبلغه السائمة من النعم: ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون)(1).

( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)(2).

وقد دل التأريخ الإسلامي على تغلغل هذا الروح في المجتمع المسلم وفي الدول التي حكمت الأمة باسم الإسلام، روح التقدير للعلم وبسط نفوذه. والعمل على إنمائه على أن أكثر الحكام المسلمين الذين مكنوا للعلم وعززوا سلطانه كانوا ممن يقتنعون بظواهر الدين عن حقائقه وبقشوره عن لبابه. إلا أن هذا الولوع الإسلامي بالعلم وبتكريم حملته قد استمكن فيهم على ما يبدو وأصبح العمل عليه جزءاً مهماً من مناهجهم.

وقد شهد المنصفون من كتاب الأمم بذلك، وكل هذا واضح لا جدل فيه ولا مرية.

يحس الشرقيون هذا وأضعافه من دين الإسلام ومن أقوال رسوله ومن نصوص كتابه ثم يصرون إلا أن يكونوا ببغاوات تردد وقردة تقلد!!.

على أن الإسلام إنما يجري في ذلك على سجية كل دين قويم.

يعمل الدين القويم لتطهير الإنسان من الرذيلة أياً كان نوعها ولصيانته من الرجس أياً كان لونه، ويدأب العلم في تحصين هذا الإنسان من الجهل أياً كان شكله وتخليصه من الشكوك أية كانت صورها، والجهل والشك نوعان من الرذيلة التي يحاربها الدين، بل هما ينبوعان غزيران لكثير من أنواعها.

فالدين والعلم إذن صنوان متآزران يعملان لغاية واحدة هي خلق الإنسان الفاضل وإنشاء المجتمع العادل، فكيف يكونان متنافرين؟.

والعلم يفك الختم عن رموز الكون ويميط اللثام عن أسراره في الإنسان والحيوان والنبات والجماد،  في منطويات هذه الأرض، وفي متسعات هذا الأفق، وفي عناصر هذا العالم وطاقاته، وفي القوانين التي تؤلف بها العناصر وتصرف بها الطاقات، والدين يمشي مع هذه الكشوف خطوة خطوة، ويقف بالإنسان عليها حلقة حلقة، ليقول له: هذه صنيعة لابد لها من صانع وأنظمة لابد لها من واضع ففي أي نقطة إذن يبتعد عن العلم؟.

 (1) الأعراف:179.

(2) الأنفال:22.

والعلم من جهة خاصة مظهر من مظاهر الدين وشعيرة من شعائره، بل ومن أجلى مظاهره وأخص شعائره، فإن العقيدة- وهي أس الدين- لا تستمكن إلا بالعلم، وإعجاز التشريع في الدين لا يستوضح إلا من طريقه، والعبادات المقربة لا تخلص إلا بإشعاعه، فالعلم أداة قوية للدين حين يوطد العقيدة ويزكي العمل، والعلم مظهر جلي من مظاهر الدين حين يتجافى بالبشر عن النقص ويدفع بهم إلى الكمال، وهو عبادة من أفضل قربات الدين حين تحسن في طلبه النية ويخلص لنيله السعي، وتسمو في تحصيله الغاية. أسمعت قول الرسول(ص): (( تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)) وقوله (ص): (( مجالس العلم عبادة)).

فيم هذا التفكر الذي يكون الإستغراق فيه ساعة واحدة خيراً من عبادة سبعين عاماً، يقول ذلك أكبر داعية في الناس إلى العبادة وأعظم دائب منهم فيها؟.

فيم يكون هذا التفكير؟.

أليس في استعراض بدائع هذا الملكوت وابتلاء أخباره واستبطان أسراره.

أليس في العلوم المبثوثة في هذا الكون العظيم المنثورة على آفاقه؟.

أليس في التنقيب عن نواميس الله في خلقه، والإفادة مما فيه من قوة، والاعتبار بما فيه من آية؟.

أليس في هذه الأعاجيب الكونية التي تثبت للمرء عقيدته وتحكم صلته بربه وتخلص له عمله وتزكي له نفسه؟ وما قيمة عبادة جاهلة ليس لها هذا الروح وليس لها هذا الإشعاع؟ أفليس التفكر الذي يخلص العبادة ويزكيها وينميها خيراً منها جوفاء جامدة وإن امتدت في الحياة سبعين عاماً أو سبعمائة؟.

ثم ما هذه المجالس التي تعقد لمدارسة العلم وطلبه والبحث في أصوله وفروعه، ويقول الرسول(ص) أنها تعقد للعبادة؟.

اليست تعم المعاهد المؤمنة التي يستجيب الباحثون فيها لقول الله سبحانه في كتابه:

( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء)(1).

أوليست تعم المختبرات والمراصد العلمية التي يطلب العلماء بها تصديق قوله عز اسمه:( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)(2).

أليست تشمل المجالس التي تستبان فيها مظاهر قدرة الله وتستنطق شواهد حكمته، وبينات علمه وإحاطته؟.

(1) الأعراف: 184.

(2) فصلت: 53.

بلى. وهذه بعض الطرائق الكثيرة التي يستحث الإسلام بها اتباعه إلى العلم، ويدفع بهم إلى التقدم في مضاميره. ولكن أليس من الحق علينا أن نقيد هذا الحكم بالعلم الصحيح كما قيدناه أول مرة بالدين الصحيح؟.

أليس من النصف أن لا نتوقع من الدين أن يعترف بشيء من نتائج العلوم إذا لم توصلها التجربة والملاحظة الدقيقة إلى حد يستحيل عليها التغير؟.

