عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

الأبعاد الروحية للشعائر الإسلامية

ينطلق الإنسان في رحلته ضمن زمن محدود خلال وجوده على هذه البسيطة من منظور قائم على اتّجاهات محسوبة سلفاً من خلال مسلكين ؛ أحدهما يمثل الخطّ المادي ، في حين يندفع الآخر ليرسم ملامح خطّ الروح ، والربط الفعلي بذات الله المتمثّلة بالمعتقدات والعبادات ، بصفتهما يمثّلان خطّي الربط مع الحياة التالية .

ومن هنا فإنّ المرحلة البشرية أوّل ما تبدأ من نقطة واحدة ، ولكن تبدأ باتّجاهين متعاكسين ، وتبقى مسألة تحقيق التوازن بينهما كفيلة بميول واتّجاهات الإنسان نفسه .

إذن ، فالطريق إلى الله سبحانه وتعالى سالكة لكل مَنْ أراد الوصول إليه ، وهذه العبادات تضفي على الإنسان جواً من الإشباع الروحي والفكري ، تجعل منه ينتقل عبر هذه الإحساسات إلى عالم يعتقد من وجهة نظره على الأقل إنّها تحقق له لذّة تصل به إلى درجة الاكتمال حتى ولو معنوياً .

وما إن يصل الإنسان إلى هذه المرحلة هو بحدّ ذاته يعدّ هدفاً سامياً ، يروم الولوج فيه أي إنسان ، مهمّا كانت حقيقة مرجعيته الثقافية والاجتماعية .

فممارسة العبادات عمليّاً تعجل الإنسان في سفر ضمن الزمن العبادي إلى الله تعالى .

وهذا السفر يخلق لديه نوعاً من الإحساس بالمتعة واللذّة خلال ذلك الزمن ؛ لأنّ أساس الفكرة يرجع إلى أعماق النفس الإنسانية التي تنزح بطبيعة ذاتها نحو البحث عن الحزن والألم ؛ لكونهما من الدوافع الفطريّة والغريزيّة للإنسان ، التي تحس معهما النفس بشيء من تحقيق الذات ، لاسيّما كون الحزن يرتبط بقضية مصيرية ، أو بالتعبير الأدق أبديّة تتعلّق بتحوّل الإنسان عبر مراحل تطوريّة في المجتمع من شكل لآخر ، ومن حالة لأخرى .

هذه التحوّلات تدفع بالإنسان نحو أهداف نبيلة لا تستطيع تذوّق طعمها في وقت ممارستها ، ولكن ربّما يكون على موعد لاحق لتحقيق هذه الأمنيات التي يطمح


الصفحة (2)

الإنسان إلى تحقيقها ؛ بغية الوصول إلى لذّة الكمال المعنوية التي تشكّل نقطة إشعاع وسط عتمة الهبوط .

وكأنّي بالسابح في هذا التيار يثق تماماً بأنّ كلّ المصاعب والمعوّقات التي ربّما تحول دون وصوله إلى هدفه المنشود ، هي بحدّ ذاتها أهدافاً تدفع به إلى عالم الروح .

هذا العالم الذي ينشد كي يرتبط مع رمز الخلود المطلق ، وشعلة الحقّ الأبديّة ، وشعاع الأمل السرمدي ، أبي الأحرار ، ومنار الثوار ، أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) .

ومن خلال هذه الرؤية تشعّ فكرة إحياء شعائر هذا الرمز الأبدي ، وهذا العشق السرمدي ، وعندما تنبت فكرة الإحياء في الجذور ، فإنّها تحضر لنفسها مكاناً تمتدّ جذوره إلى أرض الرحمن ، وزمن الملائكة ، ويعلو ساقها إلى أعنان السماء ، وتتفرّع أغصانها بين خبايا الروح ، وتمتاز أوراقها عن خلايا العقل ، ويغذّي ثمرها الجسد بأحلى غذاء ، ويغسل ماؤها كلّ خطايا الجسد الدنيوي ، وحتى إلى درجة يكون الجسد مطابقاً للروح تمام المطابقة ، وكأنّك تشعر بالهجرة والرحيل ، والارتياح من هذه الدنيا المادية إلى عالم الاستقرار والمثال والأبدية .

وهذا العالم له سماته التي تميّزه عن عالمنا ، وهذه السمات تجدها مجسّدة بشخص المحبّ الحسيني .

