عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

نظرة إلى تاريخ صدر الإسلام:

نظرة إلى تاريخ صدر الإسلام:

إنّ أهم عامل بلور الفكر السياسي للسنّة والشيعة هو طريقة نظرتهم للتاريخ الإسلامي، ولا تنحصر أهمية هذا البحث فقط في أنّه يساعد على فهم اُسس الفكر السياسي للفريقين، إنما يخضع الفهم الديني لكلا المذهبين في إطاره العام لتأثير هذه النظرة، وربما كان تأثير هذه الرؤية في بلورة الفكر السياسي لهما أكثر من تأثيرها في الاُمور الاُخرى.

أشرنا في الفصل السابق إلى أن تاريخ صدر الإسلام ولا سيما عصر الخلفاء الراشدين وكذلك الصحابة والتابعين يحتلّ أهمية بالغة عند أهل السنّة، بينما يرى الشيعة بأن هذه الفترة التاريخية لا تختلف عن غيرها من فترات التاريخ الإسلامي. والأهم من ذلك أنّ هذه القضية ليست مجرد اعتقاد نظري؛ أي لا يتوقف الأمر عند اعتقاد أهل السنّة بأنّ هذه المرحلة تمتاز بشأن وقيمة دينية خاصة بينما لا يعتقد الشيعة بهذه القيمة، بل تركت هذه النظرة تأثيراً عميقاً على الفهم الديني لأتباع المذهبين، بحيث أخذ أهل السنّة ينظرون إلى الإسلام من نافذة هذه المرحلة التاريخية باعتبارها المجسِّدة لتعاليم الإسلام، وعلى العكس ينظر الشيعة إلى هذه البرهة التاريخية من نافذة المعايير الإسلامية، وهذا ما يجعلهم يتخذون مواقف انتقادية إزائها. وحيث إنّ الفهم الدقيق لهذه الملاحظة ينطوي على أهمية قصوى في وعي الفهم الديني للفريقين وخاصّة الفكر السياسي لهما فإنّنا نستهلّ هذا الفصل بالغور في هذا الموضوع.

فأهل السنّة يسبغون شأناً دينياً بل قدسية إلهية لتاريخ العصر الأول لصدر الإسلام، وإلى نهاية الخلافة الراشدة على الأقل، وينبغي بنا أن نعرف كيف ظهرت هذه العقيدة؟ ومتى ولِمَ ظهرت؟ وما هو تأثيرها على الفهم الديني ولاسيما الفكر السياسي والتطورات الاجتماعية والتاريخية للسنّة؟

واقع الأمر أنّ تاريخ الإسلام الذي يبدأ بعد رحيل النبي 9 وينتهي بالخلافة الراشدة والذي يُجمع السنّة على أهميته لم يكن يمتاز بقيمة دينية خاصة عند المسلمين الأوائل، بل لم يكن يختلف عن غيره من الأزمان، وقد نشأت هذه العقيدة بسبب الأحداث التي وقعت فيما بعد.

بعبارة ثانية: تَحقّق تاريخ هذه المرحلة بصورة معينة وبات يُنظر إليه فيما بعد بصورة اُخرى مختلفة, وقد تكوّن الفهم الديني والفكر السياسي لأهل السنّة على أساس هذه النظرة، لا على ما تحقق وحصل فعلاً. لنر الآن كيف وقع هذا الأمر؟ وما هي المراحل التي طواها؟  وإلى أين انتهى؟ بل لِمَ حصل أصلاً؟

لإضاءة جوانب البحث فنحن مضطرون إلى دراسة كيفية تحقّقه أولاً، ثم نتناول بعدها كيفية ظهور هذه النظرة والعقيدة.

يكمن أساس القضية فيما ذكرناه من أنّ تلك الفترة لم يكن أيّ شأن أو شخص يمتاز فيها بقداسة خاصة سوى مقام النبوة وشخص الرسول 9([1]), إلا أنّ ثلة قليلة من المسلمين سنأتي على ذكرها لاحقاً كانت ترى للإمام علي D مكانة ومنـزلة خاصة تتناسب مع وصايا الرسول 9 به، كما لم يكن أي شأن خاص تحاط به الخلافة والخلفاء، الأمر الذي نستنتجه من خلال دراسة مجملة لتلك المرحلة.

انتخاب أبي بكر:

انتخب أبو بكر للخلافة بعد وفاة رسول الله 9، وكان انتخابه لها لإدارة المجتمع وتنظيم اُموره ليس إلا، وبطبيعة الحال ينبغي أن لا ننسى بأنّ الاُمور الدنيوية والاجتماعية والسياسية للمسلمين آنذاك كانت تحمل مفهوماً مغايراً لمفهومها في عصرنا الحاضر([2]).

لقد خلق الإسلام في تلك البرهة الزمنية تحوّلات اجتماعية تتناسب مع مبادئه وقوانينه وقيمه، وأرسى ركائز مؤسسات اجتماعية دينية وسياسية دينية واقتصادية دينية كثيرة، واختير أبو بكر للخلافة ليتحمل مسؤولية إدارة مثل هذا المجتمع الذي لم يكن من الممكن فصل اُموره الدنيوية عن الدينية، إذ كانت ترتبط مع بعضها بوشائج لا تُفلّ، والمهم في ذلك أنّ المجتمع الإسلامي تبلور ومنذ عهده الأول بشكل امتزجت فيه العناصر الدينية والدنيوية حتى أصبح إحراز هذه المناصب في تلك المرحلة لا يستلزم بنظر المسلمين وجود شروط خاصة، بل يكفي لذلك أن يكون الشخص مسلماً، لا سيّما إذا كان يقف على رأس مجموعة معينة([3]).

على سبيل المثال: كانت صلاة الجمعة والجماعة إحدى السنن الاجتماعية الدينية للمجتمع الإسلامي الفتي، وكانت تقام بإمامة الرسول 9 في حال حضوره في المدينة أو في السفر أو في ميدان المعركة، وبإمامة من يستخلفه في حال غيابه، فقد كانت بعهدة أمير الجيش في الحرب وبعهدة من يستخلفه في المدينة حال غيابه عنها.

ينطبق هذا الأمر على بيت المال أيضاً، فقد كان مسؤولاً عنه في حضوره، ويتولّى أمير الجيش أو الخليفة المعين من قبله اُموره في غيابه 9، وقِس على هذا في الاُمور الاُخرى: كالقضاء والحكم وإدارة الشؤون السياسية والعسكرية. ولم يكن تَبوّء هذه المناصب يعني بنظر المسلمين كسب أصحابها لشأن خاص أو مرتبة دينية معينة، وتبيِّن تجربة المسلمين في المدينة أنّ الحاكم حاكم حال كونه يتصدّى لمسؤولية منصبه، سواء اتسع نطاق هذه المسؤولية أم ضاق، وأن التصدي لهذه المسؤولية لم يكن يعني أبداً أنّ الحاكم قد نال منـزلة دينية أعلى.

يشرح الكاتب علي عبد الرازق في فصل من كتابه المعروف الأحداث التي وقعت بعد وفاة رسول الله 9، ويقول في جانبٍ من تحليله للأحداث التي أدت إلى انتخاب أبي بكر:

«كانوا يومئذ إنما يتشاورون في أمر مملكة تقام، ودولة تُشاد، وحكومة تُنشأ إنشاء. ولذلك جرى على لسانهم يومئذ ذكر الإمارة والاُمراء، والوزارة والوزراء، وتذاكروا القوة والسيف، والعزّ والثروة، والعدد والمنعة، والبأس والنجدة. وما كان ذلك إلا خوضاً في الملك، وقياماً بالدولة. وكان من أثر ذلك ما كان من تنافس المهاجرين والأنصار وكبار الصحابة بعضهم مع بعض، حتى تمت البيعة لأبي بكر، فكان هو أول ملك في الإسلام.

وإذا أنت رأيت كيف تمت البيعة لأبي بكر واستقام له الأمر تبين لك أنها كانت بيعة سياسية ملكية، عليها كل طوابع الدولة المحدثة، وأنها إنما قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوة والسيف.

تلك دولة جديدة أنشأها العرب، فهي دولة عربية وحكم عربي، ولكن الإسلام كما عرفت دين البشرية كلها، لا هو عربي ولا هو أعجمي.

كانت دولة عربية قامت على أساس دعوة دينية، وكان شعارها حماية تلك الدعوة والقيام عليها. أجل ولعلها كانت في الواقع ذات أثر كبير في أمر تلك الدعوة. وكان لها عمل غير منكور في تحول الإسلام وتطوره، ولكنها على ذلك لا تخرج عن أن تكون دولة عربية، أيدت سلطان العرب، وروجت مصالح العرب، ومكّنت لهم في أقطار الأرض، فاستعمروها استعماراً، واستغلّوا خيرها استغلالاً، شأن الاُمم القوية التي تتمكن من الفتح والاستعمار.

كان معروفاً للمسلمين يومئذ أنهم إنما يقدمون على إقامة حكومة مدنية دنيوية، لذلك استحلّوا الخروج عليها، والخلاف لها، وهم يعلمون أنهم إنما يختلفون في أمر من اُمور الدنيا. لا من اُمور الدين. وأنهم إنما يتنازعون في شأن سياسي لا يمسّ دينهم ولا يزعزع إيمانهم.

وما زعم أبو بكر ولا غيره من خاصة القوم أن إمارة المسلمين كانت مقاماً دينياً، ولا أنّ الخروج عليها خروج على الدين، وإنما كان يقول أبو بكر: يا أيها الناس إنما أنا مثلكم، وأنا لا أدري لعلّكم ستكلّفوني ما كان رسول الله 9 يطيق. إنّ الله اصطفى محمداً على العالمين، وعصمه من الآفات. وإنما أنا متَّبع ولست مبتدعاً».

الصبغة الجديدة:

«ولكن أسباباً كثيرة وجدت يومئذ قد ألقت على أبي بكر شيئاً من الصبغة الدينية، وخيّلت لبعض الناس أنه يقوم مقاماً دينياً، ينوب فيه عن رسول الله 9. وكذلك وجد الزعم بأن الإمارة على المسلمين مركز ديني، ونيابة عن رسول الله9.

وإنّ من أهم تلك الأسباب التي نشأ عنها ذلك الزعم بين المسلمين ما لُقّب به أبو بكر من أنه (خليفة رسول الله)».([4])

على أساس هذا الفهم حيال الحاكم أقدم المسلمون على بيعة أبي بكر، على اعتبار أنّ انتخابه لهذا المنصب لا يهبه أيّ نوع من الشأن والمنـزلة الدينية. صحيح أنّ الدين قد حدّد هذا المنصب ومسؤولياته وعيّن الشكل الجديد للمجتمع الإسلامي الفتي ومؤسساته، لكنّ هذا الحدث لم يكن يحمل لدى المسلمين مفهوماً أكثر من كونه أنّ الله تعالى قدّر للمسلمين أن يكونوا ضمن ذلك المجتمع وتلك الظروف، ولم يكن يعني أبداً بأنّ من يتبوأ هذا المنصب يحظى بشأن ديني خاص. والحديث هنا عن التصور والفهم الذي كان يطبع أذهان المسلمين عن هذا الأمر، وليس عمّا بيّنه الرسول 9 وأكّد عليه. ولمعرفة التحولات التي جرت آنذاك لابدّ من دراسة هذا الفهم وكيفية ظهوره وتأثيره([5]).

إن أفضل شاهد على ما ذهبنا إليه هو كيفية انتخاب أبي بكر للخلافة، فرغم أن انتخابه حظي فيما بعد بقناعة عامة، إلا أنّه كان في أيامه الاُولى انتخاباً عسيراً، فقد عارضه الأنصار من جهة لأنهم أبَوا أن يخضعوا لحكم المهاجرين([6])، وعارضته من جهة اُخرى قريش وعلى رأسها أبو سفيان الذي كان يرى أن طائفة أبي بكر أدنى من أن تحكم على طوائف قريش الأرقى منـزلة منها، ولهذا وجّهت أنظارها صوب عليّ D والعباس عمّ الرسول 9([7]).

أمّا المجموعة المعارضة الاُخرى لهذا الانتخاب فكانت تتمثّل في بني هاشم وصحابة عليّ بن أبي طالب D المخلصين، إذ كانت معارضتهم دينية بحتة([8])..

هذا ما حصل في المدينة، أمّا خارجها فقد عارض هذا الانتخاب الكثير من المسلمين الذين عرفوا فيما بعد بـ"أهل الردّة"، ورغم أنّ بعض القبائل كانت قد ارتدّت فعلاً لكنّ بعضها عارض خلافة أبي بكر فقط، وقد اتُهمت بالارتداد أيضاً حسب ما اقتضته المصلحة الزمنية والمصلحة التاريخية فيما بعد([9]).

الذي يكتسب قدراً كبيراً من الأهمية هنا هو الصراع الحثيث بين أنصار أبي بكر ومعارضيه. فسوى أقلية صغيرة من أنصار عليٍّ D التي كانت تؤكد على وصايا الرسول 9 وكفاءة عليّ D الدينية لتبوُّء هذا المنصب وأهميته، كان الآخرون يدورون في فلك آخر، فلم يكن الجدال الدائر يحوم حول معنى خلافة رسول الله 9 وما هي الخصائص والشروط التي ينبغي توفّرها فيمن يقعد مقعده؟ ومن هو الذي يستحقّ ذلك؟ وإنما كانت كل فئة تُناصر مُرشّحها لشغل هذا المنصب، أي أن المسألة تدنّت إلى حدّ التنافس السياسي والطائفي البحت وانسلخت من أي بعد ديني([10]).