على أن نواتج العلوم مهما اختلفت حظوظها من الصحة وتفاوتت قيمها في التجربة فهي أبداً تعضد الدين في جوهره وتؤازره على إحقاق غايته، أليست هذه النواتج- على تباعد ضورها- شروحاً مفصلة تعرب عن عظمة الكون ثم عن عظمة المكون؟.

أوليست- بجميع أشكالها- تقرر أن للعالم وحدة في المنهاج تشير إلى وحدة في قوة التدبير، وإلى إتقان في حكمة المدبر وسعة في علمه؟.

ثم أليست هذه الأمور بذاتها هي العقائد الأولى التي ينهض عليها الدين، والتي ترسو عليها دعائمه الأخرى؟ أوليست تلك الدلالات بذاتها هي الحجج الدامغة التي يعتمدها الدين في تثبيت أصوله وتمكين شريعته؟.

إذن فنتائج العلم كيفما اختلفت في الصورة لا تفتأ توثق العقيدة من الدين ولا تنفك تطهر النفس الإنسانية من الرذيلة وتعدها للفضيلة، ولا يزال طلبها عبادة وزلفة ما صدقت فيه النية وخلص فيه الجد وزكت منه الغاية.

والعلم حين ينال هذه الصبغة من الدين يلغي حدوده الضيقة، فلا يبقى ملكاً خالصاً للعقل، ولا نتيجة جافة للفكر بل يتضخم ويتسع حتى يملأ جوانب النفس، ويرهف ويستدق حتى ينفذ في طوايا القلب، ويتحلل وينصهر حتى ينسكب في شعاب الروح، فيكون له شمول الدين ورسوخ العقيدة وركون الإيمان وقداسة العبادة من كل نفس مؤمنة تعتز بدينها وتفقه حقائقه، وتدرك غاياته.

والعلم حين ينال هذه الصبغة من الدين وحين تحتضنه هذه النفوس المطمئنة، وتتولى تسييره هذه الضمائر الزكية يربأ بنفسه أن يكون أداة  فناء وبوار وعامل فتنة ومحنة. أن يكون أداة خرق وطيش ونزعة أثيمة، وهوى مستبد، واستعباد بغير حق، واستيلاء بدون عدل وإخافة آمن، وترويع مطمئن فإن الدين سيعصمه من جميع ذلك. فلا ينتج إلا ما يسعد البشرية، ولا يفكر إلا في عمارة هذه الأرض، ولا يسعى إلا في إصلاحها، ولا يهدف إلا لربط المخلوقين ببارئهم، وتبصيرهم آياته، وتعريفهم قدرته، ثم شد علائقهم بعضهم إلى بعض على هذه الأسس الثابتة وعلة هذه الغايات النبيلة.

وبعد فهل هذه فقط حدود العلاقة بين العلم والدين؟.

أ لم يحتم الإسلام على أهله تحصيل أي علم وأي صناعة يفتقر إليها  تنظيم الحياة؟.

أ لم يفرض على المسلمين أن يعدوا ما استطاعوا من قوة يرهبون بها عدو الله وعدوهم؟.

وبم يكون الإعداد للقوة المرهوبة؟.

أ لم يصبح العلم في طليعة هذه المعدات؟.

العلم والدين خلطان متناصران متظاهران، يزود أحدهما صاحبه بالقوة، ويمده بالنصرة ويؤازره على نيل الغاية.. أما هؤلاء الذين يزعمون منافرة الدين للعلم ومناصبة العلم للدين فلعلهم يختلقون عملاقاً ضخماً من الجهالات فيسمونه علماً أو يصورون قزماً حقيراً من الأوهام فيدعونه ديناً!!.

خطة ماكرة

وبعد فالتفرقة بين العلم والدين ودعوى المنافرة بينهما خطة ماكرة وضعها الاستعمار وبثها التبشير، يرام بها إضلال المسلمين طريقهم وصدهم عن دينهم، وفصلهم عن ينبوع قوتهم.

فلقد أيقن المستعمرون أن لا سبيل لهم على المسلمين ما دامت لهم وحدتهم، ولا سبيل لهم على المسلمين ما دامت لهم قوتهم، ولا سبيل لهم على المسلمين ما دام لهم هذا الدين، يحيون له ويحيى لهم. يمدهم بكل صالح، ويبذلون في نصرته كل غال.

إن الإسلام يسند أتباعه المستمسكين به قلباً إلى قلب، ويشدهم صلباً إلى صلب، ويضمهم روحاً إلى روح، ويصل هذه القلوب والأرواح والقوى متفرقة ومجتمعة بالله رب العزة وخالق القوة ومالك القدرة والنصرة.

إن الإسلام يسند أتباعه المحتفين بتعاليمه هذا السناد المكين، فهم قوة لا تطلق ولا يقام لها بسبيل لأنها موصولة المدد بالقوة العظيمة التي لا تتناهى.

ولا مطمع للذل والاستكانة في نفوس تكون لها هذه العزة وفي بلاد تكون لأهلها هذه الوحدة.

والغرب عدو ماكر متيقظ لابد له من أن يحسب لهذه القوة حسابها ومن أن يعمل لها عملها.

لا معدى له من أن يفصل بين المسلمين وبين دينهم إذا كان يطمع في استعمارهم وفي فرض سلطانه عليهم، نعم. ولا معدى له من أن يبتكر الوسائل لهذا المقصد، ويضع الخطط لهذا الغزو.

فمد أصابعه إلى الثقافة ليبعد فيها ويقرب، وإلى قواعد التربية ليمحو منها ويثبت، وإلى مناهج الحكم ليطيل فيها ويقصر، وغرس في العقول وصاغ رجالاً ( لا يستكثرون في إرضائه سحق دينهم ومحق أوطانهم)، ونحت ضمائر (لا تكترث لاستغاثة حق ولا تأسى لمشهد ظلم) وبنى هياكل من لحم ودم (( لا تعمل له أكثر مما يأمل وتدين له بأوفر مما يقبل))، وأوحى بأن الدين عدو للعلم، وأوحى بان الدين وكاء للحريات، ونادى بفصل الدين عن الدولة، وقال الدين وراء العقل،.و.و...