وهذا العاشق الولهان الذي يفارق جرّاء هذا العشق كلّ عشّاق الدنيا ( الزوجة والابن ، والأمّ والأخ والصديق ) كلّ هذه المعشوقات تهون وتتلاشى إزاء حبّه وعشقه ، وهواه الحسيني .

ومن مجموع هؤلاء العشّاق يتكوّن لدينا كتلة بشريّة لها سمة تختلف عن غيرها من كتل البشر ، وتكون ضمن زمن مستقل عن الزمان ، وفي مكان ينأى عن الأمكنة ؛ لينتج عنها أشبه بحلقة من حلقات إقامة هذه الشعائر ، وهي ما يمكن أن نطلق عليها موكب أحباب الحسين ، أو موكب أنصار الزهراء ، إلى غير ذلك من النقاط المضيئة في زمن يبحث عن الضياء .


الصفحة (3)

وإن نطرق باباً من أبواب هذه الجنان التي ترنو صوب المزن ، وتحدد وتحدو صوب الألق لوجدنا أنموذجاً يقف الفكر أمامه حائراً ، ويسجد له القلم تواضعاً ؛ لأنّه مثال حقّق كلّ الذي جسّدناه من خلال رؤيتنا ، إلاّ إنّ المواكب الحسينية تحقق ما لم تحققه أقوى النظريات الاجتماعية والفلسفية في المجتمع ؛ إذ استطاعت المواكب الحسينية أن تخلق نوعاً من الترابط الاجتماعي قلّ نظيره ، وتؤسس انسجاماً ما بين أنواع وطوائف من المجتمع لا يمكن أن تنسجم حتى في الخيال ، ولكن هذه الأنواع ذابت في بودقة الموكب الحسيني .

ولو طرحنا تساؤلاً كيف استطاع الموكب الحسيني أن يؤسس تلك النظرية الاجتماعية ؟ وما الأسباب التي جعلت منه قادراً على خلق هذا النوع من الترابط الذي يعجز أي منظّر في علم الاجتماع أن يقوم به ؟

وللإجابة عن هذه التساؤلات ينطلق الكاتب هنا من رؤية واقعية ، وليست نظرية ، من خلال رحلة عشق مع ثلة من عشاق الحبّ الحسيني ، ينتمون إلى مرجعيات ثقافية مختلفة ، لكنّهم يلتقون بعشق واحد وقلب واحد ، وكأنّهم أنموذج رائع ، نشمّ منه عطر الحسين ، تراهم في الحسين (عليه السلام) غيرهم خارج المواكب الحسينية .

هذه الثلة المؤمنة ، رسمت ملامح الوله الحسيني بدلائل واضحة في كلّ جزء من الزمن ، حتى إنّهم كانوا من حيث لا يعلمون يرسمون صورة من صور المجتمع الحسيني ، ولو بجزء متقطّع من الزمان والمكان ، إلاّ إنّهم يمثلون الخطّ الرابط لذلك الجسر الروحي ، الذي يعبر منه كلّ محبّ للحسين (عليه السلام) ؛ سواء أكان من عامّة الناس ، أو من خاصّتهم .

ألا يثير الذهن أنّ الموكب الحسيني يمثّل بؤرة جذب لكلّ حالة من حالات المجتمع ؟ هذه الحالات تجدها أكثر اندفاعاً لا لشيء إلاّ لتثبت أنّها تستطيع أن تحلّق بالركب ، وتنجو من الهلاك من خلال سفينة النجاة والرحمة أهل البيت (عليهم السلام) .

شباب مفعمون لا يعرفون النفاذ ، بل يعشقون النفاذ . شباب يطمعون الوصول إلى الشمس التي لا يرون المسير إليها إلاّ سعادة . تلك الشمس التي تمنح الرحمة


الصفحة (4)

والشفاء ، شمس أبي عبد الله الحسين التي لا ينطفئ نورها ؛ لأنّ زينتها ومصدرها دم الشهادة الذي شرب منه الزمن ، فعشقه الموكب الحسيني مجسّداً بتلك المواكب الخالدة على مرّ العصور .

 
 
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الألفاظ الدخيلة والمولَّدة
الحجّ في نهج البلاغة -4
مكانة الشهيد
المجالس والبعد السياسي
المهدي المنتظر يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ...
المدلول الاجتماعي واللفظي للنص
﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُُ﴾ ليس دليلاً على ان ...
الأحاديث الشريفة في المهدي المنتظر (عجّل الله ...
فی من نسی صلاة اللیل
رأس الـحسين (عليه السلام)

 
user comment