عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

رابعاً: موقع الحواس من معرفة الله سبحانه

الحواس الخمس التي يمتلكها الإنسان هي بمثابة النوافذ الطبيعية بينه وبين العالم الخارجي فالعين ترى الموجودات لتميز الألوان والأشكال وتكشف النور عن الظلام أما الأذن فهي تميز الأصوات لتعرف صوت الصديق عن غيره ولتميز أيضاً بين أصوات الطبيعية كخرير الماء وحَفيف الشجر وأصوات الحيوانات كصهيل الخيل وزئير الأسد وفحيح الأفعى وزقزقة العصافير وكذلك تميز بين أصوات المكائن والآلات الميكانيكية وبين أصوات الطائرات الحربية عن الطائرات المدنية وبين أزير الرصاص وصوت القذائف وهكذا.. وأما الأنف فيشم الروائح المتنوعة فيميز العطور الجميلة عن الروائح الكريهة أيّاً كان المصدر بل ويميز العطور الجميلة ذاتها في درجة التركيز أو الخفة حسب المصادر.. وأما اللسان فيتذوق الأمور ليكتشف لنا الطعم الحلو عن المر والحار عن البارد، إضافة لكونه الناطق الرسمي عن أفكار وأحاسيس الإنسان الداخلية.. وأما حاسة اللمس فتكشف لنا عن الملمس الخشن لتميزه عن الناعم وهكذا فالحواس إذن هي النوافذ الطبيعية التي تربط الوجود الخارجي بذهنية الإنسان. وسبحانه الخالق الكريم الذي قال:

(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). [سورة التين: الآية 4].

ونحن في دراستنا عن الحواس ندرك بأن هذه الحواس لها مدىً محدود لا تستطيع أن تتجاوزه والواقع العملي أثبت هذه المسألة حيث إن الحواس الخمس بأجهزتها المعقدة فإنها محدودة بحدود معينة وبقدرات معينة لا يمكن تجاوزها فمثلاً وببساطة نحن لا يمكننا أن نرى ماذا يجري حالياً في شوارع باريس لأن أعيننا قاصرة عن تحقيق هذا الهدف كما لا يمكن أن نرى ماذا يجري في الشارع المجاور لنا وحتى خلف جدران غرفتنا لا نستطيع رؤيته لأن الجدار يحجب عن قدرة العين الباصرة. وحاسة الأذن كذلك، لها ذبذبات معينة تتمكن أن تسمع فيها فلو زادت عن هذا الحد الطبيعي أو نقصت لم نستطع سماع شيءٍ ما، ففي عالم النمل مثلاً لا نستطيع سماع الحوار الدائر بين أفراد النمل بالرغم من أننا ندرس عن هذه المملكة وجيوشها ونظامها، كل ذلك لأن قدرة استيعاب الأذن لذبذبات الصوت قدرة محدودة وما ينطبق على حاسة السمع ينطبق كذلك على حاسة الشم واللمس أي أن هذه الحواس محدودة القدرة والقابلية.

والسؤال المطروح أن هذه الحواس المحدودة ماذا نريد منها؟ أنريدها أن ترى كل شيء في الوجود بما في ذلك الخالق المدبر مثلاً وأنّى لها ذلك وكيف يكون لها ذلك؟

ممّا تقدم نفهم أن الحواس التي نمتلكها هي نوافذ المعرفة للإنسان بالفعل ولكنها قاصرة ومحدودة لا تستطيع أن تستوعب كل الأحداث وتميزها إضافة إلى أن الحواس هذه قد تخطئ كما في الحالات السرابيّة بالنسبة للعين فهي ترى السراب وتتصوره حقيقة ولكن حينما تقترب منه لا ترى شيئاً وينتقل السراب الخادع لمكان آخر.. وعليه نحن لا نستطيع أن نجزم أن كل الوجودات في الكون لابد أن تمرّ عبر حواسنا مباشرةً حتى نؤمن بها كحقيقة قائمة وإنما قد نصل لمعرفتها عبر معرفة الحقائق اليقينية بصورة غير مباشرة أي من خلال آثارها، فإذن لا تستطيع حواسنا استيعاب كل الوجود كي تؤمن به وإنما نستطيع أن نؤمن بنوع من الوجودات التي نتحسسها وندركها عن طريق آثارها حتى لو لم تخضع لإحدى حواسنا مباشرة، مثال ذلك المغناطيسية في الحديد والقوة الكهربائية والجاذبية الأرضية وغيرها فنحن نؤمن بوجودها قطعاً من دون أن نراها أو نشمها... وبمعنى آخر لا تخضع لهذه الحواس التي بحوزتنا وإنما نؤمن بها من آثارها... فنحن بتجاربنا ندرك أن الذي يصعد إلى قمة الجبل أصعب وأشق من الذي ينزل من القمة إلى الوادي وكما في تجربة نيوتن والتفاحة كيف أنه رآها حينما تنضجع تسقط إلى الأرض ولا تصعد إلى السماء... فمن ذلك توصلنا إلى الإيمان بوجود جاذبية في الأرض تجذب إليها الأجسام والهواء.. وكذلك المغناطيسية في الحديد فنحن لا نستطيع أن نميز بين قطعتين من الحديد إحداهما ممغنطة والأخرى غير ممغنطة إلاَّ بعد أن نرى الآثار فنجزم بوجود المغناطيسية بالرغم من أننا لا نستطيع أن نسمع أو نرى أو نشم أو نلمس أو نتذوق المغناطيسية والجاذبية... وحتى الأشعة غير المرئية فلو استعملنا المنشور المضلع في مختبر الفيزياء مثلاً فإننا سنلاحظ فرز سبعة ألوان هي الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي فقط والعلماء يؤكدون على وجود ألوان أخرى غير مرئية فيسمونها بالأشعة تحت الحمراء وما وراء البنفسجية فلا نراها ولا نشمها ولا نتذوقها لكننا نؤمن بها.