ومكنت له أجيال عديدة حكمتها حكومات مسلمة بعيدة عن روح الإسلام، ومكن له استجداء شعوب مسلمة قوانينها من بلاد غير بلاد الإسلام واستسلافها عادات غير عادات الإسلام، ومكن له تقدم أحرزه في العلوم المادية يستوجب الدهشة ويثير العجب، ومكنت له ثقة عمياء أكنتها له أبناء الشعوب المحروبة، ومكن له أن هذا بعينه هو موقفه في بلاده تجاه الدين وأن هذه الأقاويل بذاتها هي التي أذاعها عنه هناك، ومكن له انخذال المسيحية بين يديه وإقرارها له بصدق ما يقول، ومكن له خلاء في النفوس من معاني الإسلام وفراغ في الضمائر والأفئدة من تعاليمه.

ومكن له تقصير شائن في الدعوة إلى الدين وفي تعريف مناهجه وشرح أهدافه.

فما يمنعه بعد كل هذا من أن يقول؟ وما يحجره من أن يدعي؟.

والتبشير؟ إنما هو صنيعة من صنائعه، وأداة فعالة في التمكين له.

إنه تبشير سياسي استعماري لا تبشير ديني مسيحي.

وما علاقة أوروبا أو أمريكا بالمسيحية؟ وما علاقتها بكتب العهدين بعد أن رفضتها ورفضت عقابيها منذ قرون؟ ما علاقة هذه الدول بالمسيحية لتنفق عشرات الملايين من الدنانير على التبشير بها كل عام؟!.

إنه تبشير سياسي يطبق ما يرسم له الاستعمار من خطط، ويتبع ما يلقي إليه من إشارة. ويبث ما يفوض إليه من دعاية، فليضع المستعمرون خطط الغزو في الخفاء وليدعها المبشرون في العلانية، وبث هذه الخطط الماكرة لابد وأن يكون في طرق حلزونية معقدة.

ومن عجيب أمرنا أننا قد ندرك بعض هذه الدسائس ثم نؤثر النوم لتلذذ الأحلام!.

وعن تلك الشبهة الجائرة.

وعن نظرة الرجل الغربي في المآسي التي لقيها من دينه ومن كنيسته.

وعن سير رجال الدين هناك في ركاب الاقطاع، يخضعون الأرقاء من الناس للظلم، ويصبرونهم على الذل، ويرضونهم بالواقع المر. ويخمدون في صدورهم لهيب الثورة، ويئدون في نفوسهم شعور الكرامة وطبيعة الرجولة.

وقالوا : الدِّين أفيون الشعوب

عن هذه السيرة التي ألفاها الغربي لرجال دينه، وعن أثر هذا السلوك في شل العزائم وإخماد روح الثورة من ناحية، والتمكين للظلم، وتثبيت أسس الاقطاع من الناحية الأخرى، أقول عن نظرة الرجل الغربي إلى هذه السيرة نشأت قولته المعروفةعنه: الدين أفيون الشعوب..

أساءه الوضع الاجتماعي القائم في بلاده فصمم على السعي، وقلب بصره في وجوه الأمر فرأى الدين جاثماً له في الطريق. فبماذا يلتمس الإصلاح؟.

أ بإثارة شعور الكرامة في طبقات الكادحين؟ فالدين أذهب ما في رؤوسهم من نخوة، وعفى ما في قلوبهم من أمل!.

أم بهز مشاعر الرحمة والعطف في قلوب الرأسماليين والإقطاعيين فالإنغماس في الشهوات المحرمة أمات فيهم عواطف الخير وانحرف بغرائزهم عن العدل، والدين أمامهم يذلل لهم الرقاب ويسهل لهم الصعاب!.

أم برفع الأمر إلى السلطة الحاكمة: فالقوانين القائمة تحمي الإقطاع. والدين القائم يحتم الطاعة لهذه القوانين، والدولة والكنيسة ورجالهما من الإقطاع في الصميم!.

أم بماذا غير ذلك؟ فالدين قد أوصد الأبواب وسد المنافذ وكم الأفواه!.

رأى كل ذلك- ولنغض هنا عن أي تعليل سواه- ورأى إصرارالكنيسة عليه وتهالك رجالها على تنفيذه، فقال: الدين أفيون الشعوب، وقال: الدين أيديولوجية وضعها الإقطاعيون والرأسماليون يحمون بها أنفسهم ويحرسون مصالحهم، وقال: الدين وعي مزور عن العالم لأنه يصدر عن عالم مزور، وقال: الدين زفرة الكائن المثقل بالألم وروح عالم لم تبق فيه روح  وفكر عالم لم يبق فيه فكر. ولا  لوم عليه لو أنه سدد رميته إلى مصدر الأذى.

وقالت الكنيسة تعزز موقفها: إنها وصايا الله وكلمة السماء.

فقال فإلهكم إذن إله جائر يحمي الظلم ويوطئ له ويبسط نفوذه ويود بقاءه، وهو إذن وهم خلقتموه أنتم  ولم يخلقكم هو.

خلقتموه أنتم ليعبدكم. ولم يخلقكم هو لتعبدوه.

واختمرت هذه الثورة في روع هذا القائل حتى استقرت فكرة، ثم اصبحت فلسفة يفسر بها كل ما هنا..