وكما قلنا فإن معارضة علي بن أبي طالب D وصحابته هي المعارضة

الوحيدة التي تمثّل فيها البعد الديني، وكان محور معارضته الذي بيّنه فيما بعد بصورة أكثر صراحة ووضوحاً وخاصة في فترة خلافته كما جاء في خطبته الشقشقية وأمثالها يدور حول:

أولاً: لِمَ تمّ تجاهل وصايا الرسول 9 المؤكدة.

وثانياً: ثمة خصائص ينبغي توفرها فيمن يستحق هذا المنصب، وهي لم تتوفر في شخص سواه D([11]).

وقد خاطب أنصار أبي بكر لما أرادوا أخذ البيعة منه قائلاً: «الله الله يا معشر المهاجرين، لا تُخرجوا سلطان محمد عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به؛ لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الاُمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحقّ بُعداً»([12]).

تنافس قَبَلي:

كان هذا هو الكلام الوحيد الذي يحمل في طيّاته لهجة اُخرى، فيما بدا الآخرون يطرحون دفاعاً عن أنفسهم اُموراً اُخرى سوى الصلاحية اللازمة لإحراز مثل هذا المنصب، فعاد التنافس القبلي من جديد حتى بات الجميع يتحدث عنه ويؤكد عليه، واشتدّ هذا التنافس بين المهاجرين والأنصار من جهة، وبين المهاجرين أنفسهم من جهة اُخرى حينما انضوت كل فئة تحت لواء، فالتفّ بنو اُمية حول عثمان، وبنو زهرة حول عبد الرحمن بن عوف، وبنو هاشم حول علي بن أبي طالب D([13]).

وقد صوّر أبو سفيان الذي كان مستاءً من خلافة أبي بكر الوضع آنذاك تصويراً واضحاً في جملة قصيرة حينما قال: «والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف فيما أبو بكر من اُموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان عليّ والعباس؟»([14])

في تلك الظروف جاءت معارضة الإمام علي D في سياق المعارضة التي حملت لواءها فاطمة الزهراء J، ولو كان علي بن أبي طالب D قد أصرّ على معارضته لتعرّضت حياته للخطر، فقد قيل له بكل صراحة: إنه سيُقتل لو عارض الأمر، لكن المكانة الخاصة لفاطمة الزهراء J وفّرت لها نوعاً من الحصانة في كونها كانت امرأة ووحيدة رسول الله 9، ولهذا بايع علي D بعد شهادة زوجته الزهراء J، وتأسّى به سائر بني هاشم وخاصته([15]).

تلك إذن هي الظروف التي رافقت استقرار الخلافة لأبي بكر. وفي كيفية هذا الانتخاب والكلام الذي قيل في تأييده ورفضه دلالة على تصورات المسلمين في تلك المرحلة حول موضوع الخلافة، ورغم أنّ أبا بكر كان شخصية معروفة لكنّ ما أجلسه على مقعد الخلافة ليس مؤهّلاته ومنـزلته الدينية ، حيث قيل وزُيّف الكثير عن هذا الأمر فيما بعد وبدوافع مختلفة، وإنما الفهم البسيط والعادي للمسلمين عن مسألة خلافة الرسول 9، إذ كانوا لا يرون لهذا المنصب أي شأن ديني مرموق([16]).

ثمة عوامل اُخرى كان لها دور في الموضوع، لعلّ من أهمها: الأخطار التي كانت تكشّر عن أنيابها من خارج مجتمع المدينة، ومنها خروج أهل الردّة والاضطرابات الناجمة عنه بين القبائل القاطنة جنوب الجزيرة العربية ووسطها التي كانت تهدّد المدينة نفسها تهديداً حقيقياً (والمراد من أهل الردة اُولئك الذين أعرضوا عن الإسلام وكانت في نيتهم مهاجمة المدينة، وليس اُولئك الذين أطلق عليهم هذا اللقب لمعارضتهم خلافة أبي بكر).

والخطر الثاني الذي كان يحدق بالمدينة هو خطر الروم والفرس، إذ كان الخطر الأول خطراً عظيماً وحقيقياً. أدّت هذه المخاطر إلى أن تتّجه الأنظار إلى الخارج وتنسى الخلافات الداخلية مؤقتاً على الأقل لينصرف المسلمون للدفاع عن كيانهم ووجودهم. ويكفي لمعرفة الأوضاع المضطربة آنذاك ما قيل من استشهاد أكثر من (1200) مسلم بينهم عدد كبير من القراء وحفظة القرآن في مواجهة الردة([17])، ويتجسد في الذهن الوضع القلق للمسلمين لو استحضرنا عددهم الكلّي يوم ذاك([18]).

وقد قُضي أيام خلافة أبي بكر على تمرّد أهل الردّة، واستقرّت الأوضاع في الجزيرة العربية، بيد أن الأخطار الخارجية المتأتّية من القوّتين الكبريين كانت تؤرّق المسلمين، خاصة أن عملاءهما كانوا يجاورون المسلمين ولا يأمن جانبهم من أي هجوم([19]).

فضلاً عن ذلك فإن رسول الله 9 وفي الأيام الأخيرة من عمره الشريف كان قد جهّز جيشاً بقيادة اُسامة بن زيد لقتال الروم، رغم أنه 9 ربما كان يستهدف إبعاد من كان يُخشى عليه الانحراف عن وصيته بشأن مسألة الخلافة والإمامة، ولكن ذلك لا ينفي الخطر الرومي الذي كان يهدّد المسلمين حتى في حياة رسول الله 9. وقد جهّز أبو بكر جيشاً بقيادة اُسامة لحرب الروم بعد فراغه من أهل الردة، وقال عنه: إنّه تأسّياً بالرسول 9 أكثر من كونه دفعاً للخطر، رغم أنّ هذا الخطر كان محدقاً بالمسلمين([20]).

خلافة عمر:

توفي أبو بكر في مثل هذه الظروف، وأوصى بعمر خليفة على المسلمين، واستقرت لعمر الخلافة لنفس الدلائل التي استقرت فيها على سلفه. وكانت الاُمّة ترى بأن الخليفة لا يدير سوى شؤونها الدنيوية، فدخل عمر الميدان بعد أن وافق على أداء هذا الدور. وثمة أسباب كثيرة تكمن وراء القبول به دون أن ترافق ذلك أية ضجّة، بعضها يعود إلى الظروف التي كانت سائدة آنذاك وإلى تجربة خلافة أبي بكر، وبعضها إلى شخصيته وخصائصه([21])، دون أن تلعب المنـزلة الدينية أيَّ دور أيضاً، رغم الكلام الكثير الذي قيل في هذا المجال فيما بعد. فلم يكن يسبغ على نفسه شأواً دينياً خاصاً، ولم يتمسك بدليل معين لإثبات ذلك، كما أنه لم يكن يمتاز بهذه المنـزلة بنظر مسلمي عصره، ولم تكن هذه الخصوصية سبباً لجلوسه على مقعد الخلافة.

ورغم أن عمر كان يتمتع بأقصى الامتيازات الدينية الدنيوية التي كان يمكن لحاكم أن يحظى بها ويحصل عليها إلا أنها لم تكن ترتبط بمنـزلته الدينية، فقد نال هذه الامتيازات من خلال تصدّيه للحكم، وليس من الصلاحيات الدينية للحاكم نفسه. ولا شك في أن خصائص عمر الذاتية للوصول إلى الحكم واستمرار سلطته القوية لعبت دوراً أكثر أهمية وتأثيراً من منـزلته الدينية([22]).

إنّ الإذعان بخلافة عمر هو في الحقيقة استمرار للإذعان بخلافة أبي بكر والاعتراف بمنهجه، رغم أن أبا بكر تسنّم الخلافة منتخباً بينما وصلت إلى عمر بوصية أبي بكر، لكنّ المهم هنا أن موضوع خلافة الرسول 9 طُرح لدى انتخاب أبي بكر بشكل عبّد الطريق أمام عمر لتسلّم الخلافة، فضلاً عن ذلك فإن وصول أبي بكر للخلافة هو في الحقيقة استلامها من قبل ثلاثة أشخاص على رأسهم أبي بكر، أما الآخران فهما عمر وأبو عبيدة الجراح، والطريف أن عمر وفي اللحظات الأخيرة من حياته أخذ يتأسف على وفاة أبي عبيدة وهو يريد أن يوصي بمن يخلفه، وقال: إنّه لو كان حياً لوضعه موضعه([23]).

بطبيعة الحال لعبت خصائص عمر الذاتية دوراً مهماً، إذ كان على معرفة كافية بالعرب ويعلم كيف يقودهم، كما كان قادراً على تشخيص الضرورات بدقة، فجاء أول كلام له حين استخلف: «إنما مثل العرب مثل جملٍ أنفٍ اتّبع قائده، فلينظر صاحبه أين يقوده. أما أنا، فوربِّ الكعبة لأحملّنكم على الطريق»([24]).

الأهم من ذلك أنّ عمر استلم الخلافة في وقت كان المجتمع بحاجة ماسّة إلى من يتصف بمواصفات كمواصفاته، ولو كان قد تبوء الخلافة قبل هذه الفترة أو بعدها لواجه الفشل دون ريب، أو على الأقلّ لم يكن يحظى بالمكانة التي احتلّها، إذ حالفه الحظّ حينما وصل السلطة في اللحظة المناسبة، وأمسك بزمام الاُمور في مرحلة انسجمت تماماً مع خصائصه الفكرية والأخلاقية، فلم يكن عمر يستطيع أن يحكم بغير النمط الذي حكم به، وقد جاء حكمه كنتيجة طبيعية لتحقق خصائصه وصفاته، فقد انسجمت طبيعته مع روح زمانه وكانت سياسته إفرازاً لطبيعته، ولهذا تطابقت مع حاجات زمانه، ولم تترك طبيعته القاسية المتشددة مجالاً للمناورات السياسية التي لم يكن المجتمع الإسلامي في الأساس بحاجة لها يوم ذاك، كما أن العرب كانت لا تستريح لمثل هذا الاُسلوب. وقد انطبقت مواصفات الخليفة روحياً وأخلاقياً مع مواصفات اُناس عهده، فتوفّر له النجاح، بل أصبح ذلك سرّ نجاحه([25]).

التهديدات الخارجية:

بقيت الأخطار الخارجية على ما كانت عليه إن لم تصبح أكثر تهديداً مما سبق، فرغم غياب المعارضين داخل الجزيرة العربية إلا أنّ تحسّساً أخذ ينمو من جانب الفرس والروم تجاه ازدياد قدرة هذا الدين والنظام الجديد، لا سيما فارس التي أبدت حساسية مفرطة باتت تهدد المسلمين حقاً.

ومن الطبيعي فإن الرأي العام في مثل هذه الأوضاع ينصرف في اتجاه دفع الأخطار، وتتجه الأنظار إلى الخارج دون أن تترك فرصة لتصفية الحسابات الداخلية. وكانت هذه الأخطار جادة إلى الحدّ الذي قرّر عمر عدة مرات الذهاب إلى ميادين المعارك مع الفرس لتعزيز معنويات جيشه، لكنّ الإمام عليّاً D كان يمنعه في كل مرة. من جهة اُخرى فإن الحروب بين المسلمين والفرس والروم في تلك الفترة كانت تستهدف دفع الأخطار، وليس فتح الأراضي، وهذا الإحساس بالخطر لم يكن قائماً على وهم، إذ كان المسلمون يرون أنهم أضعف من أن يقفوا بوجه هاتين القوتين فضلاً عن تحقيق النصر عليهما، لاسيما وأنّ الأذهان لم تغب عنها بعد تحرّشات هاتين القوتين، وخاصة الملوك الساسانيين وأياديهم في المنطقة، وأن عظمتهما كانت تتجلّى في الأنظار كقوتان لا تنضبان، وتتضح هذه الملاحظة من خلال دراسة الوثائق التاريخية المرتبطة بتلك المرحلة، والشك والتردد الذي كان يقترن بأيّ إقدام من هذا القبيل([26]).

كانت أولى الاشتباكات العسكرية بين المسلمين والدول المجاورة محدودة، لكنّها كشفت لهم مكامن الضعف لدى أعدائهم، وما ساعد على ذلك تحركات بعض القادة المحلّيين الذين كانوا يرغبون بالحرب واستمرارها، وبالتالي فهم الذين شجعوا الخليفة الثاني على خوض معركة شاملة مع الفرس ودفعوه إليها، لكنّ القلق كان يساور الخليفة والكثير من المسلمين من هزيمة منكرة حتى اللحظات الأخيرة من تحقيق النصر([27]).

لقد حصل هذا في النصف الأول من خلافة عمر، أمّا ما كتبه البعض فيما بعد بخصوص قرار عمر وسائر المسلمين بخوض غمار الجهاد ضد الفرس والروم فلا يعدو كونه محاولة لإضفاء الهيبة والقوة على أبطالهم، وحقيقة الأمر: أنّ الظروف كانت على غير هذه الصورة، لكن الوضع تغيّر فيما بعد فتح المدائن وبيت المقدس، وزالت الشكوك والمخاوف من القوتين. إذن فقد شهد النصف الثاني من خلافة عمر تحولاً كبيراً بعد فتح المدائن وبيت المقدس وانهيار فارس وإمبراطورية الروم الشرقية، وأخذ الغليان والشعور الديني والهيجان الاجتماعي يؤول إلى الاُفول شيئاً فشيئاً.

