فارسی
شنبه 01 ارديبهشت 1403 - السبت 10 شوال 1445
قرآن کریم مفاتیح الجنان نهج البلاغه صحیفه سجادیه
0
نفر 0

دعاء وداع شهر رمضان

دعاء وداع شهر رمضان
 
 ايحاءات استقبال شهر رمضان:
 
 اذا كان استقبال شهر رمضان للمومن، فرصه للانفتاح على الافاق الرحبه الالهيه ‌فى‌ امتداد المعانى الروحيه التى يراد له ‌ان‌ يعيشها ‌فى‌ روحه ‌و‌ ‌فى‌ وجدانه، فان وداع شهر رمضان، قد يحمل له بعضا ‌من‌ الالم ‌و‌ اللوعه، ‌فى‌ ‌ما‌ يفتقده ‌من‌ اجواء، ‌او‌ يخسره ‌من‌ نتائج على مستوى الثواب الالهى على الاعمال التى يحتويها هذا الشهر ‌فى‌ واجباته ‌و‌ مستحباته، مما يجعل الانسان خاضعا للمشاعر السلبيه، تماما كما لو كان ‌فى‌ واحه خضراء ‌و‌ انتقل الى صحراء قاحله، لان الزمن القادم قد يختزن ‌فى‌ داخله بعض الفرص، ‌و‌ لكنها لن ترقى الى فرصه هذا الشهر المبارك، الذى جعله الله شهره الذى يدخل فيه عباده الى ضيافته الروحيه ‌فى‌ ‌ما‌ يسبغه عليهم ‌من‌ الالطاف، ‌و‌ يفيض عليهم ‌من‌ الرحمات، ‌و‌ يمنحهم ‌من‌ البركات، بما يفتح لهم فيه ابواب جناته، ‌و‌ يقودهم الى ساحات رضوانه.
 شهر رمضان، ‌هو‌ الموسم الذى ينفتح على كل قضايا الانسان ‌و‌ حاجاته ‌فى‌ ‌ما‌ يحققه الله له منها، مما يتناسب مع مواقع صلاحه ‌فى‌ دنياه ‌و‌ آخرته، ‌و‌ لذلك كان المحروم، ‌هو‌ الذى حرم غفران الله ‌فى‌ هذا الشهر العظيم، كما جاء ‌فى‌ خطبه رسول الله (ص)، التى استقبل بها شهر رمضان ‌فى‌ آخر جمعه ‌من‌ شعبان. ‌و‌ لكن الامام زين العابدين (ع) ‌فى‌ اسلوب الدعاء، يتجه ‌فى‌ المساله اتجاها آخر، حيث يفتح وعى الانسان المومن على النتائج الكبيره التى حصل عليها فيه، ‌و‌ يحرك المشاعر الحميمه التى تجعل بين شعور الانسان ‌و‌ بين ايام هذا الشهر رابطه قويه تودى الى اختزان المعانى الروحيه ‌فى‌ كيانه، فلا تذهب بذهاب هذا الشهر، بل تعمل على التخطيط للاستفاده منها ‌فى‌ اغناء الزمن القادم ‌فى‌ غيره ‌من‌ الشهور، بكل ‌ما‌ يحمله ‌من‌ الخصائص الفريده التى يمكن ‌ان‌ يحملها الزمن ‌من‌ خلال العمق الانسانى ‌فى‌ معرفه الله ‌و‌ الشعور بالمسووليه.
 ‌و‌ ‌فى‌ ضوء ذلك، ‌لا‌ يكون الزمن مجرد لحظات طائره ‌فى‌ الفراغ، بل يكون قيمه تمتلى ء بالانسان ‌فى‌ فكره ‌و‌ شعوره ‌و‌ حركته ‌فى‌ الحياه، حيث ياخذ الزمن ‌من‌ الانسان معناه ‌و‌ روحه، كما ياخذ الانسان منه حركته ‌و‌ ‌خط‌ سيره، ‌و‌ بذلك يفقد الزمن معناه التجريدى كعنصر مستقل ‌فى‌ اعطاء الحياه خطها الطويل، بل يكون شيئا ‌فى‌ الانسان فيما يكون الانسان شيئا منه ‌فى‌ عمليه تداخل ‌و‌ امتداد.
 ثم يثير التطلع الفكرى ‌و‌ الروحى ‌فى‌ ابتهال الانسان لله ‌ان‌ يمد ‌فى‌ عمره ليلتقى برمضان جديد ‌فى‌ فرصه جديده للعمل ‌و‌ الحياه.
 ‌و‌ لعل قيمه هذا الدعاء، ‌فى‌ بعض فقراته، ‌من‌ الناحيه الفنيه، انه يحول الشهر الى كائن حى صديق ‌فى‌ مشاعره ‌و‌ مواقفه، فيخاطبه كما يخاطب صديقه، ‌و‌ يتحدث اليه بالجانب الشعورى الذى يتفجر ‌فى‌ الوجدان حبا ‌و‌ حزنا ‌و‌ تطلعا الى اللقاء الجديد.
 ‌و‌ ‌هو‌ ‌فى‌ الوقت نفسه، ياخذ ‌من‌ العناوين الكبيره لايحاءات هذا الشهر، عناوين متحركه للحياه التى يستمر ‌فى‌ مواجهتها بمنطق المسووليه، لتبقى معه ‌فى‌ النتائج الحاسمه لقضيه المصير الابدى ‌فى‌ موقفه امام الله ‌فى‌ ‌ما‌ يريده الله منه ‌من‌ مواقف ‌و‌ اعمال.
 اللهم ‌يا‌ ‌من‌ لايرغب ‌فى‌ الجزاء، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ ‌لا‌ يندم على العطاء، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ ‌لا‌ يكافى ء عبده على السواء، منتك ابتداء، ‌و‌ عفوك تفضل، ‌و‌ عقوبتك عدل، ‌و‌ قضاوك خيره، ‌ان‌ اعطيت لم تشب عطاءك بمن، ‌و‌ ‌ان‌ منعت لم يكن منعك تعديا، تشكر ‌من‌ شكرك ‌و‌ انت الهمته شكرك، ‌و‌ تكافى ء ‌من‌ حمدك ‌و‌ انت علمته حمدك.
 
العطاء ‌سر‌ الذات الالهيه:
 
