عربي
Saturday 27th of April 2024
0
نفر 0

حالة الحسين بعد مقتل مسلم

حالة الحسين بعد مقتل مسلم

 

روى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشعل الأسديان:

لمّا قضينا حجّنا لم تكن لنا همّة إلاّ اللحاق بالحسين (عليه السلام) في الطريق، لننظر ما يكون من أمره، فأقبلنا ترفل بنا ناقتنا مسرعين حتى لحقناه بزرود، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين، فوقف الحسين (عليه السلام) كأنّه يريده، ثم تركه ومضى، فقال أحدنا لصاحبه: «إذهب بنا إلى هذا لنسأله، فإنّ عنده خبر الكوفه» فمضينا حتى انتهينافقلنا: «السلام عليك» فقال: «وعليكم السلام» قلنا: «من الرجل؟» قال: «أسدي». قلنا له: «ونحن أسديان، فمن أنت؟» قال: «أنا بكر بن فلان» وانتسب وانتسبنا ثم قلنا له: «أخبرنا عن الناس وراءك» قال:

«نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة، ورأيتهما يجرّان من أرجلهما في السوق».

فأقبلنا حتى لحقنا «الحسين فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسياً فجئناه حين نزل، فسلمنا عليه فرّد علينا السلام فقلنا له: «رحمك الله إن عندنا خبراً إن شئت حدثناك علانية وإن شئت سراً» فنظر إلينا والى أصحابه ثم قال: «ما دون هؤلاء سر» فقلنا له: «رأيت الراكب الذي استقبلته عشية أمس؟» قال: «نعم، وقد أردت مسألته».


الصفحة 104


قلنا: «قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل،وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهانيء، ورآهما يجرّان في السوق بأرجلهما» فقال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، رحمة الله عليهما» يردد ذلك مراراً. فقلنا له: «ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاّ انصرفت من مكانك هذا، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوّف أن تكون عليك».

فنظر إلى بني عقيل فقال: «ما ترون؟ فقد قتل مسلم» فقالوا: «والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أونذوق ما ذاق» فأقبل علينا الحسين (عليه السلام) وقال: «لا خير في العيش بعد هؤلاء» فعلمنا أنّه قد عزم رأيه على المسير(1).

سمع الحسين (عليه السلام) حوالي «زرود» نعي عميد بيته ولكنه لم يتحوّل عن نيته ولا غيّر وضعيته مع صحبه وأهله، ولا أبدى من مظاهر الحزن سوى الاسترجاع، وأخفى كل حزنه في أعماق قلبه، لأنّ العيون لدى الشدائد شاخصة إلى الزعيم، فإن بدا عليه لائحة حزن عمّ الغم أحباءه، وتوهم كل منهم ما شاء الله أن يتوهم، وارتبك على الزعيم أمر نظمه وحكمه. غير أنّ حسيناً دخل خباه وطلب طفلة مسلم وأجلسها في حجره يمسح على رأسها بيده يسلي بها نفسه ويسليها بذلك.

نعم! حسّ الجميع وفي مقدمتهم الحسين (عليه السلام) بالانكسار النهائي بعد ما جرى على مسلم وتبدل حالة الكوفة. وكانت هي المطمع الوحيد لصحب الحسين (عليه السلام) والملجأ الحصين لرحله وأهله، فإذا كانت آمال الحسين معقودة على الكوفة وقد انقلبت هي عليه وقتلت معتمد الحسين فما معنى التوجه إليها؟ وأي اعتماد بقي عليها؟ لكن ثبات الحسين على سيرته ومسراه ضرب على هذه الأوهام وصانها

____________

1) الإرشاد ص201 وغيره.


الصفحة 105


من التفرّق.

وشبل علي (عليه السلام) يرى في توجّهه إلى الكوفة ـ بعد كل ذلك ـ إبلاغ الحجّة والإعلام بأنّه أجاب دعوتهم ولبّى صرختهم، وأنّه لم ينحرف عن نصرتهم وقتلهم مبعوثه مع شيعته، فإنّ الإمام يعامل الأمّة دون الأشخاص والشخصيات، وهو يأمل مع ذلك في مسلكه التحاق الأنصار، وتلبية الأمصار، وانقلاب حالة الكوفة كرّة أُخرى.

