عربي
Saturday 27th of April 2024
0
نفر 0

الدين والتراث

الدين والتراث

 

 


 

 

 


كنت على الدوام أطرح على نفسي السؤال التالي: ما بين أيدينا تراث أم دين..؟

كان العرف السائد أن ما بين أيدينا هو الدين. وهكذا كنت أتصور لفترة من الزمن. هي فترة نشأتي الفكرية. إلا أنه مع مرور الزمن وحصولي على قدر من الوعي والخبرة أمكن لي أن أتبين الفروق بين التراث والدين..

وتجلت أمام عيني حقيقة ساطعة وهي أن الصراع الفكري المحتدم بين المسلمين إنما هو صراع يقوم على أساس التراث وليس على أساس الدين..

وتبين لي أن الجماعات والتيارات الإسلامية إنما بنت تصوراتها وأصولها الفكرية على أساس أطروحات تراثية وليس على أساس نصوص دينية.

وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في الأصول الفكرية التي يقوم عليها تيار الأخوان والتيار السلفي وتيار الجهاد وحتى التيار الحكومي. ويبدو أكثر وضوحا في ردود هذه التيارات على الجماعات المنشقة عنها والمناوئة لها مثل تيار التكفير. (1) كما يبدو في كم الفتاوي والخطب والمؤلفات السائدة في الوسط الإسلامي والتي تعكس نتاجات واجتهادات ومواقف لفقهاء السلف أكثر من كونها تعكس نصوصا..

من هنا فإن إحساسي بالخديعة وحكمي بالزيف على الأطروحة الإسلامية

 

 


المعاصرة سرعان ما تنامى وقوي بحيث دفعني إلى طرح التراث جانبا والبحث عن الدين من جديد..

وينبغي قبل الخوض في التفاصيل أن نعمل على تعريف مفهوم التراث ومفهوم الدين حتى يمكن التفريق بينهما. فمن دون هذا التفريق يحدث الخلط وتضيع حقيقة الدين..

ما هو الدين..؟

إن الدين هو مجموعة النصوص التي جاء بها الرسول وبلغها للناس. الدين هو حركة اتصال بين الله والإنسان ينتج عنها الالتزام بعقائد وشرائع إلهية..

والكتاب الذي يأتي به الرسول إلى قومه إنما يحوي أصول وقواعد هذا الدين.

فمن ثم تعد مخالفته والطعن فيه خروجا عن الدين وكفرا به.

التوراة تحوي دين اليهود..

والإنجيل يحوي دين النصارى..

والقرآن كما بلغه وبينه يحوي دين المسلمين..

وما دام القرآن يحوي دين المسلمين فهو كما بينه الرسول يعد المصدر الوحيد لهذا الدين وأية محاولة للجوء إلى مصادر أخرى معناه تشوه هذا الدين وضياع معالمه..

وقديما أفتى ابن تيمية بكفر التتار الذين أسلموا لأنهم حكموا في حياتهم " الياثق " بجوار القرآن كما أشرنا في الباب السابق..

والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تنحصر مهمته في تبليغ القرآن وتبيينه للناس (وما على الرسول إلا البلاغ) (سورة النور: 54) وهذا التبيين إنما يكون ضمن حدود القرآن. وحتى يكون هناك التزام من الرسول بهذه الحدود ضبطت حركة نطقه وقيدت بالوحي (وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحى) (سورة النجم: 3 - 4) وذلك من أجل الحفاظ على شكل الدين وقواعده كما أراد الله سبحانه..

إن فهم دور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مقدمة لفهم القرآن.

وفهم القرآن هو معرفة الدين والإحاطة به. ودور الرسول في البلاغ والبيان ينتهي

 

 


بوفاته. أما دور القرآن فهو مستمر إلى قيام الساعة..

والقرآن هو المصدر الوحيد الذي نمسك به بين أيدينا وليس محل خلاف وما دونه من المصادر هي محل خلاف بين المسلمين. وعلى رأسها مصدر السنة أو الأحاديث..

