عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

سادساً: كيف ومن أوجد الكون؟

هنالك عدة توجهات للإجابة على هذه المسألة أهمها:

1 - مناقشة أزلية المادة.

أ - الأزلي بسيط والحادث مركب.

ب - الأزلي سرمدي والحادث ينتهي.

ج - الأزلي لا يحتاج إلى علة والحادث يحتاج إلى علة.

2 - نظرية الصدفة في خلق العالم.

3 - قراءة في الاحتمالات لعلة الوجود.

4 - الله هو الخالق للكون وحديث الأدلة على ذلك.

5 - وقفة مع الشبهات والردّ عليها.

سندرس هذه التوجهات لنصل إلى الأمر الذي تقنع به عقولنا بروحٍ موضوعية تماماً وهنا وقبل البدء أسجل ملاحظة هامة لهذه الدراسة وهي أن هذه الدراسة الموضوعية تحتاج إلى نوع من التجرد عن العواطف والمعتقدات - على الأقل وقتياً - كي نستوعب الآراء وأدلتها بموضوعية ونردّ عليها بموضوعية كذلك والمفروض أن نزرع في أنفسنا الثقة التامة لخوض هذا المضمار العسير الذي يحدّد مصيرنا ومصير أمتنا الإسلامية كذلك.

فلنبدأ بالتوجه الأول:

1 - أزلية المادة:

ما معنى الأزلي؟ وماذا يقابله من المعاني؟ وما معنى الأبدي؟ وما يقابله أيضاً؟ لنتعرف على ذلك في البداية.

الأزلي هو الذي لا بداية له ويقابله الحادث الذي لوجوده بداية مرتبطة بالزمن والأبدي هو الذي لا نهاية له أي أنه يبقى خالداً دون فناء ويقابله الحادث الذي يفنى ويزول وينتهي في وقت معين. أما أهم صفات الأزلي الأبدي الذي يقابله الحادث فهي ما يلي:

أ - الأزلي بسيط والحادث مركب

أي إن الأزلي لا يحتاج إلى شيءٍ كي يختلط معه أو يشترك معه ليبرزه بشكل معين بينما الحادث ذاته بحاجة إلى عنصر أو عناصر أخرى كي يبرز بوجهه المألوف إلى الوجود فقد يكون هذا الحادث مركباً من جزءين أو أجزاء عديدة فالإنسان مثلاً مركب من دم ولحم وعظم وشعر وجلد بعد أن كان نطفة صغيرة فتركبت مع بويضة الأنثى في الرحم ثم تطورت الأعضاء بمرور الزمن إلى هذا الكائن الحي فهو مركب من أجزاء عديدة وكل جزء ينمو ويظهر لتفاعلات معينة مرتبطة بالزمن كالأسنان اللبنية في الطفولة مثلاً تظهر في ظروف معينة مرتبطة بزمنٍ ما يقول الإمام علي (عليه السلام): (أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، وشُغُف الأستار، نطفة دهاقاً، وعلقةً محاقاً، وجنيناً، وراضعاً، ووليداً ويافعاً. ثم منحه قلباً حافظاً ولساناً لافظاً وبصراً لاحظاً..) رقم الخطبة 81/3.

فمن كل ذلك نستخلص بأن المركب له أجزاء وهذه الأجزاء قد تنشأ منذ بداية وجوده وقد تلتحق وتتفرع عنه فيما بعد أيْ تظهر فيه كأجزاء ضمن نموه والأجزاء هذه هي حادثة مركبة أيضاً ويمكن فصل عناصر المركّب بعضها عن بعض كالمواد الكيمياوية المركبة ضمن تركيبة معينة من مواد متعددة تظهر بشكلٍ معين ولو غيّرنا التركيبة بتغيير مقادير العناصر المشتركة لتغيّر الناتج، فذرتان من الهيدروجين مع ذرة أوكسجين تنتج لنا مركب الماء وبالعكس يمكن فصل الهيدروجين عن الأوكسجين بإمرار المركب بالتيار الكهربائي فتعود التركيبة إلى طبيعتها في الهواء. ومن هنا نقول إن الأزلي يستحيل أن يكون مركباً لأن المركب حادث. وكذلك نقول إن الأزلي لا يتغير مهما تغيرت الظروف والأحوال على العكس من المركب فالحادث مركب يتغيّر بتغيّر الظروف والأحوال فيزداد وينقص وتنفصل منه بعض العناصر أو تزداد فيه على ضوء ما تستجده الظروف بينما الأزلي يبقى كما هو لا يتغير ولا يتبدل مهما تقدم الزمن وتبدل الظرف.