ولما شاع نعي مسلم في ركب الحسين (عليه السلام) وانقلاب الكوفه ضده بعد أن كانت المطمع الوحيد لتحقيق آمال أهله وصحبه، ولا سيما بعد ما خطب فيهم الإمام وحلّ عنهم البيعة والذمام صار كثير من ذوي الطمع وذباب المجتمع يتفرّقون عنه سراً وجهاراً ليلاً ونهاراً، وسلّموا وليّ نعمتهم حين الوثبة، وخذلوه عند النكبة، بعدما كانوا يضيقون فسيح خوانه حتى على إخوانه.

لا ضير! فإن خفّ رحل الحسين (عليه السلام) من القش وذوي الغش فقد ملأ فراغهم أبطال صدق ممن عشقوا الحسين (عليه السلام) فالتحقوا به لا خوفاً من رجاله ولا طمعاً في ماله، بل وجدوا من اختار نفسه ونفيسه فداءً للإسلام ففدوه بكل ما عزّ وهان.


الصفحة 106


 


الصفحة 107


مقابلة الحرّ للإمام

 

بعدما تمكن ابن زياد من ابطال الحركة الحسينية في داخلية الكوفة، واستأصل جذورها، وأباد بذورها بالوعد والوعيد والسجن والتبعيد والفتك والهتك والتخويف والتوظيف واستعماله السيف والرغيف ومزاج الضَرْب بالضَّرَب، واطمأن من داخلية الكوفة، وكسب الأمنية التامة عمد إلى الخارج وتمسك بالوسائل الفعاله ضد الحسين (عليه السلام) حينما استخبر نزوله في ذات عرق ودخوله العراق ـ وبابه القادسية «الرحبة» ـ فأرسل اليها جيشاً عليه الحصين ابن النمير ـ صاحب شرطة عبيدالله في الكوفة ـ ليقطع على القادمين من الحجاز طريقهم، ويؤمن الضواحي والنواحي من الغارات والثورات، ويحفظ خطوط المواصلات بين الكوفة والشام. فأمر أن تؤخذ الطرق بينها وبين واقصة إلى البصرة فلا يدعون أحداً يخرج، وحصرها بنطاق جيشه إلى جذعان «خفان» من جهة والى القطقطانية من الأخرى، فاحتلها حصين بجيشه وحصنها. ثم أرسل إلى العيون والآبار التي على طول طريق الحجاز مفرزة من العسكر، إذ القوافل مهما حادت في مسيرها عن الطريق المعروفة فهي مضطرة إلى النزول على الآبار والعيون سقياً للراحلة أو ترويحاً للسابلة.

وكان ممن أرسله إلى حراسة البر الحر بن يزيد الرياحي، وقد تلقى ركب


الصفحة 108


الحسين (عليه السلام) بعد وصوله إلى أشراف أمره بالتزود من مائها فوق قدر الحاجة بكثير ولم يعرفوا سر ذلك، حتى إذا بلغوا ذي حسم كبّر رجل من أصحابه تكبيرة الإعجاب زاعماً أنه رأى نخيل الكوفة، وبعد أن أجمعوا على استبعاد رأيه وتحققوا علموا أنها رؤوس رماح وطليعة كفاح، فتحيز الحسين (عليه السلام) برحله هضاب ذي حسم قائلاً: «نحط بالرحل وراءه لنلق القوم من وجه واحد».

وأخذ الحسين الاحتياطات الحربية ليلوذ رحله بالهضاب فيدفع الرماة من فوقها تأميناً لخطة الدفاع عن النواميس بكل معانيها، وما لبثوا حتى أسفرت الآثار عن الحر بن يزيد الرياحي ومعه ألف فارس أرسلته القيادة العامة الأموية لحراسة البر، ولكي يُقطعوا على الحسين (عليه السلام) طريقه أينما صادفوه ثم لا يفارقونه إلى أن يأتوا به إلى أقرب مركز للحكومة حتى إذا اطمأنوا من مسالمته ومبايعته أدخلوه على ابن زياد.

