عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

المنهج الجديد لدى سيد قطب

المنهج الجديد لدى سيد قطب:

إنّ التدقيق في العبارات التالية يبين مدى اختلافها عن التراث الفقهي والكلامي والتجربة الدينية لأهل السنّة على مرّ التاريخ، من حيث اُسلوب التحليل، وكيفية التقويم، ومفهوم الإسلام، والأهداف المتوخاة، والروح الحاكمة عليها.

«نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كلّ ما حولنا جاهلية... تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية ، وتفكيراً إسلامياً، .. هو كذلك من صنع هذه الجاهلية!!».

«ثم لابدّ لنا من التخلّص من ضغط المجتمع الجاهلي والتصورات الجاهلية والتقاليد الجاهلية والقيادة الجاهلية.. في خاصة نفوسنا.. ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلي ولا أن ندين بالولاء له. فهو بهذه الصفة.. صفة الجاهلية.. غير قابل لأن نصطلح معه. إنّ مهمّتنا أن نغير من أنفسنا أولاً لنغير هذا المجتمع أخيراً.

إنّ مهمتنا الاُولى هي تغيير واقع هذا المجتمع. مهمتنا هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه. هذا الواقع الذي يصطدم اصطداماً أساسياً بالمنهج الإسلامي، وبالتصور الإسلامي، والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي أن نعيش»([1]).

«الإسلام لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات.. مجتمع إسلامي. ومجتمع جاهلي.. (المجتمع الإسلامي) هو المجتمع الذي يطبَّق فيه الإسلام، عقيدة وعبادة، وشريعة ونظاماً، وخلقاً وسلوكاً.. و(المجتمع الجاهلي) هو المجتمع الذي لا يطبَّق فيه الإسلام، ولا تحكمه عقيدته وتصوراته، وقيمه وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه..

ليس المجتمع الإسلامي هو الذي يضمّ اُناساً ممن يسمون أنفسهم (مسلمين)، بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون هذا المجتمع، وإن صلّى وصام وحج البيت الحرام! وليس المجتمع الإسلامي هو الذي يبتدع لنفسه إسلاماً من عند نفسه غير ما قرّره الله سبحانه وفصله رسوله 9. ويسميه مثلاً (الإسلام المتطور)!

والمجتمع الجاهلي قد يتمثّل في صور شتّى كلها جاهلية: قد يتمثّل في صورة مجتمع ينكر وجود الله تعالى، ويفسّر التاريخ تفسيراً مادياً جدلياً، ويطبّق ما يسميه (الاشتراكية العلمية) نظاماً. وقد يتمثل في مجتمع لا ينكر وجود الله تعالى، ولكن يجعل له ملكوت السماوات، ويعزله عن ملكوت الأرض؛ فلا يطبّق شريعته في نظام الحياة، ولا يحكّم قيمه التي جعلها هو قيماً ثابتة في حياة البشر، ويبيح للناس أن يعبدوا الله في البيع والكنائس والمساجد، ولكنه يحرم عليهم أن يطالبوا بتحكيم شريعة الله في حياتهم. وهو بذلك ينكر أو يعطّل إلوهية الله في الأرض، التي ينص عليها قوله تعالى: )وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَه(([2]). ومن ثم لا يكون هذا المجتمع في دين الله يحدده قوله: )إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ(([3]) . وبذلك يكون مجتمعاً جاهلياً، ولو أقر بوجود الله سبحانه، ولو ترك الناس يقدمون الشعائر له في البِيَع والكنائس والمساجد.

(المجتمع الإسلامي) بصفته تلك هو وحده (المجتمع المتحضر)، والمجتمعات الجاهلية بكل صورها المتعددة مجتمعات متخلّفة! ولابد من إيضاح لهذه  الحقيقة الكبيرة»([4]).

«إنّ الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، لا من ناحية التصور، ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور.. فإمّا إسلام، وإمّا جاهلية. وليس هناك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية، يقبله الإسلام ويرضاه.. فنظرة الإسلام واضحة في أن الحق واحد لا يتعدّد، وأنّ ما عدا هذا الحقّ فهو الضلال. وهما غير قابلين للتلبس والامتزاج. وأنه إمّا حكم الله، وإمّا حكم الجاهلية، وإمّا شريعة الله، وإمّا الهوى.. والآيات القرآنية بهذا المعنى متواترة كثيرة.

)وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ (([5]).... فهما أمران لا ثالث لهما، إمّا الاستجابة لله والرسول، وإمّا اتّباع الهوى..»([6]).

«وقيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد وردّه إلى الله وحده... وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية.. كل اُولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان؛ لأنّ المتسلطين على رقاب العباد، والمغتصبين لسلطان الله في الأرض لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتاريخ هذا الدين على مرِّ الأجيال!

إنّ هذا الإعلان العام لتحرير (الإنسان) في (الأرض) من كل سلطان غير سلطان الله، بإعلان إلوهية الله وحده وربوبيته للعالمين لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً.. إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً..إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك.. ومن ثم لم يكن بدّ من أن يتخذ شكل (الحركة) إلى جانب شكل (البيان).. ذلك ليواجه (الواقع) البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكلِّ جوانبه»([7]).

اقتطفنا الفقرات الطويلة أعلاه من كتاب سيد قطب، لأهميتها في توضيح هذا البحث والبحوث الاُخرى. وفي الحقيقة لا يمكن معرفة الاُسس العقائدية والفكرية والسياسية للحركة الإسلامية عند أهل السنّة إلا بعد فهم هذا الكتاب واستيعابه جيداً. والمثير أن هذا الكتاب أثّر بشكل أو بآخر حتى على اُولئك المجاهدين ممن هم على غير فكره ومذهبه، إذ بدؤوا من حيث بدأ وبنفس المنهج والسياق تقريباً، بفارق الاختلاف في المصادر وحجّيتها.

أهـميّة فكر سيّد قطب:

ليس السبب الرئيسي في هذه الظاهرة هو عظمة سيد قطب أو فكره، فلا شك في أنه مفكّر مبدع ومخلص وأصيل، فالمسألة وقبل أن تعود إلى شخصيته وفكره ترجع إلى أنّ أحداً لم يستطع أن يطرح من نقطة اُخرى الأفكار السياسية والثورية الإسلامية بدون نفي قداسة الصدر الأول، والمراد منه: عصر الخلفاء الراشدين؛ ذلك أنه ينتقد بشدة معاوية وبني اُمية والفترات اللاحقة، بل وينتقد عثمان أحياناً. فقد فتح سيد قطب طريقاً جديداً لابدّ للآخرين من طويه طالما لم يفتح طريق غيره([8]).

منذ اللحظة التي وُزّع فيها الكتاب وحتى يومنا هذا انتقده الكثيرون لدوافع وأسباب مختلفة دينية وغير دينية، ولكن رغم تلك الانتقادات أصبح هذا الكتاب أوثق مصدر إسلامي يستلهم منه الشبّان المسلمون نظرية إسلامية ترشدهم إلى منهج حركي ثوري، خاصة بعد التحولات السريعة التي شهدتها العقود الأخيرة.

لقد حظي سيد قطب بترحاب كبير من قبل الشبّان، ولا سيما في كتابه هذا بسبب الفراغ الموجود في الفكر الإسلامي الثوري في المجتمع السني والتاريخ السني على وجه الخصوص، وأن الحاجة لمثل هذه الأفكار هي حاجة حقيقية، وحينما لا يوجد من يعرضها سواه فإنّ الأنظار تتّجه نحوه بشكل طبيعي.