إلا أنه مع المتغيرات والخلافات والسياسات أصبح الذين ينادون بالقرآن متهمون من قبل الفقهاء بالتآمر على الإسلام..

وحيث أن السنة هي تبيين للقرآن فإن هذا التبيين إنما يكون في حدود القرآن ولا يتجاوزه. وعلى هذا الأساس ينبذ كل ما ينسب للرسول مما يخالف نصوص القرآن..

لكن القوم اعتبروا أن كل ما يقوله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتثبت - في نظرهم وعلى حسب قواعدهم - صحته يجب أن يلتزم به المسلمون ويتعبدوا به حتى وإن خالف القرآن..

وثبوت صحة الحديث إنما تقوم على أساس السند عندهم وليس على أي أساس آخر أي ما دام الرواة الذين نقلوا الحديث عدولا ولا غبار عليهم حسب مقاييسهم يكون الحديث صحيحا وتبقى مسألة مخالفته للقرآن إشكالية ظاهرية أو لفظية يمكن التغلب عليها. حتى أن بعض الفقهاء اعتبروا جواز نسخ القرآن بالحديث..

ومثال ذلك أن الفقهاء اعتمدوا عدم جواز نكاح المرأة على عمتها واعتبروا ذلك من المحرمات على أساس حديث وارد عندهم أثبتوا صحته. في حين أن القرآن ذكر المحرمات من النساء بالتفصيل ولم يذكر من بينهم عمة أو خالة الزوجة (2)..

ولا شك إن تبني مثل هذه الرؤية سوف ينعكس على مفهوم الدين ويجعل المسلمين مشتتين بين أحكام القرآن وأحكام الرسول المبينة له وبين أحكام المرويات عن الرسول مما هو مناقض للقرآن ومخالف لأحكامه..

وإذا ما تبين لنا أن مهمة الرسول صلى الله عليه وآله هي تبليغ ما يوحي إليه من ربه.

فيتحدد لنا الدين بالتالي في حدود ولا يجوز للرسول أن يضيف أحكاما فوق أحكام القرآن...

 

 


ما هو التراث؟

إن التراث هو مجموعة الاجتهادات الحادثة على الدين من أقوال وروايات وتفسيرات ويدخل في دائرته الحديث والتأريخ والفقه والتفسير وشتى النتاجات التي تمخض عنها العقل على ضوء الدين..

إن الدين هو الحق..

والتراث هو متعلقات هذا الحق..

الدين ثابت..

والتراث متغير..

الدين لا يؤخذ فيه ويرد..

والتراث محل أخذ ورد..

الدين بلاغ من الله إلى الإنسان..

والتراث اجتهاد بين الفرد والنص..

ومن خالف الاجتهاد لا يكون بالضرورة قد خالف النص..

من هنا ينبغي علينا أن نفرق بين النص. وبين الاجتهاد الحادث عليه..

بين الدين وأقوال الرجال..

بين النصوص القرآنية الشرعية..

وبين النصوص الوضعية الاجتهادية..

وبدون ذلك لن نصل إلى حقيقة الدين..

ولن نعبد الله عبادة صحيحة..

وعندما نتوقف في قبول ما روي عن الرسول مما هو مخالف للقرآن نكون بذلك قد فرقنا بين النص وبين أقوال الرجال..

ولو أنزلنا أقوال الرجال منزلة النصوص نكون قد عبدناهم كما عبد اليهود والنصارى الأحبار والرهبان..

 

 


ونكون قد ساوينا بين التراث والدين..

وهذا ما وقعت فيه التيارات الإسلامية اليوم خاصة تيار التكفير عندما بنت تصورات وأحكاما بالتكفير والحرمة والاستحلال على أساس اجتهادات تراثية وأحاديث نبوية هي محل خلاف ونتج عن هذه التصورات ما نتج من انتكاسات فكرية وحركية للحركة الإسلامية بشكل عام..

وهنا يطرح السؤال التالي: هل النص يسبق الاجتهاد أم الاجتهاد يسبق النص..؟

وتكون الإجابة بالطبع أن النص يسبق الاجتهاد والاجتهاد هو الحادث عليه..