أمّا الحر وأصحابه فقبل أن يظهروا مهمتهم أظهروا بلسان الحال والمقال عطشهم المفرط، وأنّهم من طول جولاتهم في البر والحر حيث لا ماء ولا كلاء، وقد أشرفوا على العطب فأمر حسين الفتوّة فتيانه وغلمانه بسقاية الأعداء وإرواء خيلهم(1).

فعرف عندئذ صحب الحسين (عليه السلام) سرّ استعداده بالماء ليوم سماح أو كفاح، ولما استعبد الحر بالبرـ والبرّ يستعبد الحر ـ سأله عن غايته، فأجاب على استحياء بأنه مرسول إليه ليوفده على ابن زياد.

ولماقال له الحسين (عليه السلام): «قم إلى أصحابك فصلّ بهم ونحن نصلّي مع أصحابنا».

____________

1) في الإرشاد ص203 والطبري وغيرها.


الصفحة 109


أجابه الحر: «بل تقدم إلى الصلاة يا ابن رسول الله ونحن نصلّي بصلاتك». كأنّه يذكّر الحاضرين أنّ الحسين (عليه السلام) إمام حق وابن إمام، وأنّ صلاة غيره بصلاته تصح وبصلاته تقام.

ثم إنّ الحسين (عليه السلام) لم يسعه ـ بعد أن رأى من كتبوا إليه كتائب عليه ـ إلاّ الذكرى والاحتجاج، فقال: «يا أهل الكوفة! إنّكم كتبتم إليّ ودعوتموني إلى العراق لإنقاذكم من سلطة الجور والفجور، فجئتكم ملبيّاً دعوتكم فإن كنتم قد تغيّرتم عمّا كنتم عليه فاتركوني أرجع من حيث أتيت».

قال هذا وأخرج لهم الكتب اعتماداً على شهامة الحرّ ـ وصدور الأحرار قبور الأسرار ـ ولإتمام الحجّة على الحاضرين من أصحابه فاعتذر الحر بأنّه ليس ممن كتب إليه.

ولا ننسى أنّ الحرّ هاجت عليه في ذلك الموقف الرهيب أفكار متضاربة لم تسمح له الظروف الحاضرة أن يختار منها سوى طريقة وسطى عرضها على الإمام، وهي: أن يسلك من فجاج البر سبيلاً وسطاً لا يؤدّي إلى الشام ولا يدخله الكوفة حتّى يكون بذلك نجاة الطرفين، فاستحسنه الحسين (عليه السلام) لأنه يريد الاتقاء من الأشرار دون أن يبلغ أحداً بسوء، وظن الحر لنفسه في ذلك مناصاً من مظلمة إيذاء العترة النبوية، ومقنعاً لأمراء أُمية، فيدفع عن عراقهم نهضة الحسين (عليه السلام) وأراحهم منها بدون سفك مهج، ولا خوض لجج، فكتب بعد نزوله «أقساس» مالك كتاباً إلى ابن زياد يتضمن الرأي والرواية.


الصفحة 110


 


الصفحة 111


الكوفة تقاد إلى الحرب

 

خضعت الكوفة لدهاء ابن زياد بعد مقتل مسلم، وانقادت إليه أحياؤها ورؤساؤها، وذللت صعابها تذليلاً لكنه لم يزل قلق البال لعلمه بمبلغ تأثير الدعوة الحسينية في المجامع والمسامع وماله في العراق من سابقة ولاء وأولياء. وكان ابن زياد محنكاً قد درس هو وأبوه حالة العراق الروحيّة وسرعة انقلاب هوائه وأهوائه، وأنّ لأبنائه نائمة وقائمة، كم اغترت بهما أولياء الأمور والساسة، فجائز أن يأتيها الحسين (عليه السلام) بجنود لا قبل له بها، أو يتمركز بالقادسية فتلتف حوله قبائل بادية الشام وعشائر الفرات ـ ما بين الكوفة والبصرة ـ أو يحدث من اقترابه دوي ينعكس صداه في داخل الكوفة فيستفز الحسيات والنفسيات فيثورون عليه ويستخرجون من سجونه وجوه الشيعة ورؤوس القبائل، فلا يمسي ابن زياد إلاّ قتيلاً أو أسيراً.