فضلاً عن ذلك كيف يمكن لسيد قطب أو أي مفكّر ملتزم آخر أن يخترق هذا السدّ المنيع ويبحث عن الجواب من مجموعة كانت اُصولها بل أجزاؤها في تعارض مع الجواب المطلوب بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وإذا كان المقرر له أن يبقى هذا السدّ بمنأىً عن النقد التاريخي فأي طريق سيؤدي إلى الجواب الشافي غير طريق سيد قطب أو السبل المشابهة له؟

وقد انتقد عامة المنتقدين الإسلاميين سيد قطب لإطلاق صفة الجهالة على المجتمع الإسلامي واعتباره داراً للحرب، إلا أنهم لم يفكّروا بالمنطلقات الفكرية والاعتقادية المنبعثة من الحاجة الحقيقية للجيل المعاصر التي دفعته بهذا الاتجاه. فالأصل برأيه ورأي أتباعه ومن ينحو منحاه في التفكير العثور على الجواب المناسب. وبلحاظ هذا الأصل فأيّ طريق آخر كان باستطاعته أن يسلكه ليحقق له الهدف المطلوب؟

إنه كان يهدف إلى إيجاد «طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق، تمضي في خضمّ الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعاً، تمضي وهي تزاول نوعاً من العزلة من جانب، ونوعاً من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة.

ولابدّ لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من (معالم في الطريق)، معالم تعرف منها طبيعة دورها، وحقيقة وظيفتها، وصلب غايتها، ونقطة البدء في الرحلة الطويلة.. كما تعرف منها طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعاً...أين تلتقي مع الناس؟ وأين تفترق؟ ما خصائصها هي؟ وما خصائص الجاهلية من حولها؟ كيف تخاطب أهل هذه الجاهلية بلغة الإسلام وفيمَ تخاطبها؟»([9]).

في تقويم حياديٍّ لابدّ أن نقول: إنّ سيد قطب كان في مجموع تحرّكه موفّقاً بلحاظ القيود الاعتقادية والضغوط والضرورات التي كان يعيش في ظلّها ويفكر بها، لكنّ المنتقدين لم يأخذوا بنظر الاعتبار هذه القيود والإلزامات الاعتقادية، أو أنهم تجاهلوا الضغوط والضرورات التي كان يواجهها.

هنا لا نهدف إلى دراسة نظريات سيد قطب وتقويمها، وإنما استشراف ردود فعل الفقه والكلام السنّي والتكوين الاعتقادي والفكري المنبعث منه حيال الأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية الحادّة. وقد تعرضنا لدراسة بعض آرائه والنقطة التي بدأ منها فكره الإسلامي الثوري وسبب انطلاقه من هذه النقطة، لأنه يمثّل النموذج الحي لهذا التعامل الشرعي الملتزم والثوري. فلكي يبرهن على الضرورة الدينية في نفي النظام الحاكم المسلَّط على مجتمعه اضطر للانطلاق من هذه النقطة وتنظيم إيديولوجية اعتماداً عليها([10]).

تخطئة النقد التاريخي:

تتماثل النتيجة الثانية إلى حدٍّ ما مع الاُولى، لكنها تختلف معها في كيفية تأثيرها على التاريخ والوضع الموجود، لهذا فضّلنا دراستها على انفراد.

إنّ النتيجة الطبيعية والمنطقية للاعتقاد بالاعتبار الديني والمنـزلة الإلهية للصدر الأول على الرغم من تناقضاته الكثيرة هو تخطئة النقد التاريخي الديني، بمعنى الإذعان بأن مسلمي هذه البرهة كانوا من الأخيار دون التحقيق في ذلك، وقد عمل كل منهم بمسؤوليته التي يستحق عليها الثواب والجنة، ولا يحق لنا الخوض في تفصيلات سلوكياتهم والاستفسار عنها. ولّدت هذه العقيدة وبصورة مباشرة نوعاً من التحفّظ النفسي والاعتقادي حيال صحابة الرسول 9، وحينما نشأت هذه الحالة لم تعد محدودة بالصحابة وزمانهم، بل شملت كل التاريخ الإسلامي، وهذا يتناقض مع روح التحقيق والدراسة في مجال تشخيص الصلاحيات الدينية والفصل بين الحق والباطل، وهو ما عبّرنا عنه بالنقد التاريخي الديني.