الوضع المادي الموجود بالفعل هو الأصل الثابت، ولحماية هذا الوضع الراهن حدثت فكرة الدين، وفكرة الله، وعينت الهيئات الحاكمة وشرعت القوانين الموجودة، وعن هذه المجموعة صدر ما هنا من نظم اجتماعية واخلاقية وعادات وتقاليد، وإذن فالأفكار والنظريات والأديان والحياة العقلية كلها إنما هي انعكاس للحياة المادية، وهذه وحدها هي الواقع الموضوعي.

ولمناقشة هذه الفكرة موضوع آخر من الكتاب، ومهمتنا ها هنا أن نتعرض لكلماته عن الدين.

لقد قلنا لا  لوم على كارل ماركس لو أنه سدد رميته إلى مصدر الأذى، فإن الكنيسة في عصورها تلك حادت عن النهج القويم، وأي منصف ينكر ذلك؟ ولكن ماركس أطلق كلماته جارفة لا تبقي ولا تذر!!.

ليكن ثائراً. وأي إنسان متزن الطبيعة متقد الإحساس يرى الحق تحت براثن الباطل ثم لا يثور؟ ولكن من القبيح أن نثور على أحد من الناس فتطفق تحثو التراب في وجه كل من تلقى، ويتضاعف القبح ويربو أُثره إذا كنت تطلب بثورتك أن تغير وضعاً قائماً، وتكون السماجة أكثر مضاعفة وأعمق أثراً إذا أردت أن تقيم على ذلك فلسفة حية، وتشتق منها نظاماً خالداً يغير التأريخ ويسعد القرون!!.

ثم لنلتمس المعذرة لهذا القائل، لنقل هو ثائر، ولنؤمن ولو مؤقتاً بأن الثورة لا تقبل الاعتدال، ولو أننا استقبلناه وهو يردد كلمته فقلنا له: أن الخير في الأناة وأن الحزم في التروي، والدين الحق لا يقر ظالماً على ظلمه، ولا يترك آثماً على إثمه لتضاعفت غضبته واستيقن أن مانذكره له نوع من التحذير.

لنلتمس العذر لماركس بهذا الشأن وما يشبهه. ولكن ما بالنا نحن الذين عرفنا طبيعة دين الله وبلونا خبره وتلونا نصوصه وسبرنا تأريخه، وعلمنا سيرته. ما بالنا نحن نردد تلك الكلمات أيضاً كالأصداء!.

ما بالنا نحن بعد أن اتضح لنا كذب القولة بعد أن قام على خطاها لدينا ألف برهان نرددها بألسنتنا كالذكر ونصر عليها في قلوبنا كالعقيدة، ثم نهرع إلى مبدأ هذه دعمته الأولى؟ افنبتغي الإصلاح بمبدأ يقوم على أساس فاسد؟!

أفدين الله أفيون يخدر العمال ويخضعهم لأرباب الأموال؟!.

أفدين الله أيديولوجية وضعها الأقطاعيون يحرسون بها أموالهم ويضمنون بها نفوذهم ويخضعون بها عبيدهم؟!.

آلإسلام بذاته دين محمد الثائر على الظلم المكافح للإستبداد والاستعباد، المحطم للأصنام والأوهام؟!.

آلدين الذي ينكر على من يعتنقه أن يخضع لغير ربه وأن يخشى غير ذنبه، والذي يقيم نظامه الإجتماعي على مبدأ الأخوة العامة والولاية الجامعة والعدل الشامل والمساوات المطلقة أمام الحق، وعلى مبدأ التعاون على البر والتواصي بالخير والتناصر على الظلم!.

أهذا الدين بذاته أفيون الشعوب، والـ(أيديولوجية) التي وضعها الإقطاعيون والراسماليون لحماية مآربهم وتثبيت أقدامهم، والوعي المزور عن العالم لأنه صدر عن عالم مزور؟!.

ما أفحشه كذباً وما أقبحه هراءاً!!!.

ومتى كان الإسلام يقمع روح الثورة من نفوس الناس، ويميت إحساس الكرامة في قلوبهم؟ أحين قال في كتابه يعدد صفات المؤمنين التي يستحقون بها الكرامة الكبرى

( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون. وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم).

بلى قال بعد هذه الآيات: ( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم المور)(1) فما هذا الصبر الذي يدعو المظلوم إليه بعد أن شرع له حق الانتصار وحدد له مقادير الاستيفاء؟ أيمكن أن يكون هو صبر الخنوع والذل؟.

بديهي أن ذلك غير ممكن. ثم هو يقول في الآية( ولمن صبر وغفر) ويقول( إن ذلك لمن عزم الأمور) إذن فهو صبر مقدرة ومغفرة، وعفو القادر ضربة مضاعفة تأخذ من نفس الظالم ما لا يأخذه الاستيفاء من بدنه أو ماله، وهو بعد ذلك إحسان يدفع إلى تجديد الصلة بين الرجلين وإقامتها على الحب وإنكار الذات.

ومتى هادن الله الظلم ومكن له ومد في نفوذه؟ أحين قال في كتابه. ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين)(2) وقال:( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين)(3) وقال: ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالاثم)(4).          

(1) الشورى:39-43.

(2) الأعراف:84.

(3) القصص: 83.

(4) البقرة:188 .

ومتى رضي حياة البطر والترف، وتملق عواطف المترفين ودلل غرائزهم؟ أحين أنذرهم بطشته في الأمم السالفة أمثالهم فقال: ( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين)(1) وقال: ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم  منها يركضون، لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون، قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين. فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين)(2).

إن الإسلام لا يرضى من المسلم أن يخضع للدنية ويستسلم للهوان، ويحتم عليه أن يثأر لكرامته وحريته، ويحتم عليه أن يلتزم العدل في ثورته وفي استيفاء حقه، والمسلم يعلم ما دام ملتزماً بالعدل أن الله ناصره من الظلم ومجيره من البغي: ( ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله)(3).