وإذا ما طبقنا هذه القاعدة على جميع الأطروحات الإسلامية على مستوى الماضي والحاضر فإننا سوف نتوصل إلى معرفة الحق بسهولة..

وسوف نضرب على ذلك مثالا من خلال محاوراتنا مع تيار التكفير في فترة السبعينات. كان تيار التكفير يقول بتكفير المصر على المعصية..

وكان يقول بكفر مرتكب الكبيرة..

وكان يقول بكفر المقلد..

وكان يقول بانحصار الحق في دائرته..

ويقول بوجوب الهجرة..

وأمام هذه الأقوال طرحنا السؤال التالي:

هل هذه الأقوال نصوص. أم اجتهادات على ضوء النصوص..؟

فإن زعم المكفرون أنها نصوص يكونون بذلك قد كفروا وخرجوا من دائرة الإسلام. فليست هناك نصوص قرآنية أو حتى نبوية تقول بذلك..

وإن زعموا أنها اجتهادات. فمعنى ذلك أنها تدور في مجال القبول والرفض.

وتخضع للأخذ والرد. فمن ثم هي ليست ملزمة للمسلمين..

والتكفير أو حتى التحريم على أساس الاجتهاد إنما ينزل هذا الاجتهاد منزلة

 

 


النصوص. وبالتالي يدخل في دائرة الكفر كل من التابع والمتبوع..

وهذه هي متاهة الأحبار والرهبان التي أضاعت اليهود والنصارى من قبل وقد وقع فيها المسلمون اليوم بتبنيهم أقوال الرجال بدلا من تبنيهم النصوص..

فتيار التكفير عندما حاول أن يحرر أتباعه من إتباع أقوال الرجال وتقليدهم وقع في الإتباع والتقليد من باب آخر. إذ نقل أتباعه من تقليد المذاهب وفقهاء السلف إلى تقليد مذهبه واتباع اجتهادات شكري مصطفى مؤسس التيار وباعث أطروحته..

كل ما في الأمر أن مجموعة من المسلمين انتقلت من إتباع فقهاء يقولون بأن المصر على المعصية ومرتكب الكبيرة والمقلد ورافض الهجرة ليس بكافر. إلى اتباع من يقول بكفر مرتكب ذلك..

والتزاما بالقاعدة التي ابتدعها تيار التكفير وهي: من قلد كفر. يكون هذا التيار قد كفر وارتدت أطروحته في نحره..

وفقهاء السلف لم يقل أحد منهم أن قوله أو اجتهاده ملزم للمسلمين. وأن مخالفته تدخل المسلم في دائرة الكفر. بينما قال هذا الكلام تيار التكفير اعتقادا منه أن كلامه هو النص..

ولو تبنى المسلمون قضية الفصل بين النصوص وأقوال الرجال معتبرين أن النصوص هي الأصل وأن الاجتهاد حادث عليها مع جميع أطروحات التراث لأمكن جلاء الحقيقة وإظهار الدين في صورته النقية الصافية. إلا أن هذه القاعدة لا يمكن تطبيقها والرجال فقهاء وساسة متربصون بالنصوص وبكل محاولة لتحريرها من قيودهم.

الحق والباطل

ليس في الإسلام مذهبية..

ليس هناك ما يسمى بشيعة أو سنة أو شافعية أو مالكية أو أحناف أو حنابلة..

فكل هذه تسميات تأريخية من اختراع السياسة (3)..

 

 


والحق أن هناك إسلام حق وإسلام باطل..

إسلام رباني وإسلام حكومي..

والذي ساد على مر التاريخ هو الإسلام الحكومي..

والذي ضرب واختفى هو الإسلام الرباني..

إن الأسماء والمسميات لا مجال لها هنا. فالمهم هو الحق. وأمام الحق تتلاشى الأسماء والمسميات ويبدأ التركيز على الجوهر..