لم يواجه الشيعي مثل هذا المحظور، فهو ينظر إلى تاريخ صدر الإسلام نظرة انتقادية مثلما ينظر إلى كل التاريخ الإسلامي، وينتقد المسلمين المنحرفين بعد الصدر الأول بنفس الشدة والجرأة التي ينتقد فيها المنحرفين من المسلمين الأوائل، ولهذا لم يكن من المشكل عليه أن ينتقد مثلاً يزيد ومروان وعبد الملك وهشام والمنصور وهارون و المتوكّل والحجّاج وابن زياد وحتى الفقهاء والمحدِّثين من علماء السوء بسبب الأعمال التي اقترفوها، بل يتعدى الأمر عند الشيعي هذه الحدود، لأنه يضع الحقّ والباطل معياراً له، فيستطيع أن يعرض حتى الشيعي على هذا المعيار، فتراه ينتقد شخصية كالشاه عباس، بل وكل الملوك من الشيعة من الديالمة والصفوية والأفشارية والزندية والقاجارية.

بالطبع وكما قلنا فإن كيفية فهم المذهبين لصدر الإسلام ليس العامل الوحيد في تحديد الموقف لكنّه يعتبر أحد أهمّ هذه العوامل وأكثرها تأثيراً. فمن المستحيل أن يَقدِم السني وبدافع ديني على انتقاد ملك كالشاه عباس بين صفوف أهل السنّة، وهذا هو بيت القصيد، حيث يستطيع أي شخص أن يبدي رأيه في مجتمعاتنا المعاصرة ، ويمكن لأي كاتب أو طالب أن يشكّك في كلّ المقدسات الدينية، لكن لا يستطيع أي إنسان ملتزم أن يتجاوز الحدود والضوابط الشرعية التي يعتقد بها رغم الانفتاح الاجتماعي ويشكّك بها دون دليل وحجة شرعية معتبرة. على أية حال فالمراد هو أنّ أيّ سنّي ملتزم لا يمكنه أن ينتقد بصراحة شخصية بمستوى الشاه عباس أو أقل منه أهمية؛ لأنه يشكِّل مخالفة صريحة للاُسس الكلامية والفقهية المتفق عليها عند أهل السنّة([11]).

ويترتب على هذا آثار وتبعات كثيرة تتجاوز الإطار الفقهي والكلامي؛ ذلك أن النتائج التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية في عصرنا الراهن تعتبر أكثر أهمية، ويختلف مفهوم التاريخ الديني والوطني والقومي والطائفي عند الشيعة والسنّة، إذ يحظى التاريخ بما هو تاريخ ( والمراد به هنا تاريخ الإسلام) بقيمة خاصة لدى أهل السنّة لا يمكن تجاهله أبداً مما لا وجود له بين الشيعة، فإذا لم يكن تاريخ الإسلام مقدساً عند السنّي (وعلى عكس الشيعي بالضبط) فإنه تاريخ لا يمكن أن يُمسَّ بالنقد على الأقل. ورغم أن أهل السنّة بعامة يطمحون إلى إضفاء صفة القداسة والإنسانية على ماضيهم، لكن لو وجد من يرفض هذا المنطق فإنه لا ينتقد هذا التاريخ من موقع ديني، ولا يعتبره تاريخ ظلم وجور وهوى لدى الخلفاء والحكام والسلاطين([12]).

على أية حال، فإن التاريخ إذا لم يكن برأي أهل السنّة جديراً بالفخر فهو لا يستحق الانتقاد، وعلى هذا فإن الشعور التاريخي لديهم أقوى بكثير من الشعور التاريخي عند الشيعة، ذلك أن من يندد بالتاريخ مسبقاً لا يستطيع أن يخصص له منـزلة معيّنة. ويرى أهل السنّة التاريخ مجموعة من الأحداث الباعثة على الفخر لكونهم لا ينظرون إلى سلبياته، ويمثّل هذا التاريخ تاريخ الدين وتاريخ العظمة والرفعة وتاريخ الفتوحات والجهاد وتاريخ الفتوة والمروءة وتاريخ العلماء والمفكرين وتاريخ الشعراء والفنانين وتاريخ الثقافة والحضارة، وأخيراً تاريخ الخلفاء والسلاطين الأقوياء العظماء، وحتى تاريخ ألف ليلة وليلة وأساطيرها، اُولئك الذين كانوا رمز قدرة الإسلام والمسلمين وسطوتهم وكيانهم([13]). أما الشيعة فانهم ينظرون إلى التاريخ بنقاطه السلبية، فيتنفرون منه ويفرّون (وينطبق هذا حتى على تاريخهم أي تاريخ السلاطين الشيعة)، فيعتقدون أن هذا التاريخ هو تاريخ الظلم والجور، وتاريخ القتل وسفك الدماء، وتاريخ الاستبداد والجبروت، وتاريخ انعدام الدين والتفريط به، وتاريخ الرياء والتزوير، وتاريخ التملّق والمداهنة، وأخيراً تاريخ الضحايا المجهولين الذين سحقوا تحت أقدام الجبابرة ودفنوا تحت القصور المنيفة. فأحدهما ينظر إلى التاريخ من نافذة عظمته وجلاله، والآخر من زاوية عدالته ودينه، ويحق لنا أن نقول على الأقل: إنّ كلاً منهما اختار في عقله الباطن هذه الضابطة بحق أو بغير حق، وأخذ يسعى إلى المبالغة فيما هو حسّاس تجاهه وتصوير الماضي حسب ما يقنعه([14]).