وهنا لابد أن نشير إلى الغنائم الكثيرة التي لم تقع عليها عين عربي حتى ذلك الحين، فقد وقعت ثروة كبيرة وعدد هائل من الأسرى يتسمون بثقافة وحضارة أرقى في وسط مجتمع بدويّ بسيط في الجزيرة العربية، وظهرت تأثيرات هذا الحدث على عهد عثمان، رغم أنّ النصف الثاني من فترة خلافة عمر لم يسلم هو الآخر من نتائجه. فبالرغم من سطوة عمر وقسوته فقد وقعت أحداث كثيرة أواخر عهده تُنبئ عن حالات استياء حصلت بسبب هذه التغيرات واجهها عمر بشدة([28]).

وقتل عمر وهو في ذروة قدرته، ولو دامت خلافته أكثر من هذا لتدنّت قدرته ونفوذه بسبب التحولات السريعة التي كانت تقع آنذاك، ولَما استطاع أن ينال هذه الحظوة والمكانة التي خصصها له أهل السنّة فيما بعد.

ترك عمر الخلافة في ظروف تختلف كثيراً عما كانت عليه لدى تقلّده لها، إذ كان المجتمع بسيطاً مغلقاً لم تسمح التهديدات الخارجية بالمعارضة والتنافس الداخلي، لكنّ الزمن تغيّر فيما بعد، كما تغيّر المجتمع وزالت التهديدات والأخطار التي كانت محدقة بالمسلمين، وحصل المسلمون على الثروة وقويت شوكتهم حتى تحولوا إلى إمبراطورية كبرى ودخلوا مرحلة تجربة عالم آخر([29]).

لقد تركت هذه التحولات تأثيراتها العظيمة على المجتمع، لا سيما على النخبة فيه ومعظمهم من قريش، إذ كان عمر يوجّه إليهم اللوم والعتاب في السنوات الأخيرة من خلافته ويسأل الله الموت، وقد قال مرة في جمع من قريش: «بلغني أنّكم تتخذون مجالس لا يجلس اثنان معاً حتى يقال: من صحابة فلان ومن جلساء فلان حتى تُحوميت المجالس.. وأيم الله إنّ هذا السريع في دينكم سريع في شرفكم سريع في ذات بينكم، ولكأني بمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسّموا الإسلام أقساماً‍‍‍‍.. أفيضوا مجالسكم بينكم وتجالسوا معاً فإنه أدوم لاُلفتكم وأهيب لكم في الناس. اللهم ملّوني ومللتهم، وأحسست من نفسي وأحسّوا مني، ولا أدري بأيّنا يكون الكون؟ وقد أعلم أن لهم قبيلاً منهم. فاقبضني إليك.»([30]).

الظرف الجديد:

واجه عمر في أواخر عمره مثل هذه المشاكل، وتدنّى نفوذه في المجتمع لا بسبب شخصيته، وإنما نشأ عن الظرف الجديد، فقد تغيّر المجتمع، وتضاعفت تبعاً لذلك مطاليب الناس، كما زاد استياؤهم، ولم يكن بمقدور عمر أن يستجيب لها ولا أن يطيقها. ففي آخر عودة له من الحج إلى المدينة خاطب الناس قائلاً: «قد بلغني أنّ فلاناً عبد الرحمن بن عوف قال: والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلاناً، فلا يغرّنّ إمرَءاً أن يقول: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمّت، وإنها قد كانت كذلك، ألا إنّ الله قد وقى شرّها، وليس فيكم من تنقطع الأعناق عليه مثل أبي بكر...»([31]).

ودليلنا إلى ذلك: كيفية وصية عمر مقارنة بسلفه، فقد نصّب أبو بكر عمرَ للخلافة دون أية مشكلة، لكن عمر لم يفعل ذلك ولم يكن يقدر عليه؛ ذلك أن أبا بكر كان يحكم مجتمعاً موحداً يستطيع بسهولة أن يكون فيه صاحب القول الفصل دون معارض، لا لأنه قول صادر من أبي بكر، وإنما لكونه (المجتمع) كان يفكر باُمور اُخرى يساوره القلق منها. كما أنّ الخلافة برأي المجتمع الإسلامي آنذاك لم تكن تحمل معها امتيازات خاصة، ولم يكن الخليفة إلا كغيره من أبناء المجتمع، والخلافة هي مهنته ومسؤوليته مثل أية مهنة ومسؤولية اُخرى يتصدّى لها غيره، مضافاً لذلك فإن الحاكم لم يكن يحظى بامتيازات مادية في مجتمع فقير محدود كالمجتمع الذي كان على عهد أبي بكر، لهذا لم يكن هناك أي صراع على السلطة.

بيد أنّ الأمر تغيّر بعد وفاة عمر، فقد زالت الأخطار وانفتح المجتمع وانزاح الفقر، وكان من الطبيعي أن يتنافس الأفراد والفئات المتنفّذة لاستلام السلطة، ورغم أنّ الخليفة لم يُستثنَ بامتياز خاصّ لكنّ استلام هذا المنصب بحدّ ذاته كان يجعله في موقع يستطيع من خلاله أن يحظى بما لم يحظَ به غيره، ولهذا توجّهت الأنظار إليه([32]).

وربما كانت هذه الحقيقة هي السبب في أنّ عمر وخلافاً لسلفه لم يوصِ لشخص معين من بعده، مع أنّه لم يكن أضعف من أبي بكر وكلامه لم يكن أقلّ نفوذاً من كلام أبي بكر، وإنما أدرك بفراسته تغيّر الظروف والأوضاع التي لم تكن تقتضي مثل ذلك، ولهذا اضطرّ للوصية بالخلافة بهذه الكيفية الاستثنائية، وهي وصية لم يقلّده فيها آخر، ولربما لم يستطع أن يقلّده أحد فيها([33])، رغم ما كان يتمتع به من شخصية فذّة بين أنصاره الذين حاولوا تقليده في اُمور كثيرة.

ينقل عبد الله بن عمر وصية أبيه كالتالي: «دخل على عمر بن الخطاب حين نزل به الموت عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص، وكان طلحة بن عبيد الله غائباً بأرض السواد، فنظر إليهم ساعة ثم قال: إني نظرت لكم في أمر الناس فلم أجد عند الناس شقاقاً إلا أن يكون فيكم ، فإن كان شقاق فهو منكم، وإنّ الأمر إلى ستة: إلى عثمان بن عفّان وعليّ بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة وسعد، ثم إنّ قومكم إنما يؤمّرون أحدكم أيّتها الثلاثة، فإن كنت على شيء من أمر الناس يا عثمان فلا تحملنّ بني أبي معيط على رقاب الناس، وإن كنت على شيء من أمر الناس يا عبد الرحمن فلا تحملنّ أقاربك على رقاب الناس، وإن كنت على شيء يا عليّ فلا تحملنّ بني هاشم على رقاب الناس، ثم قال: قوموا وتشاوروا وأمّروا أحدكم، فقاموا يتشاورون...»([34]).

وفي هذا دليل على تبدّل الظروف العسيرة، فقد كثر طلاّب الخلافة وسعوا نحوها حثيثاً ورأى أنصار كلّ طرف بأنّ مصالحهم تكمن في الدفاع عن مرشّحيهم لهذا المنصب. ورغم أنّ هذه المشكلات كانت موجودة أيضاً لدى تقلّد عمر للخلافة ولكن ليست إلى هذا الحدّ وبهذا المقدار من الخطورة.

ويُنقل: أنّ علياً D رفض طلب عبد الرحمن بن عوف للعمل بسيرة الشيخين كشرط لانتخابه خليفة، وردّ عليه بأن الزمن قد تغير([35]). وهذه الرواية حتى وإن كانت ضعيفة ومختلقة فهي تبين على الأقلّ الأوضاع المضطربة آنذاك؛ ذلك لأنّ كلّ مختلق يحمل معه شيئاً من الحقيقة، وإلا لم يصبح مشتبهاً.

خلافة عثمان:

أخيراً تقلّد عثمان الخلافة، ولم يكن نجاحه إليها نجاح شخص، وإنما نجاح جناح بأكمله وضع عثمان في مقدمته، ذلك أنّه كان أضعف المجموعة السداسية التي رشّحها عمر من بعده وأعجزهم. يكفي في إثبات ذلك أنّ أيّاً من الفضائل المجعولة فيما بعد للخلفاء ولعثمان لأسباب ذكرناها وسنتطرق إلى غيرها لاحقاً لا تتحدث عن قدراته وقابلياته الذاتية، وإنما تحوم حول نسبه بالرسول 9، أو حول حالاته الروحية والنفسية([36]).

مع أن عثمان كان ضعيفاً وغير كُفؤ للخلافة، إلا أن الأوضاع تغيرت حتى في الاُمور التي لا علاقة لها بقدرته وكفاءته، ومنها: غياب الخطر الخارجي، والحصول على ثروة عظيمة بسهولة ونتائج ذلك عديدة في مجتمع قبلي متخلف يعاني من خلافات طائفية قديمة، واتساع نفوذ الجناح الذي يمثّله الخليفة والذي لم يكن يفكر سوى بالمصالح الشخصية، وغياب المركزية القوية التي تحظى باحترام الجميع، وانفلات الولاة، كل ذلك أوجد وضعاً معقّداً صعباً وزاد ضعف الخليفة في الطين بلّة؛ ذلك أن جميع اللاهثين وراء الخلافة طمعوا فيها واعتقدوا أنهم أحق بها منه. وتفاقمت الأوضاع حتى بلغ السيل الزُبى وضاقت الناس ذرعاً، واحتجت على الخليفة مراراً دون أن تلقى اُذُناً صاغية، الأمر الذي أدّى إلى مقتل الخليفة أخيراً.

ومن المناسب هنا أن نسجّل أقوال ابن خلدون بشأن هذه التحولات؛ ذلك أنها تساعد على فهم التطورات التي حصلت في صدر الإسلام، لاسيما أواسط فترة خلافة عمر فما بعدها وأيام خلافة عثمان والإمام عليّ D، لهذا نرى أنفسنا مضطرين لنقل هذا النص رغم طوله.

تطورات عميقة وسريعة:

«... فقد كانوا أبعد الاُمم عن أحوال الدنيا وترفها، لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم، ولا من حيث بداوتهم ومواطنهم وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الذي ألفوه، فلم تكن اُمّة من الاُمم أسغب عيشاً من مضر لمّا كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع، وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن، فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها، ولقد كانوا كثيراً ما يأكلون العقارب والخنافس ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الابل يمهونه بالحجارة في الدم ويطبخونه، وقريباً من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم، حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوءة محمد 9 زحفوا إلى اُمم فارس والروم وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق، فابتزّوا ملكهم واستباحوا دنياهم، فزخرت بحار الرفَهِ لديهم حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها، فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر وهم مع ذلك على خشونة عيشهم، فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد، وكان عليّ يقول: يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيري، وكان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ، وكانت المناخل مفقودة عندهم بالجملة وإنما يأكلون الحنطة بنخالها، ومكاسبهم مع هذا أتمّ ما كانت لأحد من أهل العالم.

قال المسعودي: في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال، فكان له يوم قُتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائتا ألف دينار، وخلّف إبلاً وخيلاً كثيرة. وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك. وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير  وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً. وخلّف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار. وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية. وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيّد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجرّ والساج. وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات. وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصّصة الظاهر والباطن. وخلف لعلي بن منبه خمسين ألف دينار وعقارا،ً وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم». انتهى كلام المسعودي.

فكانت مكاسب القوم كما تراه، ولم يكن ذلك منعياً عليهم في دينهم إذ هي أموال حلال لأنها غنائم وفيوء، ولم يكن تصرفهم فيها بإسراف إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه، فلم يكن ذلك بقادح فيهم وإن كان الاستكثار من الدنيا مذموماً فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد، وإذا كان حالهم قصداً ونفقاتهم في سبيل الحق ومذاهبه كان ذلك الاستكثار عوناً لهم على طرق الحق واكتساب الدار الآخرة، فلما تدرجت البداوة والفضاضة إلى نهايتها وجاءت طبيعة الملك التي هي في مقتضى العصبية كما قلناه وحصل التغلب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرَفَه والاستكثار من الأموال، فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل، ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق..»([37]).

الأزمة الكبرى:

هذه هي الظروف التي رافقت خلافة عثمان، ثم ورثها من بعده علي بن أبي طالب D، وقد جاءت كنتيجة للفتوحات السريعة والمتوالية لبلدان متمدنة وثرية، ولكن لا يُشك بأن لعثمان نفسه دور مؤثر في مضاعفة هذه الأزمة الكبرى وتعميقها. يحلل الشهرستاني وهو من المدافعين بشدة عن عثمان قصة وصوله إلى الخلافة وأخطائه العديدة وإعراض الناس عنه وأخيراً قتله كالتالي: «واتفقوا كلهم على بيعة عثمان، وانتظم الأمر، واستمرت الدعوة في زمانه، وكثرت الفتوح، وامتلأ بيت المال، وعاشر الخلق على أحسن خلق، وعاملهم بأبسط يد؛ غير أن أقاربه من بني اُمية قد ركبوا نهابر [مهالك] فركبته، وجاروا فجير عليه، ووقعت في زمانه اختلافات كثيرة، وأخذوا عليه أحداثاً كلها محالة على بني اُمية:

منها: ردّه الحكم بن اُمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله 9، وكان يسمّى طريد رسول الله، وبعد أن تشفّع إلى أبي بكر وعمر عنهما أيام خلافتهما

فما أجابا إلى ذلك، ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخاً.

