عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

مع هشام بن عبدالملك

مع هشام بن عبدالملك

حجّ هشام بن عبدالملك بيت الله الحرام، وقد صحبته الشرطة، واحتفّت به المرتزقة والوجوه والأعيان من أهل الشام، وقد جهد على استلام الحجر فلم يستطع لازدحام الحجّاج، وتدافعهم على تقبيل الحجر، ولم يعتن أحد بهشام ولم يفسحوا له، فقد انعدمت الفوارق في ذلك البيت العظيم، وقد نصب له منبر فجلس عليه، وجعل ينظر إلى عملية الطواف، وأقبل الإمام زين العابدين(عليه السلام)ليؤدّي طوافه، وبصر به بعض من يعرفه من الحجاج فنادى بأعلى صوته:

هذا بقية الله في أرضه...

هذا بقية النبوّة...

هذا إمام المتقين، وسيّد العابدين...

وغمرت الحجاج هيبة الإمام التي تعنو لها الوجوه والجباه، وهي تحكي هيبة جدّه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وتعالت الأصوات من جميع جنبات المسجد بالتهليل والتكبير، وانفرج الناس له سماطين فكان السعيد من يقبّل يده، ويلمس إحرامه، وضجّ البيت بالتكبير وذهل أهل الشام، وبهروا من هذا المنظر الرهيب، فإنهم لا يرون أحداً جديراً بالتكريم والتعظيم، غير الأُسرة الأُموية، فهي وارثة النبيّ(صلى الله عليه وآله) والقريبة إليه حسب ما أكّده الإعلام الأُموي وبادر الشاميون إلى هشام قائلين:

مَن هذا الذي هابه الناس هذه المهابة؟!

وتميّز هشام من الغيظ، وانتفخت أوداجه، وبرزت عينه الحولاء([1]) .

فصاح بهم: لا أعرفه...

وإنّما أنكر معرفته للإمام مخافة أن يرغب فيه أهل الشام ويزهدوا في بني أُميّة، وكان الفرزدق شاعر العرب الكبير حاضراً، فاستيقظ ضميره، واستوعب الحقّ فكره، وقد أخذته الرعدة، فاندفع بحماس قائلاً لأهل الشام:

أنا أعرفه...

مَن هو يا أبا فراس؟

وذعر هشام، وفقد صوابه مخافة أن يعرّفه الفرزدق إلى أهل الشام، فصاح به:

أنا لا أعرفه...

وعلا صوت الفرزدق بالإنكار عليه قائلاً:

بلى تعرفه...

والتفت الفرزدق صوب أهل الشام قائلاً:

يا أهل الشام مَن أراد أن يعرف هذا الرجل فليأتِ...

وخفّ الشاميون وغيرهم نحو شاعر العرب الأكبر، وقد استحالوا إلى أُذن صاغية، وانبرى الفرزدق، وكلّه حماس لنصرة الحقّ، فارتجل هذه القصيدة العصماء التي مثّلت صدق القول، وجمال الأُسلوب، فقال:

هذا سليل حسين وابن فاطمة *** بنت الرسول الذي انجابت به الظلم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته *** والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلّهم *** هذا التّقي النّقي الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها *** إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

يرقى إلى ذروة العزّ الذي قصرت *** عن نيلها عرب الإسلام والعجم

يكاد يمسكه عرفان راحته *** ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

يغضي حياءً ويغضى من مهابته *** فلا يكلّم إلاّ حين يبتسم

بكفّه خيزران ريحها عبق *** من كف أروع في عرنينه شمم

مَن جدّه دان فضل الأنبياء له *** وفضل أُمته دانت له الأُمم

ينشق نور الهدى عن نور غرّته *** كالشمس تنجاب عن إشراقهاالظلم

مشتقة من رسول الله نبعته *** طابت عناصرها والخيم والشيم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله *** بجده أنبياء الله قد ختموا

ما قال: لا، قطّ إلاّ في تشهّده *** لولا التشهدُ كانت لاءهُ نعم

الله شرّفه قدماً وفضّله *** جرى بذاك له في لوحه القلم

فليس قولك من هذا بضائره *** العرب تعرف مَن أنكرت والعجم

كلتا يديه غياث عمّ نفعهما *** يستوكفان ولا يعروهما عدم

حمّال أثقال أقوام إذا فدحوا *** حلو الشمائل تحلو عنده نعم

لا يخلف الوعد ميمون نقيبته *** رحب الفناء أريب حين يعتزم

من معشر حبّهم دين وبغضهم *** كفر وقربهم منجى ومعتصم

إن عدّ أهل التّقى كانوا أئمتهم *** أوقيل مَن خيرأهل الأرض قيل هُم

لا يستطيع جواد بُعد غايتهم *** ولا يدانيهم قوم وإن كرموا

هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت *** والأُسدأُسدالشرىوالبأس محتدم