والبحث عن الحق يوجب تتبع النص لا تتبع أقوال الرجال..

تتبع النص سوف يقود إلى الحق..

وتتبع الرجال سوف يجعل هناك وسائط بين الباحث والنص. وسوف يجعل الباحث رهين الرجال لا رهين النص..

إن النص هو المعيار وهو مناط التكليف. والمسؤولية إنما تقع على كاهل المسلم بالنص. وحسابه يقوم على النص. ونجاته من النار كذلك..

والنص هنا يقصد به النص القرآني أو النبوي الصحيح الموافق للقرآن والعقل فيما يتعلق بمجال الغيبيات والإتباع والسياسة والأخلاق وأصول الدين والولاء والبراءة وخلاف ذلك غير النصوص المتعلقة بالأحكام فهذه محل اجتهاد وتتباين أمامها الأفهام ولها أهلها ممن تتوافر فيهم القدرات العلمية وشروط الاجتهاد..

النصوص المتعلقة بقضايا الدعوة ومستقبل الدين، وأصوله والولاء والبراء وتحديد مصدر التلقي والقدوة والسلوك الإنساني والنجاة من النار لا يجوز التقليد فيها. ومن حق المسلمين أن يعملوا فيها عقولهم من أجل الوصول إلى الحق..

وما ضلت الأمة إلا بتعطيل العقل وتسليم زمامها لفقهاء الماضي وفقهاء الحكومات من المعاصرين لتتلقى منهم دينها دون أن تميز بين ما يجب فيه التقليد وما لا يجب فيه التقليد..

ولو أتيحت الفرصة للمسلمين ليفهموا النصوص المتعلقة بالجهاد والسياسة والحكام ومستقبل الدعوة والقدوة الحقة بمعزل عن الفقهاء لكان من الممكن أن تتكون في أذهانهم صورة الإسلام الحقة التي سوف يجعلونها مقياس الحكم على

 

 


هؤلاء الفقهاء وأمثالهم. لكنهم جعلوا هؤلاء الفقهاء وسيلتهم لفهم هذه النصوص وبالتالي جعلوا أنفسهم رهينة لخط محدد هو الخط الذي رسمه الحكام بمعونة هؤلاء الفقهاء (4)..

من هنا فإن التحرر من هذا الخط هو الخطوة الأولى للوصول إلى الحق. ولن يتحقق هذا التحرر إلا عن طريق النصوص. فهذه النصوص هي التي سوف تحدد لنا القدوة الحسنة التي يجب أن نتبعها ونتلقى منها ديننا من القدوة السيئة التي من الممكن أن نسقط في حبائلها فيما لو نحينا النصوص جانبا وعطلنا العقل..

وعندما تحدد النصوص من هم القدوة ومصدر التلقي تحسم القضية وينتهي الخلاف ويتوجب الالتزام. فهذه القدوة سوف تكون مناط الحق والمعبرة عنه والناطقة بلسانه..

ومن خلال بحثي وتأملاتي تبين لي أن هناك قدوة سيئة سادت الأمة من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ومنها برزت جميع الأطروحات التي موهت على حقيقة الإسلام وزيفت النصوص وحجبت بأقوالها وتفسيراتها حقيقتها عن الأمة. وبالتالي أسهمت في تمكين الباطل وإضعاف الحق واختراع سبل متفرقة أضلت الأمة عن سبيل الله..

وعندما يتم الكشف عن القدوة الحقة سوف تتضح أمامنا القدوة الباطلة والحكم في ذلك إنما يكون للنصوص وليس للرجال..

وتبرز لنا أهمية القدوة وكونها قضية مصيرية حين يتبين لنا أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو خاتم الرسل وأن هذا الختم يفرض وجود قدوة حسنة تحفظ الدين من بعده وتسد الفراغ الذي أحدثه غيابه في واقع الأمة. وهذه القدوة يجب أن تتوافر بها مؤهلات خاصة لتأدية هذه المهمة تميزها عن الآخرين حتى لا يقع النزاع وتستقطب الأمة قدوات أخرى تقودها نحو الباطل..