وحكومة الإسلام التي تمثله حق التمثيل مكلفة بصد الباغي ودفع العادي، وبتأديب الخارج على نظم الإسلام المستكبر على أحكامه وحسم ظلمه وقمع عاديته وهذه هي المئل الأول للمظلوم لرفع العدوان عنه، أما الموئل الثاني له فهي القوة... فهي الحرب.

وحين يثب الكادحون بحقوقهم المشروعة، ويشنونها حرباً عادلة في وجوه المستأثرين فإن المسلمين الآخرين وعلى رأسهم حكومة الإسلام لا يسوغ لهم أن يتخذوا من ذلك موقف القريب المحايد أو الغريب المتفرج: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا أن الله يحب المقسطين)(4).

( ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً)(5). 

فإذا أعيا على المظلوم أن يدرك حقه، وإذا عز عليه الناصر وصعب عليه الانتصار فهل يباح له في شريعة الإسلام أن يتطامن للذل وأن يستلين مهادة؟.

إن الإسلام يحرم عليه هذا النمط المرذول من الحياة ويأبى له الإقامة عليه.

(1) القص: 58.

(2) الأنبياء: 11-15.

(3) الحج: 60.

(4) الحجرات: 9.

(5) النساء: 74.

يحرم عليه أن يخلد إلى الهون، ويوجب عليه الهجرة عنه، ويأنف له من أن يفتدي قراره في مكان ما بكرامته.

وليست كرامة الرد في رأي الإسلام حقاً من حقوقه الخاصة ليكون مختاراً في إهدارها. إن كرامة الفرد المسلم هي بذاتها كرامة الإسلام وكرامة المجتمع المسلم فليس من حق الفرد البتة أن يتغاضى عنها ويتساهل فيها.

ويبتغي الإسلام من مختلف تشريعاته وهداياته ان يرتفع بشخصية المسلم ويعتلي بطباعه وملكاته، وكيف يبلغ هذا المبلغ إذا استطاب الحياة الوضيعة وسهل قيادة لها، ومرنت طباعه عليها.

إن الإسلام يحرم عليه ذلك.

فإن هو لم يستجب لنداء العزة، لم يهاجر بكرامته عن دار الهوان فقد عرض نفسه لمقت الله وغضبه واستوجب منه العقاب الشديد: ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً إلا المستضغفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً. فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً)(1).

إن الإسلام يأبى الضيم، ويأبى لأحد من أبنائه أن يقر عليه أو يهادنه أو يجد مسلماً يرزح تحت أثقاله ثم لا يخف إلى نصره وإلى فك أساره، وهو يجند لذلك ضمير المسلم وإرادته وقواه وعامة مشاعره، ويوطئ له في عقيدته ويربط به أعماله، ويؤسس على ذلك بناء المجتمع المسلم ويقيم عليه صلاته ويحكم وشائجه.

وقد غنم الثائرون في تأريخ الإسلام- المصلحون منهم والمفسدون- هذا الإحساس القوي الملتهب في نفوس المسلمين فصرفوه لغاياتهم، ومن أجل ذلك كثر الناهضون في الإٍسلام وربى عديدهم ولم يعرف التأريخ لهم ضريباً في ذلك.

وقد عرف الإسلام بذلك عند ألد خصومه فأعلموا ما استطاعوا لقمع هذه الروح، وإماتة هذا الوعي، وقد تحدثنا عن ذلك قريباً.

نعم. وهذا دأب كل دين حق، ولكن غبار الأرض قد يتراكم فيحجب محاسن السماء..

وحديث الرجعية موصول السند بما تقدم

وحديث الرجعية والجمود حديث موصول السند بما تقدم.

(1) النساء: 96-98.

إذا خرج الإنسان من منزله إلى وجهة معينة، فكلما سار خطوة نحو مقصده فهو متقدم، وكلما عادت به الخطى نحو منزله فهو راجع، وإذا انقطع عن المسير فلم يتقدم ولم يتأخر فهو واقف(جامد) وإذا جنح في مسيره نحو وجهة أخرى فهو منحرف. هذا هو المعنى الأصلي للتقدم والرجوع والجمود والانحراف.

ويولد الإنسان في هذه الدار فيبتدئ شوطه في الحياة، ويبتدئ نموه الطبيعي في مختلف أجزاء جسده، ولا يمكن له في هذا الشوط أن يرجع ولا يمكن له أن يقف، ولا يمكن له أن ينحرف لأنه غير مختار في ذلك. ويبتدئ نموه الطبيعي في الشعور والوعي. ولا يسعه في هذا الشوط كذلك أن يرجع ولا يسعه أن يقف أو ينحرف لأنه غير مختار في هذا أيضاً.

ويبتدئ- مع الأيام- نشاطه الفكري الاختياري، ويبتدئ كذلك سلوكه الإنساني الإرادي، يبتدئ من الإنسان الطفل إلى الإنسان الرشيد الكامل الإنسانية.

وهنا في هذين الشوطين يستطيع الإنسان- لأنه مختار في سلوكه- أن يسير نحو الغاية فيكون متقدماً، وأن يقف في بعض الطريق فيكون جامداً، وأن يتقهقر إلى سلوك الطفولة فيكون راجعاً، وأن يخرج عن الخط المستقيم الذي يبلغه الغاية فيكون منحرفاً.

والمجتمع كالفرد في هذه الأشواط وهذه الأقسام، وهو متقدم إذا انطلق في خط الرشد الإنساني والاجتماعي، وهو متأخر إذا رجع إلى أوهام الطفولة الاجتماعية وأحلامها، وهو جامد واقف إذا استمسك ببعض المظاهر فشغل بها عن السعي، واكتفى بناتجها عن الغاية، وهو منحرف إذا سلك سبيلاً لا يوصله إليها.