 انها البدايه التى يراد لها ‌ان‌ تطوف بالانسان المومن ‌فى‌ آفاق التصور الايمانى لله ‌فى‌ صفاته الالهيه، التى تطل على شوون المخلوقين ‌فى‌ علاقه الخالق بهم، ليتعرف، ‌من‌ خلال ذلك، موقعه ‌من‌ ربه ‌من‌ خلال موقع الله ‌من‌ عباده ‌فى‌ رعايته لهم، ‌و‌ لطفه بهم، ليكون الدعاء حاله وعى ‌فى‌ العقيده ‌من‌ حيث ‌هو‌ حاله ابتهال ‌فى‌ الحاجه ‌فى‌ ‌خط‌ المعرفه العميقه الواسعه.
 فالله ‌هو‌ ‌سر‌ العطاء الذى ‌لا‌ يقف عند حد، ‌و‌ ‌لا‌ يجتذب ‌اى‌ شى ء ‌فى‌ مقابله، ‌و‌ ذلك ‌من‌ خلال انفتاح رحمته على عباده ‌فى‌ ‌ما‌ يحتاجون اليه ‌فى‌ شوون حياتهم ‌و‌ حركه وجودهم، لانه خالقهم ‌و‌ رازقهم، فكما اعطاهم الوجود ‌من‌ دون مقابل، فانه يعطيهم حاجات الوجود بالطريقه نفسها.
 ثم ‌ما‌ هى حاجته الى الجزاء ‌و‌ ‌هو‌ الغنى عن خلقه، ‌و‌ ‌ما‌ هى قدره عباده على تقديم العوض لالطاف الله ‌و‌ رحماته، ‌و‌ ماذا يملكون ‌من‌ كل ‌ما‌ بايديهم ‌و‌ ‌ما‌ حولهم مادام ذلك كله ‌من‌ الله؟!
 ‌و‌ ‌هو‌ المعطى الذى ‌لا‌ يندم على العطاء، لان العطاء ينطلق ‌من‌ حكمته بالمعنى نفسه الذى ينطلق فيه ‌من‌ كرمه، ‌من‌ خلال تدبيره للوجود، على اساس انه اهل العطاء الذى ينطلق ‌من‌ فيض الرحمه ‌فى‌ ذاته ليشمل ‌من‌ يستحق ذلك ‌من‌ خلال العمل ، ‌و‌ ‌من‌ ‌لا‌ يستحقه، ‌و‌ ذلك ‌هو‌ الايحاء ‌فى‌ الفقره الماثوره ‌فى‌ بعض الادعيه:
 «فان لم اكن اهلا ‌ان‌ ابلغ رحمتك فرحمتك اهل ‌ان‌ تبلغنى ‌و‌ تسعنى لانها وسعت كل شى ء».
 ‌و‌ لذلك فلا معنى للندم، ‌ما‌ دامت المساله خاضعه لخطه الرحمه، ‌و‌ ‌ما‌ دامت القضيه منطلقه ‌من‌ سعه الكرم، فان الذين يندمون ‌هم‌ البخلاء، ‌او‌ الذين يخافون الفقر ‌من‌ خلال العطاء.
 ‌و‌ اذا كان العطاء ‌سر‌ ذاته، فانه ‌لا‌ يخضع للحسابات الدقيقه على اساس افعال العبد الحسنه ‌و‌ القبيحه، ليزيده ‌فى‌ جانب ‌او‌ لينقصه ‌فى‌ جانب آخر... ‌و‌ لذلك فانه ‌لا‌ يكافى عبده على السواء، بل يضاعف له الاجر ‌ان‌ كان العمل خيرا، ‌و‌ قد يغفر له ‌ان‌ كان شرا، ‌و‌ ذلك ‌هو‌ قوله تعالى ‌فى‌ مضاعفه الحسنه: (من جاء بالحسنه فله عشر امثالها) (الانعام: 160). ‌و‌ ‌فى‌ المغفره قوله تعالى: (و ‌ان‌ ربك لذو مغفره للناس على ظلمهم) (الرعد: 6). اما الذى يبقى ‌فى‌ دائره المسووليه ‌و‌ العذاب، فانه ‌لا‌ يستعجله بل يمهله ‌و‌ يترك له فرصه التراجع ‌و‌ التوبه، ‌و‌ ذلك مما ‌لا‌ تفرضه طبيعه المعصيه.
«و منتك ابتداء»: ‌و‌ المراد بها النعمه التى يتفضل الله بها على الانسان ‌من‌ دون استحقاق، لان الانسان لم يبدا عملا يجتذب النعمه، بل الله ‌هو‌ البادى ء ‌فى‌ ذلك على كل عباده.
 «و عفوك تفضل»: لان المذنب ‌لا‌ يستحقه ‌فى‌ موقع ذنبه، بل يستحق- بدلا ‌من‌ ذلك- العذاب، ‌و‌ لكن الله ينفتح عليه ‌من‌ موقع الرحمه ‌من‌ خلال الطافه ‌فى‌ ‌ما‌ يعرفه ‌من‌ نقاط ضعفه، ليفسح له ‌فى‌ المجال للثقه بالله ‌و‌ الانفتاح عليه ‌من‌ ابواب الحلم الكبير.
 «و عقوبتك عدل»: لان الله اقام الحجه على عباده ‌فى‌ ‌ما‌ الزمهم ‌به‌ ‌من‌ اوامره ‌و‌ نواهيه، ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ اغدقه عليهم ‌من‌ نعمه، فاذا اخطاوا ‌او‌ انحرفوا فانهم يواجهون المسووليه ‌فى‌ ‌خط‌ التوازن بين العمل ‌و‌ الجزاء، ‌و‌ المقدمات ‌و‌ النتائج.
 ثم ‌ان‌ الظلم ينطلق ‌من‌ عقده ضعف يختزن الخوف ‌و‌ الحاجه ‌فى‌ نفس الظالم، ‌و‌ الله ‌هو‌ القوى القادر الذى ‌لا‌ يحتاج الى عباده ‌و‌ ‌لا‌ يخاف قوتهم، لانه القاهر فوقهم، ‌و‌ المهيمن عليهم ‌من‌ موقع انهم المخلوقون له الخاضعون لتدبيره، فكيف يكون ضعف الخالق امام المخلوقين، ‌و‌ ‌ما‌ ‌هو‌ ‌سر‌ الحاجه الى الظلم، ‌و‌ هذا ‌ما‌ عبرت عنه الايه الكريمه: (فاليوم ‌لا‌ تظلم نفس شيئا ‌و‌ ‌لا‌ تجزون الا ‌ما‌ كنتم تعملون) (يس: 54).
 «و قضاوك خيره»: ‌و‌ القضاء ‌هو‌ حكم الله الذى يحتوى حياه الانسان ‌فى‌ ‌ما‌ يتصل بكل اوضاعه، ‌من‌ حيث ‌هو‌ احد الموجودات ‌فى‌ حركه النظام الكونى الذى يدبره الله على اساس المصلحه الكامنه ‌فى‌ عمق الوجود لكل المخلوقات ‌فى‌ الدوائر العامه ‌و‌ الخاصه، حتى ‌فى‌ ‌ما‌ قد يبدو مثيرا للالام ‌و‌ المشاكل، فان النتائج السلبيه الخاصه ‌فى‌ وعى الانسان ‌و‌ شعوره، ‌لا‌ تعنى السلبيه المطلقه ‌فى‌ طبيعه القضايا المتصله بها، لان ‌من‌ الممكن ‌ان‌ يكون ‌ما‌ ‌هو‌ سلبى ‌من‌ جهه ايجابيا ‌من‌ جهه اخرى، ‌و‌ هذا ‌ما‌ نلاحظه ‌فى‌ اختلاف النظره الى الامور على مستوى النظره العامه ‌او‌ الخاصه، حيث يختلف جانب التقويم للمساله على اساس اختلاف طبيعه النتائج هنا ‌و‌ هناك... ‌و‌ ‌هو‌ ‌ما‌ اشار اليه القرآن الكريم ‌فى‌ قوله تعالى: (و عسى ‌ان‌ تكرهوا شيئا ‌و‌ ‌هو‌ خير لكم ‌و‌ عسى ‌ان‌ تحبوا شيئا ‌و‌ ‌هو‌ ‌شر‌ لكم) (البقره: 216) ‌فى‌ حديث الله عن القتال الذى اذا نظرنا اليه ‌فى‌ الدائره الضيقه ‌فى‌ حياه الفرد كان شرا، لانه يهدد سلامته، بينما يكون خيرا ‌فى‌ دائره المجتمع الواسعه، ‌فى‌ ‌ما‌ يحققه ‌من‌ نتائج كبيره على مستوى العزه ‌و‌ الكرامه ‌و‌ الحريه ‌و‌ العداله.
 ‌و‌ ‌فى‌ قوله تعالى ‌فى‌ علاقه الازواج بزوجاتهم: (و عاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسى ‌ان‌ تكرهوا شيئا ‌و‌ يجعل الله فيه خيرا كثيرا) (النساء: 19). فان الفكره هى ‌ان‌ ‌لا‌ يحكم الناس على الاشياء ‌من‌ خلال النظره السطحيه التى تنظر الى الجانب الظاهر منها، بعيدا عما تستبطنه ‌من‌ الخصائص العميقه ‌فى‌ الجذور، ‌و‌ هذا ‌هو‌ الذى يجب ‌ان‌ يدرسه الانسان ‌فى‌ كل القضايا المتعلقه بحياته على مستوى المصير الذى يمثل عاقبه الامور، ‌فى‌ ‌ما‌ قد تبدو فيه النهايه على عكس البدايات، كما ‌ان‌ ‌من‌ الضرورى له ‌ان‌ ‌لا‌ يحدق بها ‌من‌ زاويه واحده، فان الاستغراق ‌فى‌ جانب واحد، قد يبعده عن النظره الحقيقيه الواقعيه التى تحتاج الى دراسه الامور ‌من‌ جميع الزوايا لتجمع كل عناصرها الذاتيه.
 ‌و‌ ربما يحتاج الانسان- ‌فى‌ هذا المجال- الى ‌ان‌ يدرس موقعه ‌من‌ حيث ‌هو‌ فرد مستقل ‌فى‌ حاجاته الشخصيه ‌و‌ تطلعاته الذاتيه، ‌و‌ ‌من‌ حيث ‌هو‌ جزء ‌من‌ المجتمع الصغير ‌او‌ الكبير ‌فى‌ ارتباط قضاياه بقضايا الناس، ‌فى‌ المنافع ‌و‌ المضار، فقد تتعارض الصفه الفرديه مع الصفه الاجتماعيه ‌فى‌ طبيعه الاوضاع العامه ‌و‌ الخاصه، مما يجعل المساله ايجابيه ‌من‌ الناحيه العامه، ‌و‌ سلبيه ‌من‌ الناحيه الخاصه، فلا ‌بد‌ له ‌من‌ ‌ان‌ يتحمل السلبيات الذاتيه لمصلحه الايجابيات الكبيره.. ‌و‌ بذلك تستقيم النظره الى الواقع الانسانى ‌فى‌ دائره النظام الكونى، الذى ‌هو‌ جزء منه ‌فى‌ ‌خط‌ التوازن ‌فى‌ النظره ‌و‌ الحكم على اساس المقدمات ‌و‌ النتائج.
 ‌و‌ قد نلاحظ ‌فى‌ بعض الادعيه الخط التربوى الذى يوحى للانسان بان يشكر الله على الحرمان كما يشكره على العطاء، ‌من‌ موقع الثقه المطلقه بالخير ‌فى‌ قضاء الله، الذى يعرف ‌من‌ مصلحه الانسان ‌ما‌ ‌لا‌ يعرفه الانسان ‌من‌ نفسه، ‌و‌ ذلك ‌هو‌ قول الامام على ‌بن‌ الحسين زين العابدين (ع) ‌فى‌ دعائه ‌فى‌ الرضى اذا نظر الى اصحاب الدنيا:
 اللهم ‌و‌ طيب بقضائك نفسى، ‌و‌ وسع بمواقع حكمك صدرى، وهب لى الثقه لاقر معها بان قضاءك لم يجر الا بالخيره، ‌و‌ اجعل شكرى اياك على ‌ما‌ زويت عنى اوفر ‌من‌ شكرى اياك على ‌ما‌ خولتنى.
 فان الايمان بالله الحكيم العادل الرحيم اللطيف بعباده، يوحى للمومن بهذا الشعور الذى ‌لا‌ ينطلق ‌من‌ حاله انسحاق ‌فى‌ القبول بالنتائج السلبيه، بل ‌من‌ حاله اقتناع روحى ينطلق ‌من‌ القناعه الفكريه بالعمق الذى يتحرك فيه القضاء ‌من‌ موقع الرحمه ‌و‌ الحكمه ‌و‌ العداله ‌و‌ اللطف الالهى الكبير.
ان اعطيت لم تشب عطاءك بمن ‌و‌ ‌ان‌ منعت لم يكن منعك تعديا.
 انك تعطى- ‌يا‌ رب- كل عبادك، لان العطاء ‌سر‌ ذاتك ‌فى‌ ‌ما‌ ‌هو‌ ‌سر‌ كرمك ‌و‌ عمق رحمتك، فليس ‌هو‌ شيئا يراد ‌به‌ اجتذاب اعتراف بالجميل منهم، ‌فى‌ ‌ما‌ يتطلبه اهل العطاء ‌من‌ ذلك ممن يعطونه، لتغذيه الفراغ الذاتى الذى يبحث عما يملاه ‌من‌ مدح الناس ‌و‌ حمدهم، كما يبحث الصوت عن الصدى، ‌و‌ الله ‌هو‌ الغنى عن عباده ‌فى‌ كل شى ء ‌من‌ خلال غناه الذاتى، فلا معنى للمن ‌فى‌ معنى عطاء الله لعباده، لانهم ليسوا شيئا منفصلا عنه، فهم خلقه ‌و‌ ملكه ‌و‌ موقع تدبيره، ‌و‌ ‌هم‌ بعض عطائه ‌فى‌ وجوده، كما ‌ان‌ نعمه التى يفيضها عليهم ‌من‌ توابع ذلك ‌و‌ ‌من‌ شوونه، فكيف يمن المعطى على عطائه مع غناه المطلق.
 انك قد تمنع عنى بعض نعمك، فقد ‌لا‌ تمنحنى المال، ‌و‌ انا ‌فى‌ حاجه اليه، ‌و‌ قد ‌لا‌ تسبغ على العافيه، ‌و‌ انا اتطلع اليها، ‌و‌ قد ‌لا‌ تعطينى الكثير مما اطلب ‌و‌ ارغب فيه... ‌و‌ لكن هل يكون منعك لونا ‌من‌ الوان التعدى على، كما ‌هو‌ شان المخلوقين عندما يمنع بعضهم بعضا ‌ما‌ يحتاجون اليه مما يملكونه، ‌فى‌ ‌ما‌ ‌هو‌ ‌حق‌ المخلوق على المخلوق ‌فى‌ تبادل الحاجات، ‌و‌ تقابل الحقوق؟
 ‌ان‌ التعدى ‌فى‌ التصرف السلبى، ‌فى‌ ‌ما‌ ‌هو‌ المنع ‌و‌ الحرمان، يفرض حقا للمحروم لدى الحارم، ‌و‌ دينا للممنوع لدى المانع.. ‌و‌ هنا نتساءل- ‌يا‌ رب- ‌اى‌ ‌حق‌ لنا عليك، ‌و‌ كل وجودنا هبه منك ‌و‌ ملك لك، فانت صاحب الحق ‌فى‌ المنع، كما انت صاحب الحق ‌فى‌ العطاء، ‌و‌ انت تفرض لعبادك الحق ‌فى‌ ‌ما‌ تجعله ‌من‌ الحق لهم عليك، فهو مستمد منك، ‌و‌ ليس شيئا ‌من‌ الذات ‌فى‌ علاقاتها الطبيعيه بغيرها، ‌و‌ لذلك فان المتعدى ‌لا‌ معنى له، فانت المحسن ‌ان‌ اعطيت، ‌و‌ انت الحكيم ‌ان‌ منعت، ‌و‌ قد جاء ‌فى‌ الحديث عن الامام على ‌بن‌ موسى الرضا (ع) ‌ما‌ يشير الى ذلك، فقد ساله بعض الناس فقال: اخبرنى عن الجواد، فقال: «ان لكلامك وجهين، فان كنت تسال عن المخلوق فان الجواد الذى يودى ‌ما‌ افترض الله عليه، ‌و‌ ‌ان‌ كنت تسال عن الخالق فهو الجواد ‌ان‌ اعطى، ‌و‌ ‌هو‌ الجواد ‌ان‌ منع، لانه ‌ان‌ اعطاك اعطاك ‌ما‌ ليس لك، ‌و‌ ‌ان‌ منعك منعك ‌ما‌ ليس لك». ‌و‌ هذا ‌ما‌ جاء ‌فى‌ كلام اميرالمومنين (ع): «و كل مانع مذموم ‌ما‌ خلاه».
يا رب... انه لطفك ‌و‌ حنانك ‌و‌ كرمك.. انك تفتح لى ‌فى‌ قلبى المنفتح عليك ‌و‌ على نعمك، نافذه على الاحساس بكل جميلك الذى ‌لا‌ يحد، فينطلق عقلى ‌و‌ قلبى ‌و‌ شعورى ‌و‌ لسانى بالشكر لك على ‌ما‌ اوليتنى ‌من‌ نعمك التى احتضنت وجودى كله بالخير ‌و‌ الفرح ‌و‌ السعاده الروحيه ‌و‌ الجسديه... ‌و‌ يفاجئنى- ‌يا‌ رب- ‌و‌ انا المثقل بكل هذا اللطف الالهى الذى يفيض على بالحنان ‌و‌ الرحمه، انك تشكرنى على ‌ان‌ شكرتك، فاذوب ‌و‌ اذوب حتى اشعر بكل كيانى يذوب امامك، لانى افكر ‌و‌ اشعر بان هذا الشكر ‌من‌ الهامك، فانت الذى اعطيتنى العقل الذى اكتشف فيه عمق نعمتك ‌فى‌ وجودى، ‌و‌ منحتنى الحواس التى اشعر فيها بكل مواقع النعم ‌فى‌ حياتى، ليكون الشكر نتيجه عقل يفكر ‌و‌ حس يبصر ‌و‌ يسمع ‌و‌ يشم ‌و‌ يذوق ‌و‌ يلمس، فاى رب عظيم لطيف انت، عندما تشكر ‌من‌ شكرك ‌و‌ انت الهمته شكرك.
 
و تحمدك نفسى على كل مواقع الحمد ‌فى‌ الكون، ‌و‌ ‌فى‌ كيانى الداخلى ‌فى‌ ‌ما‌ تمثله آفاق عظمتك ‌و‌ امتداد نعمك، ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ تنفتح عليه روحى عن ذلك كله ‌فى‌ ‌ما‌ علمتنى ‌من‌ اسرار الحمد ‌و‌ ‌من‌ اساليبه ‌و‌ وسائله، فمنك المعرفه التى انطلقت ‌من‌ حقائق الجمال ‌و‌ الجلال ‌و‌ الكمال ‌فى‌ ذاتك لتدخل ‌فى‌ مواضع الفكر ‌من‌ عقلى ‌و‌ مواقع الاحساس ‌من‌ شعورى.. ‌و‌ اذا ‌بى‌ اطل ‌من‌ جديد على كرمك الواسع ‌فى‌ فيض العطاء، فاجد منك- ‌يا‌ رب- لطف المكافاه على هذا الحمد الذى ‌هو‌ هبه منك، لان احساسى بالحمد ليس شيئا امنحك اياه فيزيد ‌فى‌ عظمتك، ‌و‌ لكنه شى ء يرتفع بروحى اليك ‌فى‌ آفاق المعرفه العليا الرحبه التى تجعلنى كبيرا ‌فى‌ القرب منك.
 