وقد شغلتني هذه المسألة كثيرا أو شكلت حيرة كبيرة بالنسبة لي. في وسط هذه الحيرة كانت هناك تساؤلات كثيرة لا أجد لها إجابة في الأطروحة أو في التراث الذي بين أيدينا أول هذه التساؤلات كان في تحديد ماهية الحق بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟.

 

 


هل هو ينحصر في القرآن؟.

وإذا كان ينحصر في القرآن فأين التفسير الحق لهذا القرآن؟.

ولقد تتبعت تأريخ القرآن فلم أجد جوابا بل زدت شكا وحيرة بسبب الطريقة التي تم بها جمع القرآن. والخلافات التي وقعت بين الصحابة حول جمعه وتفسيره (5)..

وزاد الطين بلة تلك الروايات الكثيرة التي تتعلق بآيات من القرآن لم تدون فيه أو تم رفعها وبقي حكمها أو بقى نصها ورفع حكمها (6)..

إن مثل هذا الخلاف حول القرآن قد ولد لدي قناعة بأنه لا بد وأن تكون هناك جهة ما تحسم هذا الخلاف وأن هذه الجهة لا بد وأن تكون هي القدوة الحسنة..

ولكن من هي هذه القدوة؟.

ولماذا لم تبرز لتؤدي دورها في حفظ الدين؟.

إن أمة العرب كأي أمة سابقة لها لا بد وأن ينطبق عليها حال هذه الأمم. ومن المعروف أن الأمم السابقة كانت تمر بحالة تراجع عن الدين (ردة) بعد رحيل الرسول الذي كلف بالدعوة فيها مما كان يقتضي إرسال رسول جديد. فما الذي سوف يقوم هذا الانحراف؟..

لا بد وأن هناك قدوة حسنة تحل محل الرسول من بعده ترجع إليها الأمة؟.

وإذا كان موسى (ع) عندما غاب عن قومه ليأتي بالألواح وضع أخاه هارون مكانه ليخلفه في قومه حتى يعود إليهم. أليس من الأولى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفعل نفس الشئ في قومه خاصة وأنه يعلم أنه لا نبي بعده؟.

قد يطرأ على الذهن أن الرسول قد ترك القرآن الذي تكفل الله بحفظه إلى قيام الساعة وهذا وحده كاف لسد الفراغ الذي أحدثه غيابه. والقرآن هو أفضل قدوة..

وأمام هذا الاستنتاج تطرح تساؤلات أخرى:

إن الرسل قد تركوا كتبا بين أقوامهم قبل رحيلهم ومع ذلك انحرفت هذه الأقوام. وبنوا إسرائيل على وجه المثال حرفوا الكلم عن مواضعه. أي أن

 

 


انحرافهم تجاوز حدود السلوك الشخصي إلى تحريف الكتاب الذي ورثوه عن الرسول. وهذا يدل على أن الكتاب وحده لا يكفي لضبط حركة الأمة من بعد الرسول فلا بد أن تكون إلى جواره قوة تنفيذية مميزة ترجع إليها الأمة حال الخلاف والانحراف؟..

هذه القوة هي الفئة المصطفاة من الأمة التي ترث الكتاب من بعد الرسول كما هو حال الأمم السابقة..

وهي ما يتضح من خلال قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (فاطر: 32) فلو كان الكتاب وحده يكفي ما أورثه سبحانه للفئة المصطفاة التي هي القدوة من بعد الرسول.

والقرآن لم يحسم الخلاف والردة التي وقعت بعد وفاة الرسول مباشرة وإنما حسم هذا الأمر بواسطة السيف. فالقرآن حاله كحال الكتب السابقة له لا بد وأن تنحرف عنه الأمة. وهو لم يحكم في الخلافات التي وقعت حول مسألة الخلافة.

كما لم يحكم في مواجهة القبائل التي اعتبرت مرتدة وقوتلت على هذا الأساس. ولم يحكم في قضايا أخرى كثيرة (7)..