ومنها: نفيه أبا ذرّ إلى الربذة، وتزويجه مروان بن الحكم بنته، وتسليمه خمس غنائم أفريقية له  وقد بلغت مائتي ألف دينار.

ومنها: إيواؤه عبد الله بن سعد بن أبي سرح وكان رضيعه بعد أن أهدر النبي عليه السلام دمه، وتوليته إياه مصر بأعمالها، وتوليته عبد الله بن عامر البصرة، حتى أحدث فيها ما أحدث... إلى غير ذلك مما نقموا عليه، وكان اُمراء جنوده: معاوية بن أبي سفيان عامل الشام، وسعد بن أبي وقاص عامل الكوفة، وبعده الوليد بن عقبة وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر عامل البصرة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح عامل مصر، وكلهم خذلوه ورفضوه؛ حتى أتى قدره عليه وقتل مظلوماً في داره»([38]).

إن قصة انتخاب عثمان ومقتله تبين وبشكل أوضح لدى إجراء مقارنة مع الخليفة الأول والثاني: بأنه لم يكن قبول الخليفة نابع من اعتقاد الناس بمنـزلته الدينية العليا، ولم يكن هذا المنصب يتميز بمكانة دينية خاصة في تلك المرحلة، فقد اختير عثمان كخليفة بعد أن رشحه رئيس مجموعة الستة عبد الرحمن بن عوف، وقُتل بعد أن لم يُعر أهمية للمعترضين على سياسته، ولم يفِ بوعوده لهم.

الفهم العام:

لنلاحظ الآن، مَن هم هؤلاء المعترضون؟ ولماذا اعترضوا على سياسة عثمان؟

إنهم كانوا من مسلمي المناطق المختلفة الذين نفذ صبرهم من فجور الولاة وظلمهم، ورفعوا الأمر إلى الخليفة الذي تجاهل هذه الشكاوي، فقد دعوه إلى الدين والالتزام بضوابطه وحدوده؛ لأنهم كانوا يعتقدون على حقٍّ أن الخليفة ولّى عليهم ذويه وأقاربه المتهتّكين ممن لا تقوى لهم([39]).

وفي هذا الاعتراض أيضاً دلالة على مفهوم الخليفة ومنصب الخلافة في أذهان المسلمين، فكان معنى الاعتراض في مراحله الاُولى بأن الخليفة قد انحرف عن جادة الصواب ولابد أن ينبَّه إلى ذلك ، ثم توالت الضغوط لتعني بأن الخليفة يُصرّ على نهجه الخاطئ ولابد من أن يقاوم، ووصل الأمر أن حوصر الخليفة في منـزله ثم قُتل دون أن يُسدل الستار عن القضية، حيث فقد عثمان مصداقيته كمسلم بين المسلمين، فلم يُدفن بعد قتله لثلاثة أيام، وأخيراً وُرِي الثرى في مكان غير مناسب([40]).

فإذا كان أساس رأي الأجيال اللاحقة بعثمان متأثراً بكيفية تعامل مسلمي زمانه معه لهبطت مرتبته إلى أدنى من مرتبة أي مسلم عادي، لكن معاوية عمل على تبرئة ساحته وإضفاء قداسة عليه ليكون في مصافِّ الخليفة الأول والثاني وجعل منه خليفة حقٍّ على المسلمين. وتعتبر هذه من نقاط الضعف لدى النظام الكلامي والاعتقادي لأهل السنّة. إن ما وضع عثمان في مصافِّ سائر الخلفاء الراشدين لدى أهل السنّة هو الإعلام الواسع الذي قام به معاوية وأخلافه، وقد طعن به وذمّه من وضع تاريخ صدر الإسلام على مشرحة الانتقاد واطّلع على هذا الإعلام والتزوير وممارسات عثمان اللامشروعة، ومنهم المعتزلة ماضياً وعامة المفكرين المسلمين حاضراً، ولا سيما ذوي الاتجاهات الثورية على الخصوص، مما سنتحدث عنه بالتفصيل لاحقاً بإذن الله([41]).

على أية حال فإن كيفية تعامل المسلمين مع عثمان يعدّ أفضل مثال على ما يعنيه مفهوم الخلافة والخليفة في أذهانهم، فحينما اختير لها لم يعترض عليه أحد، وكان مقبولاً بين المسلمين بشكل عام مثلما كان عليه عمر([42])، ولهذا فإن الاحتجاج عليه فيما بعد حصل بسبب أخطائه وليس بسبب عدم الرغبة به كخليفة للمسلمين منذ البداية، وهذه الأخطاء هبطت به إلى مستوى متدنٍّ جداً حتى وقف بوجهه حلفاءه بالأمس.

وأفضل دليل على ذلك: ما نقله السيوطي عن الزهري باعتباره أحد علماء القرن الأول وفقهائه في قوله: «ولي عثمان الخلافة اثنتي عشرة سنة يعمل ستّ سنين لا ينقم الناس عليه شيئاً، وأنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب؛ لأن عمر كان شديداً عليهم، فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم، ثم توانى في أمرهم واستعمل أقرباءه وأهل بيته في الستّ الأواخر... فأنكر الناس عليه ذلك»([43]).

فإذا كانت للخلافة والخليفة مكانة مرموقة وشأناً ومقاماً في نظر المسلمين آنذاك بالشكل الذي تم تصويره فيما بعد، كان لزاماً على الاُمّة أن لا تقف على الأقل بوجهه بهذه الصورة، لاسيما وأن عثمان يعتبر أحد الخلفاء الراشدين، أي أحد اُولئك الذين اُضفيت عليهم فيما بعد هالة من القداسة المعنوية والدينية.

إن قضية عثمان لهي أفضل شاهد على أن مسلمي العهود الاُخرى هم الذين أحاطوا الخلافة والخليفة وخاصة الخلفاء الراشدين بهالة من الشأن والمنـزلة على غير الصورة الحقيقية، واعتبروها من صميم معتقدات مسلمي الصدر الأول بل كل العقيدة الإسلامية، وصوروها بشكل لا يمكن أن يتغلغل إليها الشك والتردد([44]).

علي D وقبوله للخلافة:

في مثل هذا الظرف العسير لاذت الجماهير الساخطة على عثمان بعليّ بن أبي طالب D، وانتخب للخلافة رغم استنكافه منها. وهذه في الحقيقة هي المرة الاُولى التي يبايع فيها الناس وباندفاع ذاتي شخصاً معيناً للخلافة، فقد تقلّد كل من عمر وعثمان الخلافة بوصية من الخليفة السابق، وأما حالة أبي بكر فهي الاُخرى لا تماثل حالة عليٍّ D، فقد بايعه في البدء عدد قليل، وساعدت الأحداث المتلاحقة الناجمة عن التنافس الخفي والمكشوف بين المهاجرين والأنصار والأوس والخزرج وكذلك التهديدات الخارجية على تثبيت مكانته، ولربما كان هذا هو السبب الذي يدعو عمر إلى القول وفي مناسبات مختلفة: «إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه»([45]).

تسلّم علي D السلطة في أسوأ الظروف، واضطر لمواجهة مشاكل لم يكن له أدنى دور في إيجادها، وقد هجمت الاُمّة على مبايعته لحلّها؛ لأنها كانت ترى أنه D الوحيد القادر عليها، وهو مطلب أجمع عليه معظم المبايعين لعلي D([46])، أما الذين بايعوا علياً D لكونه يمتلك المؤهلات الذاتية لمنصب الخلافة واتّباعاً لوصية رسول الله 9 فيه فهم قلة قليلة استطاع الإمام علي D فيما بعد وبمساعدتها رغم قلتها التغلب على المشاكل.

حقيقة الأمر أن أيّاً من الخلفاء السابقين لم يتسلّم السلطة بمثل هذه الظروف الحرجة، فلم تمض فترة على انتقال الخلافة لعلي D حتى رفع لواء المعارضة بعض الأدعياء الذين أخذوا يفكرون بالاستيلاء على هذا المنصب أواخر عهد عمر واستعدوا له في فترة خلافة عثمان، وإنما أرجؤوا إعلان المعارضة بعض الوقت لأنهم كانوا يخشون الجمهور العريض الملتفّ حول علي D، وإذا كان الخليفة غيره D لَما امتنع هؤلاء الأفراد عن معارضته أيضاً؛ لأنّ المجتمع يوم ذاك كان مجتمعاً متفتتاً، وكأنّ الجميع فيه أو الشخصيات المعروفة على الأقل قد فقدت بصيرتها، فلا هي بالتي كانت تعرف قدرها ولا مكانتها، ولا كانت طموحاتها وتوقعاتها من نفسها ومجتمعها تتناسب مع تلك المكانة([47]).

كنموذج على ذلك: لاحظوا رؤوس المعارضة لعلي D، ألم تكن مطاليبها أكثر من استيعابها وأكبر من قدرتها ومكانتها؟! وإذا لم يكن القاسم المشترك لاتحادها معارضة عليٍّ بوصفه رئيساً للدولة لوقف كل منهم بوجه الآخر. ألم يتنازع طلحة والزبير على إمامة جماعة جيش الجمل؟!([48]) ألم يتهم مروان بن الحكم وهو من أصحاب الجمل بقتل طلحة والثأر منه، أو على الأقل أنه سرّ لموته؟!([49]) وهل كان معاوية يستطيع أن يطيقهم أو يطيقوه؟ وإذا كان غير علي قد أصبح خليفة، ألم يكن وارداً أن تُسلّ سيوفها ضده بعض الشخصيات الحيادية التي لم تبايع علياً D ولم تقف بوجهه؟! صحيح أنها لم تقف إلى جانبه، لكنّ شخصيته الفذّة وسابقته النادرة منعت من حصول مثل هذه المواجهة([50]).

كما قلنا فإن جوهر القضية هو تفكك النظام الاجتماعي والأخلاقي والنفسي، وفقدان البصيرة والاشتباه في القابليات والمؤهلات حتى عند الأفراد أنفسهم، وليست المسألة في أن علياً D لم يستطع إعادة النظام إلى ذلك الوضع المتفكك، إذ لم يكن باستطاعة كائن من كان أن يعيد النظام إلى ذلك المجتمع المتمرد على نفسه، ولابدّ أن يلقى عناء بما فيه الكفاية حتى يطبق النظام، وقد تسنّى لهذا النظام أن يستقر بعد ذلك العناء والمنعطفات التاريخية على عهد معاوية.

وللإمام علي D قول مأثور يلخّص في دقة وحكمة أسباب هذا الاضطراب المائج الذي أصاب المجتمع، ويشير إشارة بليغة إلى مهابِّ الفتن التي دارت بها رؤوس الناس آنذاك، فقد قال لسائل سأله بخبث: ما بال الناس قد اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟ قال: «لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مِثلي... وأنا والٍ على مثلك »([51]).

الاضطراب النفسي:

أجل، هذه هي الحقيقة، فقد تغيّرت الأوضاع تماماً، وكانت المشاكل التي واجهها علي D ناجمة عن هذا التغير؛ ذلك أن انفتاح آفاق جديدة بوجه مجتمع محدود مغلق فقير، وتبدّل حكم محلّي بإمبراطورية واسعة ضمّت إليها إمبراطورية فارس وجزءاً واسعاً من إمبراطورية الروم جلب معه مشاكل جديدة ومعقّدة، وأثّر في أخلاق وأفكار ونفوس وآمال المسلمين الأوائل الذين انعدمت لديهم الرغبة في الانصياع إلى ضوابط الدين ومبادئه، أو ربما لم يقدروا على ذلك بلحاظ الخصائص التي اكتسبوها. إنهم كانوا يريدون ديناً يفسروه حسب ما يشتهون، ديناً يحقق لهم أهدافهم وأمانيهم، وليس العكس؛ لذلك بات من الصعب عليهم تحمّل شخصية كشخصية علي بن أبي طالب D، والمثال التاريخي التالي يوضّح هذه الحقيقة:

في صفين لم يدّخر الإمام وأصحابه البارزين جهداً إلا وبذلوه للحيلولة دون وقوع الحرب، ومن جملة هؤلاء الصحابة: عمار، فقد حاول نصح المغيرة بن شعبة بأن الحق مع علي D، إلا أنه كان يتجاهل ويرفض الإذعان لهذه الحقيقة. [وكان المغيرة يعرف حق المعرفة الإمام وسابقته في الإسلام حتى «أشار عليه لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته وتتفق الكلمة، وله بعد ذلك ما شاء من أمره... فأبى فراراً من الغشّ الذي ينافيه الإسلام، وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال: لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت، ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق، وأن الحق فيما رأيته أنت»([52])] فقال الإمام لعمّار: «دعه يا عمار، فإنه لم يأخذ من الدين إلا ما قاربه من الدنيا، وعلى عمد لبّس على نفسه، ليجعل الشبهات عاذراً لسقطاته»([53]).