وعلى أي يتهدّم كل ما بناه ولا يعود عليه التسامح إلاّ بالخسران، وعليه اندفع ابن زياد بجميع قواه إلى تأمين الخارج بعد تعزيز الأمن في الداخل وتحشيده الكوفيين لمحاربة الحسين (عليه السلام)، فبادر إلى احتلال القادسية قبل أن يسبقه إليها الحسين والنقاط المهمة في الحدود على خطوط سابلة الحجاز، ومالبث أن ورد عليه كتاب الحر الرياحي وأتته البشائر تترى على أنّ الحسين (عليه السلام)


الصفحة 112


ورد وأبعد عن حدود الكوفة إلى جهة الشمال الغربي مسافة قاصية هو ونفر قليل من خاصته، بحيث لا يعود من الممكن أن يهيمن على ضواحي الكوفه فضلاً عما بينه وبين البصره، وأنّ جيش الحر الرياحي أصبح يراقبه في المسير وهو كاف بصدّه أور دّه.

بات ابن زياد ليلته هادىء البال، وكتب بذلك إلى يزيد لتأمين خواطر الهيئة المركزية، والمبادرة بتسجيل خدماته عند سلطانه. وكأنّي به قد نبّه على ميلان الحر وصلاته بجيشه مع الحسين (عليه السلام) وقال ابن رسول الله جذاب النفوس بهديه ومستملك القلوب بحديثه، فلا يبعد أن يعلن الحر في صحبته ولاءه وانضمامه اليه، ويسري نبأ تمرّده في أمثاله من أركان القيادة العسكرية، ويتسع الخرق على الراقع، أو يتمركز الحسين في الأنبار يحصر على ابن زياد الميرة والذخيرة، ولا يسع ابن زياد أن يحاصره بسبب شكل النهر، وموالاة عشائر البر، وقربه من مدائن كسرى.

وأينما حلّ سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) ناشراً دعوته الصالحة سواء العراق أو إيران ـ فإنّها تصادف انتشاراً ولا تعدم أنصاراً. فوثب ابن زياد يبث المواعيد ثانية ويوزع الأموال بين العشائر والأكابر ليؤلف منها أجناداً وقواداً.


الصفحة 113


ولاية ابن سعد وقيادته

 

كان التخوفّ من تسرب الدعوة الحسينية إلى وراء الفرات وحدود العجم لا يقصر عن التخوّف من قدومه الكوفة، لأنّ القطرين العراقي والفارسي بينهما علائق متواصلة ومصالح متبادله. حتى لقد كان اعزام عمر بن سعد حرب الحسين (عليه السلام) مع ترشحه لولاية الري بعض فصول هذه الرواية المحزنة، فإن ولاية إيران لا تكاد تستقر لابن سعد والحسين (عليه السلام) متوجه إليها بدعوة نافعة وحجة بالغة وعائلة من لحمة النبي (صلى الله عليه وآله) وبين الحسين وبين الفرس مصاهرة في العائله المالكة المنقرضة.

وكلّ هذه عوامل قويّة لنفوذ الدعوة الحسينية في بلاد كسرى، فلم يجد والي العراقين سبيلاً إلى إماتة هذه الظنون خيراً من ترشيح عمر بن سعد لولاية الري، وقد كان أبوه سعد بن أبي وقاص من قواد جيشها الفاتح، فلهم من شهرته كل الرعب وله تمام الرغبة فيهم، إذ كانت ولاية جمة المنافع متنوعة المطامع، ظاهر أنّ ولايتها يومئذ كانت ذات صلة قوية بإيقاف الحركة الحسينية ليتسنى لواليها حرية الإدارة والإرادة، لذلك لما رأى من ابن سعد تزلفاً إليه والى يزيد، ونقمة على نهضة الحسين (عليه السلام) يوم كتب إلى يزيد بقوة أمر مسلم في الكوفة، ويوم أفشى إلى ابن زياد سر ابن عقيل في وصيته اليه أقنع ابن زياد عمر بأخذ التدابير اللازمة لإخضاع حسين الشرف قبل التوجه إلى مهمته الأولى في إيران.

