عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

مسألة الرسوم.. حرية تعبير أم عنصرية ثقافية؟!

يتعين التمييز في مسألة اليوم الكاريكاتورية المستهجنة بين ظواهر ثلاث تستدعي وقفة انتباه في خضم الجدل المحتدم راهنا في الإعلامين العربي ـ الإسلامي والأوروبي ـ الغربي.
أما أول الظواهر: فتتعلق بصورة الإسلام ونبيه الكريم في الوعي والمخيال الغربيين، التي تشكلت كما هو معروف في سياق صراعات الحروب الصليبية، واتسمت بالتشويه والسب والقدح، وقد استعادتها الكتابات الاستشراقية الأولى التي ارتبطت غالبا بالمؤسستين التبشيرية والاستعمارية، وتكفي الإشارة هنا إلى كتابي ادوارد سعيد المتميزين (الاستشراق) و(تغطية الإسلام) لضبط عناصر وخلفيات هذه الصورة المشوهة التي تدخل في سياق العلاقة المعقدة بين مساري المعرفة والسلطة أو (الثقافة والامبريالية) -عنوان كتاب آخر لأدوارد سعيد-.
بيد أن ما نريد أن نضيفه هنا هو أن الصورة الايجابية للرسول الكريم (ص) وللدين الإسلامي ارتبطت في تاريخ الفكر الغربي بمرحلة التنوير والتحديث والعقلنة، الا أنها لم تنفذ إلى المخيال العام وللدراسات الاستشراقية المتخصصة.
فالكونت دبونفاليرز رأى في الرسول المعظم (مفكراً حراً لديانة عقلانية)، في حين أهدى له الشاعر الألماني الكبير غوتة قصيدة من أروع شعره تنضح بالحب والتمجيد، واعتبره كارليل أعظم عظماء التاريخ البشري...
ولذا يتعين ألا نعمم الحكم على المفكرين والكتاب الغربيين بأنهم معادون لديننا ونبينا، بل يجب علينا أن نجذر هذه الصورة الايجابية التي غرسها فلاسفة التنوير والحداثة الذين لمسوا في ديننا معاني العقلانية والحرية والتسامح، ورأوا في رسولنا الكريم محرر الانسان ونبي الرحمة والعدل.
وما أحوجنا في هذا الباب إلى كتاب جديد في السيرة النبوية يوجه للعقل الغربي، بحسب المناهج المستحدثة ووفق مقتضيات التواصل والحوار القائمة، في مقابل عشرات الكتب والوثائق المصورة التي صدرت في السنوات الثلاث، بعد أن تزايد الطلب على الكتاب المتعلق بالاسلام وتاريخه وثقافته.
أما الظاهرة الثانية: فتتعلق بنمط ردة الفعل التي واجه بها الشارعان العربي والإسلامي هذه الصور الكاريكاتورية المسيئة لمقام الرسول الكريم، فغني عن البيان أن الاستجابة الغاضبة والاحتجاجات الناقمة ليست سوى ردة فعل طبيعية من أمة استهدفت في أقدس رموزها.
ولا يخفى على أحد أن الشارع المسيحي اهتز قبل سنوات لعرض فيلم فرنسي يسيء للنبي عيسى (ع)، وتم التعرض بالعنف لبعض قاعات السينما التي عرضت الفيلم. فالغضب إذن مفهوم مقبول، لا غبار عليه، ولا يمكن مطالبة المسلمين بالسكوت على هذا الاستهزاء العدواني والسب الجارح.
بيد أن موجة النقمة والغضب لم تخل من تجاوزات خطيرة، خالفت الهدي النبوي في الدفاع عن العقيدة والرسالة بالحكمة وعدم الاعتداء، فلا معنى لنصرة النبي الكريم بحرق الكنائس وتقتيل علماء ورجال الدين والتعرض للسياح والدبلوماسيين.
صحيح أن الإعلام الغربي امتلأ هذه الأيام بمقالات سجالية حادة، أرادت أن تثبت صورة (الطابع الإرهابي) للدين الإسلامي في إطار ما أصبح يطلق عليه ببعض الاسفاف عبارة (الحرب الحضارية).
ومع أن هذه العبارة كثيرا ما ترد في الأدبيات الاستراتيجية في السنوات الأخيرة، إلا أنها تحولت هذه الأيام إلى إحدى البديهيات المحلية لدى أغلب المحللين السياسيين الغربيين، الذين قرأوا في ردة فعل الشارع الإسلامي ضد الصور الكاريكاتورية المسيئة نمطا من الرفض الجذري للنمط الثقافي والمجتمعي الغربي، ودليلا على عجز هذا العالم على استيعاب قيم الحداثة، وفي مقدمتها معيار حرية الوعي والتعبير.