وينبغي أن نؤكد هنا: أن أمثال هؤلاء لم يكونوا يتحملوا وجود أي شخص آخر غير الإمام أيضاً، وسبب تحالفهم في معارضة الإمام أنه كان على رأس السلطة دون أن يستجيب لرغباتهم اللامشروعة، وكان هذا عاملاً كافياً لاتحادهم ومنع بروز تناقضاتهم إلى العلن على الأقل، إلا في بعض الحالات الحساسة التي كانت تتلاشى فيها هذه الوحدة وتظهر نزاعاتهم علانية([54]).

مهما يكن من أمر فإن علياً D اضطر طوال فترة خلافته إلى مواجهة معارضيه الذين توسّلوا بالحرب، وكانت هذه الحروب نتيجة طبيعية لبروز سلبيات ظهرت أواسط أيام عمر ونمت تدريجياً فضلاً عن سابقتها التاريخية التي تعود إلى قبل الإسلام، وانتهت هذه المرحلة بشهادة الإمام وسيطرة معاوية على مقدّرات الاُمور([55]).

يعتقد الكثير بأن مشكلات الإمام في فترة خلافته إنما حصلت بسبب نهجه المتشدد والدقيق القائم على العدالة والدين، ورغم صحة هذا الاعتقاد إلا أنه ليس سبباً رئيسياً في كل المشكلات التي واجهته، إذ ينبغي البحث عن جذور الكثير منها في تقلب الأحوال والأوضاع آنذاك، ذلك أن التحول العميق الشامل الذي وقع في تلك الفترة كان كالتيار الذي جرف معه الجميع، إلا من ثلّة من المسلمين المؤمنين المخلصين الذين ثبتوا دون أن يؤثّر بهم هذا التيار الجارف، ووقفوا مع علي D حتى آخر قطرة دم، واستشهد الكثير منهم في حروبه الثلاثة([56]).

التفكك الاجتماعي:

لم يكن يقدر على إنهاء هذه الأوضاع المضطربة أي شخص آخر لو حلّ محلّ عليٍّ D، وعلى العكس تماماً مما يقول الكثير من الكتّاب القدامى والمعاصرين فإن الوضع لم يكن يتغير حتى لو فرضنا وجود الخليفة الأول أو الثاني في هذا الموقع([57])، وقد ارتهن نجاحهما في حفظ الانسجام الاجتماعي بالظروف التي كانت سائدة على عهديهما لا بخصائصهما الذاتية أو سياستهما العامة، ولاشك في أن الإمام كان سيحقق أكثر مما حقّقاه لو بويع بالخلافة حينذاك، ويصح هذا الكلام إلى حدٍّ ما على عثمان أيضاً، ذلك أن فشله لا يعود تماماً إلى خصائصه السلبية، فلو كان قد حلّ محلّه أيّ من سلفيْه لما تغير الأمر، ولواجها مشاكل مماثلة للتي واجهها عثمان.

لقد نسي هؤلاء الكتّاب بأن مشكلات عثمان هي بالدرجة الاُولى استمرار للمشكلات التي واجهها عمر في السنوات الأخيرة من خلافته، وهي متأتية من الأعراض الجانبية للوضع الجديد الذي ظهر بعد الفتوحات الجديدة. لقد كان عمر يستشعر أواخر عمره بأنه فقد نفوذه ولا يستطيع أن يحكم بنفس قدرة السنوات الاُولى لحكمه، وهي حقيقة كانت مرة عليه ولهذا تمنّى الموت مرات عديدة.

ولكن يبدو أن منتقدي الإمام نسوا كل هذه الحقائق؛ لأنهم تجاهلوا في تحليلاتهم التحولات السريعة والأساسية للأوضاع، واعتبروا نجاح كل خليفة يتوقف على سياساته وخصوصياته الذاتية([58]).

وإذا كان معاوية قد استلم زمام الاُمور بعد مقتل عثمان مباشرة لواجه المشاكل التي واجهها علي D رغم اشتهاره بالمداراة والسياسة والكياسة([59])، ولا شكّ في أن أصحاب الجمل كانوا سيتخذون موقفاً من معاوية أشد من موقفهم حيال الإمام علي D؛ لأنهم كانوا على علم تام بكفاءة الإمام الدينية ومؤهلاته الذاتية ومشروعية خلافته المستحصلة من البيعة العامة معه، ولهذا ترددت عائشة في الذهاب لحرب علي D، وفي كل مرة كانت تحاول العدول عن رأيها كانت تُمنع من ذلك بتلفيق الأكاذيب([60])، ثم ندمت بشدة على فعلتها([61]). كما أن الزبير غادر ميدان المعركة في اللحظات الأخيرة([62]).

أما بالنسبة لمعاوية فإنّ أصحاب الجمل كانوا يرون أنه يفتقر إلى أية سابقة أو صلاحية تؤهله ليكون خليفة على الاُمّة، وأنهم أحق منه بالخلافة. وإذا أردنا أن نستشرف مواقف المحايدين لخلافة الإمام علي D كسعد بن أبي وقاص لتأكد لنا بما يقرب من اليقين أنهم كانوا سيقفون بوجه معاوية؛ لأنه كان من الصعب عليهم أن يقتنعوا بأن يستحوذ معاوية على الخلافة بعد عثمان مباشرة ويصبحوا تبعاً له، وقد كان معاوية يحسب لهم حسابهم حتى بعد مدة من أخذه بزمام السلطة المطلقة ويعتبرهم حجر عثرة في طريق خلافة ابنه يزيد.([63])

يصحّ هذا الكلام أيضاً على الموالين لخلافة الإمام، فلا شك في أن قيس بن سعد بن عبادة وأمثاله كانوا سيقفون بوجه معاوية وأمثاله لو حلّوا محل علي D ولم تكن معارضة هؤلاء لمعاوية كونهم محسوبين على جبهة الإمام الذي يقف على النقيض من جبهة معاوية، وإنما كانت معارضة جذرية، لأنهم كانوا يرون الإمام عليّاً  Dهو الخليفة الحق يقاتلون تحت لوائه أو في غيابه حيث كان معاوية يخشاهم حتى بعد شهادة الإمام D.([64])

كذلك فإن مشكلة الخوارج كانت ستبرز بشكل أو بآخر، لأن هذه الطائفة ليست وليدة التحكيم، وإنما كانت هذه الحادثة بمثابة المفجّر لهذه القرحة المزمنة منذ عهد الرسول 9، ذلك أن الخوارج كانوا من عتاة البدو وقساتهم يفهمون الدين بصورة اُخرى فهماً ضيّقاً متحجّراً، وعلى أساس فهمهم هذا كانوا يعترضون حتى على رسول الله 9، وقصة ذلك الرجل (ذو الخويصرة) من بني تميم الذي أصبح فيما بعد أحد زعماء الخوارج وقتل في الجمل معروفة، فقد احتج على رسول الله 9 وهو يقسم غنائم خيبر، وقال: ما عدلت منذ اليوم. فغضب النبي 9 وقال له: »ويحك، فمن يعدل إذا لم أعدل؟!«، ثم قال: »سيخرج من ضِئْضِئ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية«.([65])

وكان لابدّ من أن يمضي بعض الزمن وتطرأ بعض التغيّرات لكي تتبلور هذه المجموعة البدوية المنحرفة في فكرها المتحجر على شكل حزب يقف بوجه النظام الحاكم، فمن الخطأ جداً أن نتصور أن هذا الحزب ولد في حرب صفين بعد التحكيم، فقد كان غُدّة في باطن المجتمع الإسلامي لابدّ أن تتقرّح يوماً ما، وحلّت اللحظة المناسبة لذلك في خلافة عليّ D نتيجة ظروف تلك المرحلة.([66])

ولا شك في أن الخوارج كانوا سيواجهون معاوية بكل قوة لو جلس مجلس علي D في الخلافة، وكان احتجاجهم الوحيد على علي بن أبي طالب D قبوله بالتحكيم داعين إياه إلى التوبة، دون أن يخرج برأيهم عن طريق الإسلام المستقيم والعدالة، ولهذا عدل الكثير من الخوارج عن رأيهم وتركوا النهروان بعد تبصير الإمام وصحابته إياهم بالحقيقة. ولكن هل كانت النتيجة نفسها لو وقفوا بوجه معاوية وليس علي D؟

فمعاوية بنظرهم مظهر للظلم والعدوان والكفر، وما يبرهن على موقفهم منه: وقوفهم بوجهه بعد وصوله إلى السلطة وبوجه الذين أعقبوه من خلفاء بني اُمية، مسطرين ملاحم في هذا الطريق، واستمرت مقاومتهم حتى أوائل العهد العباسي، ثم انتهوا لا بالقوة العسكرية وإنما بزوال أرضية وجودهم واستمرارهم، واُجريت إصلاحات على أفكارهم ومعتقداتهم وأعمالهم وأصبح شأنهم شأن بقية المسلمين.([67])

مصدر المشكلات:

نستنتج: أن المشاكل التي واجهها علي بن أبي طالب D لا تعود إلى عدالته فقط، بل يكمن الجزء الأكبر منها في ظروف تلك الفترة الزمنية، وهي مشاكل كانت ولا بدّ ستواجه أيّ شخص غير الإمام عليٍّ D لو استلم الخلافة في تلك الفترة. ولو استقر الحكم لمعاوية فيما بعد فهو يعود أيضاً للظروف التي ولدت بعد خلافة الإمام علي D لا لخصائص معاوية وشخصيته، فقد قُتل معظم المنافسين الكبار لعليٍّ D، وأتعبت التجارب المريرة في تلك الأيام المجتمع حتى فقد الرغبة في الاستجابة للشخصيات المعروفة الكبيرة، وكأنه قد كبح جماحه وخفّ هديره وبات يبحث عن قدرة توفر له الأمن، وقد توسّم الناس في معاوية قدرته على تحقيق هذا الهدف بمعونة أنصاره الشاميين المطيعين، لكنه حقق لهم أمناً كأمن القبور سلب منهم كل حرية وكرامة إنسانية وسحق جميع المبادئ والمعايير الإسلامية([68]).

كان هذا عرض إجمالي لكيفية وصول الخلافة لعلي بن أبي طالب D وأصوات المعارضة التي ارتفعت ضده، حيث اتجهت الأنظار إليه D بعد أن قرّب عثمان أقاربه للسلطة وأثبت عدم كفاءته للخلافة، وبعد أن عاث ولاته فساداً وأمعنوا في الظلم والعدوان، وهجم الناس لمبايعته حتى وُطئ الحسنان. بعد هذا لا معنى للقول بأن الناس أذعنت أو وافقت على خلافة عليٍّ D، فقد انتخبوه خليفة قبل أن يبايعوه.

ثمة عوامل اُخرى تطرح في هذا البحث، فعلى سبيل المثال يقول مونتغمري واط حول سبب انتصار معاوية والمشاكل التي واجهها علي D: «إنّ معاوية كان مُسنداً من قبل عرب الشام الذين عاشوا تحت سلطته لسنوات، ومعظمهم لا يعرف البادية، بل إنهم أقاموا في الشام منذ جيل أو جيلين، ولهذا كانوا أكثر استقامة واعتماداً من البدو الذين ارتبط بهم علي D. لقد كان لتفوّق عرب الشام من الأسباب المهمة لانتصار معاوية».([69])

إن معارضي الإمام علي D كانوا في الحقيقة من اُولئك الذين يثيرون الفتن ويبحثون عن المشاكل، وبالتالي فإنهم كانوا سيعارضون أي شخص غير الإمام علي D لو حلّ محلّه؛ لأنهم كانوا يطمحون إلى السلطة ويحتجون على وجود غيرهم فيها، وأن ما جمعهم في معسكر واحد هو مخالفتهم للإمام وليس وحدة العقيدة والمنهج، وكان هؤلاء هم وراء إحداث شرخ في وحدة الصف الإسلامي الذي بايع علياً D، وجرّوا إليهم البعض ترغيباً وترهيباً ووضعوهم في الجبهة المقابلة للإمام، فباستثناء عدد قليل جداً بايع الناس الإمام بيعة يمكن القول إنها كانت أوسع وأشمل من بيعتهم للخلفاء السابقين.([70])

بطبيعة الحال فإن كيفية وصول الخلافة إلى علي بن أبي طالب D تختلف عن الخلفاء الثلاثة السابقين، ورغم أن مطلب عامة الذين التفّوا حوله وبايعوه لم يتجاوز تمشية اُمورهم الدنيوية كما في حالة الخلفاء السابقين، لكن ثمة مَن مدّ يد البيعة إليه باعتباره D الخليفة الحق الذي نصّ عليه الرسول 9، لا ليتكفل اُمور دنياهم فحسب، وإنما ليقوم باُمور الدنيا والدين معاً، أي أنها كانت بيعة مع من يستحق الإمامة بمفهومها الواسع كاستمرار للنبوة والرسالة بل ونتيجتها الطبيعية والمنطقية. ومع قلة عدد هؤلاء إلا أنهم وقفوا  إلى جانب الإمام ودعوا الناس إليه ولعبوا دوراً مصيرياً في حروبه واستشهد معظمهم فيها([71]).