نعم، وجد ابن زياد عمر أصلح الناس لإخضاع الحسين (عليه السلام) سواء بغرض الإخضاع أو الإقناع، إذ كان يومئذ أمس الكوفيين رحماً بالحسين (عليه السلام) وعليه


الصفحة 114


مسحة شرف من قريش ونسبة الى الحرمين، فسرّحه لمقابلة الإمام خداعاً واستطماعاً ـ وأكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع ـ.

أما ابن سعد فقد استمهل ابن زياد ليلته ليفكر مستعظماً إقدامه على مقابلة الحسين (عليه السلام) لعلمه أنّ الحسين داعية حق، وأنه كأبيه علي (عليه السلام) أفضل من أن يخدع وأعقل من أن ينخدع ولا يسع ابن سعد إذا قابله أن يقاتله، بل يقضي عليه واجبه الدنيي والرحمي أن ينضم إليه ويقاتل خصومه بين يديه. غير أنّ له في ملك الري قرة عين، وبهجة نفس، وراحة عائلة، وتأمين مستقبل مديد فبات قلقاً أرقاً بين جاذب ودافع، يجيل فكرته بين المضار والمنافع، ويردد أبياته المعروفة:

 

فوالله ما أدريوإني لحائر

أفكر في أمري على خطرين

أأترك ملك الري والري منيتي

أم ارجع مأثوماً بقتل حسين

حسين ابن عمي والحوادث جمة

لعمري ولي في الري قرّة عين

إنّ إله العرش يغفر زلتي

ولو كنت فيها أظلم الثقلين

ألا إنّما الدنيا بخير معجل

وما عاقل باع الوجود بدين

يقولون إنّ الله خالق جنة

ونار وتعذيب وغل يدين

فإن صدقوا فيما يقولون إنّني

أتوب الى الرحمن من سنتين

وإن كذبوا فزنا بدنياً عظيمة

وملك عقيم دائم الحجلين

 

وكأنّ خاطره الأخير حدثه بأنّه: ان أُظهر على الحسين (عليه السلام) فبها، وإلاّ فحسين الفتوّة أكرم من أن يعاقبه أو ينتقم منه.

وبالجملة: فلم يشعر بنفسه إلاّ قائداً جيشاً كثيفاً الى حرب الحسين (عليه السلام) في نينوى، إذ بها يلتقي الخط العراقي الإيراني بالخط العراقي الحجازي وهي المرحلة المشرفة على نقطة الأنبار، فبلغه نزول الحسين (عليه السلام) بكربلاء قبله بيوم مع قائد المفرزة الحر الرياحي.


الصفحة 115


منزل الحسين بكربلاء

 

إنّ عوامل اليأس التي تبعت نعي مسلم وسوء صنيع الكوفة به لم تؤثر في عزيمة الحسين (عليه السلام)، ولا ما بلغه من فاحش فعلهم برسوليه عبد الله ابن يقطر وقيس بن مسهر الصيداوي، ولا ما رآه في ملتقاه بجيش الحرّ، لأن داعي الحق لا يقنط من روح الله. ولكنما جيش الكوفة هو الذي صدّه عنها وعن كل آماله فيها فسلك ركبه وموكبه سبيلاً وسطاً لا يدرون الغاية ولا يعرفون النهاية. الحر يساير الإمام كي يخرجه عن حدود أميره حتى يعود إليه ببشارة تؤمّن باله وتطمّن خياله.

ويُخيّل للناظر في الحركة الحسينية أنّ في خلد الإمام أن يعبر الفرات الى الأنبار والمدائن عسى أن يجد لدعوته أنصاراً وشيعة وبيئة وسيعة، فبيناهم والحر في تيامن وتياسر إذ لحقهم راكب متنكب قوسه فسّلم على الحر وأصحابه ودفع اليه كتاب ابن زياد، فقرأه الحر على الحسين (عليه السلام) وإذا فيه: «أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا، ولا تتركه إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء».