فعل الله مبنى على التفضل:
 
 ‌يا‌ رب، اننى عندما اتطلع اليك ‌فى‌ آفاق الالوهيه الرحبه التى ‌لا‌ تضيق على احد بل تتسع الطافها لكل الناس، فما ذا ارى؟ اننى ارى السمو يرتفع ‌و‌ يعلو ‌فى‌ كل مدارج الرفعه ‌و‌ العلو، فينظر الى خلقه بعين الرحمه ‌لا‌ بعين الانتقام، فيتفضل عليهم بما يفتح لهم ابواب الانفتاح عليه بالاطمئنان الى الامل الكبير ‌فى‌ العوده الى مواقع رضاه ‌فى‌ مواقع طاعته، لانه لم يغلق عليهم ابواب رحمته ‌و‌ مغفرته ‌فى‌ ‌ما‌ فتح لهم ‌من‌ ابواب التوبه اليه.
 انك- ‌يا‌ رب- تعلم ‌ما‌ يقوم ‌به‌ عبادك الخاطئون ‌من‌ فضائح ‌و‌ خطايا ‌فى‌ سرهم ‌و‌ علانيتهم، ‌و‌ تطلع على ‌ما‌ يكنونه ‌فى‌ وجدانهم ‌من‌ اسرار عميقه تتصل بموقع النيه ‌فى‌ افعالهم، ‌و‌ بموطن الاحساس ‌فى‌ مشاعرهم، مما ‌لا‌ يريدون ظهوره ‌و‌ اطلاع الاخرين عليه، ‌و‌ انت القادر على ‌ان‌ تفضحهم امام الناس بما تملكه ‌من‌ وسائل ذلك، ‌و‌ ‌هم‌ يستحقون الفضيحه لسوء نيتهم ‌و‌ فعلهم، ‌و‌ لكنك- برحمتك- لم تفضحهم، حتى تترك لهم الفرصه للتراجع ‌و‌ للاحساس برحمتك ‌فى‌ سترك عليهم، فيدفعهم ذلك الى الحياء منك ‌فى‌ ‌ما‌ يتمردون، ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ تستر عليهم.
 ‌و‌ هناك البعض ‌من‌ الذين تعقدت افكارهم ‌و‌ مشاعرهم ‌و‌ افعالهم فابتعدت عن مواقع رضاك ‌فى‌ خطوط طاعتك، ‌و‌ ابتعدوا- بذلك- عن آفاق رحمتك، فاستحقوا المنع ‌من‌ جودك ‌و‌ عطائك، ‌و‌ لكنك تبادرهم بالعطاء السخى ‌من‌ رزقك لينفتحوا عليك ‌من‌ عمق افضالك ‌و‌ الطافك. ‌و‌ هكذا كان الخط الرحيم الحليم الكريم الغفور ‌فى‌ ‌ما‌ تتصرف ‌به‌ ‌فى‌ واقع عبادك الخاطئين، فقد بنيت افعالك على التفضل فاعطيتهم ‌ما‌ ‌لا‌ يستحقونه، ‌و‌ اجريت قدرتك على التجاوز فلم تواخذهم بسوء اعمالهم، ‌و‌ تلقيت ‌من‌ عصاك بالحلم ففتحت له ابواب التوبه، ‌و‌ امهلت ‌من‌ قصد لنفسه بالظلم فتركت له الفرصه ليعدل معها بالاستقامه ‌فى‌ الطريق، ‌و‌ الرجوع عن الانحراف، لانك الواسع ‌فى‌ كرمك، ‌و‌ العظيم ‌فى‌ رحمتك، فلا يضيق عليك عفو ‌و‌ ‌لا‌ رحمه، ‌و‌ ‌لا‌ يرهقك انتظار الخاطئين ليرجعوا اليك ‌من‌ قاعده التوبه، لانك خلقت عبادك بيدك، ‌و‌ عرفت نقاط ضعفهم ‌و‌ نقاط قوتهم، فاردت لهم ‌ان‌ يمتدوا ‌فى‌ ساحات الفكر الذى يهديهم الى سواء السبيل عندما تترادف الحجج عليهم، ‌و‌ يكثر الاعذار اليهم، فيكتشفون ‌ما‌ ينتظرهم ‌فى‌ آفاق رحمتك، فيرجعون اليك ‌و‌ يستريحون الى عفوك ‌و‌ يهرعون الى وعدك بقبول التائبين ‌و‌ الغفران للخاطئين المذنبين.. ‌و‌ ذلك ‌هو‌ الذى يقودهم الى التوازن ‌فى‌ وعى المسووليه ‌فى‌ ‌ما‌ يملكونه ‌من‌ طاقات، ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ يحركونه ‌من‌ خطوات، ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ يركزونه ‌من‌ علاقات ببعضهم البعض، مما يجعلهم ‌فى‌ موقف الطاعه لله ‌و‌ اسلام الامر كله له.
 ‌و‌ ذلك ‌هو‌ الذى يعطى الانسان الصوره الحيه عن لطف الله بعباده ‌فى‌ ‌ما‌ يقودهم الى مواقع العوده اليه بكل الوسائل التى تختزن الرحمه، ‌و‌ تحرك الافكار ‌و‌ المشاعر ‌فى‌ ‌خط‌ الواقعيه الرساليه ‌فى‌ ‌ما‌ ياخذون ‌به‌ ‌او‌ يتركونه، فلا يهلك هالكهم- ‌فى‌ حال اختيارهم الهلاك- الا بعد استنفاد كل الحجج، ‌و‌ ‌لا‌ يشقى شقيهم الا بعد ابتعاده عن كل ‌ما‌ وفره الله له ‌من‌ اسباب السعاده، ‌و‌ ذلك ‌فى‌ نطاق عنوان واحد يتسع لكل افعال الانسان ‌و‌ اقواله ‌و‌ علاقاته، ‌و‌ ‌هو‌ التوبه.
نداء المحبه الدائم:
 
 ‌يا‌ رب، كيف ‌لا‌ ينفتح عليك عبادك بكل الامل ‌و‌ الرجاء ‌فى‌ القرب اليك مهما ابتعدت بهم الذنوب عن ساحه قدسك، ‌و‌ انت الذى ‌لا‌ تترك مجالا ‌لا‌ نفتاحهم عليك الا لتفسح لهم اكثر ‌من‌ فرصه لذلك، لانك تعرف سرهم ‌و‌ علانيتهم ‌فى‌ ‌ما‌ ينحرفون فيه عن الطريق، ‌او‌ ‌فى‌ ‌ما‌ يمارسونه ‌من‌ الخطيئه، انطلاقا ‌من‌ مواقع الاهتزاز ‌فى‌ مشاعرهم، ‌و‌ عناصر الاثاره ‌فى‌ غرائزهم، ‌و‌ ايحاءات الانحراف ‌فى‌ اوضاعهم، مما يحتاجون فيه الى الكثير ‌من‌ الرحمه التى تجتذبهم الى الخير ‌و‌ تبعدهم عن الشر، ‌فى‌ ‌ما‌ تهيى ء لهم ‌من‌ ظروف التراجع عن ذلك كله، عندما يواجهون الطاف الخير ‌فى‌ شخصياتهم ‌من‌ خلال الايحاء الروحى بان الله يدعوهم الى العوده اليه ‌و‌ الى الثبات ‌فى‌ مواقع رضاه، ‌و‌ الى الاتجاه نحو الهدوء ‌فى‌ العقل، ‌و‌ الاستقامه ‌فى‌ الخطوات الى الطريق المستقيم، ليكون الانحراف ‌فى‌ حركتهم مجرد حاله طارئه ‌لا‌ تستقر ‌فى‌ الاتجاه، ‌و‌ ليكون الاهتزاز ‌فى‌ مناطق الاثاره مجرد وضع سريع ‌لا‌ يلبث ‌ان‌ يزول بفعل عناصر الثبات ‌فى‌ الايمان ‌و‌ ‌فى‌ التقوى.
 ‌و‌ هكذا دعوت عبادك الى عفوك، ‌و‌ لكن ‌لا‌ ليحصلوا عليه بدون اراده ‌او‌ معاناه، بل اردت لهم ‌ان‌ يحصلوا عليه ‌من‌ خلال الباب الروحى الذى يمتزج فيه الوعى للصفات الالهيه مع الالتزام الانسانى ‌فى‌ ‌ما‌ ‌هو‌ ‌حق‌ الله على عباده ‌من‌ الاحساس بالعبوديه المطلقه التى ‌لا‌ يملكون معها ‌اى‌ شى ء ‌من‌ حريه الاختيار خارج نطاق الطاعه، كما يتداخل فيه الشعور بالندم على الخطيئه بالعزم على تصحيح ‌خط‌ السير ‌فى‌ اتجاه التقوى العمليه، ‌و‌ يتحرك فيه العنصر الروحى ‌فى‌ دائره العنصر العملى ‌و‌ ‌هو‌ التوبه التى تختصر ‌فى‌ حركه الانسان كل معانى الانفتاح على الله، ‌و‌ الانغلاق عن كل مواقع الشيطان، ‌فى‌ عمليه اراده قويه ‌و‌ تصميم حاسم..
 ثم اكدت ذلك ‌فى‌ الخط الذى رسمته لهم بكل وضوح ‌فى‌ وحيك ‌فى‌ ‌ما‌ اظهرت لهم ‌من‌ خصائصه، ‌و‌ بينت لهم ‌من‌ ملامحه، حتى يتعرفوا عليه بطريقه دقيقه.. ‌و‌ ذلك ‌هو‌ التوبه النصوح التى تعبر عن توافق ظواهرهم ‌و‌ بواطنهم ‌فى‌ عمليه التغيير، ‌و‌ عن صدق النيه ‌و‌ قوه العزم ‌و‌ اراده الثبات، بحيث ‌لا‌ مجال فيه لاى تراجع ‌او‌ اهتزاز.
 ‌و‌ هذا ‌هو‌ ‌ما‌ تحدثت ‌به‌ اليهم ‌فى‌ كتابك الذى اطلقت فيه نداء الدعوه الى التوبه (يا ايها الذين آمنوا توبوا الى الله توبه نصوحا) (التحريم: 8).
 انك تدعوهم الى العوده اليك ‌من‌ موقع الصدق الذى يعبر عن الاستقامه ‌فى‌ ‌خط‌ طاعتك، ‌من‌ خلال اراده التغيير الذى ينتقلون ‌به‌ ‌من‌ ‌خط‌ الشيطان الى ‌خط‌ الله.. فهذا ‌هو‌ الطريق الوحيد الذى يربطهم بك ‌من‌ جديد، انك توحى اليهم بانك ‌لا‌ ترفضهم لمجرد انهم عصوك ‌و‌ تمردوا عليك، بل تعلن لهم انك تتقبلهم ‌فى‌ ايه لحظه يريدون فيها العوده، ‌و‌ تدعوهم الى ‌ان‌ ينفتحوا على ذلك ‌فى‌ نداء محبه ‌و‌ لطف ‌و‌ حنان ‌و‌ رحمه.
 ثم تابعت النداء بالايحاء اليهم بان عليهم ‌ان‌ يعيشوا روحيه الرجاء بمغفره الله ‌من‌ خلال التوبه... ‌و‌ اذا كانت المساله عندهم رجاء يحمل ‌فى‌ داخله بعض عناصر الخوف، ‌فى‌ ‌ما‌ تريد ‌ان‌ توحى اليهم بالتحرك نحوك ‌فى‌ شعور تمتزج فيه الرغبه بالرهبه كوسيله ‌من‌ وسائل التربيه الروحيه التى يتحرك فيها الانسان ‌فى‌ روحيه العبوديه بين الخوف ‌و‌ الرجاء ليتاكد موقعه ‌فى‌ اخلاصه لله، ‌فى‌ قلق الانسان الباحث عن مواقع رضاه، اذا كانت المساله عندهم رجاء ‌فى‌ الخط التربوى، فانها عندك- ‌يا‌ رب- قرار بالعفو عمن يعيش ‌فى‌ اعماقه الرغبه الحقيقيه ‌فى‌ التطلع نحو رضاك، ‌و‌ هذا ‌هو‌ قولك:
 (عسى ربكم ‌ان‌ يكفر عنكم سيئاتكم ‌و‌ يدخلكم جنات تجرى ‌من‌ تحتها الانهار) (التحريم: 8).
 فذلك ‌هو‌ الافق الجديد للتوبه، ‌ان‌ يتحول الماضى ‌فى‌ نتائج مسئووليته الى صحيفه بيضاء ‌لا‌ اثر فيها للخطيئه السوداء، ‌و‌ ‌لا‌ للانحراف الاعمى، لان الحاضر التائب يهيى ء جو الغفران للماضى الخاطى ء، ‌و‌ ‌ان‌ يكون المستقبل البعيد ‌هو‌ مستقبل النعيم الذى يلقاه الناس التائبون ‌فى‌ الجنات التى تجرى ‌من‌ تحتها الانهار، حيث يعيشون فيها الاحساس بالجمال ‌و‌ الشعور بالطمانينه.. هناك ‌فى‌ ذلك اليوم الذى يوكد الله فيه رعايته لعباده الصالحين.
 (يوم ‌لا‌ يخزى الله النبى ‌و‌ الذين آمنوا معه نورهم يسعى بين ايديهم ‌و‌ بايمانهم يقولون ربنا اتمم لنا نورنا ‌و‌ اغفر لنا انك على كل شى ء قدير) (التحريم: 8).
 فانت- ‌يا‌ رب- ‌لا‌ تدخل الخزى ‌و‌ العار على عبادك الصالحين الذين عاشوا ‌فى‌ مجتمع الايمان بالله، ‌و‌ السير ‌فى‌ ‌خط‌ شريعته بقياده النبى الذى حمل الرساله ‌و‌ دعا الى الله ‌و‌ الى طاعته، لانك اطلعت على قلوبهم فرايت فيها النور الذى يشع بالايمان فيتفايض على ساحاتهم ‌فى‌ طريقهم الطويل، ‌و‌ ينطلق ‌فى‌ ايمانهم التى يحركونها ‌فى‌ ‌خط‌ الجهاد ‌و‌ ‌فى‌ سبيل الله... فاذا شعروا بان هناك نقصا ‌فى‌ هذا النور الذى ارادوه ‌ان‌ يتكامل، توجهوا اليك بكل اشراقه الحقيقه الالهيه ‌فى‌ كيانهم، ليطلبوا منك ‌ان‌ تكمل لهم هذا النور الذى ضاع منهم بعضه بفعل ظلام الخطيئه ، ‌و‌ تغفر لهم حتى تكون الحياه لديهم نورا ‌فى‌ حركه الايمان ‌و‌ الطاعه، ‌و‌ نورا ‌فى‌ حركه العفو ‌و‌ المغفره، ‌و‌ هكذا يبتهل اليك عبادك لانك القادر على كل شى ء، ‌و‌ المهيمن على الوجود كله ‌و‌ على الجزاء كله، فاى رب عظيم انت ‌يا‌ رب، ‌و‌ ‌اى‌ خالق رحيم انت ‌يا‌ رب.. ‌و‌ كيف يبتعد عبادك عن الدخول الى عفوك ‌من‌ باب التوبه المفتوح على مصراعيه، ‌و‌ ‌ما‌ ‌هو‌ عذرهم ‌فى‌ ذلك كله؟.
التجاره مع الله:
 