تغيير الحقيقة:

هذه كانت حقيقة تاريخ الخلفاء الراشدين, فإذا مرّت الفترة الاُولى منه هادئة فبسبب الانهماك بالأخطار الخارجية والتهديدات الداخلية (في المرحلة الاُولى)، وبسبب الفقر والبساطة وانغلاق المجتمع, وإذا مضت الفترة التالية مضطربة متأزمة فبسبب الظروف التي نتجت عن غياب الخطر الخارجي والثراء المفاجئ. وقد كان انتخاب الخلفاء آنذاك حدثاً طبيعياً لدى عامة الناس دون أن يكون لهذا المنصب أية مزايا خاصة حتى في نظر الخلفاء أنفسهم.

فحينما يقول أبو بكر: «أقيلوني فلست بخيركم»، أو يقول: «إنّ لي شيطاناً يعتريني»، أو «وإن زِغت فقوّموني» لم يكن يقصد في قوله مزاحاً أو خفضاً للجناح، وإنما كان يفكر بهذه الطريقة حقاً، وينظر إليه الآخرون هذه النظرة لا غير. وحينما يدعو عمر إلى مراقبة سلوكه وتنبيهه على خطئه فقد كان جاداً في قوله، وحينما ينهض الأعرابي من مكانه ويقسم بالله أنّه سيقوّمه بالسيف لو زاغ عن الطريق فإنه يبين في الحقيقة نظرة الناس إلى الخليفة والخلافة.([72])

ولكن جرى تصوير هذه المرحلة فيما بعد بشكل آخر، وزالت عنها تدريجياً الصبغة المادية والإنسانية والدنيوية لتستبدل بصبغة دينية وروحية بل ومقدسة أيضاً، واتخذت مرحلة تاريخ مسلمي صدر الإسلام صورة التاريخ الناصع الذي تحقق فيه الإسلام بتمامه، ولهذا أصبحت هذه المرحلة على طول تاريخ الفترات الإسلامية الاُخرى جزءاً من الدين، بل وباتت تفسّر الدين، وحظيت بمنـزلة موازية لمنـزلة فترة الرسول 9. ولكن لماذا حصل هذا التحول؟ وكيف؟ وما هي تبعاته؟

بعد أن أمسك معاوية بزمام السلطة، واضطر الإمام الحسن D للسكوت اتخذ معاوية إجراءات أصبحت فيما بعد سبباً لتغييرات مهمة في تاريخ الإسلام وفي فهم المسلمين للإسلام، ورغم أنه كان يستهدف تحقيق أغراض اُخرى، إلا أن النتيجة أثّرت بشكل كبير على التكوين الكلامي والفقهي والاعتقادي للمسلمين؛ بحيث لا نبالغ إذا قلنا: إنّه لا يمكن أن نستوعب تحولات فهم المسلمين للإسلام في جميع جوانبه لو لم نأخذ بالاعتبار هذه الإجراءات.([73])

ففي ذروة سطوة معاوية وقدرته كان له ثمة معارضين مهمين يعرفهم بدقة، وهم: عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وعائشة وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وقيس بن سعد بن عبادة والأنصار وشيعة علي بن أبي طالبD، وكانت المعارضة لمعاوية سياسية في طابعها الأعمّ، سوى معارضة الشيعة والخوارج فإنها انطوت على بُعد عقائدي. وكان معاوية يملك من الذكاء والدهاء ما يمكنه من مواجهة معارضيه السياسيين ويرغمهم على السكوت بالتهديد والوعيد، ولهذا كان يطيق هذه المعارضة، إلا أن ما كان يخشاه هو السلطة المعنوية  لعلي بن أبي طالب D الذي لم يكن بطبيعة الحال حياً في تلك الفترة، ولم يكن معاوية يخشى شخص عليٍّ D، وإنما يخاف شخصيته، هذه الشخصية التي كانت ترفض وتعارض سلطته المطلقة ومشروعيته في الحكم، فإذا استطاع معاوية أن يحطِّم هذه الشخصية والقداسة لعليٍّ D لأخذ بثأره وثأر بني اُمية التاريخي منه، ولأزاح عنه أعظم حائل أمام مشروعيته واستمرار سيطرته وسيطرة بني اُمية على الحكم.([74])



(1) حقيقة الأمر أن رسول الله 9 أيضاً لم يكن يحاط بتلك الدرجة من الاحترام والقداسة من قبل عامة الناس، لاسيما من قبل قريش، وذلك ما يستنتج من تعاملها معه، ولم تكن نظرتها إلى الرسول 9 تساوي نظرة سائر المسلمين إليه، وترى أنّ شأنه ومنـزلته أدنى بكثير من الحد الأدنى الذي كان يجمع عليه المسلمون آنذاك، والرواية التالية خير مثال على ذلك: يقول عبد الله بن عمر: إنّه كان يدون كل ما يسمعه عن الرسول 9 ليحفظه، فمنعته قريش عن ذلك متذرّعة بأنّ الرسول لا يعدو كونه إنساناً كغيره قد ينطق عن غضب، فامتنع عبد الله عن الكتابة وأخبر الرسول 9، فأشار 9 إلى فمه وأقسم له بأنه لا يخرج منه إلا الحق.

     انظر: مسند أحمد: 3/162.

     والمثال الآخر هو اعتراض ذي الخويصرة على النبي 9 واتهامه إياه بعدم مراعاة العدل. الملل والنحل: 1/116. وثمة أمثلة اُخرى كثيرة تؤكد هذه الحقيقة، لكن المسلمين فيما بعد رفعوا من مستوى اعتقاد مسلمي صدر الإسلام ولا سيما قريش بالرسول9 بما ينسجم مع تصوراتهم له، أي أنهم قالوا: إن هؤلاء صحابة الرسول ولابدّ أن تكون عقيدتهم به بهذا المستوى، ولم يكن مهماً معرفة المستوى الذي كان عليه هذا الاعتقاد عملياً، ومن الطريف في الأمر أن قريشاً حظيت فيما بعد بأرفع الدرجات لدى مسلمي الأجيال الاُخرى؛ لأنهم اعتقدوا بأنها كانت الأقرب والأوفى للرسول 9.انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: 150 155، وكنـز العمال: 13/24 36.

(1) تنقل جميع مصادر التاريخ الإسلامي التي تتضمن أحداث فترة الرسول 9 وبعد رحيله حدث انتخاب أبي بكر وما رافقه من نزاع بصورة متقاربة، وفي هذا دلالة على صحة النقل.كمثال راجع: الإمامة والسياسة: 1/2 17.

(1) أسّس الإسلام مجتمعاً جديداً جمع فيه بين القيم الدينية والدنيوية، ويوضّح أحمد أمين في: "فجر الإسلام": 6997 كيف تحقق هذا الدين وغيّره واستمر رغم التراث الجاهلي. كذلك انظر: العقيدة والشريعة في الإسلام: 942 و:

Shorter Encyclopaedia of Islam, pp. 350- 510.                                   

(1) الإسلام واُصول الحكم: 175-176، وللمزيد من التوضيح راجع الصفحات 171182.

(1) لم يشر أحد إلى وصية الرسول لأبي بكر بالخلافة إلا نفر قليل، منهم : الحسن البصري ومحب الدين الطبري وجماعة من أهل الحديث. معالم الخلافة في الفكر السياسي الإسلامي: 133. ويحاول ابن حزم أن يثبت خلافة أبي بكر بالنصّ، وذلك في بحث متكلف ومفصل. الفصل: 4/107 111. انظر إلى نقد هذه النظرية في: الإسلام واُصول الحكم: 172 و173، ونقدها الأدقّ في: النظم الإسلامية: 84 85. والطريف أنّ ابن جزّي من علماء غرناطة المعروفين في القرن الثامن يرى أن خلافة أبي بكر وعمر انعقدت بإشارة الرسول 9 ووصيته. انظر كتابه: القوانين الفقهية: 17.

(2) حول مخالفة الأنصار لانتخاب أبي بكر راجع : الإمامة والسياسة: 5-10، وكذلك ردّ أبي بكر وعمر على الأنصار في الصفحتين 6و7.

(3) قال أبو سفيان لما رُشّح أبو بكر للخلافة: «أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيمي، والله لأملأنّ الوادي خيلاً ورجلاً». المواقف: 401.

(1) حول معارضة بني هاشم راجع: الإمامة والسياسة 410 و1316. ويتضح من كلام لعلي D قاله فيما بعد عن سبب عدم مقاومته بأنّ معارضي أبي بكر كانوا أكثر. كمثال انظر خطبته D في: الغارات1/302، وكلامه في كشف المحجة للسيد ابن طاووس.

(2) لم يكن الكثير ممن اُتهموا بالارتداد وعُرفوا بأهل الردّة من المرتدّين حقاً، وإنما كانوا من المعارضة السياسية لأبي بكر، وليسوا ممن رفض الإسلام وخرج عنه. انظر في ذلك: الإسلام واُصول الحكم:177-180، والنص والاجتهاد: 136-150،وفجر الإسلام: 80-81. ولفهم آراء ونظريات وتحليل اُولئك الذين يعتبرون جميع المتهمين بالارتداد مرتدين حقيقة، والذين دافعوا عن مواقف أبي بكر راجع: البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها لعزة علي عطية: 32-33، فهو ينقل وثائق هذه القضية بالتفصيل.

(1) كمثال راجع استدلالات الموافقين والمعارضين لانتخاب أبي بكر في: الإمامة والسياسة: 4-16.

(2) الاستدلال على أنّ الخلافة والإمامة تليق بشخص مثل علي بن أبي طالب D جرى توضيحه ليس من قبل علي D وحسب، وإنما من قبل الأئمة (عليهم السلام) من بعده أيضاً. كمثال راجع رسالة الإمام الحسن D إلى معاوية في: نظرية الإمامة عند الشيعة الإمامية: 318-319، وحول الشروط التي يجب توفرها في الإمام راجع: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 8/263.

(1) انظر خطبته الكاملة في: الإمامة والسياسة: 1/12. والطريف في المقام أنه بعد أن أنهى D خطبته قال بشير بن سعد المنافس الأكبر لسعد بن عبادة: «لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان».

     وكان بشير كبير قبيلة الأوس، وأدّى تعاونه في أمر البيعة على منح عمر للأوس حصة أكبر من الخزرج أثناء خلافته. راجع: ثورة الحسين لمحمد مهدي شمس الدين: 16.

(2) «... وأنّ بني هاشم اجتمعت عند بيته الأنصار إلى علي بن أبي طالب، ومعهم الزبير.. واجتمعت بنو اُميّة إلى عثمان، واجتمعت بنو زهرة إلى سعد وعبد الرحمن بن عوف». الإمامة والسياسة: 10 11.

(3) تأريخ الطبري: 3/197.

(1) ينقل ابن قتيبة كيفية أخذ البيعة من عليD كالتالي: فبعد أن استدعي D للبيعة مرتين مشى إليه عمر مع جماعة، «فأخرجوا علياً فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمَ؟ قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك، قال: إذاً تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال عمر: أمّا عبد الله فنعم، وأمّا أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك ، فقال: لا اُكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه». الإمامة والسياسة: 1/13. يضيف ابن قتيبة بعد أن ينقل القضية بتفاصيلها: «فلم يبايع علي كرم الله وجهه حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها». نفسه/14، وانظر أيضاً: رياحين الشريعة: 2/341.

(2) الاستدلال المهم والوحيد الذي كان يستدلّ به آنذاك هو: أنّ العرب لا تخضع لغير قريش. [الإمامة والسياسة: 6و8]. وشرح عمر فيما بعد وبالتفصيل في أول خطبة له بعد حجّه الأخير في المدينة قصة انتخاب أبي بكر والأحداث التي رافقتها. راجع: مسند  أحمد بن حنبل: 1/55 56.

(1) استشهد في اليمامة ألف ومائتي مسلم بينهم ثلاثة وعشرون من قريش وسبعون من الأنصار. [التنبيه والإشراف: 248]. قال عمر لأبي بكر بعد معركة اليمامة التي قتل فيها أخوه زيد ابن الخطاب: «إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تجمع القرآن». العواصم من القواصم: 67.

(2) حول المرتدين الذين أعرضوا عن الإسلام وشكّلوا تهديداً حقيقياً على المدينة راجع البحث المفصل والمنقح في كتاب موير Muir, The Caliphate, pp. 11-410.

     وكذلك: التنبيه والإشراف :247 250.                   

(1) كانت الحروب المستمرة تشغل المسلمين يوم ذاك، ففي تلك الفترة انصرفوا لقتال الروم والفرس. راجع الملل والنحل: 1/18.

(2) كنـز العمال: 5/658، وكذلك: العواصم من القواصم: 45. وانظر في هامش الصفحة المشار إليها وثائق هذه الواقعة والنقل المختلف حولها.

(3) حقيقة الأمر: أنّ خلافة عمر لم تستقرّ دون مشاكل، يقول ابن قتيبة: « ثم إنّ أبا بكر عمل سنتين وشهوراً، ثم مرض مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه اُناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فيهم عبد الرحمن بن عوف، فقال له: كيف أصبحت يا خليفة رسول الله، فإني أرجو أن تكون بارئاً؟ قال: أترى ذلك؟ قال: نعم، قال أبو بكر: والله إني لشديد الوجع، ولِما ألقى منكم يا معشر المهاجرين أشدّ عليّ من وجعي، إني ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه إرادة أن يكون هذا الأمر له، وذلك لما رأيتم الدنيا قد أقبلت...». الإمامة والسياسة: 1/18، شرح ابن أبي الحديد: 20/23، الملل والنحل: 1/25.