يقول الإمام علي (عليه السلام) في خطبته رقم 184: (وإن الله سبحانه، يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عُدمت عند ذلك الآجال والأوقات، وزالت السنون والساعات. فلا شيء إلا الله الواحد القهار. الذي إليه مصير جميع الأمور. بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فناؤها. ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها..).

ب - الأزلي سرمدي والحادث ينتهي

الأزلي سرمدي في وجوده أي أبدي خالد لا ينعدم والحادث يفنى وينتهي فالشجرة مثلاً كانت بذرة أو فسيلة فتغيرت وتبدلت إلى أن صارت شجرة مثمرة ثم تبدأ بعد فترة من الزمن بالعد العكسي حتى تنتهي وتموت وتحرق أخشابها أو تستخدم لاغراضٍ أخرى.. فإذن الحادث عكس الأزلي حيث أن الحادث ينتهي ويفنى ويعدم من الوجود بينما الأزلي يبقى كما هو لا ينعدم.

فقد قال الله في محكم كتابه الكريم: (كل من عليها فان. ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). [سورة الرحمن: الآية 26 - 27].

ج - الأزلي لا يحتاج إلى علة والحادث يحتاج إلى علة

الأزلي لا يحتاج إلى غيره مهما كانت الظروف والأحوال عكس الحادث فإنه يحتاج في وجوده إلى علة وسبب وفي استمراريته كذلك يحتاج إلى علة فالإنسان يحتاج إلى خالق وموجد وأسباب موضوعية ويحتاج إلى أسباب المعيشة كي يستمر في وجوده من أكل وشرب وعناية فإذا مرض فهو بحاجة إلى طبيب يعالجه وفي أيام البرد يحتاج إلى التدفئة والملابس المناسبة وفي حالة التعب يحتاج إلى الراحة والنوم وفي الجوع يحتاج إلى طعام بينما الأزلي لا يحتاج إلى سبب في الإيجاد ولا في استمرار وجوده فهو غني عن العالمين لا يحتاج الراحة والنوم وأسباب العيش كما قال عز وجل في محكم كتابه:

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سِنَة ولا نوم...). [سورة البقرة: الآية 255].

فهو غني عن عباده وعن كل شيء آخر بينما الحادث فقير في وجوده واستمراره إلى غيره كالإنسان فهو محتاج إلى خالق يوجده وإلى عوامل استمرار وجوده من الماء والهواء والطعام وأسباب النمو والعيش فقد قال القرآن العظيم:

(لله ما في السموات والأرض إن الله هو الغني الحميد). [سورة لقمان: الآية 26].

والآن لنأتي إلى أصحاب نظرية: (أزلية المادة) ونسألهم أولاً ماذا تقصدون بالمادة؟ هل تقصدون بها التراب والجبال والأشجار والماء والبحار والسماء والأرض أي أن مقصودكم من المادة هذه الطبيعة المحيطة بنا، فإن كان كذلك فسوف نصطدم حينما نمرر هذا المعنى على الصفات - آنفة الذكر - ففي الحقيقة إن هذه الموجودات تتصف بصفات الحادث لا بصفات الأزلي على الإطلاق.