 لقد كان وجودنا بعض عطائك ‌و‌ كرمك، كما كانت نعمك الوافره ‌فى‌ حركه هذا الوجود شاهدا على لطفك ‌و‌ رحمتك، ‌و‌ هذا ‌ما‌ يعيشه عبادك المومنون بك المبتهلون اليك ‌فى‌ وجدانهم الايمانى، عندما يرون الفيض الالهى ينهمر عليهم ‌من‌ كل جانب ‌من‌ دون ‌ان‌ يكون لديهم ‌اى‌ عمل يقدمونه بين ايديهم ليستحقوا ‌به‌ ذلك. ‌و‌ لقد دعوتنا للعمل ‌فى‌ كل مواقع طاعتك، ‌فى‌ ‌ما‌ يتصل بحياتنا الخاصه ‌فى‌ ‌ما‌ يتحرك ‌به‌ وجودنا الذاتى ‌من‌ رغبات ‌و‌ حاجات، ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ يتصل بحياتنا مع الناس ‌فى‌ ‌ما‌ تفيضه علينا ‌من‌ مسووليات ‌و‌ اوضاع، فاردتنا ‌ان‌ نعيش العطاء ‌فى‌ طاقاتنا ‌فى‌ ‌ما‌ نقدمه ‌من‌ خير لانفسنا ‌و‌ للناس ‌و‌ للحياه ‌فى‌ نطاق اوامرك ‌و‌ نواهيك، ليكون وجودنا فاعلا منتجا على مستوى الوجود كله، ‌و‌ لم تجعل عملنا هذا مجرد مسووليه عباديه نتعبد فيها اليك على اساس ‌ما‌ يجب علينا لك ‌من‌ انواع الطاعه، ‌من‌ دون ‌ان‌ نحصل ‌من‌ ذلك على شى ء ‌فى‌ ربح الذات لنفسها ‌فى‌ ‌ما‌ تريده ‌من‌ خير، بل جعلته نوعا ‌من‌ التجاره معك ‌فى‌ ‌ما‌ تجتذبه ‌من‌ الربح المخزون عندك ‌و‌ اعتبرته قرضا يحمل لنا فرص الزياده المضاعفه. ‌و‌ هكذا دعوت عبادك الى التجاره معك، ‌و‌ انت الذى رزقتهم ‌ما‌ يتاجرون ‌به‌ ‌و‌ زدتهم ‌فى‌ الربح لتزيدهم رغبه ‌فى‌ التسامى الى درجات القرب اليك، ‌و‌ حركه ‌فى‌ ‌خط‌ المسووليه ‌فى‌ تحريك الحياه نحو الانطلاق الى مواقع الخير للانسان كله ‌فى‌ جميع مجالاته، ليكون الانسان انسان العمل الصالح الخير ‌فى‌ ‌ما‌ تحتاجه الحياه ‌من‌ طاقاته، ‌و‌ ليكون انسان الله ‌فى‌ ‌ما‌ يفرضه عليه ‌من‌ كل مواقع الطاعه، ‌و‌ ملامح العبوديه له ‌فى‌ وجوده.
 ‌و‌ هكذا كانت الحسنه- ايه حسنه- عشره امثالها، ‌و‌ كان الانفاق (فى سبيل الله كمثل حبه انبتت سبع سنابل ‌فى‌ كل سنبله مائه حبه ‌و‌ الله يضاعف لمن يشاء)، ‌و‌ كان الذى يقرض الله قرضا حسنا ‌فى‌ ‌ما‌ يقدمه للاخرين ‌من‌ طاقته ‌و‌ ماله، يستحق الاضعاف الكثيره ‌من‌ الربح ‌و‌ الاجر الكريم، ‌و‌ ذلك ‌فى‌ عمليه تربويه ايحائيه بان قضيه العمل الصالح ليست مجرد قضيه ترتبط بالمبداء ‌فى‌ ‌ما‌ يخطط له ‌من‌ مواقع ‌و‌ مواقف، ‌و‌ لكنها قضيه الذات ‌فى‌ ‌ما‌ تتطلع اليه ‌من‌ ارباح ‌و‌ منافع.. ‌و‌ ‌ان‌ الذاتيه ‌فى‌ حساب العمل تمثل قيمه كبيره ‌فى‌ ميزان الله عندما يكون العمل لله ‌فى‌ ‌ما‌ يتقرب ‌به‌ الانسان اليه ‌فى‌ خدمه الانسان ‌و‌ الحياه، لان الله اراد للانسان ‌ان‌ يطيعه ‌و‌ يتعبد اليه طمعا ‌فى‌ جنته ‌و‌ خوفا ‌من‌ ناره ‌و‌ رغبه ‌فى‌ الاجر العظيم، ‌و‌ لم يفرض عليه ‌ان‌ يفعل ذلك ‌من‌ دون ثمن على اساس استحقاق الله للعباده ‌فى‌ ذاته، ‌و‌ ذلك على اساس ‌ان‌ الله ‌لا‌ يريد للانسان ‌ان‌ يبتعد عن خصائص انسانيته ‌فى‌ نطاق بشريته، فيكون ملكا يفكر ‌فى‌ العمل ‌من‌ ناحيه التجريد، بل اراد له ‌ان‌ يكون بشرا ‌فى‌ نطاق حاجاته الحاضره ‌و‌ المستقبله على مستوى الدنيا ‌و‌ الاخره.
 ‌و‌ لهذا اعطى السعى نحو المسووليات العامه ‌و‌ الخاصه معنى التجاره ‌و‌ البيع ‌فى‌ ‌ما‌ يجتذبانه ‌من‌ قضايا الربح ‌و‌ التعويض ‌فى‌ الطموحات الذاتيه، ليعيش الانسان هاجس ذلك ‌فى‌ دنياه ‌و‌ آخرته على اساس الخط المستقيم.
ذكر الله حاجه انسانيه:
 
 ‌و‌ يبقى لطفك بعبادك يغمر حياتهم ‌و‌ يرعى مصيرهم عندما تدلهم على الطريق الذى يودى اليك فيرفع درجتهم عندك، ‌و‌ يحقق لهم السعاده لديك، ‌فى‌ ‌ما‌ يوحى ‌به‌ ذلك كله ‌من‌ علاقه العبد بربه ‌و‌ علاقه الرب بعبده، فهناك مبادره ‌من‌ الانسان تتحرك ‌فى‌ طريقته ‌فى‌ التعبير عن شعوره بحضور الله ‌فى‌ وجدانه ‌و‌ ‌فى‌ الوجود كله، بحيث يجده ‌فى‌ اجواء الغيب السابح ‌فى‌ المطلق، كما لو كان ‌فى‌ اجواء الشهود الغارق ‌فى‌ الحس، فيذكره ‌فى‌ آفاق الوهيته بكل مواقع عظمته ‌و‌ موارد نعمه باسمائه الحسنى ‌و‌ صفاته العليا، ‌و‌ يتحول الذكر عنده الى حقيقه حيه ‌فى‌ العقل ‌و‌ الاحساس ‌و‌ حركته ‌فى‌ الحياه.. ‌و‌ هنا تلتقى المبادره الانسانيه ‌فى‌ ‌خط‌ العبوديه الخالصه المخلصه بالرحمه الالهيه، فيذكر الله عبده بالرحمه ‌و‌ اللطف ‌و‌ الحنان ‌و‌ المغفره، كما ذكره عبده بالاخلاص ‌و‌ الاعتراف ‌و‌ التوسل ‌و‌ العباده.
 ‌و‌ هكذا اراد الله لعباده ‌ان‌ يذكروه ليذكرهم، ‌فى‌ ‌ما‌ يريد ‌ان‌ يثيره ‌فى‌ تفكيرهم ‌من‌ ‌ان‌ نسيانهم له ‌فى‌ كل مواقع الحياه عندهم سيكون تاثيره لديه ‌ان‌ ينساهم فيهملهم ‌فى‌ عمق مساله المصير، ‌و‌ هذا ‌ما‌ عبر عنه الله بقوله ‌فى‌ حديثه عن امثال هولاء ‌فى‌ موقفهم يوم القيامه ‌فى‌ ساعه الحساب ‌فى‌ حوارهم مع الله: (و ‌من‌ اعرض عن ذكرى فان له معيشه ضنكا ‌و‌ نحشره يوم القيامه اعمى قال رب لم حشرتنى اعمى ‌و‌ قد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فنسيتها ‌و‌ كذلك اليوم تنسى) (طه: 126 -124). ‌و‌ قوله تعالى: (نسوا الله فنسيهم) (التوبه: 67).
 ‌و‌ ليست المساله مساله حاجه الهيه ‌فى‌ ذكر الانسان لربه، بل هى حاجه انسانيه ‌فى‌ انفتاح الانسان على مصالحه ‌فى‌ الحياه ‌و‌ ‌فى‌ المصير ‌من‌ خلال ذلك ، حيث يكون نسيانه لله نسيانا لنفسه عندما يستولى عليه الشيطان ‌فى‌ كل مصادره ‌و‌ موارده، ‌و‌ ذلك ‌هو‌ قوله تعالى: (و ‌لا‌ تكونوا كالذين نسوا الله فانساهم انفسهم اولئك ‌هم‌ الفاسقون) (الحشر: 19).
 ‌و‌ بذلك يكون ذكر الله ‌فى‌ وعى الانسان وسيله ‌من‌ وسائل ذكر الانسان لنفسه. ‌و‌ اذا كان الذكر حركه ‌فى‌ وعى الانسان لربه، فانه يجتذب الشكر الذى يمثل وعى الانسان لنعم الله ‌فى‌ حياته ‌فى‌ كل مواقع وجوده ‌فى‌ تفاصيلها الصغيره ‌و‌ الكبيره، بحيث ‌لا‌ معنى له بدونها، ‌و‌ ‌لا‌ قيمه لايه سعاده بعيدا عنها.. ‌و‌ هذا ‌هو‌ الذى يعمق ‌فى‌ الانسان احساسه بانسانيته ‌فى‌ ‌ما‌ يعنيه الاعتراف بالجميل ‌من‌ المعنى الانسانى، ‌و‌ ذلك ‌هو‌ الذى يجسد انفعاله بالطاف الله عليه. ‌و‌ كما ‌هو‌ الذكر ‌فى‌ علاقته بمصلحه الانسان ‌فى‌ الداخل، ‌و‌ كذلك الشكر ‌فى‌ علاقته بالله ‌فى‌ امتداد النعم عليه ‌و‌ زياده فرصها ‌فى‌ حياته، ‌و‌ هذا ‌فى‌ مقابل الكفران ‌و‌ الجحود ‌و‌ نكران الجميل ‌فى‌ زوال النعمه عنه ‌و‌ تحولها الى عذاب شديد، ‌و‌ هذا ‌ما‌ عبر عنه الله سبحانه بقوله ‌فى‌ دعوته الانسان للشكر ‌و‌ تحذيره ‌من‌ الكفر بالنعمه: (و اشكروا لى ‌و‌ ‌لا‌ تكفرون) (البقره: 152).
 ‌و‌ قوله تعالى:
 (لئن شكرتم ‌لا‌ زيدنكم ‌و‌ لئن كفرتم ‌ان‌ عذابى لشديد) (ابراهيم: 7).
 ‌و‌ هكذا كانت دعوه الله للانسان الى الذكر، ‌و‌ دعوته الى الشكر، وسيله ‌من‌ وسائل انفتاحه على ربه، ليبقى ذكره ‌فى‌ وجدانه، حيث يشرق الله ‌فى‌ كل فكره ‌و‌ شعوره ليمتد حضوره عنده ‌فى‌ مواقع المسووليه ‌فى‌ حياته، ‌و‌ لينطلق شكره له ليعمق ‌فى‌ ذاته الاحساس بارتباط كل حياته بربه، ‌من‌ خلال علاقه النعم الالهيه بحياته ‌فى‌ وعى لحاجته المطلقه الى الله، ‌و‌ شعور بتلبيه الله له ‌فى‌ ذلك كله.
مميزات الدعاء:
 