     ويذكر ابن أبي الحديد المعارضة الصريحة لطلحة ويقول: «... ولقد قال له طلحة لما ذكر عمر للأمر: ماذا تقول لربك إذا سألك عن عباده وقد ولّيت عليهم فظّاً غليظاً؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أجلسوني، بالله تخوفني! إذا سألني قلت: ولّيت عليهم خير أهلك؛ ثم شتمه بكلام كثير منقول». نفسه: 24.

     وثمة آخرون احتجّوا على استخلاف عمر غير طلحة حسب الروايات الواردة في كنـز العمال في هذا الباب. ففي رواية عن أحد الصحابة: أنّ عبد الرحمن بن عوف وعثمان دخلا على أبي بكر، وسمع بعض أصحاب النبي بدخولهما على أبي بكر وخلوتهما به، فدخلوا عليه واعترضوا على استخلاف عمر بسبب غلظته. كنـز العمال: 5/675. وفي رواية اُخرى أنه لما عهد أبو بكر الخلافة إلى عمر دخل عليه طلحة وقال: أنا رسول من ورائي إليك، يقولون: قد علمت غلظة عمر علينا في حياتك فكيف بعد وفاتك...؟ نفسه: 678.

     «وكان أول كلام تكلم به عمر أن قال: اللهم إني غليظ فليّني وإني ضعيف فقوّني، وإني بخيل فسخّني». نفسه: 684. وخطبته تعزّز الرأي القائل بوجود هذه الاعتراضات والاحتجاجات ضده، وأنها كانت ذات طابع عام.

     وبطبيعة الحال هناك عوامل اُخرى تدخلت، يقول ابن أبي الحديد:«... قال أبو بكر في مرض موته أيضاً للصحابة: فلمّا استخلفت عليكم خيركم في نفسي فكلكم ورم لذلك أنفه، يريد أن يكون الأمر له، لما رأيتم الدنيا قد جاءت، أما والله لتتخذن ستائر الديباج ونضائد الحرير». شرح ابن أبي الحديد: 20/24.

(1) على عكس أبي بكر كان عمر يرى لنفسه نوعاً من الصلاحية الشرعية، وهذه الصلاحية كما يفهم من كلامه وسلوكه كانت ناشئة عن مكانته كحاكم للمسلمين، وليست لمنـزلته الشخصية أو الدينية. روى ابنه عبد الله قال: «خطبنا عمر بالجابية [قرب القدس] فقال: يا أيها الناس، إني قمت فيكم كمقام رسول الله9فينا». سنن الترمذي: 4/465.

     وقد برهن فيما بعد بأنّه كان يرى لنفسه حقّاً شأن الحاكم، فراجع عن سلسلة إجراءاته التي نشأت عن مثل هذا الشأن: النص والاجتهاد: 148- 383. وقد عرّف الفقهاء والمتكلّمين فيما بعد ودوّنوا الأحكام الحكومية على أساس هذا الشأن، حول ذلك انظر: الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام لأحمد بن إدريس القراني: 390396، وخصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم: 310319، والاعتصام للشاطبي: 2/121- 122.

(1) لما أراد عمر أخذ البيعة من علي D لأبي بكر مارس عليه ضغوطاً حتى قال D: «احلب حلباً لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً». الإمامة والسياسة: 1/11.

     وقال عمر عندما أراد تعيين الخليفة من بعده: «لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح باقياً استخلفته وولّيته». نفسه:23. ومن الطريف: أنّ أبا عبيدة كان أول من ذكره عمر من الماضين وتأسّف على موته.

(2) من اُصول الفكر السياسي: 347.

(1) يمكن استنتاج هذه الملاحظة من خلال دراسة الخصوصيات الأخلاقية والفردية للخليفة الثاني والخصائص النفسية والتربوية والأخلاقية للعرب في عهد الرسول 9 والفترة السابقة والتالية له. راجع: كنـز العمال: 5/674687، وكتاب: عمر بن الخطاب لعبد الكريم الخطيب: 42- 52 و371- 440. وكذلك راجع وصيته لخليفته التي تكشف عن أفكاره وميوله الروحية والنفسية في: البيان والتبيين: 2/47 و48.

(1) يصور عبد الله بن عمر الظروف الخطيرة آنذاك بالشكل التالي: «لمّا قُبض النبي 9 اشرأبّ النفاق بالمدينة، وارتدت العرب، وارتدت العجم وأبرقت، وتواعدوا نهاوند وقالوا: قد مات هذا الرجل الذي كانت العرب تُنصر به، فجمع أبو بكر المهاجرين والأنصار وقال:إنّ هذه العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم ورجعوا عن دينهم،وإنّ هذه العجم قد تواعدوا نهاوند ليجمعوا لقتالكم، وزعموا أنّ هذا الرجل الذي كنتم تُنصرون به قد مات، فأشيروا عليّ فما أنا إلا رجل منكم، وإني أثقلكم حملاً...».كنـز العمال: 5/660.

(2) الروايات التي تكشف عن خوف المسلمين من مواجهة فارس حتى في عهد عمر كثيرة. ومن المعروف أن عمر كان يخشى الإقدام على هذه الخطوة, ولهذا قرّر عدة مرات الذهاب إلى ميدان القتال بنفسه، حتى طرد عليّ D عنه الخوف ومنعه من الذهاب في بيان موجز مليء بالمعاني: «إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة. وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ...». نهج البلاغة: الخطبة(146).

(1) لمعرفة الغنائم التي حصل عليها المسلمون في حروبهم مع الفرس والروم راجع: الأخبار الطوال، والكامل في التاريخ: 2/38 68.

     ويقول أحمد أمين نقلاً عن الأخبار الطوال: «إنّ المسلمين أصابوا يوم جلولاء غنيمة لم يغنموا مثلها قطّ، وسبوا سبياً كثيراً من بنات أحرار فارس. فذكروا: أنّ عمر بن الخطاب كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من أولاد سبايا الجلوليات...» فجر الإسلام:95، الملل والنحل: 1/2526.

     وروى نافع عن عمر: أنّه قال حين أتاه فتح القادسية: «أعوذ بالله أن يعقبني الله بين أظهركم حتى يدركني أولادكم من هؤلاء، قالوا: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: ما ظنّكم بمكر العربي ودهاء العجمي إذا اجتمعا في رجل» كنـز العمال: 5/702.

(1) يوضح غولدتسيهر هذه التجربة الجديدة التي دخلها المسلمون بأثر الثروة الكبيرة التي هبطت عليهم من الحروب، وينقل رواية للرسول 9 يتنبّأ فيها ذلك. راجع: الحديث 36 من كتاب الجهاد في صحيح البخاري، والعقيدة والشريعة في الإسلام: 340.

     ويبين طه حسين بصورة اُخرى انتهاء عُمُر الخلافة بالصورة التي كانت عليها أيام الشيخين. الإسلاميات: 662.

(2) من اُصول الفكر السياسي الإسلامي: 350.

(1) سيرة ابن هشام: 4/337338، وكذلك مسند ابن حنبل: 1/5556.

(1) حول وصية عمر وشروطها انظر: الإمامة والسياسة: 1/2325. ومن المناسب أن ننقل رأي علي الوردي بشأن المشاكل والصعوبات التي واجهها عمر في تعيين خليفته، ونظراً إلى ميوله الشيعية فإنه يؤكد على أنّ عمر لم يعيّن علياً مكانه خوفاً من مخالفة قريش. ولسنا الآن بصدد إصدار الحكم على صحة الرأي من عدمه، وإنما يهمّنا أن نبين ظروف تلك الفترة: «قد يظنّ البعض في هذا العصر أنّ عمر كان يستطيع أن يعين خليفته فيقبل الناس منه هذا التعيين ويرضخون له. إننا الآن ننظر في الأمر نظراً سطحياً، ولا ندري ماذا كان يجري وراء الستار في ذلك الحين من مؤامرات ومكايدات؟

     ولو أنّ عمر ولّى علياً من بعده لرأينا قريشاً تقوم وتقعد، وتقلب الدنيا على رأس عليٍّ .. عدوّها اللدود».

     ويضيف في مكان آخر: «يبدو في هذا أنّ عمر كان حائراً يودّ أن يوصي بالخلافة لعليٍّ، ولكنّه يرى أن قريشاً ستقاومه وتتحزّب ضدّه». وعّاظ السلاطين: 199 201.

(2) رغم ما حظي به الخليفة الثاني من مكانة مميزة، وجرت في العهود التالية محاولات مستمرة لمتابعة نهجه غير أنّ أحداً لم يتّبعه في اُسلوب تعيين الخليفة، ومع أنّ متكلمي أهل السنّة حدّدوا جميع أنواع تعيين الخلفاء لكنهم لم يذكروا طريقة الخليفة الثاني. انظر: الأحكام السلطانية: 611.

(1) كنـز العمال: 5/744 745.

(2) الفكر السياسي الشيعي: 248، نقلاً عن الفلسفة السياسية للإسلام، تأليف عبد الدايم أبو العطاء: 3132.

(1) كتاب الزهد لأحمد بن حنبل: 2/3943، وكذلك : تاريخ الخلفاء: 147153، ولاسيما هوامش محب الدين الخطيب على العواصم من القواصم:5355. لاحظ نقداً شاملاً وعادلاً للأحاديث المذكورة في فضائل عثمان في كتاب الغدير: 9/ 265361.

(1) مقدمة ابن خلدون: 1/390 393. انظر تفصيل ما ينقله ابن خلدون عن المسعودي في: مروج الذهب: 2/341 342.

(1) الملل والنحل: 1/26. حول فسق وفجور ولاة عثمان راجع: فجر الإسلام: 7981. ويحتوي كلام الشهرستاني في بعض أهم الانتقادات الموجهة لعثمان في حياته وبعدها، قارنها مع تبريرات ابن عربي في العواصم من القواصم: 63122، ولاسيما هوامش محب الدين الخطيب.

(1) من الأمثلة الواضحة على ذلك: حاكم الكوفة الوليد بن عقبة، فقد كان يسهر حتى الصباح مع ندمائه ومغنّيه وشرابه، وقد صلّى الفجر مرة أربع ركعات وهو في حالة من السكر، وطلب الشراب وهو في السجود، وقال في ردّه على اعتراض المسلمين عليه: لو شئتم لصلّيت أكثر من هذا. انظر قضية اعتراض أهل الكوفة على عثمان وردّ فعله وإقامة الحدّ عليه من قبل عليّ D في : مروج الذهب: 2/344345، وقارِن مع كلام ابن تيمية في الردّ المتكلّف والمتعصّب على المعترضين بسبب تولية عثمان أقاربه الفاسقين. منهاج السنّة النبوية: 3/173 176.

(1) انظر تفاصيل اعتراض المسلمين على عثمان ومحاصرتهم له وقتله، وكيفية الصلاة عليه ودفنه في: تاريخ الخلفاء: 157164، والإمامة والسياسة: 1/3245، ومروج الذهب: 2/345357. والطريف أن ابن أبي الحديد يقول عن اعتراض عائشة على عثمان: بأنّه كان من الجرأة والصراحة والقوة والعنف بحيث لا يجرؤ اليوم أحد أن يتفوّه به، ويقول: إن عائشة قالت في عثمان كذا، شرح ابن أبي الحديد: 2/11.

(2) حول محاولات معاوية الواسعة لتزوير أحاديث في فضل عثمان راجع كتاب: شرح ابن أبي الحديد: 11/15و16. ومن الاُمور التي كان يتمسك بها الاُمويون محاولاتهم لإضفاء المشروعية والحق على حكمهم باعتبارهم ورثة عثمان شرعاً وقانوناً، وقد نحا شعراء البلاط الاُموي هذا المنحى. لكن هذا كان جانباً من القضية، أما الجانب الآخر فهو إضفاء هالة من القداسة على عثمان والتركيز على مظلوميته، فكلما ارتفع شأن عثمان كلما ارتفعت منـزلة ورثته وخلفائه، والعكس صحيح أيضاً، أي لو حامت الشكوك حول مكانته لانتقلت هذه الشكوك إلى بني اُمية. كان هذا هو العامل الأهم في إخفاء قداسة على شخص لم يكن يحتلّ أثناء خلافته أي موقع في قلوب رعيته. للمزيد من التوضيح راجع: الاُمويون والخلافة: 1217.

     وحول النقاش الذي دار فيما بعد حول عثمان ومقارنته بالخلفاء الراشدين سواء بين المتكلمين أو بين أهل الحديث راجع: شرح ابن أبي الحديد: 1/610، وكذلك: المواقف: 407413. وعن انتقادات المفكرين الإسلاميين وأصحاب الميول الثورية راجع: انديشه سياسي در إسلام معاصر (الفكر السياسي في الإسلام المعاصر): 150.

(1) راجع: هوامش محب الدين الخطيب على العواصم من القواصم: 6365.

(2) تاريخ الخلفاء: 156.

(1) الإسلام واُصول الحكم: 181.

(2) هذه جملة معروفة رويت عن عمر في مناسبات مختلفة. انظر: تجريد الاعتقاد: 245، وشرح ابن أبي الحديد: 2/26.

(1) «والذين بايعوا علياً بإمارة المؤمنين لم يبايعوه لأنه...، بل لأنهم رأوا أنه أحق المسلمين بولاية أمر المسلمين تماماً، كما رأى المسلمون السابقون أحقية أبي بكر بالخلافة فانتخبوه ومن بعده عمر ثم عثمان» إسلام بلا مذاهب:170.