فحينما نعرّف المادة بأنها (كل شيء يشغل حيّزاً في الفراغ وله وزن) من هذا التعريف نفهم أن المادة تتصف بصفات الحادث ولا يمكن أن تتصف بصفات الأزلي بأي شكل من الأشكال فالتعريف يشير إلى أن المادة بحاجة إلى مكان فهي ليست غنيّة عنه ولها وزن فلو أخذنا أية مادة - في الوجود - أو أي قدر مشترك بين المواد كلها كالذرات مثلاً فالذرة ذاتها مركبة من الإلكترونات والنيوترونات وتصنف المواد عبر عدد ذراتها وعناصر الذرات أيضاً إلى تصانيف متعددة وتقرّ لنا الفيزياء بأن هذه العناصر قد تتغير طبيعياً ويمكن تغييرها بالعوامل الخارجية فمثلاً أشعة (كاما) تتحول إلى عنصر آخر حينما تفقد بعض بروتوناتها إثر الإشعاع وعنصر اليورانيوم يتحول إلى الراديوم وإلى الرصاص على التوالي بواسطة الإشعاع وحتى أن الأشعة (أشعة كاما) يمكن أن تتحول إلى ذرات مادية بعناصرها - إلكترونات وبروتونات - وإذا اصطدم العنصران فيها تتحول إلى طاقة.

وكما مضى في مركب الماء H2O يتحلل الماء إلى عنصريه الأوكسجين والهيدروجين بتمرير التيار الكهربائي وهكذا نرى أن الطاقة تتحول إلى ذرات مادية والذرات المادية تتحول إلى طاقات فالقنبلة النووية أو الذرية القائمة على قاعدة الانشطار الذري والتفاعل المتوالي والقنبلة الهيدروجينية التي تنفلق بدمج القنبلة الذرية بنوى ذرة الهيدروجين من هذا الدمج تتولد طاقة هائلة وحتى الطاقة هذه تتحول من حالةٍ إلى أخرى فالطاقة الكهربائية تتحول إلى طاقة ميكانيكية كما في تشغيل المكائن الميكانيكية بواسطة طاقة الكهرباء والطاقة الكهربائية يمكن تحويلها إلى طاقة كيمياوية - كما مر - في تحليل الماء إلى عنصريه بواسطة التيار الكهربائي وهكذا.. فأصحاب هذه النظرية ذهبوا إلى أن العالم ينتهي إلى ذرات متناهية في الصغر هذه الذرات تستمد قوتها وحركتها من الأثير أو من الخلاء الموجود في الكون حيث القاسم المشترك لكل الذرات.

هذه الذرات هي أصل الكون وتمتاز بالصلابة القصوى التي لا تتجزأ وهي كذلك تتحرك وتسبح في الأثير بحركة ميكانيكية منتظمة وبسبب هذه الحركة ظهرت في الكون أشكال متعددة للمادة. فإذن تكون المادة أزلية وهي أصل الوجود.

والرّد الواضح على أصحاب هذه النظرية حيث أنهم قالوا بأنها ذرات صلبة لا يمكن أن تتجزأ أرادوا بذلك تصعيد الذرات إلى الصفات الأزلية وأنها لا تقبل التركيب ولكن لا يخفى على أحد وخاصة في تطور العلم الحديث - كما مر معنا - يقسم الذرات إلى عناصر وجزئيات متعددة ويحوّل الذرة المادية إلى طاقة والطاقة إلى ذرة ثم حينما فرضوا وجود الخلاء أو الأثير وبنوا عليه آراءهم وطموحاتهم الفلسفية في الوجود ما سألوا أنفسهم من أوجد الأثير وهل أن هذه الذرات المادية الأزلية كما يزعمون هي في غنىً عن هذا الأثير؟ ثم إن هذه الذرات تتغير في الواقع المادي من شكلٍ لآخر وتفنى كذلك والذي يتغير ويفنى هو حادث متغير محتاج وليس أزلياً.

وأما نظرية المادية الديالكتيكية (الجدلية) فتتلخص بأن (كارل ماركس) الذي يعتبر تلميذ (هيجل) الفيلسوف الألماني (1770 - 1831) قد أخذ نظريته الجدلية من أستاذه (هيجل) لكنه أبدلها من الحالة التصويرية المثالية الناكرة للمذهب المادي إلى الحالة المادية وهنا أتذكر أحد الأساتذة نقل لنا كلمة من (ماركس) وهي: لقد وجدت (هيجل) منكوساً على رأسه فأحببت أن أعدله - أي يعدل أستاذه من التوجّه المثالي إلى التوجه المادي فكان يرى (هيجل) أن الوجود سراب لا حقيقة له في الخارج والحقيقة موجودة في عالم الفكر بشكل متناقض (وجود وعدم وجود) إثبات ونفي فكل فكرة تثبت في الذهن تحمل نقيضها في داخلها فلا شيء موجود في الخارج. أما (ماركس) فقد سحب هذا التفسير إلى المادة فذهب إلى أن الحركة ليست سوى انعكاس حركة الواقع وقد انتقلت إلى الإنسان.