 ثم كان الدعاء الذى دعوتنا اليه ‌يا‌ رب الذى ‌هو‌ المظهر الحى للتواصل الدائم بيننا- نحن عبادك- ‌و‌ بينك، فهو الذى يمثل النجوى التى تنطلق ‌من‌ عمق الشعور الحى ‌فى‌ قلوبنا لنتحدث معك ‌من‌ موقع الحاجه اليك ‌و‌ الرغبه ‌فى‌ الحصول على لفته ‌من‌ كرمك ‌و‌ نظره ‌من‌ رحمتك، لانك ‌سر‌ وجودنا ‌و‌ معنى الامتداد ‌فى‌ مسيره هذا الوجود، ‌و‌ ‌هو‌ الذى يعبر عن الاعتراف بالوهيتك ‌فى‌ ‌خط‌ عبوديتنا لك، على اساس المضمون الايمانى الذى تتحرك فيه كل مفردات العقيده ‌و‌ الحياه ‌فى‌ تعداد متنوع الابعاد ‌و‌ الاساليب ‌فى‌ روح عباديه تعبيريه عن كل ‌ما‌ يفكر ‌به‌ الانسان ‌و‌ يحسه ليعرضه امام الله، حيث يمثل ذلك اعترافا ‌و‌ اقرارا ‌و‌ اخلاصا بما يعتقد انه الحقيقه الخاضعه لكلمات الله ‌و‌ رسالاته، حيث تتميز عباده الدعاء عن ‌اى‌ عباده اخرى ‌فى‌ تنويع الافكار ‌و‌ الاوضاع، فلا تجد هناك تشريعا محددا ‌فى‌ الكيفيه ‌و‌ الكميه، فللانسان ‌ان‌ يدعو ربه ‌و‌ ‌هو‌ قائم ‌او‌ قاعد ‌او‌ مستلق على ظهره ‌او‌ راكع ‌او‌ ساجد ‌او‌ واقف ‌او‌ سائر، ‌و‌ ‌لا‌ توجد كلمات محدده لما يقوله ‌فى‌ الدعاء، ‌و‌ ‌لا‌ لغات معينه، بل يمكنه الدعاء بايه لغه ‌و‌ ايه كلمه ‌فى‌ ‌اى‌ مضمون روحى ‌او‌ شعورى ‌او‌ فكرى مما يريد ‌ان‌ يقدمه الانسان بين يدى الله.. ‌و‌ بهذا كان الدعاء عباده متحركه على اكثر ‌من‌ صعيد، ‌و‌ منفتحه على كل انسان بحيث ينطلق فيها الانسان بشكل عفوى عند حدوث ايه مشكله ‌او‌ طروء ايه حاجه ‌لا‌ يرى فيها لقدرته مجالا لحل المشكله ‌او‌ لقضاء الحاجه فيلجاء الى ‌ان‌ يرفعها لله.
 ‌و‌ ‌هو‌ الذى ينمى ‌فى‌ روح الانسان الصله الروحيه بالله حيث يشعر بان الله قريب منه ‌و‌ ‌من‌ آلامه ‌و‌ آماله ‌و‌ مشاكله ‌و‌ حاجاته، ليفتح عليه ابواب رحمته، فيخفف عنه ‌ما‌ ثقل عليه ‌من‌ ذلك، ‌و‌ ليقضى له ‌ما‌ صعب منها، فيجد حاجته عند ربه بما ‌لا‌ يجدها عند غيره، ‌و‌ هذا ‌هو‌ ‌ما‌ عبرت عنه الايه الكريمه:
 (فانى قريب اجيب دعوه الداع اذا دعان فليستجيبوا لى ‌و‌ ليومنوا ‌بى‌ لعلهم يرشدون) (البقره: 186).
 ‌و‌ يتصاعد الاهتمام بهذه العباده الدعائيه حيث تمثل الدعوه الحاسمه التى تجعل ‌من‌ الاقبال عليها مظهرا للعباده الخالصه المنفتحه على معنى عبوديه الانسان لله، كما تجعل ‌من‌ الابتعاد عنها مظهرا ‌من‌ مظاهر الاستكبار عن عباده الله الذى يودى الى دخول جهنم، ‌و‌ هذا ‌هو‌ قوله تعالى: (ادعونى استجب لكم ‌ان‌ الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين) (غافر: 60).
 ‌و‌ هكذا عاش الناس الذكر ‌و‌ الشكر ‌و‌ العباده ‌من‌ خلال الاحساس بمنك، ‌و‌ الانفتاح على فضلك، ‌و‌ الخضوع لامرك، فكان ذلك سببا للوصول الى مواقع رضاك ‌من‌ خلال مواقع طاعتك.. ‌فى‌ ‌ما‌ يقودهم ذلك الى رحاب جنتك.. ‌و‌ هذا ‌هو‌ الغايه كل الغايه ‌فى‌ حركه السعاده الانسانيه التى يتطلع اليها المومنون، ‌و‌ ينطلق نحوها المخلصون.
 العجز عن بلوغ الحمد:
 
 كيف ابلغ- ‌يا‌ رب- آفاق حمدك، ‌و‌ انا الانسان الذى اعيش ‌فى‌ زاويه ضيقه ‌من‌ زوايا الجهل ‌و‌ حدود الماده.
 ‌و‌ هل انا الا عين تبصر بعض مظاهر عظمتك، ‌و‌ اذن تسمع بعض اصوات مخلوقاتك، ‌و‌ يد تشعر مواقع النعم ‌فى‌ ‌ما‌ تلمسه ‌من‌ مجالات نعمك... فكيف انطلق الى ‌ما‌ ‌لا‌ عين رات ‌و‌ ‌لا‌ اذن سمعت ‌و‌ ‌لا‌ خطر على قلب بشر، ‌و‌ ‌لا‌ يلمسه حس ‌فى‌ ‌ما‌ ينفتح عليه غيب العظمه ‌فى‌ قدسك ‌و‌ ‌سر‌ الابداع ‌فى‌ الوهيتك، فكيف ابلغ ‌ما‌ اريده ‌فى‌ عمق اخلاصى ‌من‌ التعبير عن حمدك، ‌و‌ انا ‌لا‌ اعرف الا القليل القليل منه.
 لذلك فلن ادخل ‌فى‌ التفاصيل، لانى ‌لا‌ اعرف كنه تلك التفاصيل، ‌و‌ لكنى احمدك ‌ما‌ وجد ‌فى‌ حمدك مذهب مما استطيع الوصول اليه ‌و‌ مما ‌لا‌ استطيع، كما انى استغرق ‌فى‌ كل كلمات الحمد حتى ‌لا‌ تبقى هناك كلمه ‌لا‌ يتحرك بها عقلى ‌و‌ قلبى مما قد ‌لا‌ يبلغه لسانى، ‌و‌ انطلق مع كل معانيه حتى ‌لا‌ يبقى هناك معنى يطل على حمدك الا عشت فيه ‌و‌ انطلقت معه مما ادركه ‌و‌ مما ‌لا‌ ادركه.
لقد تحمدت الينا- ‌يا‌ رب- باحسانك ‌و‌ فضلك الذى شمل كل حياتنا ‌فى‌ كل ‌ما‌ نحتاجه ‌و‌ ‌ما‌ ننعم به، ‌و‌ غمرتنا بمنك ‌و‌ كرمك حتى اغرقتنا بالسعاده ‌من‌ خلال ذلك. اننا نلتفت الى كل جوانب وجودنا المتحرك ‌فى‌ ارادتك، فنجد نعمتك شامله لكل شى ء ‌من‌ امورنا، فليس هناك امر ‌لا‌ اثر فيه لنعمتك الماديه ‌او‌ الروحيه، ‌و‌ نكتشف منتك علينا سابغه ‌فى‌ كل اوضاعنا، فما ‌من‌ وضع ‌لا‌ ينطق بمنتك ‌فى‌ عمليه امتنان تهز الكيان كله، ‌و‌ نلتقى ببرك الذى اختصصتنا به، ففى كل زاويه ‌من‌ زوايا حياتنا غرسه للبر الالهى الذى يمتد حتى يشمل المواقع كلها.
 ‌اى‌ احسان ‌و‌ فضل- ‌يا‌ رب- اعظم ‌من‌ احسانك ‌و‌ تفضلك علينا بهدايتنا لدينك الذى اخترته لعبادك نهجا للسعاده ‌فى‌ الدنيا ‌و‌ الاخره، وافقا رحبا نطل ‌من‌ خلاله على آفاق ارادتك ‌فى‌ ‌ما‌ تريد لعبادك ‌ان‌ يطيعوك فيه مما فيه الحصول على مصالحهم ‌فى‌ ‌ما‌ يفعلونه، ‌و‌ الابتعاد عن مفاسدهم ‌فى‌ ‌ما‌ يتركونه.. ‌و‌ ذلك ‌هو‌ عنوان ملتك التى ارتضيتها ‌من‌ خلال تجسيدها لمواقع رضاك ‌و‌ سبيلك الذى خططت لنا لنصل ‌من‌ خلاله الى كرامتك ‌فى‌ القرب اليك ‌و‌ الوصول الى رحمتك ‌و‌ مغفرتك.
 هذا ‌هو‌ الجو الذى انطلق فيه الامام على ‌بن‌ الحسين زين العابدين (ع) ليقف امام وداع شهر رمضان، ‌من‌ خلال وعى الانسان لموقعه ‌من‌ ربه ‌و‌ موقع ربه منه، ‌فى‌ الطافه ‌و‌ نعمه ‌و‌ احسانه ‌و‌ عظمته ‌و‌ رحمته ‌و‌ مغفرته ‌و‌ هدايته، مما يجعل شهر رمضان موقعا ‌من‌ مواقع اللطف ‌فى‌ رعايه الله للانسان، ‌و‌ حركه ‌فى‌ اتجاه الوصول اليه ‌من‌ اجل الحصول على الدرجه العليا ‌فى‌ محبته ‌و‌ رضوانه.
 ‌و‌ هذا ‌هو‌ الذى يخرج بشهر رمضان ‌و‌ غيره ‌من‌ مواقيت العباده ‌و‌ الدعاء، عن الخط التقليدى الذى قد يتحول فيه الموعد الزمنى العبادى الى تقليد ميت يمر ‌به‌ الناس بشكل عادى ‌لا‌ يوحى باى اهتمام، ‌و‌ ‌لا‌ يحمل ايه حراره ‌فى‌ منطقه الفكر ‌و‌ الشعور، لان امتداد التشريع ‌فى‌ مدى الزمن قد يجعل المساله ‌فى‌ دائره الجمود التاريخى الذى يتجمد كل شى ء ‌فى‌ داخله. ‌ان‌ القضيه المطروحه ‌فى‌ التربيه الروحيه الاسلاميه هى ‌ان‌ يكون الله ‌هو‌ العمق ‌فى‌ كل شى ء ‌فى‌ الحس الشعورى للانسان بحيث يراه ‌فى‌ كل قول ‌من‌ اقواله ‌و‌ ‌فى‌ كل فعل ‌من‌ افعاله، ‌و‌ ‌فى‌ كل موقع ‌من‌ مواقع الزمن ‌فى‌ حركه حياته، سواء كان يحمل عنوانا للفكره ‌او‌ موقعا للعباده ‌او‌ كان ‌لا‌ يحمل شيئا ‌من‌ ذلك، ‌و‌ هذا ‌هو‌ الذى يعطى الزمن حيويته ‌و‌ حرارته، ‌و‌ للعباده معناها ‌و‌ حركتها ‌فى‌ الفكر ‌و‌ ‌فى‌ الحياه.
خصوصيه الزمن ‌فى‌ شهر رمضان:
 
 ‌يا‌ رب، انك خلقت الزمن كله، فليس زمن اولى بك ‌من‌ زمن، تماما كما خلقت كل شى ء ‌فى‌ الوجود، فليس هناك شى ء- ‌فى‌ ذاته- اقرب اليك ‌من‌ شى ء... ‌و‌ لكنك جعلت لشهر رمضان خصوصيه ‌من‌ بين الشهور، انطلاقا ‌من‌ ارادتك ‌و‌ حكمتك عندما اعطيت معناه شيئا ‌من‌ معنى وحيك، عندما انزلت فيه القران الذى ‌هو‌ النور المعنوى الذى يدخل الى عروق الزمن فيمنحه نورا ‌و‌ حياه ‌و‌ خيرا ‌و‌ بركه، ‌و‌ فتحت فيه اكثر ‌من‌ نافذه للايمان، ‌و‌ حشدت فيه الكثير الكثير ‌من‌ مواقع رضاك ‌فى‌ ‌ما‌ اردت لعبادك ‌ان‌ يطيعوك فيه، ‌و‌ ذلك ‌من‌ خلال فريضه الصيام الذى يفتح ‌فى‌ الجسد اكثر ‌من‌ موقع للروح، ‌و‌ ‌من‌ خلال القيام الذى يطل بالروح على اكثر ‌من‌ معنى للحياه المنفتحه على الله.. ثم كانت الكرامه الكبرى لهذا الشهر عندما اختصرت الالف شهر فجعلتها ‌فى‌ ليله ‌و‌ جعلت حجم هذه الليله- ليله القدر- اكبر ‌من‌ حجم ذلك الزمن الطويل ‌فى‌ فضلها ‌و‌ ثوابها ‌و‌ نتائجها الروحيه على مستوى ‌ما‌ يحصل عليه الانسان ‌من‌ مضمونها العبادى ‌من‌ خير ‌و‌ ثواب ‌و‌ سعاده قد ترفعه الى الدرجات العليا ‌فى‌ جنتك.. ‌و‌ بهذا كان الايحاء الالهى بان القيمه ‌فى‌ معنى الزمن ‌فى‌ روحه ‌فى‌ ‌سر‌ الله، ليست ‌فى‌ الكميه، بل هى ‌فى‌ النوعيه، فقد ‌لا‌ تكون الالف شهر الفارغه ‌من‌ عمق الحركه الروحيه ‌فى‌ مستواها العبادى ذات قيمه عند الله، ‌و‌ قد تكون الليله الواحده ‌فى‌ جهدها ‌و‌ سرها ذات قيمه كبيره ‌فى‌ حركه الفكر ‌و‌ الروح ‌فى‌ ‌ما‌ تنتج ‌من‌ افكار ‌و‌ مشاعر ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ تنفتح عليه ‌من‌ آفاق الخير، ‌او‌ تقترب ‌به‌ ‌من‌ الطاف الله ‌فى‌ الانسان، ‌و‌ ‌فى‌ عمق شعوره بالحياه، ‌و‌ ‌فى‌ معنى الكرامه التى يكرم فيها عباده بالمغفره ‌و‌ الرحمه ‌و‌ الرضوان.
 ‌و‌ هذا ‌هو‌ الفضل الكبير الذى تفضلت ‌به‌ على عبادك عندما فتحت لهم ‌فى‌ هذا الشهر كل الابواب التى تطل عليك، ‌و‌ دعوتهم الى كل الاعمال التى تقترب ‌من‌ مواقع رضاك، ‌و‌ هيات لهم كل مواسم الخير ‌و‌ البركه ‌و‌ اللطف ‌و‌ الحياه الروحيه التى تتفايض بالحنان.
الاصطفاء الخاص:
 