(2)كمثال على هذه التوقعات دقّق في اقتراح أبي موسى الأشعري في مروج الذهب:2/409.

(3) عن اختلاف طلحة والزبير حول إمامة الجماعة وقيادة الجيش قبل معركة الجمل راجع: نقش عايشة در تاريخ إسلام (دور عائشة في التاريخ الاسلامي): 2/4865.

(1) عن مقتل طلحة على يد مروان في معركة الجمل انظر المصدر السابق: 173175. وكذلك العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم: 240241، وانظر أيضاً الردّ المتكلف على هذه النظرية في: العواصم من القواصم: 155157، ولاسيما الردّ الأكثر تكلّفاً لمحب الدين الخطيب في هوامش نفس الصفحات.

(2) رغم أن شخصاً كسعد بن أبي وقاص لم يقف مع الإمام علي D بيد أنه لم يقف بجانب خصومه أيضاً، وقد امتنع عن نصرة علي D في عبارته المأثورة التي يقول فيها: إنه لا يقاتل حتى يُعطى سيفاً يفكر وينظر وينطق ويقول: أيهما على حق وأيهما على باطل. انظر : الفتنة الكبرى: 5.

     لكنه امتنع أيضاً عن سبّ الإمام علي D بعد ما سمعه من الرسول 9 فيه، وقال: «لو وضع المنشار على مفرقي على أن أسبّ علياً ما سبيته أبداً بعدما سمعت من حقه رسول الله صلى الله عليه وآله ما سمعت». انظر: رواية كنـز العمال في هذا الصدد والمنقولة بأسانيد مختلفة في المجلد: 13/162 163.

(1) الخلافة والإمامة لعبد الكريم الخطيب: 121.

(1) مقدمة ابن خلدون: 208.

(2) شرح ابن أبي الحديد 20/8.

(3) يمكن ملاحظة أفضل مثال على هذه التوقعات اللامشروعة في مجادلات طلحة والزبير مع الإمام علي D. راجع: نقش عايشة در تاريخ إسلام (دور عائشة في تاريخ الإسلام): 3541.

(4) لا شك أن أحد الأسباب الرئيسية للمعارضة التي واجهها الإمام علي D أثناء تولّيه للخلافة هو الحقد القديم لقريش، وقد أشار الإمام D إلى ذلك في مناسبات عديدة، منها: أنه ذكر مرة أن حقد قريش على الرسول 9 انتقل إليه وسيُصوَّب ضد ذريته فيما بعد، وأكد أنه لم يقاتلها إلا طاعة لأمر الله ورسوله.

     انظر: الشيعة والحاكمون : 17.

     وقد أدرك الآخرون أيضاً هذا الأمر، فقد قال عمر للعباس يوماً: بأن الخلافة لو كانت قد وصلت إليه لما استطاع أن يتعايش مع قومه؛ لأنهم ينظرون إليهم نظرة البقرة إلى ناحرها. وللصحابي الجليل ابن التيهان قول في الإمام علي D مانصّه: «يا أمير المؤمنين، إنّ حسد قريش إياك على وجهين، أمّا خيارهم فحسدوك منافسة في الفضل، وارتفاعاً في الدرجة. وأما أشرارهم فحسدوك حسداً أحبط الله به أعمالهم، وأثقل به أوزارهم، وما رضوا أن يساووك حتى أرادوا أن يتقدموك، فبعدت عليهم الغاية، وأسقطهم المضمار، وكنت أحق قريش بقريش، نصرت نبيهم حياً، وقضيت عنه الحقوق ميتاً، والله ما بغيهم إلا على أنفسهم، ونحن أنصارك وأعوانك...». انظر: الفكر السياسي الشيعي: 204206، وراجع أيضاً آراء زياد بن الغم الشعباني المتوفّى عام (156 هـ) والشعبي في هذا الباب نقلاً عن محب الدين الخطيب في هوامش كتاب: العواصم من القواصم: 168 169.

     والحق أن مخالفة قريش لم تنحصر بعلي D، بل إنها كانت تشمل النبي 9 أيضاً، كما يُلاحظ ذلك مراراً في أواخر عمره الشريف، فقد روى الشيخ المفيد عن الإمام الصادق D: أنه بلغ رسول الله 9 عن قومٍ من قريش أنهم قالوا: أيرى محمد أنه قد أحكم الأمر في أهل بيته، ولئن مات لنعزلنّها عنهم، ولنجعلها في سواهم.. انظر: الأمالي: 113.

     وحول موقف قريش هذا وعلى رأسها أبي سفيان من بني هاشم حتى في عهد الرسول 9 انظر رواية عبد الله بن عمر في كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية: 155، وكذلك مخاطبة أبي سفيان لقبر حمزة عم الرسول 9 في قاموس الرجال: 10/89.

(1) انظر إلى تحليلات طه حسين بشأن التحولات الاقتصادية والدينية في تلك الفترة في: الفتنة الكبرى: 170 181.

(2) انظر خطبة أبي حمزة في البيان والتبيين: 2/100 103.

(1) لاحظ مختصراً لهذه الانتقادات في: نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية: 280.

(2) لقد كانت التحولات الاجتماعية والاقتصادية وتبعاً لها الدينية والفكرية والسياسية في الصدر الأول من السرعة والعمق بحيث جعلت شخصاً سياسياً كمعاوية عاجزاً أمامها، وقد اعترف بعجزه في خطبة له لمّا دنت ساعته قائلاً:«أيها الناس، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد، يُعدّ فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عتوّاً...». عيون الأخبار:2/259.

(3) حقيقة الأمر أن عائشة لم تكن مصرّة ولا راغبة بدخول معركة مع الإمام علي D. وقد حاولت مرات عديدة الإعراض عن هذا الأمر لكن عبد الله بن الزبير وهو ابن أختها أثناها عن محاولاتها. انظر: نقش عايشة در تاريخ إسلام: 2/5152.

(4) ندمت عائشة بعد معركة الجمل بشدة على فعلتها، وقد بيّنت ندمها بصور عدة، منها أنها أرادت الثأر لحجر بن عدي بعد استشهاده على يد معاوية، إلا أنها خشيت «أن تتجدد واقعة الجمل» كما جاء على لسانها. انظر: الفكر السياسي الشيعي: 291.

(5) انظر في: نقش عايشة در تاريخ إسلام 2/160170، حول تفاصيل مغادرة الزبير لميدان المعركة.

(1) كمثال راجع الإمامة والسياسة: 177 و189 و191.

(2) ثمة أسباب كثيرة تقف وراء مساندة الأنصار لعلي بن أبي طالب D ومعارضتهم لمعاوية والاُمويين، فقد وقفوا إلى جانب علي كنتيجة لمخالفتهم معاوية، وهو موقف استمر مع التاريخ. وقد طعن معاوية فيهم مرات عديدة، كما سار على هذا النهج يزيد وسائر الاُمويين وأنزلوا فيهم السيف، ينقل محمود صبحي عن المسعودي الرواية التالية: «وحينما صالح الحسن... أصرّ قيس بن سعد على الاستمرار في الحرب وخيّر جنده بين أن يذهبوا إلى ما ذهب إليه الحسن أو الاستمرار في الحرب دون إمام».

     ثم يقول: «فكان بحق يدرك جيداً ماذا يعني حكم الاُمويين للأنصار». نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثني عشرية: 44. وثمة موقف آخر لقيس بن سعد في رسالة بعثها إلى النعمان بن بشير الذي كان أنصارياً ثم انفصل وأبوه عنهم لأسباب قبلية، وانحاز إلى معاوية، يقول فيها: «أمّا معاوية فلو اجتمعت العرب على بيعته لقاتلتهم الأنصار». المصدر نفسه. حول الخلاف الجذري بين الاُمويين والأنصار راجع الإمامة والسياسة: 1/177220، وعن العداء بين معاوية والأنصار انظر البيان والتبيين: 1/129.

(1) تنقل هذه الرواية عامة كتب التاريخ والحديث، انظر على سبيل المثال: هامش الملل والنحل: 1/116. والطريف أن ابن تيمية ينقل أيضاً هذه الحادثة في: السياسة الشرعية: 46. وعن الأحاديث الواردة حول الخوارج راجع كنـز العمال: 11/286 323.

(2) حول ظهور الخوارج واستمرارهم راجع الكتاب المفيد: الخوارج في العصر الاُموي لنايف معروف، والكتاب الأقدم: الخوارج والشيعة لفلهاوزن، ترجمة عبد الرحمن بدوي.

     وأفضل من وصفهم هو الإمام نفسه، إذ قال بعد معركة النهروان حينما سُئل عنهم أنهم قوم فتنوا فعُموا وصُمّوا. انظر المصنف: العدد 18656, وكذلك: قراءة جديدة في مواقف الخوارج وفكرهم وأدبهم: 7582.

(1) كمثال انظر خطبة أبي حمزة في الفقرة التي تخص التعريف بمعاوية ويزيد وبني مروان، البيان والتبيين: 2/100103. وعن الإصلاحات والتعديلات التي شهدتها فرقة الخوارج فيما بعد انظر فقه الأباضية وكلامهم، لاسيما كتاب: إزالة الاعتراض عن محقي آل أباض، والاُصول التاريخية للفرقة الأباضية.

(1)  اقترنت سياسة بني اُمية بالقهر والإرهاب والضغط والعنصرية، وتلبّست بزيّ الجبر الديني، كمثال انظر خطبة معاوية أثناء أخذ البيعة لابنه يزيد في الإمامة والسياسة: 1/183 191، والخطبة المرعبة لزياد بن سمية في أهل البصرة في البيان والتبيين: 2/5860، وخطبة عبد الملك بعد موت أبيه مروان في أنساب الأشراف: 1/164، وكذلك خطبته بعد مقتل مصعب بن الزبير في: الاُمويون والخلافة: 120، وأيضاً رسالة يزيد بن عبد الملك في استخلاف ولديه في تأريخ الطبري: 7/219، والخطب المتعددة للحجّاج التي أوردها الجاحظ في الجزء الثاني من البيان والتبيين،  لاسيما خطبته في أهل العراق على الصفحتين 114 و115. ولاحظ كتاب: الاُمويون والخلافة لحسين عطوان. والأوضح
من كل ذلك ما نقله عبد الله بن مروان ابن آخر خليفة اُموي إلى المنصور عن لسان ملك النوبة حول سبب سقوط حكم اُسرته، فقد قال هذا الملك لعبد الله بعد حوار معه: «...بل أنتم قوم استحللتم ما حرّم الله عليكم، وأتيتم ما عنه نهيتم، وظلمتم فيما ملكتم، فسلبكم إلله العزّ وألبسكم الذلّ بذنوبكم، ولله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم، وأنا خائف أن يحلّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم..» مقدمة ابن خلدون: 207.

(1) W.M.Watt, The Majesty That Was Islam, p.18.

     ويؤكد الجعفري آراء واط حول الفرق بين أهل الشام والعراق.

(2) «أنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه...». نهج البلاغة: الرسالة6.

(1) ينقل العلامة الأميني روايات مختلفة عن عدد الصحابة الذين كانوا مع عليٍّ D في معركة صفّين، فاستناداً إلى رواية الحاكم في المستدرك فإن (250) صحابياً بايعوا الرسول 9 في بيعة الرضوان كانوا مع علي. وتقول رواية اُخرى: إنّ عددهم بلغ (800) صحابياً استشهد منهم (360) صحابياً. وقيل: إنّ عدد البدريين الذين ساروا معه كانوا (170و180و100) شخص، بينما ذكر الأميني أسماء (145) من الصحابة، وكان معظمهم من أصحاب الإمام D الأوفياء الذين يجلّونه بما يناسب وصايا الرسول 9 به، وقد استشهد معظمهم في هذه المعركة، وكان الإمام D يبكي في أواخر حياته على فقدانهم ويتمنى أن يلحق بهم عاجلاً. الغدير: 9/362368.

     وراجع أيضاً: تسمية من شهد مع علي حروبه في مقالة التسميات في مجلة تراثنا: العدد 15/31.

(1) للخليفة الأول والثاني أقوال كثيرة من هذا القبيل وردت في المصادر التاريخية والروائية المختلفة، راجع: تجريد الاعتقاد وهوامش محمد جواد الجلالي عليه: 241 254.

(2) وقعت إجراءات معاوية موقع التأثير العميق، حتى أصبح لبني اُميّة أنفسهم مكانة رفيعة عند الكثير من أهل السنّة؛ لأن قضية الدفاع عن الاُمويين شكلت جزءاً من الفكر السياسي السني، راجع ضحى الإسلام: 3/329.

(1) انظر: أضواء على السنّة المحمدية لمحمد أبو رية: 216، وكيف اختلق أبو هريرة حديثاً ضد الإمام علي D، واستلم مكافأة كبيرة بعد أن رواه على الناس في الكوفة إثر استتباب الأمر لمعاوية.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مرقد السيدة زينب الكبرى (س)
أقوال المعصومين في القرآن
تتمّة فيها فوائد مهمّة-2
السياسة عند الامام الحسن عليه السلام
اهمية البناء التبربوي للطفل في الاسلام
فيما نذكره عند المسير من القول و حسن التدبير
الحرية بين النخبة والأمة
المکاره في الاسلام
أدلة وجود الإمام المهدي عليه السلام
حب علي (ع) و بغضه

 
user comment