هذه هي التفاسير الواضحة لهذه المفاهيم، وعليها يجب أن نعتمد في تقدير الأشياء وفي إيتائها ما تستحقه من الأوصاف والأحكام، فكل ما دفع بنا أو أعاننا على نيل الكمال الإنساني فهو وسيلة من وسائل التقدم. وما قعد بنا عن الرشد أو حول وجوهنا نحو سلوك الحيوانية أو الطفولة الإنسانية فهو عامل جمود أو رجعية أو انحراف.

وقد عرفنا في مباحث سبقت أن الدين هو السبيل المستقيم الذي يبلغ به الإنسان إلى كماله، وأن مناهجه هي المناهج التي توفر للإنسان كرامته وتضمن له غايته وتسعد له حياته وتحمد له عقباه، فإذا استطاع أن يبر للإنسانية بهذا الوعد وإذا ملك أن يفي بهذا الضمان، فهو- دون تردد- العامل الأعظم للتقدم، والعدو الأول للجمود والرجعية، ونظام الإسلام هو برهانه الذي يقدمه على الوفاء.

ويحلو لبعض الناس ولبعض المتأدبين منهم أن يفسر الرجعية بالالتفات نحو الماضي، فكل ما تقدم به الزمن فاتباعه رجعية لن تحمد من الرجل التقدمي، ولم يضع هؤلاء السادة حداً لهذا الماضي الذي يجب نبذه ولم يذكروا نوعاً للتراث الذي يحرم أخذه.

وإن القرآن يعيب على الأخلاف أن يستمسكوا بعقائد أسلافهم، وبتفاسيرهم للمفاهيم العامة، وبنظراتهم في الكون والحياة، ولكنه يفرض عليهم أن يجمعوا هذه المواريث ثم ينصبوا لها الموازين، موازين الفطرة الصحيحة، والتجربةالصادقة والمنطق السليم، وما أعدته لهم الطبيعة وزودهم به الفكر، فما رجح من تلك الموروثات أخذوه وما خف نبذوه، فهل هذا هو ما يعنيه السادة بتفسيرهم للرجعية؟.

إنهم يطلقون التعبير، وإنهم يشيرون من طرف خفي أو ظاهر إلى الدين فيما يشيرون!. والدين لا يتوجس من هذه الإشارة ولكنه يستوحش من ذلك الإطلاق.

لا يتوجس أبداً من أن يتناوله النقد، ولا يستنكف من أن يخضع للبرهان، وما نصح للناس أن يعرضوا الأشياء كافة على الميزان ليستثني نفسه من هذا الحكم، ولكنه يخشى أن تهدر القيم والحقائق هدراً دون مبرر ولا حساب.

وفي تراث الماضي آراء وأفكار تحترمها الإنسانية وتشمخ بها. وفي تراث الماضي خلاصات ونتائج جديرة بأن يعتز بها ويحرص عليها، وفي تراث الماضي عبر وتجاريب يجب أن تتدبر ويفاد منها، وفي تراث الماضي كنوز ثمينة من المعرفة لا يسوغ أن تهمل وتضيع، وفي تراث الماضي مفاتيح لكنوز جديدة لم تفتح بعد ولم تعلم محتوياتها، وفي تراث الماضي مادة ضخمة تكفي لبناء مجد مستأنف إن لم نعترف لها بمجد غابر. فهل يحتم علينا هؤلاء السادة أن نهدر هذه الثروة كلها لنكون تقدميين كما يشتهون؟.

إنهم يهزلون-على ما يبدو- حين وضعوا هذا التفسير للرجعية والتقدمية.

وإذا صح لنا أن نسمي ذلك انطلاقاً في الغرائز وتقدماً مع دوافعها، فإنه دون ريب تأخر عن الرشد الإنساني وعودة إلى الطفولة العقلية. وأي رشد في أن يتعرى المرء من ذخيرته السابقة، ثم يندفع مع التيار يرتجل الرأي اتجالاً في أي حادثة تلم به، ويفترض النظرية افتراضاً في كل ظاهرة تعن له.

ينطلق مع الغرائز والحيوان الأعجم كذلك ينطلق ويندفع حتى ترتوي غرائزه وتكف عن دعوتها. ويرتجل الآراء ويفترض الأحكام والإنسان البدائي يرتجل آراءه ايضاً ويفترض، وقد يحار ويرتبك مثله سواء بسواء، فما هو ميزان الرجعية إذن؟.

إنهم يهزلون حين وضعوا هذا التفسير على ما يبدو، ونتائج الفكر الإنساني وتطور السلوك الاجتماعي كالهرم لا تثبت له قمة ما ترس تحته قاعدة وما لم تقم على القاعدة أضلاع متينة تشد البناء وترتفع بالقمة.

وقالوا : الدِّين يحمي سخف المحترفين

والطعن على الدين بأنه يمنع للمحترفين سخفهم ويحرم على الأمة مناقشتهم؟.

إنها كذلك تهمة صلعاء وفرية مفضوحة. والقرآن الكريم يقول في إبطال هذا الإفك: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب. إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع قليل ولهم عذاب أليم)(1) ويقول: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)(2) ويقول:(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون)(3).

من هؤلاء المتلصصون على قدس الله المختانون لأمانته، الكاتبون بأيديهم وأهوائهم ما يكتبون، والقائلون لما كتبوا وما كذبوا هذا من عند الله، يحتالون بذلك على الناس ليأخذوا من دنياهم، ثم لا يبالون أن تتحطم بذلك عقباهم وتخزى به أخراهم؟.