 ‌و‌ هكذا كان شهر رمضان ‌فى‌ تقديرك ‌و‌ تشريعك ‌و‌ كرمك ‌و‌ لطفك، اذ جعلته عطيه ‌و‌ ميزه لهذه الامه المرحومه ‌فى‌ ‌ما‌ اعطيت رسولك ‌من‌ كرامه بكرامه امته، ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ فتحت له ‌من‌ نوافذ الحق على مواقع الخير.. ‌و‌ هكذا انفتحنا عليك ‌من‌ خلاله، بما هيات لنا ‌من‌ موارد الطاعه ‌فى‌ ‌ما‌ كلفتنا ‌به‌ ‌من‌ صيام النهار ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ ندبتنا اليه ‌من‌ قيام الليل، مما يرتفع بوعينا الروحى ‌و‌ قوتنا الاراديه ‌و‌ حركتنا العمليه الى آفاق جديده ‌من‌ رحمتك، ‌و‌ فرص متنوعه ‌من‌ مثوبتك، عندما نتطلع اليك ‌فى‌ رحاب كرمك، فنراك مليئا بما يرغب الناس فيه اليك ‌من‌ رضوانك، فانت الذى ‌لا‌ تضيق خزائنك عن طلبات خلقك، كما نتطلع اليك ‌فى‌ عليائك ‌و‌ ‌فى‌ مواقع السمو التى ‌لا‌ يبلغها احد ‌و‌ ‌لا‌ يدركها مخلوق، فنراك قريبا الى خلقك فتدعوهم الى مواقع قربك، ليقربوا اليك بارواحهم ‌و‌ افكارهم ‌و‌ اعمالهم عندما ‌لا‌ يستطيعون القرب اليك باجسادهم.. ‌و‌ هذا ‌هو‌ الذى يفتح للناس كل السبل ليصلوا اليك ‌فى‌ اكثر ‌من‌ موقع ‌و‌ ‌فى‌ اكثر ‌من‌ حركه.
 ‌و‌ قد يسال سائل: كيف يكون شهر رمضان ‌من‌ خصائص هذه الامه ‌فى‌ ‌ما‌ آثرنا الله ‌به‌ ‌من‌ هذا الحشد ‌من‌ الاعمال ‌و‌ الفيوضات الالهيه، ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ شرعه الله فيه ‌من‌ الصيام، ‌فى‌ الوقت الذى نلاحظ فيه ‌ان‌ الله سبحانه ‌و‌ تعالى يقول: (يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين ‌من‌ قبلكم لعلكم تتقون اياما معدودات) (البقره: 184 -183).
 حيث تدل الايه على ‌ان‌ تشريع الصيام ليس شيئا جديدا ‌فى‌ شريعه الاسلام بل ‌هو‌ تشريع كلف الله ‌به‌ الامم السابقه، ‌و‌ قد نستوحى ‌من‌ الايه ‌و‌ ‌ما‌ بعدها، ‌ان‌ الخصوصيه ‌فى‌ الماضى هى الخصوصيه ‌فى‌ الحاضر الاسلامى، ‌و‌ لكن هذه الاستفاده غير واضحه، لان ‌من‌ الممكن ‌ان‌ يكون التشبيه بلحاظ تشريع الصوم، ‌لا‌ بلحاظ خصوصيه الزمان الذى شرع فيه الصوم، مما ‌لا‌ يتنافى مع الفكره التى يوحى بها الدعاء ‌من‌ اختصاص الامه بهذا الشهر، فان الحديث عن شهر رمضان ‌فى‌ الايه التاليه ليس تابعا لمجموع المضمون الذى جاءت ‌به‌ الايه المذكوره، بل ‌هو‌ بيان للزمان الذى يحتوى الايام المعدودات ‌فى‌ شريعه الامه الاسلاميه، ‌و‌ الله العالم.
صحبه الشهر:
 
 عاش هذا الشهر ‌فى‌ حياتنا كافضل ‌ما‌ يعيشه زمن مبارك ‌فى‌ ‌ما‌ يمنحه ‌من‌ البركه لكل الناس الذين يعيشون فيه ‌من‌ خلال الفرص التى يوفرها لهم ‌فى‌ طاعه الله ‌و‌ الحصول على مغفرته ‌و‌ رضوانه، ‌و‌ ‌من‌ خلال الاجواء الروحيه التى يثيرها ‌فى‌ اجواء الناس الذين يتحركون فيه.. ‌و‌ عشنا معه ‌فى‌ حمد ‌و‌ خير ‌و‌ سرور، ‌و‌ حصلنا على افضل الارباح على مستوى النتائج الدنيويه ‌و‌ الاخرويه على اساس ‌ما‌ حصلنا عليه ‌من‌ عمق ‌فى‌ الروح، ‌و‌ سمو ‌فى‌ الاخلاق، ‌و‌ استقامه ‌فى‌ الخطى، ‌و‌ امتداد ‌فى‌ الالتزام باوامر الله ‌و‌ نواهيه، ‌و‌ صوم عن كل ‌ما‌ يفسد الروح ‌و‌ يسى ء الى طهاره الانسان ‌فى‌ نياته ‌و‌ اقواله ‌و‌ افعاله.
 ثم مضى ‌و‌ فارقنا، كمرحله زمنيه ‌من‌ افضل مراحلنا، كما يمضى الزمن ‌فى‌ النظام الكونى الذى يطوى الحياه ‌فى‌ حدودها المعينه.. ‌و‌ كانت لنا معه صحبه ‌و‌ علاقه ‌و‌ محبه ‌و‌ صداقه ‌و‌ حرمه ‌و‌ حق، تماما كما لو كان كائنا حيا يفتح معنا افضل العلاقات، ‌و‌ تبقى لنا- بعد فراقه- افضل الذكريات، لنودعه باعذب الكلمات، ‌و‌ احر المشاعر، ليكون التفاعل بيننا ‌و‌ بين شهر الله هذا ‌فى‌ المستوى الذى ينطلق فيه ‌من‌ الله ليتصل بكل شى ء ينتسب اليه ‌و‌ يرتبط به، اكان زمانا ‌ام‌ مكانا ‌ام‌ انسانا ‌ام‌ كتابا ‌من‌ كتب الله ‌ام‌ شرعه ‌من‌ شرائعه ‌ام‌ خطا ‌من‌ خطوطه التى اراد لعباده ‌ان‌ يسيروا فيها.
الالم النفسى لفراق الشهر:
 
 ‌و‌ تتلاحق اوصاف هذا الشهر- ‌فى‌ اجواء السلام عليه ‌و‌ هى التحيه له- انطلاقا ‌من‌ تنوع مواقعه ‌فى‌ شانه عند الله بالمقارنه مع الشهور الاخرى، ‌و‌ ‌فى‌ مركزه لدى اولياء الله، ‌و‌ ‌فى‌ علاقته بالانسان ‌فى‌ علاقه الصحبه، ‌و‌ ‌فى‌ امتداده ‌فى‌ الزمن، عندما يتوزع عنوانه بين الايام ‌و‌ الساعات.. ‌و‌ ‌فى‌ الامال التى تطل فيه على حياه الانسان.. ‌و‌ ‌فى‌ الدائره التى تمثل حدود الزمن فيه حيث تتحرك الاعمال، ‌و‌ ‌فى‌ السرور بوجوده ‌و‌ اللوعه بفقده تماما كاى قرين حى، ‌او‌ اليف ينطلق ‌فى‌ الشعور ‌فى‌ طبيعه معنى الالفه ‌فى‌ النفس ثم ياتى ليقترب ‌من‌ الانسان، كما يقترب ‌اى‌ جار ‌من‌ جاره، ليترك تاثيره ‌فى‌ عمق القلوب ‌و‌ ليطرد عن ساحته كل الذنوب.
 فهو شهر الله الاكبر، فكل الشهور تصغر ‌فى‌ خصائصها امامه ‌فى‌ ‌ما‌ منحه الله ‌من‌ الامتيازات، ‌و‌ ‌هو‌ عيد اوليائه الاعظم الذى يرتفع بهم الى اعلى الدرجات، عندما يتحركون فيه ‌فى‌ افضل الاعمال، ‌و‌ اقدس الايام ‌و‌ الساعات بما ‌لا‌ يحصل لهم ‌فى‌ غيره ‌فى‌ هذه الدرجه،
 
‌و‌ ‌هو‌ الوقت الذى يصحبه الانسان كاكرم مصحوب ‌فى‌ الخير الذى يقدمه لصاحبه، ‌و‌ خير شهر ‌فى‌ الايام ‌و‌ الساعات ‌فى‌ نتائجه الكبيره ‌فى‌ حركه الحياه ‌فى‌ الانسان.
 
و ‌هو‌ الشهر الذى اعطى الامال فرصه كبيره لتقرب ‌من‌ الواقع ‌فى‌ ‌ما‌ يامله الانسان ‌من‌ السمو الروحى، ‌و‌ الارتفاع المعنوى، ‌و‌ الدرجات العليا عند الله. ‌و‌ ‌هو‌ الذى نشرت فيه الاعمال فانطلقت ‌فى‌ عمليه ايحاء منفتح على طاعه الله ‌فى‌ التعبير عن اخلاص عبده المومن له.
 
و ‌هو‌ القرين الحبيب الذى يشعر الانسان بالرابطه الوثيقه التى تربطه به، حيث يشعر بجلاله قدره عند وجوده لمعرفته بمواقع الجلال ‌فى‌ خصائصه ‌و‌ معانيه، كما يفجع بفقده عند زواله، لما يشعر ‌به‌ ‌من‌ فداحه الخسائر التى تترتب على افتقاده، ‌و‌ هكذا تتلاحق صفه المرجو الذى آلم فراقه،
 
و الاليف الذى فتح للقلب نافذه على الفرح الروحى عند اقباله، كما اغلق عنه ابواب الانفتاح عند ادباره،
 
و تحرك مع عناصر الشخصيه الاسلاميه ‌فى‌ ايحاءاته ‌و‌ مواقعه ‌و‌ افكاره، حتى بعث الرقه ‌فى‌ القلوب، ‌و‌ خفف ‌من‌ ثقل الذنوب على النفس.
الطاف الله:
 
 للتشريع الالهى دوره الكبير ‌فى‌ اعطاء الزمن معنى روحيا ايحائيا، حيث يتحول الى عنصر ‌من‌ عناصر التاثير الايجابى على النفس التى تعيش ‌فى‌ ساحه الصراع بين ‌خط‌ الله ‌و‌ ‌خط‌ الشيطان، لمصلحه الالتزام بالايمان ‌و‌ التقوى ‌فى‌ ‌خط‌ طاعه الله ‌و‌ الاخلاص له، لان الخصوصيه المعنويه التى يحصل عليها الشهر المبارك ‌فى‌ مفردات التشريع الواجبه ‌و‌ المستحبه، تخلق جوا ‌من‌ الاهتمام ‌و‌ القداسه التى تنفذ الى مشاعر الانسان الذى يتحرك ‌فى‌ داخله بشكل ‌لا‌ شعورى، بحيث يتاثر ‌به‌ حتى الذين ‌لا‌ يلتزمون بالتزاماته ‌فى‌ نطاق الجو العام، ‌و‌ ‌من‌ هنا نفهم كيف يتحول هذا الشهر الى ناصر اعان على الشيطان، ‌و‌ صاحب سهل سبل الاحسان، لان الضغوط الروحيه نوازع الشر تساهم ‌فى‌ منع الانسان ‌من‌ الاستسلام لخطوات الشيطان ‌و‌ حبائله بطريقه بالغه التاثير، كما تدفع النفس الى السير ‌فى‌ ‌خط‌ الاحسان الفكرى ‌و‌ العملى ‌فى‌ ‌ما‌ يحبه الله ‌و‌ يرضاه.
 ‌و‌ قد ورد ‌فى‌ الحديث عن النبى (ص): «الا ‌و‌ قد ‌و‌ كل الله بكل شيطان مريد سبعه املاك، فليس بمحلول حتى ينقضى شهركم هذا».
 ثم كان ‌من‌ الطاف الله ‌فى‌ هذا الشهر، ‌ان‌ الله يعتق الكثير ‌من‌ المذنبين ‌من‌ النار، فقد ورد عن الامام جعفر الصادق (ع): «اذا كان اول ليله ‌من‌ شهر رمضان، غفر الله لمن شاء ‌من‌ الخلق، فاذا كان الليله التى تليها ضاعف كل ‌ما‌ اعتق، ‌و‌ هكذا، فاذا كان آخر ليله ضاعف فيها كل ‌ما‌ اعتق».
 ‌و‌ هذا ‌هو‌ الذى يفتح للمذنبين باب الامل الكبير ‌فى‌ المغفره، حتى ‌فى‌ الحالات الشديده التى اسرفوا فيها على انفسهم ‌و‌ توغلوا كثيرا ‌فى‌ دروب المعصيه، فيرجعون الى الله ليوكدوا رعايتهم لحرمه الله ‌فى‌ هذا الشهر بذهنيه روحيه جديده، يتخلصون فيها ‌من‌ كل اثقال الذنوب ‌و‌ اغلالها، ليعيشوا السعاده الداخليه ‌فى‌ كيانهم، ‌فى‌ عمليه تجدد روحى ‌و‌ عملى، ليكونوا ‌من‌ اسعد الناس ‌فى‌ ذلك على مستوى النتائج الكبيره ‌فى‌ انطلاق الذات ‌و‌ حركه المصير.
 ‌و‌ هكذا يساهم هذا الشهر ‌فى‌ ايحاءاته ‌و‌ اجوائه ‌فى‌ محو الذنوب بالتوبه، ‌و‌ ستر العيوب بالتمرد على الانحراف ‌فى‌ ‌خط‌ التغيير.
 ‌و‌ ‌من‌ خلال طبيعه الدور الذى اريد لهذا الشهر ‌ان‌ يحققه ‌فى‌ التزاماته التى تتجاوز العنصر المادى ‌فى‌ الصوم الجسدى الى الصوم الروحى ‌و‌ الاخلاقى، فان المومنين يشعرون بسهوله الحركه فيه، ‌من‌ خلال القرار المنطلق ‌من‌ الاراده الايمانيه بالالتزام باوامر الله ‌و‌ نواهيه، كما ‌ان‌ المجرمين يشعرون بثقله ‌و‌ طوله، لانه يخلق ‌فى‌ داخلهم شعورا بالعقده المستعصيه ‌لا‌ بتعادهم عن الاجواء العامه فيه ‌فى‌ مجتمع الايمان، فيعيشون فيه الاحساس بالعيون التى تحدق بهم بالاستنكار، ‌و‌ بالمشاعر التى يتصاعد فيها التوتر على اساس ‌ما‌ يقومون ‌به‌ ‌من‌ انحرافات ‌فى‌ هذا الشهر، مما يجعلهم يفكرون ‌فى‌ اوضاعهم كما يفكر السجين ‌فى‌ شعوره بطول مده السجن حتى لو كانت قصيره.
 ‌و‌ ‌فى‌ هذا الجو الروحى، يقف هذا الشهر ‌فى‌ الموقع الذى ‌لا‌ تستطيع الايام الاخرى ‌ان‌ تدخل معه ‌فى‌ منافسه ‌فى‌ القيمه ‌و‌ النتائج، لانها ‌لا‌ تحمل الكثير مما يحمله ‌من‌ خصائص ‌و‌ امتيازات، ‌و‌ ‌لا‌ سيما ‌فى‌ روحيه السلام الذى يسرى الى كل امر فيه، مما يخلق ‌فى‌ الحياه جوا رائعا ‌من‌ الانفتاح على كل معانى الخير ‌و‌ الابتعاد عن كل معانى الشر.. ‌و‌ هكذا تكون صحبته لكل الذين يصاحبونه طيبه محببه، كما يكون الاندماج فيه مفتوحا على كل اوضاع السرور.
الشعور بالحرمان ‌من‌ الفضل:
 