ونلاحظ كم هو الفارق بين التصويرَين، والكلام هنا لا يدور حول الموقف الحق أو الأقرب إلى الحق أو أن كليهما بعيدان عن الحق بنفس المسافة، إنما المراد منه اختلاف النتائج المترتبة على هاتين النظرتين، ومن أهمها: أن التاريخ السني أكثر استمراراً واستقراراً من التاريخ الشيعي (المقصود هو تاريخ القوى الشيعية المستقلة)، فلا يُنفى الماضي عند أهل السنّة، والحاضر استمرار له، والشيعة على عكس ذلك إذ تنقطع هذه الصلة عندهم، ولا يمكن أن تعثر حتى بين أكثر الحركات الثورية الإسلامية الموجودة تطرفاً حركة ترسي أساسها على النفي المطلق للماضي، ولكن من المشكل أن تعثر عند الشيعة على مثال لا يدخل نفي الماضي في جملة أهدافه([15]).

إنّ ذكر بيان شامل وجامع للنتائج المترتبة على هاتين النظرتين يحتاج إلى كتاب مستقل، ويرتبط هذا الموضوع بمسائل مهمة: كالهوية الإسلامية والاستقلال الثقافي والتراث التاريخي والتحولات الاجتماعية، وكلّها من أساسيات الاُمور التي يواجهها المسلمون اليوم، ويستلزم العثور على جواب مقنع لهذه القضايا إجراء دراسة دقيقة وتحليلية للموضوع المذكور.

وقد حصلت بعض التغيرات على هذا النمط من التفكير أيضاً، فرغم أن هذه النظرة للتاريخ مستقرة في أذهان الكثير من أهل السنّة حتى في العصر الراهن، ولكن عدد اُولئك الذين يتعاملون مع التاريخ بنظرة انتقادية ليس بالقليل؛ ذلك أنّ الضغوط الناجمة عن ضرورات الحياة الجديدة وتوسع العقلانية والنقد كان أقوى من هذه الاعتقادات.

أما سبب عجز هذه الضرورات عن تغيير هذه النظرة بشكل مؤثر فذلك يعود إلى الإلزامات الاُخرى التي خلقها العصر الجديد أيضاً، ففي عصر اضطرت فيه كلّ اُمّة إلى تحديد تراثها التاريخي وهويتها الثقافية والتمجيد بها، كان على المسلمين وخاصة العرب أن ينهضوا أيضاً للتعريف بأنفسهم وعرض تاريخهم وثقافتهم وتراثهم على الآخرين، فاضطروا إلى التشبث بهذا التاريخ للوقوف بوجه التحقير الغربي المستمر المؤلم. في مثل هذه الظروف العسيرة والضغوط المتزايدة اضطروا إلى إبراز عناصر الفخر في حضارتهم وثقافتهم وغض الطرف عن مظاهر ضعفها، بل باتوا لا يرون إلا نقاط القوة فيها ليس كتماناً لنقاط الضعف وإنما لأن هذه النقاط لا تلفت أنظارهم إليها. فلولا هذا الإلزام لانتهت تماماً تلك النظرة الموروثة من القدم أو لحظيت بأهمية أقل بكثير مما هي عليه الآن، ولشهد العالم العربي ظروفاً فكرية وثقافية تختلف بكثير عما هي عليه الآن([16]).