ومن هم أولئك المراوغون المختالون الذين لا يذكرون شريعة الله إلا حيث لا تكلفهم عناءً ولا تصطدم لهم ببغية؟.

ومن أولئك الطامعون في أن يتعبد لهم الأنام كما يتعبدون لبارئهم وأن يدينوا بأقوالهم كما يدينون بشريعته؟ من هؤلاء وأولئك الذين ناقشهم القرآن الحساب وأوعدهم أشد العذاب؟.

أليسوا هم المحترفين باسم الدين المتاجرين بشرائعه؟(ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق)(4)، إن هؤلاء المتكبرين من الناس يشرئبون لأن ينازعوا الله حقوقه ويطمعون في أن يقاسموه سلطانه فلا مساغ معهم لهدنة ولا مكانة لمسالمة، وأن الحرب معهم لطويلة شديدة فإن لم نخضعهم في هذه الحــــياة الأولى ولم ينيبوا إلى ربهم ويسلموا إليه أمره فلسوف تمتد معهم إلى الحياة الأخرى:( ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة، أليس في جهنم مثوى للمتكبرين)(5).

ويسوءني أن أشير إلى موقف المسلمين من هذا الحكم، وإلى مقدار حرصهم على الوقوف أمامه!. ويسوءني أن أعترف بأيد تخبط ثم لا تني عن الخبط وأهواء تلعب ثم لا تكف عن اللعب!. ويسوءني أن أعترف بأن هذا الموقف المزري وهذه الأيدي العابثة هي التي مكنت للطاعنين أن يشيعوا قالة السوء عن الإسلام. ومن للأنصاف بأن يفهم هؤلاء أن حقائق الإسلام غير أعمال المسلمين؟!.

(1) النحل: 116،117.

(2) البقرة: 159.

(3) البقرة: 79.

(4) الأعراف: 169.

(5) الزمر:60.

والفروق والفرق ؟

والفروق. والفرق؟.

إنها النتائج المعلومة المحتومة لركوب الأرؤس وامتطاء الأهواء، وإنها أول القائمة التي ينابذها الإسلام، ويشن عليها الحرب العوان. وآيات الكتاب تجعل الغارة على الأهواء أول عمل يبدأ به الدين. ولا غرو فالأرض لن تكون صالحة للغرس الطيب المجدي حتى تستل منها آخر جرثومة من الطفيليات والأعشاب السامة.

(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك ما وصينا به إبراهم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)(1)، أرأيت؟ أن الآية الكريمة لتكاد تقصر أهداف الله من شرعه في أن يقام دينه ولا يتفرق فيه!. ثم اقرأ إذا شئت قوله سبحانه:( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء. إنما أمرهم إلى الله. ثم ينبؤهم بما كانوا يفعلون)(2).

لست منهم في شيء..

إنها المقاطعة التي تعلن بها الحرب.. وإنها القذيفة الأولى التي تبتدأ بها.

ليس الرسول منهم في شيء، وإذا لم يكن الرسول منهم في شيء، فليسوا من الحق ولا من العزة، ولا من النصرة، ولا من المنعة، ولا من لطف الله الشامل ورحمته الواسعة، ليسوا من هذه كلها في شيء.. إنما أمرهم إلى الله... إلى الله وكفى، فهو ولي أعمالهم وهو ولي جزائهم، وإذا كان دين الله هو السبيل المستقيم الذي ينتهي بالإنسان إلى رشده ويفضي به إلى كماله فالتفرق- لا محالة- ينحرف بالإنسان عن الاستقامة ويخرج به عن السبيل ويبتعد به عن الغاية.

والقرآن يذكر المتفرقين من أهل الأديان، ويذكر البواعث التي فرقتهم، والمعرات التي لزمتهم، يذكر ذلك ويشرحه ويكرره في كثير من المناسبات ليعتبر المؤمنون بما حدث، وليحذروا الإنزلاق إلى مثله، فإن البواعث بذاتها هي البواعث وإن التبعات بأعيانها هي التبعات: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)(3)..(وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم)(4).

التفرق شؤم مصدره البغي وسبيله الضلال وغايته العذاب العظيم، والتفرق خروج على نظام الوحدة الذي بنى عليه الإسلام، وفصم لعرى الأخوة التي وثقها القرآن، والمتفرقون دخلاء أدعياء، ليس الرسول منهم في شيء، وليسوا هم من منهاجه على سبيل.

 (1) الشورى: 13.

(2) الأنعام: 159.

(3)آل عمران: 105.

(4) الشورى: 14.

هذه نظرة الإسلام للتفرق، وهذا حكم القرآن على المتفرقين..ولكن.

ما يصنع الإسلام والقرآن إذا لم يقم لهما أتباعهما على العهد ولم يقوموا معهما بالحق؟.

ما يصنع دين محمد(ص) وكتابه إذا اشترى اشياع محمد بدينه ديناً من أهواء وبكتابه كتاباً من أوهام، فاعتصموا بغير حبل الله واستمسكوا بغير ما أمر الله؟ وما على دين الله من حجة بعد هذه التقدمة، وما على كتاب الله من غضاضة بعد هذه النذر.

واخيراً أسمعت قرآن محمد يدحض هذه الشكوك قبل أن تورد، ويصد هذه التهم قبل أن تولد؟!.

وقالوا : الدِّين عامل مؤقت

وقالوا: الدين عامل مؤقت اضطر إليه الإنسان في طفولته الاجتماعية، يوم كان مفتقراً إلى من يمسك بقياده في التوجيه، وإلى من ينوب عنه في التشريع. ولقد أحسن القيام بوصايته على الإنسان إذا استثنينا كبوات بان فيها ضعفه عن القيادة، وانحرافات عرف بها قصوره في الملاحظة.