 ‌و‌ هنا تاتى كلمات الوداع ‌فى‌ المشاعر الحزينه ‌فى‌ اللحظات الحاسمه التى يبتعد فيها الانسان المومن عن اجواء هذا الشهر بالانفصال عن ايامه.. ‌و‌ بذلك يتحرك الشعور ليتحدث مع هذا الشهر ‌فى‌ كل ‌ما‌ كان يعيشه المومنون معه، ‌او‌ يحصلون فيه ‌من‌ نتائج السعاده ‌فى‌ الدنيا ‌و‌ الاخره.
 فقد جاءنا بالبركات التى ملات حياتنا، ‌و‌ غسل عنا قذاره الخطايا حتى طهرت ارواحنا، لذلك فنحن نشعر ببركته ‌و‌ طهارته، فلا يكون وداعنا له وداع الضجر الذى يشعر ‌به‌ الناس ‌فى‌ حاله الجو الثقيل الذى يطبق عليهم، كما اننا لن نترك صيامه ‌من‌ خلال الملل، لاننا كنا نحبه ‌و‌ ننفتح عليه ‌فى‌ مواقع القرب ‌من‌ الله، مما يجعلنا نطلبه قبل وقته، ‌و‌ نحزن عليه قبل فوته، ليصرف عنا الكثير ‌من‌ السوء، ‌و‌ يفيض علينا الكثير ‌من‌ الخير، ‌و‌ لننفتح فيه على الله ‌فى‌ ليله القدر التى تختصر الزمن ‌فى‌ ساعاتها حتى تكون ‌فى‌ حجم الف شهر ‌فى‌ نتائجها الكبيره.. ‌و‌ هذا ‌هو‌ الذى جعلنا نحرص عليه ‌فى‌ داخله، ‌و‌ نشتاق اليه ‌فى‌ المستقبل، ‌و‌ نشعر بالحرمان ‌من‌ فضله ‌و‌ ‌من‌ بركاته، لنفكر ‌فى‌ تعويض ذلك الحرمان ‌فى‌ شهر جديد ‌و‌ عمل جديد.
التقصير ‌لا‌ يجبره الا غفران الله:
 
 ‌و‌ عاد الحديث مع الله ‌فى‌ صوره تقرير عما قام ‌به‌ المومنون ‌فى‌ هذا الشهر ‌من‌ واجباته ‌و‌ مستحباته ‌و‌ استغفار عما قصروا فيه ‌من‌ ذلك، ‌و‌ تطلع الى شهر رمضان جديد ‌فى‌ استعداد لطاعات جديده، ‌و‌ قيام كامل شامل بحق الله فيه.
 انا اهل هذا الشهر- ‌يا‌ رب- فقد عشنا حياتنا ‌فى‌ داخله ‌و‌ وعينا كل عناوين فضله، ‌و‌ كل مواقع الخير فيه، ‌و‌ كل عناصر الشرف فيه ‌فى‌ ‌ما‌ يكتسبه الذين يعيشون فيه ‌من‌ ذلك، ‌و‌ كل حظوظ التوفيق فيه.. ‌و‌ قد التزمناه بكل قوه ‌و‌ اخلاص ‌و‌ وعى، ‌فى‌ الوقت الذى كان هناك فريق ‌من‌ الناس الذين جهلوا معناه فلم يعيشوا روحه، ‌و‌ لم يلتزموا بمسووليته ‌و‌ لم ياخذوا ‌من‌ فضله بما دعوتهم اليه ‌من‌ ذلك، ‌و‌ قد كان صيامنا له فرصه للتطهر، كما كان قيامنا فيه فرصه للسمو الى درجات القرب اليك، ‌و‌ لكننا لم نبلغ مستوى الكمال ‌فى‌ ذلك، فقصرنا عن الوصول الى الدرجه العليا ‌من‌ معناه، ‌و‌ لم نبلغ الحجم الذى اردتنا ‌ان‌ نحصل عليه ‌من‌ الاعمال الكثيره التى حشدتها ‌فى‌ مسووليات هذا الشهر.
و ‌ها‌ نحن- ‌فى‌ نهايه المطاف- نقف ‌فى‌ مواقع حمدك لنوكد معنى العبوديه لك ‌فى‌ وجودنا، لنعترف لك بالاساءه ‌فى‌ ‌ما‌ اذنبناه فيه، ‌و‌ بالاضاعه ‌فى‌ ‌ما‌ قصرنا فيه، ‌و‌ لن نستطيع التخلص ‌من‌ واقع التقصير لانك ‌لا‌ تعبد ‌حق‌ عبادتك، مهما بلغ العباد ‌من‌ ذلك.
 فلك منا الاراده القويه ‌و‌ التاكيد الشديد ‌من‌ عمق قلوبنا ‌فى‌ ‌ما‌ نستشعره ‌من‌ الندم العميق على ‌ما‌ قصرنا فيه، ‌و‌ ‌من‌ حركه السنتنا ‌فى‌ الاعتذار الصادق الذى ينطلق ‌من‌ صدق القرار ‌فى‌ التغيير.
 ‌و‌ اذا كان ذلك تعبيرا عن موقف الايمان الحق ‌فى‌ ‌ما‌ اردت ‌به‌ عبادك ‌ان‌ يتحسسوا الندم ‌فى‌ قلوبهم ‌و‌ الاستغفار ‌فى‌ السنتهم، فاننا نطلب منك الاجر الجزيل ‌من‌ عطائك ‌و‌ كرمك، لنحصل على التعويض عما فاتنا ‌من‌ الاجر ‌فى‌ طاعتك، ‌و‌ على المغفره ‌فى‌ ‌ما‌ اذنبنا فيه ‌من‌ اعمالنا.
 
و اذا غاب شهر رمضان عنا، ‌فى‌ هذه الفرصه ‌من‌ العمر، فهيى ء لنا فرصه جديده ‌فى‌ امتداد اعمارنا الى رمضان جديد الذى نريده شهرا تتضاعف فيه طاقاتنا ‌فى‌ حركه الطاعه ‌فى‌ حياتنا، ‌و‌ تشتد فيه الاراده للوصول الى مستوى القيام بحقك بعونك، ‌و‌ تنفتح فيه خطواتنا على الدرب الذى يودى بنا الى مواقع القرب منك، حتى نحصل ‌من‌ ذلك على تدارك ‌ما‌ فاتنا ‌من‌ الاعمال ‌فى‌ الشهر الماضى ‌و‌ ‌ما‌ نبلغه ‌من‌ الاعمال الصالحه ‌فى‌ الشهر المقبل.
 

 اللهم استرنا بسترك:
 
 ‌و‌ اذا كذا نعتذر اليك ‌من‌ التقصير ‌فى‌ ‌ما‌ سلف منا ‌فى‌ هذا الشهر، فاننا نستذكر الان ‌ما‌ الممنا ‌به‌ ‌من‌ الاثام ‌و‌ الذنوب ‌و‌ الخطايا مما تعمدناه ‌او‌ اخطانا فيه ‌او‌ نسينا معه مسووليتنا امامك ‌فى‌ ‌ما‌ يتصل بنا ‌او‌ بالاخرين ‌من‌ حرماتهم التى انتهكناها ‌فى‌ انفسهم ‌و‌ ‌فى‌ اموالهم ‌و‌ اهاليهم ‌و‌ اعراضهم.. لنشعر امام ذلك كله بالحاجه الى التخفف ‌من‌ تلك الاثقال الروحيه التى تثقل ضمائرنا ‌و‌ مشاعرنا، ‌و‌ ذلك بالابتهال اليك لتغفر لنا ‌و‌ لتعفو عنا ‌و‌ تستر علينا بسترك.. حتى نحصل على السعاده الروحيه ‌من‌ فضلك، فلا يشمت بنا الاخرون ممن يكيدون لنا ‌من‌ اعداء دينك، ‌و‌ ‌لا‌ يطعن علينا الطاعنون ‌فى‌ ‌ما‌ يستغلونه ‌من‌ اخطائنا تجاهك للتحدث عنا بالسنتهم بما ‌لا‌ يرضيك، ‌و‌ وفقنا- بعد ذلك- للثبات على ‌خط‌ الخروج ‌من‌ معصيتك، ‌و‌ الاستقامه ‌فى‌ الخط الذى يودى الى مواقع رضاك ‌فى‌ ‌ما‌ تسبغه علينا ‌من‌ فضلك ‌و‌ تحنو ‌به‌ على مشاعرنا ‌من‌ لطف رافتك.
 

 العيد احتفال القيام بالواجب:
 
 ‌و‌ اذا كان فراق الشهر مصيبه على المومنين ‌فى‌ ‌ما‌ يفقدونه- بغيابه- ‌من‌ بركات ‌و‌ الطاف ربانيه، فان العيد الذى ياتى بعده يمثل معنى الاحتفال بالقيام بالواجب ‌و‌ بركاته ‌فى‌ معنى الرضوان، ‌و‌ صفاء الفرح الروحى، ‌و‌ انفتاح الانسان على ساحه المسووليه الواسعه ‌فى‌ مدى الزمن، بعد فتره التدريب على تحمل الحرمان ‌من‌ موقع الاراده.. ‌و‌ بهذا كانت تطلعاتنا- ‌يا‌ رب- اليك ‌ان‌ تجبر مصيبتنا بشهرنا هذا بما تمنحنا ‌من‌ الطافك، ‌و‌ ‌ان‌ تبارك لنا ‌فى‌ يوم عيدنا ‌و‌ فطرنا، بالكثير ‌من‌ فيوضات كرمك، ‌و‌ ‌ان‌ تجعل هذا اليوم اكثر الايام مجلبه للعفو، ‌و‌ محوا للذنب، ‌و‌ ‌ان‌ نعيش فيه روح المغفره لذنوبنا كلها الظاهره ‌و‌ الخفيه، حتى نعيش السعاده الايمانيه ‌فى‌ الدنيا، ‌و‌ الطمانينه الروحيه ‌فى‌ الاخره، فلا يبقى لنا ذنب نخشاه.. ‌و‌ ‌لا‌ نجد ‌فى‌ نفوسنا اثرا للشقاء، فهناك الربح كل الربح، ‌و‌ النعيم كل النعيم ‌فى‌ ظلال عفوك ‌و‌ غمائم رحمتك.
 
عطاء الله ‌لا‌ يخضع لحسابات الزياده ‌و‌ النقصان:
 
 ‌و‌ هناك- ‌يا‌ رب- نموذج ‌من‌ الناس عاشوا الايمان ‌فى‌ قلوبهم ‌و‌ عقولهم، ‌و‌ حفظوا حرمات الله ‌فى‌ التزاماتهم، ‌و‌ وقفوا عند حدود الله ‌فى‌ مسيرتهم.. ‌و‌ لذلك رعوا هذا الشهر ‌فى‌ ‌ما‌ يتميز ‌من‌ الحق الالهى ‌فى‌ رعايته، ‌و‌ حفظوا حرمته ‌فى‌ ‌ما‌ جعله الله له ‌من‌ حرمات ‌فى‌ صيامه ‌و‌ قيامه، ‌و‌ وقفوا عند حدوده ‌فى‌ حدود الحلال ‌و‌ الحرام فيه، ‌و‌ اتقوا الذنوب فلم يقتربوا منها ‌من‌ خلال ‌و‌ عيهم لنتائجها السيئه على مستوى المصير، ‌و‌ تقربوا اليك بكل الاقوال ‌و‌ الافعال ‌و‌ العلاقات التى تقرب العباد اليك ‌فى‌ ‌ما‌ تختزنه ‌من‌ مواقع محبتك ‌و‌ آفاق رضاك.. فرضيت عنهم ‌و‌ اعطيتهم ‌من‌ رحمتك كل الحنان ‌و‌ الاشفاق، ‌و‌ اجزلت ثوابهم ‌من‌ عطائك الذى جعلته للمتقين المخلصين.
 ‌و‌ اذا كان كل عطائك لهم ‌من‌ موقع الفضل ‌لا‌ ‌من‌ موقع الاستحقاق، لان عبادك ‌لا‌ يستحقون عليك شيئا، فاننا نسالك ‌يا‌ رب ‌ان‌ تهب لنا ‌من‌ خزائنك مثله ‌و‌ ‌ان‌ تضاعف لنا ذلك، لان مساله العطاء لديك ‌لا‌ تخضع لحسابات الزياده ‌و‌ النقصان، لتخشى ‌من‌ نقصان خزائنك اذا زاد عطاوك، لانك تخلق ‌ما‌ تعطى منها كما تخلق ‌ما‌ يبقى فيها، فلا تفنى خزائنك بل تبقى، ‌و‌ ‌لا‌ ينقص فضلك بل يزيد.. ‌و‌ تستمر ‌يا‌ رب ‌فى‌ عطائك الذى يعيش عبادك ‌فى‌ هنائه ‌و‌ رخائه ‌و‌ خيره، ‌و‌ معنى السعاده الممتد ‌فى‌ كل مواقع الاحسان لديك.
 فهل نملك ‌يا‌ رب كلمات الشكر التى توفى حقك، ‌و‌ هل نستطيع ‌ان‌ نبلغ معنى الحمد الذى يتميز ‌به‌ فضلك؟!
 ‌و‌ هل نخشى- امام كل كرمك الذى ‌لا‌ ينتهى عطاوه- ‌ان‌ نطلب منك ‌ان‌ تمنحنا اجر ‌من‌ تعبد لك ‌فى‌ صيامه ‌و‌ قيامه الى يوم القيامه؟!
 اننا ‌لا‌ نجد ‌ما‌ يسوغ لنا ذلك ‌من‌ اعمالنا ‌فى‌ ‌ما‌ تثيب ‌به‌ عبادك على اعمالهم الصالحه التى يتقربون بها اليك لينالوا ثوابك... ‌و‌ لكننا- ‌فى‌ طلباتنا- ‌لا‌ ننظر الى استحقاقنا بل ننظر الى فضلك العظيم ‌و‌ منك الجسيم ‌و‌ رحمتك التى ‌لا‌ يبلغ مداها شى ء.
 فاستجب لنا ذلك، ‌يا‌ اكرم الاكرمين.
التوبه هديه العيد الى الله:
 