(1) معالم في الطريق: 1719.

(1) الزخرف: 84.

(2) يوسف: 45.

(3) معالم في الطريق: 105- 106.

(1) المائدة: 49.

(2) معالم في الطريق: 149 150.

(3) معالم في الطريق: 6061.

(1) يقول الشيخ السبكي رئيس لجنة الفتوى في الأزهر عن كتاب سيد قطب: رغم ما يبدو للوهلة الاُولى من أن كتاب معالم في الطريق هو كتاب اقتبس أفكاره من الإسلام، لكن اُسلوب الفتنة فيه وتأثيراته السلبية على الشبان والقرّاء الذين تنقصهم الثقافة الإسلامية الكافية يبعث على الاشمئزاز... وأن وصف كل الفترات سوى الفترة القريبة من عصر الرسول بالجاهلية هو كفر. انظر: بيامبر وفرعون: 62. عن انتقادات غيره راجع نفس الكتاب: 6371، وكتاب:رائد الفكر الإسلامي المعاصر ليوسف العظم: 305309، وكذلك: سيد قطب، خلاصة حياته ومنهجه في الحركة: 215220. وعن الذين انتقدوا قطب ودافعوا عنه بدوافع دينية انظر: سيد قطب الأديب الناقد، لعبد الله عوض الخبّاص: 325 329.

(1) معالم في الطريق: 9.

(2) لمعرفة مجمل الظروف التي كتب فيها سيد قطب كتابه "معالم في الطريق" والاطّلاع على آراء موافقيه ومعارضيه راجع: سيد قطب الأديب  الناقد: 325 329.

(1) كمثال: ينتقد السبكي سيد قطب فيما أسماه باستخدامه لمفهوم الخوارج في شعار الحكم لله، ليدعو المسلمين لمعارضة أي سلطة دنيوية، ويؤكد بأن القرآن أوصى بإطاعة الحاكم المسلم، وعلى الحاكم أن يحكم بين الرعية بالعدالة، وأن أغلب قادة الدول الإسلامية من الصالحين! انظر: بيامبر وفرعون :62.

     انظر أيضاً: الشيعة والحاكمون: 7، والفكر السياسي الشيعي: 269.

(2) أفضل مثال على هذا الفهم التاريخي للمتقدمين ما ورد في كتاب ابن العربي "العواصم من القواصم"، ومثاله المتأخر هوامش محب الدين الخطيب على هذا الكتاب. والطريف أن ابن العربي انتقد بشدة بعض المؤرخين من أمثال ابن قتيبة والمسعودي والمبرد. حيث انتقد وبقسوة ابن قتيبة وكتابه الإمامة والسياسة واعتبره شيعياً في حين أنه ليس بشيعي، وأفضل دليل ما جاء في كتابه "تأويل مختلف الحديث" وخاصة على الصفحات 7073، ويرغب ابن العربي في أن يرى ماثلاً أمامه تاريخاً ناصعاً شامخاً ليس فيه أي تناقض وتضاد، ولهذا لا يثق من بين المؤرخين إلا بالطبري ولا يأخذ إلا منه. نفسه: 248.

     ويدافع محب الدين بن الخطيب بشدة عن آراء ابن العربي في مقدمته وفي معظم هوامشه، فمثلاً يعتقد بأن "الإمامة والسياسة" ليس لإبن قتيبة، وأن المسعودي شيعي، والمبرّد يميل إلى الخوارج! راجع في هذا المجال كتاب "تحول وثبات" (الثابت والمتحول) :121 214.

(1) ينظر أهل السنّة إلى التاريخ ولا سيما إلى تاريخ الإسلام والمسلمين بحسن ظن، ويرون أنهم ورثة هذا التراث القيّم الذي يبعث على الفخر، ويرفضون أية محاولة تستهدف النيل منه والطعن فيه. كمثال انظر إلى الردود المختلفة على كتاب "الإسلام واُصول الحكم" من خضر حسين إلى ضياء الدين الريّس، حيث تنتقد هذه الردود رؤية الكتاب السلبية على حد تعبيرها للتاريخ. راجع خاصة: الإسلام والخلافة في العصر الحديث: 250 292، ومقدمة محمد عمارة على كتاب الإسلام واُصول الحكم: 71 94.