ويذهب (ماركس) إلى أزلية المادة وأنها أبدية خالدة لا تفنى ويؤكد الماديون بأن المادة تحمل في داخلها حركة ذاتية مضادة لما هو الواقع ومتناقضة معه وهذا يفسر لنا تغير المادة من شكلٍ إلى آخر وهم لا يقصدون بالتناقض هو الوجود والعدم وإنما هو الصراع الذي يؤدي إلى انتقال الشيء بسبب ذاتي من القوة إلى الفعل كما يقول المناطقة كما الرجل الشاب هو بالقوة نعتبره أباً ولكنه بالفعل ليس بأب إلا أن يتزوج ويخلف أبناءً فيكون أباً بالفعل فهذه النقلة من حالة إلى أخرى تسميه الفلسفة الماركسية بالتناقض!

فمما تقدم تؤمن الفلسفة المادية بأزلية وأبدية المادة لأنها لا تفنى وإنما وجودها نبعي ذاتي لا وتحتاج إلى علة موجودة فهي أزلية أبدية - كما يتصورون - وهي لا تفنى ولا تستحدث من العدم - كما يقولون -.

والأمر المطروح على الماديين هو ان المادة المتطورة من حالة لأخرى بفعل التناقض الداخلي هل أنها بحاجة إلى من يعطيها هذه القوة لأجل التحول والتغيير أم لا؟ ثم إن المادة التي تتغير كما يقولون من حالة لأخرى قد فقدت شرطاً رئيسياً من شروط الأزلي وهو الثبات وعدم التغير ثم إنها حينما تحمل في داخلها النقيض يعني أنها مركبة في وجودها من ذاتها ومن نقيضها والمركب ليس أزلياً وتجيب المادية الجدلية بأن المادة لا تفنى وإنما تتحول إلى طاقة وإشعاع ومن الإشعاع تتحول إلى حالة مادية فتختفي حالة لتظهر حالة أخرى وهكذا فالأمر يعود إلى الطاقة التي تتحول من شكل لآخر دون فناء فبما أنها لا تفنى فلا تحتاج إلى علة الإيجاد فعليه تكون المادة أزلية خالدة.

ونحن على ضوء الكشوفات الحديثة نرد على هذه النظرية حيث ثبت علمياً ان الطاقة كما الذرة تفنى.. يقول عالم الطبيعة البيولوجية (فرانك ألن) كما جاء في كتابه (الله يتجلى في عصر العلم). قوانين الديناميكية الحرارية تدل على أن مكونات هذا الكون تفقد حرارتها تدريجياً وإنها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة بالغة الانخفاض هي الصفر المطلق ويومئذٍ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام (فناء) عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت).

أما (كبسيل) عالم الحشرات في نفس الكتاب يقول: (فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً... وإن لهذا الكون بداية).

ويقول العالم الكيمياوي (كوثران) (تدلنا الكيمياء على أن بعض المواد في سبيل الزوال والفناء ولكن بعضها يسير نحو الفناء بسرعة كبيرة والآخر بسرعة ضئيلة وعلى ذلك فإن المادة ليست أبدية)(1).

على ما تقدم نلمس أن فكرة أزلية المادة التي نادى بها (ماركس) عبر التناقض الذاتي الموجود داخل الذرات غير صحيحة علمياً وبذلك ينتهي مفعول النظرية لأنها ما استطاعت أن تثبت أزلية المادة بشتى طرقها.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

علماء السنة يجيزون لعن يزيد بن معاوية
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمام
العقل والروح مسيرة إحيائية واحدة
اليوم الآخر في القرآن الكريم
الرعية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك ...
بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :

 
user comment