وكذلك القوة الكهربائية فهي قوة لا تخضع للحواس الخمسة وإنما يميّزها العقل من خلال الآثار فمن الصعوبة بمكان أن نشير لسلك كهربائي فيه قوة أو خالٍ من القوة الكهربائية حيث لا فرق بين السلكين إلاَّ بالآثار.

وحتى بعض المسائل الوجدانية كالحب والبغض والألم واللذة لا يمكن أن تخضع للحواس الخمس يقال أن بهلولاً صادف إنساناً ينكر وجود الله بحجة إنه لم يره فضربه بحجر أصاب رأسه فتألم وصرخ متوجعاً فالتفت إليه بهلول متسائلاً: إني لا أرى للألم لوناً ولا شكلاً ولا طعماً ولا رائحة فاتعظ المنكر.

وفي نقاش الإمام أبي الحسن الرضا (عليه السلام) مع أحد الزنادقة في عصره جاء إليه محتجاً وهو يقول: أوجَدَني كيف هو؟ وأين هو؟ فقال (عليه السلام): ويلك إن الذي ذهبت إليه غلط هو أين الاين بلا أين (أي إنه أبدع الكون وأوجد المخلوقات في مواقعها) وكيّف الكيف بلا كيف فلا يعرف بالكيفوفية ولا بالأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشيء. فقال الزنديق: فإذن إنه لا شيء إذ لم يدرك بحاسةٍ من الحواس. فقال الإمام (عليه السلام): (ويلك لمّا عجزتْ حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزتْ حواسنا عن إدراكه أيقنا أنّه ربنا بخلاف شيءٍ من الأشياء). قال الرجل: فأخبرني متى كان؟

فقال (عليه السلام): أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان.

قال الرجل: فما الدليل عليه؟

فقال (عليه السلام): (إني لما نظرت إلى جسدي ولم يمكنّي فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه علمتُ أنّ لهذا البنيان بانياً فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء الحساب تصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المبينات علمت أنّ لهذا مقدراً ومنشئاً).

هذا وفي بعض حالات الخوف والفزع بل وفي ذروة الخوف حيث لا يُتوقع الإنقاذ من قوة اعتيادية يتصل الإنسان بوجدانه وضميره وفطرته بالخالق المدبر حيث إن هذا الهاجس المرعب يضغط على الحواس فيقلصها إلى أن تعلن إفلاسها أمام الحدث لتبرز الفطرة وتحكم بما وراء الحواس قوةً حقيقية للإنقاذ. يروى أن رجلاً جاء للإمام الصادق (عليه السلام) وسأله: عرفني ربّي فقال له الإمام (عليه السلام): هل ركبت البحر؟ قال: نعم قال: هل كُسرت بك السفينة؟ قال: نعم قال (عليه السلام): هل تعلق قلبك بشيءٍ حيث لا سفينة تنجيك ولا أحد يغنيك؟ قال: نعم. قال الإمام: (ذلك هو ربك).

ففي أحلك الساعات وأحرجها تنطق الفطرة بالحق هامسةً بصوت عال متوجهةً بصدق وإخلاص مباشرة فهي تحطم كل الحواجر التي صنعتها الحواس والماديات والدنيا لتتعلق ببراءة وصدق بالمصدر الأزلي الدائم.

فإذن ليس كل ما لم يخضع للحواس فهو غير موجود وكل ما يخضع للحواس فهو موجود بل قد تكون هنالك أمور واضحة للعقول ولكن الحواس قاصرة عن إدراكها، بل الآثار تدل عليها يقول سبحانه وتعالى:

(قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون). [سورة الملك: الآية 23].

وكذلك يمكن العكس حيث أن الحواس تخدع الإنسان بوجود شيءٍ خيالي كسراب الماء مثلاً فيتصوره حقيقة وإذا به خيالاً - وقد مرّ ذلك -.

ويصور لنا القرآن الكريم هذه الصورة الوهمية ويعتبر أعمال الكافرين هي كالسراب الخادع للعين بوجوده، لكنّه أمرٌ وهميٌ لا حقيقة له، فيقول: (والذين كفروا أعمالُهم كَسَرابٍ بقيعةٍ يحسبُهُ الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شيئاً وَوجَدَ اللهَ عنده فوفّاهُ حسابه واللهُ سريعُ الحساب). [سورة النور: الآية 39].

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

علماء السنة يجيزون لعن يزيد بن معاوية
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمام
العقل والروح مسيرة إحيائية واحدة
اليوم الآخر في القرآن الكريم
الرعية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك ...
بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :

 
user comment