 ‌و‌ هذا يوم الفطر الذى بدانا ‌به‌ زمنا جديدا نتخفف فيه ‌من‌ مسووليه الصيام الذى فرضته علينا ‌فى‌ هذا الشهر، ‌و‌ انطلقنا ‌من‌ خلاله الى اجواء العيد ‌فى‌ معناه العميق الذى يوحى الينا، كمومنين ملتزمين، بان طاعه الله ‌فى‌ ‌اى‌ موقع ‌من‌ مواقع حركه الانسان المومن، تمثل عيدا يحمل ‌فى‌ معناه كل اسرار الحيويه الروحيه للعيد، لانه يحقق ‌فى‌ عمق الروح كل معانى الفرح الروحى بالانفتاح على الله ‌فى‌ آفاق الثواب الالهى.
 ‌و‌ اردت- ‌يا‌ رب- ‌ان‌ يعيش المومنون السرور كله ‌من‌ خلال اجتماعهم على اساس فرح الطاعه ‌فى‌ عيدهم، ‌و‌ معنى الاخوه ‌فى‌ اسلامهم، ‌و‌ حركه القوه القائمه على الشعور بالوحده ‌فى‌ ‌خط‌ ملتهم التى هى ملتك التى شرعت لهم ‌فى‌ وحيك.
 ‌و‌ نحن نريد- ‌يا‌ رب- ‌ان‌ نعيش معنى العيد ‌فى‌ حياتنا ‌فى‌ ‌ما‌ نريد ‌ان‌ نعيشه ‌من‌ معنى الطهاره ‌فى‌ افكارنا ‌و‌ مشاعرنا ‌و‌ اعمالنا، لنقترب قليلا قليلا ‌من‌ طهر المواقع الالهيه التى نقترب ‌من‌ خلالها اليك، ‌و‌ ذلك بما فتحته امامنا ‌من‌ ابواب التوبه التى تودى بنا الى ساحه رحمتك ‌و‌ آفاق رضاك.
 ‌و‌ لذلك، فاننا نتوب اليك- ‌فى‌ يوم فطرنا هذا- توبه خالصه مستقره ‌فى‌ الاعماق، خالده ‌فى‌ العمر، نصوحا ‌فى‌ معناها، ‌من‌ دون ‌شك‌ ‌و‌ ‌لا‌ ارتياب، لانها تنطلق ‌من‌ ايمان راسخ، ‌و‌ قناعه مطمئنه، بان علينا ‌ان‌ نحصل على الاستقامه ‌فى‌ دربك المستقيم، فلا ينحرف بنا الشيطان عنه الى مواقع الشر ‌فى‌ ضلاله ‌و‌ طغيانه، ‌و‌ ‌ان‌ نقوم بتصحيح الخطاء الذى يوقعنا فيه الهوى الذى يتحرك ‌فى‌ ‌خط‌ الشيطان، فلا نرجع فيه بعد خلاصنا منه.
 ‌و‌ ‌ها‌ نحن نتوب اليك، لتكون توبتنا هديه العيد اليك- ‌يا‌ رب- عندما نقدم نفوسنا المومنه ‌فى‌ مواقع الطهر الروحى المنفتح على طهر القداسه ‌فى‌ علياء مجدك.
 اننا نتوب اليك ‌من‌ كل ذنب اذنبناه، ‌او‌ سوء اسلفناه ‌فى‌ ‌ما‌ مضى ‌من‌ ايام عمرنا ‌من‌ اقوالنا ‌و‌ اعمالنا، ‌او‌ خاطر ‌من‌ خواطر السوء ‌فى‌ فكر منحرف يتحرك ‌فى‌ طريق الشر، ‌او‌ نيه سيئه ‌من‌ نوايا السوء التى تتصل بالفساد ‌فى‌ حركه الحياه ‌و‌ ‌فى‌ واقع الناس، حتى تخلص افكارنا ‌من‌ قذاره الشر، ‌و‌ تطهر اجسادنا ‌من‌ رجس الخطيئه، لنقف بين يديك ‌فى‌ ايمان خالص ‌و‌ تقوى منفتحه على طاعتك، فتقبل منا ذلك، ‌و‌ اعطنا ‌من‌ واسع رحمتك، ‌و‌ ثبتنا عليه لنمتد ‌فى‌ مواقع رضاك.
التوبه ‌فى‌ العقل ‌و‌ الوجدان:
 
 ‌ان‌ التوبه النصوح التى نعمل لها ليست مجرد فكره تعيش ‌فى‌ عقولنا، ‌و‌ مشروع يتحرك ‌فى‌ قرارنا.. بل نريدها شعورا يفرض نفسه على مواقع الاحساس ‌فى‌ شخصياتنا، حتى ينطلق الفكر بحراره تهز الكيان كله، لتفرض الموقف على الواقع كله ‌و‌ تدفعه الى الثبات ‌فى‌ ايحاءات الشعور، اضافه الى القوه ‌فى‌ معادلات العقل، ‌و‌ التوازن ‌فى‌ حسابات المستقبل على مستوى النتائج الايجابيه المتصله بقضايا المصير.
 ‌و‌ لكننا ‌لا‌ نستطيع بلوغ المنطقه الشعوريه المنفتحه على ذلك الجو الروحى الداخلى، الا باعانتك لنا على الاستغراق ‌فى‌ معانى العبوديه الانسانيه الخالصه الخاضعه للالوهيه الخالقه الرحيمه.
 ‌و‌ ‌من‌ خلال ذلك، فاننا نسالك ‌ان‌ تغرس ‌فى‌ اعماقنا الخوف العميق ‌من‌ العقوبه التى تنتظر العاصين ‌من‌ عبادك ‌فى‌ ‌ما‌ توعدتهم به، حتى نشعر ‌به‌ كايه حاله ‌من‌ الحالات التى نواجه بها الحاضر ‌و‌ المستقبل ‌فى‌ ‌ما‌ يحمله ‌من‌ عناصر الخوف ‌فى‌ الواقع، ليكون خوف ‌ما‌ ‌فى‌ الاخره حاله شعوريه متحركه ‌فى‌ الروح تماما كما ‌هو‌ خوف ‌ما‌ ‌فى‌ الدنيا. كما نسالك ‌ان‌ تثير ‌فى‌ مشاعرنا الشوق الروحى الى الثواب الذى وعدت ‌به‌ عبادك المتقين ‌فى‌ ‌ما‌ جعلته لهم ‌من‌ ثوابك، ليتحول ذلك الاحساس، ‌فى‌ حاله الخوف ‌من‌ عقاب الوعيد ‌و‌ الشوق الى ثواب الموعود، الى احساس باللذه ‌فى‌ الدعاء ‌فى‌ ‌ما‌ نطلبه منك ‌من‌ المغفره ‌و‌ الرضوان، ‌و‌ شعور بالكابه ‌فى‌ ‌ما‌ يطوف بافكارنا مما نستجيرك منه ‌من‌ العقوبه ‌و‌ الخسران.
 ‌و‌ نتوسل اليك ‌ان‌ تجعلنا ‌من‌ التوابين ‌فى‌ التوفيق للتوبه ‌و‌ ‌فى‌ قبولها، لنحصل على محبتك ‌من‌ خلال ذلك ‌فى‌ ‌ما‌ اوجبته للتائبين ‌من‌ المحبه، ‌و‌ لنسعد بقبولك منا العوده الى طاعتك ‌من‌ جديد ‌فى‌ ‌ما‌ تفتحه لنا ‌من‌ طريق السير اليك.. فانك اعدل العادلين ‌فى‌ كل موازين العدل القائم على ‌ان‌ تعطى عبادك كل جزاء المحسنين.
الجميع بحاجه الى رضاك:
 
 ‌و‌ اذا كنا- ‌يا‌ رب- نطلب اليك ‌ان‌ تتجاوز عنا ‌و‌ تغفر لنا ذنوبنا بفضلك، فاننا ‌لا‌ نريد ذلك لنا- وحدنا- ولكننا نتذكر آباءنا ‌و‌ امهاتنا الذين ارادتنا ‌ان‌ نشكرهم على ‌ما‌ احسنوا ‌به‌ الينا، كما اردتنا ‌ان‌ نشكرك على احسانك العميم ‌و‌ فضلك الجسيم، كما نتذكر كل اهل ديننا الذين نرتبط بهم بعلاقه الايمان بك ‌و‌ الالتزام بدينك الذى ارسلت ‌به‌ رسولك، ‌من‌ كل هولاء الذين طواهم الزمن ‌فى‌ غياهب الموت، ‌و‌ وفدوا الى جوارك ليواجهوا حسابهم بين يديك، ‌و‌ لينتظروا مصيرهم ‌فى‌ حكمك العادل ‌و‌ رحمتك الواسعه.
 اننا نتذكرهم، ‌و‌ نتذكر حاجتهم الى مغفرتك ‌و‌ رضاك بعد ‌ان‌ فقدوا الفرصه ‌فى‌ العمل الذى يمكنهم ‌من‌ تصحيح اوضاعهم ‌فى‌ ‌ما‌ اكتسبوه ‌من‌ الذنوب، ‌او‌ واقعوه ‌من‌ الخطيئه.. فنطلب اليك ‌ان‌ تتجاوز عنهم ‌و‌ تغفر لهم كما تتجاوز عنا ‌و‌ تغفرلنا.. لنجتمع- غدا- عندك ‌فى‌ ظلال الايمان الذى ‌هو‌ ‌سر‌ الوحده التى تجمعنا ‌فى‌ ساحه دينك، ‌و‌ نلتقى ‌فى‌ جنتك ‌فى‌ دار النعيم فنسعد برضاك.
 
الالتزام بخط الرسول ‌و‌ آله:
 
 ‌و‌ يبقى للصلاه على محمد ‌و‌ آله الذين حملوا رسالته ‌و‌ ساروا على منهاجه ‌و‌ انفتحوا على كل اهدافه، معنى الوفاء ‌و‌ الالتزام، فيبقى الارتباط بالرسول ‌و‌ آله ‌فى‌ ‌خط‌ الرساله، تماما كما اراد الله لنا ‌ان‌ ننفتح على ملائكته المقربين ‌فى‌ ‌ما‌ اوكل الله اليهم ‌من‌ القيام بتنفيذ اوامره الكونيه، ‌و‌ بالاستغراق ‌فى‌ عبادته، ‌و‌ على انبيائه المرسلين الذين تحركوا ‌فى‌ مسيره الرساله الالهيه بكل اخلاص ‌و‌ معاناه.
 ‌و‌ للصلاه بركتها التى تنفتح على حياه الانسان ‌فى‌ ‌ما‌ توحى ‌به‌ ‌من‌ معانى الذكرى للروح الايمانيه ‌و‌ الرساليه التى تثيره اسماء كل هولاء، فتبعث فينا الاحساس بالاخلاص لله ‌و‌ لرسالته كما اخلصوا له.. ‌و‌ تتحرك البركه الروحيه ليستجاب بها الدعاء ‌و‌ يعود الى حياتنا نفعها..
 اننا نطلب منك ذلك كله ‌و‌ اكثر ‌من‌ ذلك، لانك اكرم ‌من‌ رغب اليه الراغبون، ‌و‌ اعطى ‌من‌ ساله السائلون، ‌و‌ ارحم ‌من‌ استرحمه المسترحمون، ‌و‌ ‌لا‌ يضيق عنك شى ء ‌من‌ ذلك كله لانك على كل شى ء قدير.
 ‌و‌ الحمد لله رب العالمين.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخرین مطالب

دعاء وداع شهر رمضان
دعاوه فى یوم عرفه
دعاوه فى طلب العفو و الرحمه
دعاوه لنفسه و اهل ولایته
دعاوه فى استكشاف الهموم
دعاوه فى التذلل لله عز و جل
دعاوه فى الالحاح على الله تعالى
دعاوه فى التضرع و الاستكانه
دعاوه فى الرهبه
دعاوه فى دفاع كید الاعداء و باسهم

بیشترین بازدید این مجموعه


 
نظرات کاربر

پر بازدید ترین مطالب سال
پر بازدید ترین مطالب ماه
پر بازدید ترین مطالب روز



گزارش خطا  

^