وقد ينجر بعض أقلامنا إلى هذه المقاربة، ويجدون فيها ما يرضي تطلعهم إلى (تكافؤ الثقافتين المتصادمتين) على الرغم أن مثل هذا التكييف خاطئ ومضر بقضيتنا.
فالأمر في الحقيقة لا يتعلق بنموذجين حضاريين متصادمين، وإنما بنمط من العنصرية الثقافية، تستند إلى خلفية مركزية اقصائية، وتتخذ من استهداف الدين ورموزه (الذي ليس جريمة في النسق التشريعي الغربي) آلية تعبئة وصدام.
ومن المثير حقا أن الأقلام الموسومة بالاعتدال التي دافعت عن حق الصحف الأوروبية في نشر هذه الصور استندت إلى أن المرفوض هو سب أو قدح قومية بعينها وليس الدين الذي هو رؤية للوجود لا تتماهى مع مجموعة بشرية بعينها، بينما لا أحد يجهل أن الإسلام يشكل العنصر المحوري في هوية المسلمين (على عكس السياق الأوروبي الذي جذرت فيه التقاليد العلمانية وتجربة الدولة القومية الانفصام بين الإيمان الديني وحقل الانتماء القومي).
أضف إلى ذلك أن الرسوم استهدفت في واقع الأمر مجموعات بعينها متجسدة في بلدان وجاليات، في مرحلة مضطربة عاصفة من تاريخ العلاقات بين الفضائين الإسلامي والغربي، ولذا لا يمكن اعتبار الرسوم المسيئة مجرد تعبير عادي، بل هي إذكاء لنوازع الفتنة والصدام في أرضية متأزمة، مهيأة للانفجار.
أما الظاهرة الثالثة: فتتعلق بواقع حرية الإعلام في البلدان الغربية، الذي لئن كان حقيقة فعلية، إلا أنه يعاني من اختلالات خطيرة نبه العديد من الباحثين في حقل المديولوجيا اليها. فالمفارقة القائمة هي أن تطور وتكاثر وسائل التعبير ووسائط الاتصال واكبه قيام ما دعاه انجاسو رامونيه بـ(استبدادية الاتصال) أي تحكم السلطة الإعلامية في صنع الخبر وتبادله.
ففي الولايات المتحدة الأميركية مثلا تتحكم بعض التكتلات التجارية الصناعة الكبرى في كل وسائل الاتصالات الهامة، مثل تكتل أميركا أون لاين التي اشترت نتسكاب وصحيفة التايمز وشركة وارين بروز وشبكة (CNN).
وفي فرنسا أصبح تاجر السلاح سرج داسو (القريب من اليمين المتطرف) مهيمنا على امبراطورية إعلامية واسعة تشمل مجموعة هرسان التي تصدر عنها صحيفة لفيغارو ومجموعة فيفندي للنشر التي تصدر عنها أكثر من خمس عشرة مطبوعة.
ونلمس الظاهرة نفسها في باقي البلدان الغربية، حيث يمكن القول إن الاعلام تحول الى سلطة مهيمنة تشكل الوظيفة الإخبارية أقل أدوارها أهمية.
وقد بين عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيار بورديو في أعماله الأخيرة خطورة تحكم هذه السلطة في صناعة المعلومة وتشكيل الوعي وإدارة المخيال الجماعي، معتبرا أن البشرية قد تكون مرغمة على إعادة ثورات القرن 18ضد هذه الهيمنة الخطيرة.
ومن المثير أنه في الوقت التي تصدر القوانين التي تحرم التشكيك في رواية تاريخية غدت مقدسة لا تقبل النقاش (المحرقة اليهودية التي لا نشكك فيها بطبيعة الحال). لا قانون يحمي مقدسات الناس ورموزهم الدينية والحضارية بذريعة الذود عن حرية التعبير التي توظف أحيانا في نشر الكراهية والعنصرية.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الألفاظ الدخيلة والمولَّدة
الحجّ في نهج البلاغة -4
مكانة الشهيد
المجالس والبعد السياسي
المهدي المنتظر يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ...
المدلول الاجتماعي واللفظي للنص
﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُُ﴾ ليس دليلاً على ان ...
الأحاديث الشريفة في المهدي المنتظر (عجّل الله ...
فی من نسی صلاة اللیل
رأس الـحسين (عليه السلام)

 
user comment