عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

وحدة البلدان وتعدّدها

وحدة البلدان وتعدّدها

هناك بحوث مستفيضة وآراء ونظريّات مختلفة حول قضيّة ظهور وتكوّن الشعوب والبلدان وعوامل انفصالها واتّحادها. كما إنّ مسائل من قبيل الملاك في مواطنة الأفراد بالنسبة لبلدٍ ما وأقسامه المختلفة، كالمواطنة الأصليّة والمكتسبة والمواطنة بالتبعيّة وكيفيّة الخروج عن المواطنة إجباراً أو اختياراً، هي من الأمور المبحوثة بشكل مسهب ومفصّل. ما نودّ أن نشير إليه باختصار هنا هو: إنّه ليس باستطاعة عوامل من قبيل اتصال الأرض ووحدتها أو وحدة اللغة واللهجة أو وحدة العنصر والدم أن تشكّل العامل المحدّد لوحدة شعب أو بلد. كما إنّ وجود الحدود الطبيعيّة كالجبال والبحار أو اختلاف اللغة واللهجة أو التباين في الدم واللون لا يمكنها أن تكون سبباً قطعيّاً لتعدّد وتمايز الشعوب والبلدان، بل وحتّى إنّ مجموع هذه العوامل معاً ليس لها تأثيراً نهائيّاً؛ أي إنّه من الممكن لمجموعة من الناس الذين يشتركون في الأرض واللغة والعنصر أن يشكّلوا بلدين مستقلّين عن بعضهما، كما إنّ من الممكن لمجموعة من البشر أن يكوّنوا بلداً واحداً بالرغم من وجود حدود طبيعيّة تفصلهم واختلافهم باللغة والعنصر، وهناك من هذه النماذج في عالم اليوم الكثير. بالطبع إنّ كلاًّ من العوامل المذكورة له تأثير بشكل أو بآخر على ارتباط البشر فيما بينهم وإيجاد الأرضيّة لوحدة الشعب والبلد، إلاّ أنّ العامل الأشدّ تأثيراً هو الاتّفاق في الرؤا والميول والنزعات التي تبعث على وحدة الحكومة، وإنّ العوامل الأخرى بالنسبة للعامل الأخير هي مجرّد عوامل مساعدة وناقصة وقابلة للتغيير.

إنّ العامل الأساسيّ لوحدة الأمّة والمجتمع الإسلاميّ، في نظر الإسلام، هو وحدة العقيدة. بيد أنّه لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ وحدة الأرض ووجود الحدود الجغرافيّة ـ الطبيعيّة منها والمصطنعة ـ ليست بعديمة التأثير كلّياً؛ فإنّنا نعلم ـ من جانب ـ أنّ «دار الإسلام»، التي تُحدّ طبعاً بحدود معيّنة،‌ لها أحكام خاصّة في الفقه الإسلاميّ. فالهجرة إليها تصبح واجبة أحياناً، والذمّي الذي يتفلّت من أحكام الذمّة يُصار إلى إخراجه منها، وهكذا. ومن جانب آخر، إنّ الاختلاف في العقيدة ليس سبباً قطعيّاً لصيرورة الشخص أجنبيّاً عن الوطن تماماً، فمن الممكن أن يعيش غير المسلمين ضمن حدود الدولة الإسلاميّة و تحت حماية الحكومة الإسلاميّة، وأن يكون لهم، نتيجة لذلك، نوع من أنواع المواطنة.

محصّلة ذلك؛ إنّ المجتمع الإسلاميّ يتشكّل أساساً من مجموعة أفراد قد قبلوا الإسلام باختيارهم والتزموا بقوانينه الاجتماعيّة والقضائيّة والسياسيّة، وإنّ الأرض التي يعيش عليها هذا المجتمع تسمّى بالدولة الإسلاميّة أو «دار الإسلام». إلاّ أنّه في المرحلة التالية من الممكن لبعض غير المسلمين أن يحصلوا على حقّ المواطنة في الدولة أو البلد الإسلاميّ عبر إمضاء عقد معيّن يستطيعون من خلاله العيش بأمن وسلام جنباً الى جنب مع المسلمين.

بهذه الطريقة يتمّ تعيين الحدود ما بين البلد الإسلاميّ والبلدان غير الإسلاميّة؛ بمعنى: أنّ الأرض التي يعيش عليها أتباع الحكومة الإسلاميّة تُعرف ب‍ «دار الإسلام» وإنّ حدود أملاك هؤلاء (مع توابعها ولواحقها) ستشكّل «حدود دار الإسلام»، بصرف النظر عمّا إذا حُدّدت معالمها بالعوامل الطبيعيّة كالجبال والبحار أو من خلال اصطناعها عبر الاتّفاقيّات المشتركة.

نستنتج إجمالاً ممّا تقدّم أنّ الملاك في وحدة وتعدّد الدول هو وحدة وتعدّد حكوماتها. فكلّ مجموعة من الناس تتمّ إدارة شؤونهم بنظام حكومة واحد يعتبرون أصحاب بلد واحد. وعلى العكس؛ فانّ تعدّد الأنظمة الحكوميّة المستقلّة في عرض بعضها البعض علامة على تعدّد الدول. بالطبع إنّ من الممكن أن يكون لكلّ مدينة أو ولاية نوع من الحكم الذاتيّ، غير أنّه لو كان لمجموع تلك الولايات دستور واحد، وكانت تحت مظلّة نظام حكوميّ مركزيّ واحد، وكانت تتبع الحكومة المركزيّة في قراراتها المتّخذة بخصوص السياسة الخارجيّة والدفاعيّة وما إلى ذلك (كما هو الحال في الدول الفدراليّة)، فانّها تعتبر دولة واحدة، وإنّ تعدّد الحكومات الغير المستقلّة فيها لا يقدح بوحدتها.

لكنّ العامل الذي يتمتّع ـ من الناحية العمليّة ـ بدور فاعل في تعيين حدود الدول، ووحدة و تعدّد الحكومات، واتّصالها واتّحادها معاً أو انفصالها وتجزّؤها عن بعضها هو ـ في الأعمّ الأغلب ـ «قوّة السلاح»، وممّا يؤسف له أنّ هذا العامل قد وجد طريقه إلى العالم الإسلاميّ أيضاً، وإنّ الحروب الداخليّة التي نشبت بين المسلمين، والتي أدّت إلى ظهور أو انقراض سلسلة من الإمارات والسلطنات في الأراضي الإسلاميّة، لشاهد ناطق على مثل هذه الحقيقة التاريخيّة المرّة. بطبيعة الحال إنّ ما يهمّنا هنا هو مناقشة هذه القضيّة من الناحية الفقهيّة، الأمر الذي يدفعنا الى أن نلقي نظرة خاطفة على آراء الفقهاء في هذا المضمار.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

هدم قبور البقيع ..............القصة الكاملة
الحرب العالمية في عصر الظهور
الإمام الحسن العسكري (ع) والتمهيد لولادة وغيبة ...
إنّ الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة ...
الإمام موسى الكاظم عليه السلام والثورات العلوية
زيارة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)
الصلاة من أهم العبادات
علة الإبطاء في الإجابة و النهي عن الفتور في ...
ألقاب الإمام الرضا عليه السلام
كلام محمد بن علي الباقر ع

 
user comment