فعرضوا عليه النزول فسأل الحسين (عليه السلام) عن اسم الأرض فقيل: كربلاء فقال: «نعوذ بالله من الكرب والبلاء، هل لها اسم غير هذا؟» فقيل له: العقر فقال: «نعوذ بالله من العقر، ما شاء الله كائن» ثم قال للحر: «دعنا ننزل في هذه القرية ـ يعني نينوى ـ،


الصفحة 116


أو هذه يعني الغاضرية أوهذه ـ يعني الشفيثة ـ «. فقال الحر: «هذا رجل قد بعث إلي عيناً عليّ». فقال زهير بن القين: «إنّي والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد ماترون، وإنّ قتال هؤلاء القوم ألساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به» فقال الحسين (عليه السلام): «ما كنت لأبدأهم بالقتال» ثم نزل وذلك يوم الخميس ثاني محرم.


الصفحة 117


جغرافية كربلاء القديمة

 

إن لهذا البحث صلة قوية بوضوح مقتل الحسين (عليه السلام) وحوادثه التاريخية. واستيفاء هذا البحث يكلّف صاحبه، إذ لا يجد المصادر الوافية بالتفاصيل الجغرافية عن كربلاء القديمة في أيام قتل الحسين (عليه السلام).وإنّي أجتزىء في أداء هذا الواجب بالممكن، بحسب ما أظنّه.

إنّ كربلاء اسم قديم مأثور في حديث الحسين وأبيه وجدّه (عليهم السلام) ومفسّر بالكرب والبلاء، وأنّ كربلاء منحوتة من كلمة: كور بابل العربية، بمعنى مجموعة قرى بابلية منها نينوى القريبة من أراضي سدّة الهندية، ثم الغاضرية ـ وتسمى اليوم أراضي الحسينية ـ، ثم كربلة ـ بتفخيم اللام بعدها هاء ـ وتقرب اليوم من مدينة كربلاء جنوباً وشرقاً ثم كربلاء أو عقر بابل وهي قريبة من الشمال الغربي من الغاضريات وبأطلالها آثار باقية، ثم «النواويس»(1) وكانت مقبرة عامة قبل الفتح الإسلامي، ثم الحير ويسمى الحائر وهو اليوم موضع قبر الحسين (عليه السلام) الى

____________

1) جمع ناووس، وهو ظرف من خزف او من خشب. كان البابليون يضعون موتاهم فيها، يدفنوها، والنواويس مقبرة في كور بابل.

وقد جاء في خطبة الحسين (عليه السلام) المروية في الإرشاد: «وكأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء... الخ».


الصفحة 118


حدود رواق روضته المشرّفة أو حدود الصحن. وكان لهذا الحائر وهدة فسيحة محدودة بسلسلة تلال ممدودة(1) وربوات تبدأ من الشمال الشرقي متصلة بموضع باب السدرة في الشمال وهكذا الى موضع الباب الزينبي من جهة الغرب، ثم تنزل الى موضع الباب القبلي في جهة الجنوب، وكانت هذه التلال المتقاربة تشكّل للناظرين نصف دائرة مدخلها الجبهة الشرقية حيث يتوجه منها الزائر الى مثوى سيدنا العباس بن علي (عليهما السلام) ويجد المنقّبون في أعماق البيوت المحدقة بقبر الحسين (عليه السلام) آثار ارتفاعها القديم في أراضي جهات الشمال والغرب، ولا يجدون في الجبهة الشرقية سوى تربة رخوة واطئة، الأمر الذي يرشدنا الى وضعية هذه البقعة وأنّها كانت في عصرها القديم واطئة من جهة الشرق(2).

ورابية من جهتي الشمال والغرب على شكل هلالي، وفي هذه الدائرة الهلالية حوصر ابن الزهراء (عليه السلام) في حربه حين قتل كما سيأتي.