وبالإضافة إلى الخلاف الذي وقع حول جمعه بين الصحابة. يمكن طرح السؤال التالي:

أن القرآن الذي تركه الرسول لم يحل دون وقوع الردة والخلاف. فهل هذه الردة وقعت بسبب الانحراف عن القرآن أم الانحراف عن القدوة؟..

أن التاريخ يجيب مؤكدا أن السبب المباشر لهذه الردة كان بسبب الانحراف عن القدوة وليس بسبب القرآن..

فالذين منعوا الزكاة كانوا مسلمين..

والرافضون بيعة أبي بكر كانوا مسلمين (8)..

فهم كانوا مسلمين ملتزمين بالقرآن مؤمنين به إلا أن هذا الإيمان وهذا الالتزام لم يحل دون انحرافهم..

من هنا بدأت رحلة البحث عن هذه القدوة المتميزة. وهذه الرحلة كان

 

 


اعتمادي وزادي فيها هو النصوص فهي الحكم الوحيد بين أيدينا للخلاص من متاهات الرجال والوصول إلى الحق..

إن الحق إنما يعرف بالنص لا بالرجال. والرجال إنما يعرفون بالحق لا العكس. وما دمت معتقدا أن النص فوق الرجال فقد تكشفت أمامي معالم الطريق.

التراث السني والتراث الشيعي

هناك عدة قضايا مشتركة بين التراث السني والشيعي..

وهناك أيضا عدة قضايا تفرض التباعد وعدم التلاقي..

وأثناء رحلتي الطويلة مع التراث كانت تستوقفني الكثير من الروايات والاجتهادات والأقوال التي تبعث الشك في نفسي على مستوى تراث السنة وتراث الشيعة..

كان التراث السني يحمل كما كبيرا من الروايات المختلقة والموضوعة..

والتراث الشيعي كذلك..

وكان التراث السني يحمل داخله عدة أطروحات مختلفة ومتناحرة..

والتراث الشيعي كذلك..

إذن ما الذي يميز تراثا عن الآخر؟..

والإجابة على هذا السؤال تقتضي أن نحدد ملامح الخلاف بين التراثين..

أن التراث السني يعتمد على الصحابة..

بينما التراث الشيعي يعتمد على آل البيت..

والتراث السني يتبنى التعايش مع الحكام..

بينما التراث الشيعي يرفض هذا التعايش..

التراث السني تغلب عليه أقوال الرجال..

بينما التراث الشيعي يغلب عليه النص..

 

 


التراث السني نتج من حالة سلام مع الواقع..

بينما التراث الشيعي في حالة صدام معه..

التراث السني يضيق على العقل..

والتراث الشيعي يحترم العقل..

وبهذه المقارنة يتضح لنا مدى الهوة التي تباعد بين التراثين. إلا أن التراث الشيعي كحال أي تراث لا بد وأن تطرأ عليه متغيرات نتيجة لتراكم الأقوال والاجتهادات النابعة منه بحيث يصبح متشابها إلى حد كبير مع التراث السني..

من هنا برزت الروايات الموضوعة عند الطرفين..

وبرزت المذاهب في إطار الفكر الواحد..

أبرز التراث السني الكثير من الروايات التي ترفع من قدر الصحابة وتضخم بعضهم وأبرز التراث الشيعي الكثير من الروايات التي ترفع من قدر آل البيت وتضخمهم وعند كلا الطرفين ظهر الوضع والاختلاق..

ولقد تبين لي أن القاعدة التي وضعت من قبل الشيعة لضبط حركة الرواية ووقف عملية الوضع والاختلاق هي أدق وأكثر ارتباطا بالنص من قاعدة السنة..

قاعدة الشيعة تنص على أن الحديث الذي يخالف القرآن والعقل يضر ب به عرض الحائط. بينما قاعدة السنة تعتمد على علم الرجال والبحث في سند الرواية..

قاعدة الشيعة تركز على متن الرواية..

بينما قاعدة السنة تركز على سندها..