لا ينقص العسر بسطاً من أكفّهم *** سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا

يستدفع السوء والبلوى بحبّهم *** ويستردّ به الإحسان والنعم

مُقدّم بعد ذكر الله ذكرهم *** في كلّ أمر ومختوم به الكلم

يأبى لهم أن يحل الذلّ ساحتهم *** خيم كريم وأيد بالندى هضم

أيّ الخلائق ليست في رقابهم *** لأوليّة هذا أوّله نعم

مَن يشكر الله يشكر أولية ذا *** فالدين من بيت هذا ناله الأُمم([2])

وتميّزت هذه القصيدة العصماء على بقية الشعر العربي بالخلود على امتداد التاريخ لأنّها كانت ثورة على الباطل، ونصرة للحقّ، فقد جاءت في وقت كمّت فيه الأفواه وأخرست الألسن عن ذكر مناقب أهل البيت(عليهم السلام)، فمن ذكر لهم مأثرة أو فضيلة سيق إلى الاعدام من قبل السلطة الأُموية العاتية التي سخّرت جميع أجهزتها لمحو أهل البيت(عليهم السلام) من خارطة الوجود.

لقد أشاد الفرزدق في قصيدته بالإمام العظيم أمام أهل الشام وغيرهم من سائر الحجاج ممّا يعتبر ضربة موجعة للسياسة الأُموية، وعلّق البستاني على هذه القصيدة بقوله: وقالوا: كفى بالفرزدق أن يكون قال هذه القصيدة حتّى يدخل الجنة([3]) .

ومضافاً لما فيها من روعة الصدق، ونصرة الحقّ إنسجام أبياتها بهذا اللون من الجمال، يقول السيد عليّ المدني: وأما إنسجامها فغاية لا تدرك، وعقيلة لا تملك، وقد جنّبها حواشي الكلام، وجاء فيها ببديع الإنسجام، ومَن رأى شعر الفرزدق، ورأى هذه القصيدة ملك نفسه العجب، فإنّه لا مناسبة بينها وبين سائر قوله: سبباً ومدحاً وهجاءاً على أنّه نظّمها بديهة وارتجالاً، ولا شك أنّ الله سبحانه أيّده في مقالها، وسدّده حال ارتجالها([4]) .

إنّ الفرزدق كان يميل مَيلاً  شديداً إلى آل البيت وإن لم يكثر من الشعر فيهم اتقاءً لأذى الأُمويين([5]) .

لقد كان الفرزدق علويّ الميول والاتجاه، وقد اندفع إلى مدح الإمام(عليه السلام)بوحي من عقيدته، يقول الشريف المرتضى: كان الفرزدق شيعياً مائلاً لبني هاشم، ونزع في آخر عمره عمّا كان عليه من الفسق والقذف، وراجع طريقة الدين على أنّه لم يكن في خلال ذلك سلخاً من الدين، ولا مهملاً أمره([6]) وعلى أي حال فإنّ نسبة هذا القصيدة العصماء إلى الفرزدق من الأُمور التي لا تقبل التشكيك، فقد تواتر النقل بنسبتها إليه.

 



([1]) ذكر الجاحظ في رسالته (ص 89) أنّ هشام بن عبدالملك كان يقول له: الأحول السراق، وقد أنشده أبوالنجم العجلي أرجوزته التي يقول فيها:

     «الحمدلله الوهوب المجزل».

     فأخذ يصفق بيديه استحساناً لها حتى صار إلى ذكر الشمس قال: «والشمس في الأرض كعين الأحوال» فأمر بوجأ عنقه وإخراجه، وعلّق الجاحظ على ذلك بقوله وهذا ضعف شديد، وجهل عظيم.

([2]) نهاية الإرب: 21/327 ـ 331، وقد ذكرت هذه القصيدة كلاً وبعضاً في كثير من مصادر الأدب والتاريخ والتراجم نشير إلى بعضها، وهي: زهر الآداب: 1/103، سرح العيون لابن نباتة: 390، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 193، الاتحاف بحب الأشراف: 51، أخبار الدول للقرماني: 110، تاريخ دمشق: 36/161، روضة الواعظين: 1/239، دائرة المعارف للبستاني: 9/356، أنوار الربيع: 4/35 مع اختلاف في ترتيب الأبيات.

([3]) دائرة المعارف للبستاني: 9/356.

([4]) أنوار الربيع: 4/35.

([5]) الإمام زيد: 28 ـ 29.

([6]) سرح العيون: 390.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

خصال الإمام
أدعية الإمام الرضا ( عليه السلام )
ما هو اسم الحسين عليه السلام
سورة الناس
نقد الذات
صلاة ألف ركعة
جنة آدم عليه السلام
الإقتباسات القرآنية في أشعار المواكب الحسينية (1)
ما هي ليلة الجهني، و لماذا سُمِّيت بالجهني؟
من أذكار الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم

 
user comment