وأمّا نهر الفرات فكان عموده الكبير ينحدر من أعاليه يسقي القرى الى ضواحي الكوفة، وكذلك ينشق من عمود النهر «الشط» من شمالي المسيب نهر كفرع منه يسيل على بطاح ووهاد شمالي شرقي كربلاء حتى ينتهي الى قرب

____________

1) ويستنبط شكل الحائر على هذه الوضعية مما ثبت في تاريخ المتوكل العباسي عندما أجرى الماء على قبر الحسين لمحو مزاره وآثاره، فحار واستدار حول القبر والماء بطبعه يجري على الأرض المنخفضة وجوانب الحائر كانت ولا تزال نواشر لا يعلوها الماء غير الجانب الشرقي مما يلي نهر الفرات يومئذ، حيث كان الفيضان يشكل فيه من المشرعة احواراً وآجاماً، ثم يعود طفاً أيام الفيضان.

2) ويؤيد هذا ما رواه جعفر بن قولويه في كامل الزيارة، وشيخه الكليني في الكافي، والمجلسي في مزار البحار ص145 عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام): «إنّ زائر الحسين يغتسل على نهر الفرات ويدخل من الجانب الشرقي الى القبر... الخ».


الصفحة 119


مثوى سيدنا العباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ ثم الى نواحي الهندية، ثم ينحدر فيقترن بعمود الفرات في شمال غربي قرية ذي الكفل ويسمى حتى اليوم العلقمي، وكان هذا الفرات الصغير من صدره الى مصبه يسمى العلقمي. والطف اسم عام لأراضي تنحسر عنها مياه النهر وسميت حوالي نهر العلقمي البارزة من شواطئه طفاً لذلك، وسميت حادثة الحسين (عليه السلام) فيه بواقعة الطف.


الصفحة 120


 


الصفحة 121


الإمام مصدود محصور

 

حلّ حرم الحسين (عليه السلام) حدود كربلاء في ثاني محرم سنة 61 هـ، وأنزل في بقعة منها جرداء بعيدة عن الماء والكلاء وصار معسكره زاوية مثلث يقابله جيش الحر في الغاضريات وجيش ابن سعد في نينوى. وكان الحر يرى مهمته المراقبة على مسير الحسين (عليه السلام) فقط غير مهتم في اخضاعه ولا في إقناعه ولا في إرجاعه، حتى وافاه عمر بن سعد مهتماً في إقناعه واخضاعه، فصار هو والحسين (عليه السلام) يتبادلان الروابط ابتغاء الوصول الى حلّ مرضي.

وكلّف ابن سعد من بين حاشيته رجالاً لمواجهة الإمام فأبوا معتذرين أنّهم من كتبوا إليه يدعونه، فعمّ يتساؤلون؟ فأرسل ابن سعد الى ابن الرسول (صلى الله عليه وآله) رسوله الحنظلي، فجاء الى الإمام وسأله على لسان أميره عن موقفه ومسيره فأجابه الحسين: «قد كتب إليَّ أهل مصركم يدعونني إليهم، أمّا إذا كرهتم ذلك فأنا أنصرف عنكم».

قال حبيب بن مظاهر للرسول ـ وهو من أخواله ـ: «ويحك يا قرة أن ترجع الى القوم الظالمين؟ انصرف هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة».

فقال له الحنظلي: «أرجع الى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي».

ثم انصرف الى عمر بن سعد وأخبره الخبر، فقال عمر: «أرجو أن يعافيني الله


الصفحة 122


من حربه وقتاله» ثم كتب الى ابن زياد ما جرى بينه وبين الحسين (عليه السلام) وأنّ الإمام مستعد للانصراف عن العراق وعن كلّ أمل فيه.

قال حسان العبسي: كنت عند ابن زياد حينما جاءه هذا الكتاب وقرأه فقال:

 

الآن إذ علقت مخالبنا به

يرجو النجاة ولات حين مناص(1)

 

ثم اجتمع الحسين (عليه السلام) بعمر بن سعد تحرّياً منه للسلم واحتراماً للدماء فتناجيا طويلاً فكتب هذا الى ابن زياد:

«أمّا بعد، فإنّ الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هذا حسين قد أعطاني عهداً أن يرجع الى المكان الذي أتى منه أو يسير الى ثغر من الثغور، فيكون رجلاً من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم».