     وقد استقبل مثقّفو الجيل الجديد بحفاوة هذه النظرة الإيجابية للتاريخ السائدة بين أهل السنّة لأسباب كثيرة، أهمها: الشعور باستقلال الهوية والتحقير الغربي المستمر، وإذعان الغرب لعظمة التراث الإسلامي، وضرورة وجود منصّة للقفز إلى العالم الجديد، وارتباط هذه المباحث مع اللعَب السياسية لأصحاب السلطة. انظر كمثال: التاريخ الإسلامي وفكر القرن العشرين. لكن القضية هذه المرة لم تكن مجرد إيجابية النظرة إلى التراث، إنما إبرازه كمَعلَم من معالم الفخر والعظمة، فلم يكن الهدف إماطة اللثام عن التاريخ، لأن هذا كان قد حصل سابقاً، وإنما إثبات عظمته، مما سبّب خللاً فكرياً واعتقادياً؛ لأنهم أصبحوا لا يعلمون ماذا كانوا وماذا هم عليه؟ وما هي قدراتهم ومشاكلهم وماذا يريدون؟

     ينقل غرونبام عن جب أحد أكبر المستشرقين المعاصرين في الشؤون العربية هذا الخلل الفكري والذهني بالصورة التالية: «قال جب عام 1942 متأسفاً: لم أعثر حتى الآن على كتاب بإحدى اللغات الاُروبية وبقلم عربي يستطيع أن يساعد الطالب الاُروبي في معرفة جذور الثقافة العربية. بل لم أعثر على كتاب بالعربية يحلل للعرب أنفسهم معنى الثقافة العربية بوضوح». ويضيف: «ويمكن سحب هذا الكلام على غير العرب وفشلهم في تعريف ثقافتهم لأنفسهم وللغربيين أيضاً. صحة هذا الكلام سارية إلى يومنا هذا، وستبقى على ما يعتقد سارية إلى سنوات... هذه الأهداف الدينية والسياسية والثقافية تعتبر سدّاً أو مانعاً للوصول إلى تحقيق يستهدف تفسير الحضارة الإسلامية. فكلما أراد المسلم في الشرق الأوسط أن يتحدث عن خلفياته أو عن الغرب كان رأيه سياسياً بالدرجة الاُولى».

G.E.Von Grunebaum, Islam, 1949, 185-186.

      وانظر أيضاً: تحول وثبات : 173 199.

(1) من أهم مواضيع الآداب الدينية الشيعية المعاصرة وأكثرها عاطفية وأنصاراً في إيران على الأقل انتقاد  السلطة، بالشكل الذي اعتبره عامة الكتّاب والمفكرين في العقود الأخيرة جزءاً من الرسالة التي يحملونها.

(2) كمثال قارن بين الاستمرار التاريخي في الإطار الإيراني والعثماني خلال القرون الخمسة الأخيرة.

(1) للاطلاع على المتغيرات الفكرية عند العرب وارتباطها بالتحولات السياسية والاجتماعية في الفترة المعاصرة انظر: تحول وثبات: 3258 و174182، ولاحظ أيضاً مقالة: تحديث الإسلام ونظرية استعارة الثقافة في كتاب:

G.E.Von Grunebaum, Islam, 1949, pp.158- 186.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المدلول الاجتماعي واللفظي للنص
﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُُ﴾ ليس دليلاً على ان ...
الأحاديث الشريفة في المهدي المنتظر (عجّل الله ...
فی من نسی صلاة اللیل
رأس الـحسين (عليه السلام)
مرقد السيدة زينب الكبرى (س)
أقوال المعصومين في القرآن
تتمّة فيها فوائد مهمّة-2
السياسة عند الامام الحسن عليه السلام
اهمية البناء التبربوي للطفل في الاسلام

 
user comment