وعلى ضوء قاعدة الشيعة تم نبذ الكثير من الروايات في التراث الشيعي ومحاكمة الروايات الأخرى ووضعها تحت دائرة الضبط والتنقيح..

وعلى ضوء قاعدة السنة تم اعتماد الكثير من الروايات رغم مخالفتها لنصوص القرآن ومصادمتها للعقل بسبب أن سند هذه الروايات سليم ورجاله رجال الصحيح. أي أنه ما دامت قد ثبتت عدالة الرواة فقد ثبتت صحة الرواية ولو

 

 


كانت تخالف القرآن..

إن قاعدة الشيعة سوف ينتج عنها غربلة التراث وتنقيحه. بينما قاعدة السنة سوف ينتج عنها إبقاء التراث على حاله وزيادة حدة التباعد بينه وبين القرآن والعقل..

ولقد كان تبني الشيعة لقضية الإمامة قد ميز التراث الشيعي عن التراث السني وأوجد الكثير من الاجتهادات والمواقف التي انعكست على الفقه والعقيدة والتصور الشيعي بشكل عام. ومن أبرز نتائجها حصر مصدر التلقي في دائرة آل البيت المقصودين بالإمامة. ورفض الخطوط الأخرى التي خالفت نهجهم وعلى رأسها خط الصحابة الذي أرسى دعائمه أبو بكر وعمر..

وأهم ما سوف ينبني على قاعدة تحكيم القرآن والعقل هو تحجيم دور الرجال وعزل أقوالهم عن النصوص والحيلولة دون طغيان هذه الأقوال عليها. وهي من أهم مميزات التراث الشيعي على التراث السني الذي بفقده هذه القاعدة تغلب الرجال على النصوص. إن عزل القرآن والعقل عن التراث والحيلولة دون أن يقوما بدورهما كحكمين عليه إنما هي مؤامرة على الإسلام من اختراع السياسة الهدف منها إمرار الروايات المختلقة والموضوعة التي سوف تسهم في صياغة الإسلام وطمس هويته الحقة وإبدالها بهوية زائفة تخدم مصالح الحكام وتضفي المشروعية عليهم..

تحكيم القرآن والعقل يعني الانتماء للنص لا للتراث..

والنص هو الحكم على التراث وليس العكس..

من هنا فإن الرجال عند الشيعة إنما هم تحت النصوص وليسوا فوقها.

وهذا ما استراح إليه عقلي واطمأنت به نفسي إنني عندما تبنيت الأطروحة الشيعية لم أستبدل تراثا بتراث. ولم أنتقل من عبادة رجال إلى عبادة رجال..

عندما التزمت بخط آل البيت (ع) إنما التزمت بخط النص لا بخط الرجال..

 

 


____________

(1) - أنظر كتاب دعاة لا قضاء الذي صدر عن جماعة الأخوان في مواجهة تيار التكفير. وانظر كتابنا الحركة الإسلامية في مصر.

(2) - نص الحديث هو (لا تنكح المرأة على عمتها أو خالها) البخاري كتاب النكاح.

(3) - يقف الحكام على الدوام وراء جميع النزعات المذهبية بهدف تشتيت الأمة سيرا مع مبدأ فرق تسد.

(4) - أنظر الفصول القادمة من هذا الكتاب.

(5) - أنظر باب القرآن من هذا الكتاب.

(6) - أنظر باب القرآن.

(7) - أنظر كتابنا السيف والسياسة وكتب التاريخ.

(8) - أنظر المراجع السابقة.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

آثار ونتائج نهضة أبي عبدالله (عليه السلام)
منهاج الإمام الحسين في الإصلاح
استحباب مواساة المومن بالمال
حالة الحسين بعد مقتل مسلم
أين يقع غدير خُمّ؟
مكانة السيدة المعصومة (عليها السلام)
ابن عباس: مدرستُه، منهجه في التفسير
من معاجز أمير المؤمنين عليه السّلام
من كنت مولاه فهذا علي مولاه
دعاء الموقف لعلي بن الحسين ع

 
user comment