وعلى أي حال فمن الحق على البشري أن يعترف له بهذه اليد وأن يشكر له هذا الفضل، من المحتم على البشري أن يعترف الدين بالقداسة وأن يكن له الحب وفاءً بالحق.

أما وقد رشد القاصر واستقل التابع وأدرك الصغير، فلا مسوغ لدوام الوصاية، ولا مبرر لفرض السيطرة..

وقائل هذه الشبهة- على ما يبدو- أشرف خصاماً وأنظف سخيمة إذا كان في السخائم ما يعد نظيفاً، وبعد فهي شبهة تنشأ- على الأكثر- من قلة الخبرة بمهمة الدين وضآلة العلم بمناهجه ومآربه.

ومن يجهل وجوه الحاجة إلى الدين والينابيع الأولى لعقائده والركائز الأصيلة لتشريعه يحسب أنه قانون كهذه القوانين التي يضعها الإنسان، تقتضيه مناسبة، وتحدده بيئة، فإذا حالت مناسبته أو اختلفت بيئته وجب أن يطرح أو أن يعدل.

ونظرة حرة منصفة فيما  ذكرناه من الوجوه وفيما لم نذكره منها تذهب بآثار هذه الشبهة وبغيرها من الشكوك..

أما سقطات أخذها هذا القائل على قوامة الدين فلا أجحد وقوعها، ولا أتعرض للمعذرة عنها. ذلك أنني لا أدعي نزاهة أي دين، ومن ينكر التياثات تؤخذ على اليهودية والمسيحية القائمتين بله غيرهما من أديان الأرض؟ ومن ينكر وهنهما عن قيادة الإنسانية في عصورها المتقدمة فضلاً عنها في عصورها الحديثة؟.

ولكنني أعود فأقول: ضعف دين أو أديان معينة عن القيام بالأعباء لا يعني ضعف الديانات أجمع. ومن حمل ديناً أوزار غيره فقد جار عن القصد وشط في الحكم. وأتحدى الباحثين أجمع أن يقيموا ولو شاهداً واحداً ضعف فيه الإسلام عن القيادة.

فهل يستطيعون؟.

وقالوا : إذا غلب الدِّين أصبح عادة اجتماعية وانقلبت موازينه واستحالت نتائجه

وقالوا: إن الدين إذا امتلك المجتمع وتغلغلت فيه عقيدته واستتب عليه سلطانه، وسيطرت عليه أحكامه أصبحت مراسيم ذلك الدين عادات اجتماعية قاهرة لا محيد من أن تطبق ولا سبيل لأن تخالف، وأصبح المحيط الاجتماعي قوة صارمة لتنفيذها والرقابة الشديدة على مخالفتها وأصبح الفرد مطالباً بالطاعة العمياء لها، لأنها مما يفرضه  مجتمعه ولا يجيز له التسامح فيه، ولم تعد بعد مجالاً للتفكير لتقبل أو ترفض مع دعوة البرهان، ولا موضعاً للخيرة لتطاع أو تعصي بمحض الإرادة. وتفقد موازين الصحة، وتلتبس إمارات الحق وتنتفي فائدة التدين.

وقد عني واضع هذه الشبهة أن يلبسها أردية فضفاضة، وأن يقيمها على أسس من علم النفس وعلم الاجتماع فطول ومدد. وما ذكرناه خلاصة وافية بمراده وهي على ما زوقت لها من عبارة وبذل في تركيزها من جهد لا تبلغ بقائلها ما يريد.

لا تبلغ به ما يريد في دين لا يقبل الإيمان الأعمى والخضوع الأبله، ولا يقيم لهما وزناً ولا يدخلهما في حساب.

ولا تبلغ به ما يريد في دين لا يرتضي العقيدة حتى تمكن لها الحجة، ولا يحفل بالعمل حتى يمحضه الإخلاص، ولا يعبأ بالإيمان حتى يغرسه وينميه الاختيار الحر.

ولا تبلغ به ما يريد في دين ينشر دلائله في كل صوب ويكشف حقائقه لكل ناظر، ويتيح الفرصة الكافية لكل متأمل.

والإسلام حين يمتلك المجتمع ويستمكن فيه روحه وتسيطر عليه تعاليمه لا بد وأن يطبع الروح الاجتماعي العام بطابعه، ولا بد وأن يقفه عند حدوده، فلا يخدش حرية الفكر، ولا يهدر حقوق الفرد، ولا يضيع حرمة الاختيار.

وبعد كل ذلك فلن تفقد موازين الصحة، ولن تلتبس إمارات الحق ولن تنتفي فائدة التدين.

وبعد ذلك أيضاً فقد جعل الإسلام للمسلمين فيما بينهم ولاية التواصي بالحق والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، والحراسة لحدود الله وحرماته، وهي ولايات يبتغيها نشر الحق في أرحب دائرة تستطاع، وبسط العدل في أكبر مجال يمكن وهي ولايات يقتضيها التآزر على إقامة دين الله بعد استبانة هداه والتزام نهجه.

بعد استبانة هداه بالبرهنة القوية، وبعد التزام نهجه بالاختيار الحر.

فهي إذن لا تمس حرية الفكر ولا تطل حرمة الاختيار.


source : http://zainealdeen.com
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

خصائص نظرية المجسمة ق(1)
المُناظرة التاسعة والاربعون /مناظرة السيد محمد ...
البداء والإرادة المُناظرة الخامسة -3
الحثّ على الجهاد
الکفارات في الاسلام
التقية في الاسلام
رسـالة الحـقوق
اثر التقوى في الحياة الزوجية
آل البيت عند الشيعة
رزية يوم الخميس ق (1)

 
user comment