ولما تلاه ابن زياد قال: «هذا كتاب ناصح مشفق على قومه» يعني على قريش، فقام شمر بن ذي الجوشن قائلاً: «أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك؟ والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة، فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة وإن عفوت كان ذلك لك». فلما رأى ابن زياد في شمر التجاءً الى قوته وتحزباً لحكومته واستخفافاً بعدوّه الحسين وعصبته قال له: «نعم ما رأيت والرأي رايك، اخرج بكتابي الى ابن سعد فإن أطاعني فأطعه وإلاّ فأنت أمير الجيش

____________

1) وفي الإرشاد كتب الى ابن سعد: «أمّا بعد! فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه فإذا هو فعل ذلك رأينا والسلام» فلما ورد الجواب على ابن سعد قال قد خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية. وورد كتاب ابن زياد في الأثر الى ابن سعد: «أن تحل بين الحسين (عليه السلام) وأصحابه وبين الماء فلا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي عثمان بن عفان».


الصفحة 123


واضرب عنقه». وكتب الى عمر كتاباً يقول فيه: «إنّي لم أبعثك الى الحسين شفيعاً، ولا لتمنّيه السلامة، ولا لتعتذر عنه، فإن نزل هو وأصحابه على حكمي فابعث بهم إليّ وإلاّ فازحف عليهم واقتلهم ومثّل بهم، فإنّهم بذلك مستحقون، وإن قتلت حسيناً فأوطىء الخيل صدره وظهره، فإنّه علق ظلوم، ولست أرى أنّ هذا يضر بعد الموت شيئاً ولكن على قوله قد قلته».

جاء شمر بكتابه الى ابن سعد ـ والرجل السوء يأتي بالخبر السوء ـ فلما قرأ ابن سعد كتاب أميره وتلقّى أسوأ التعاليم من نذيره تغيّر وجهه وقال: «لعنك الله يا شمر، لقد أفسدت علينا أمراً كنا نرجو إصلاحه» لكنما ابن سعد بعد ما حسب شمراً رقيباً عليه ومهدداً له تجاهر إذ ذاك بلزوم اخضاع حسين العلا، فتبدّلت منه لهجته وفكرته وهيئته، فانتقل بجنوده الى مقربة من الحسين (عليه السلام) وثلث جبهات الحرب فصار هو في القلب بين الحيرة والنهر لصدّ الحسين من عبور النهر، ومن الورود منه، فإذا وجد الحسين (عليه السلام) سبل سيره مقطوعة ومشارع وروده ممنوعة اضطر الى النزال معهم أو النزول على حكمهم وهم واثقون من الغلبة عليه في الحالين.

ولما رأي الإمام ذلك علم أنّه مقتول لا محالة إذ هو نازل بالعراء في منطقة جرداء لا ماء فيها ولا كلاء، فإن انتظر قدوم الأنصار من أقاصي الأمصار هلكت صبيته وماشيته وتفرّقت حاشيته، ولقي من الجوع والعطش أشدّ مما يلقاه من عدوّه، وإن خضع للقوم وبايع أمية فقد باع الأمة والشريعة بعدما انعقدت فيه الآمال، وإن بدأ بحربهم خالف خطته الدفاعية حين لا مأمل في الانتصار عليهم في ظاهر الحال والحر إن لم يستطع أن يعيش عزيزاً فأحرى به أن يموت كريماً.


الصفحة 124


 


الصفحة 125


0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

آثار ونتائج نهضة أبي عبدالله (عليه السلام)
منهاج الإمام الحسين في الإصلاح
استحباب مواساة المومن بالمال
حالة الحسين بعد مقتل مسلم
أين يقع غدير خُمّ؟
مكانة السيدة المعصومة (عليها السلام)
ابن عباس: مدرستُه، منهجه في التفسير
من معاجز أمير المؤمنين عليه السّلام
من كنت مولاه فهذا علي مولاه
دعاء الموقف لعلي بن الحسين ع

 
user comment