عربي
Tuesday 23rd of April 2024
0
نفر 0

النقطة الثانية حقيقة الوجوب والاستحباب او الحرمة والكراهة في منطق العقل العملي

بعد ان عرفنا واقعيّة الحسن والقبح وادراك العقل لهما، ولو على مستويات مختلفة ممّا وصل اليه الناس من الدرك بحسب اختلافهم في مستوى كمالهم العقليِّ بالحركة الجوهريّة، واسمينا ذلك بالعقل العمليِّ، يقع الكلام في حقيقة الوجوب والاستحباب، او الحرمة والكراهة في منطق العقل العمليِّ.
 والواقع : انَّ الحديث عن الفرق بين الوجوب والاستحباب، او بين الحرمة والكراهة في منطق العقل العمليِّ يختلف عن الحديث عن ذلك في فقه الشريعة، ففي الفقه يقال عادة: انَّ الفرق بين الوجوب والاستحباب هو: انَّ الوجوب طلبٌ من الشريعة لا يطيب المشرِّع نفسا بمخالفة العبد له. والاستحباب طلبٌ من الشريعة يطيب المشرِّع نفسا بمخالفة العبد له.
 وبتعير ادق - حسب تحقيق نقَّحناه في علم الاصول - : انَّ الاستحباب طلبٌ مرافق لرغبة المولى في كون العبد حرَّا في تصرفه وان لا يحسّ بالحرج ولابدّية الاتيان بذلك الفعل. والوجوب طلب لا يرافق رغبة من هذا القبيل، بل يريد المولى الزام العبد وتقيُّده بذلك المطلوب. وقلْ بنظير ذلك في الفرق بين الحرمة والكراهة.
 وسواءٌ عبَّرنا بتعبير طيب نفس المولى بالترك وعدمه او عبَّرنا بتعبير رغبة المولى في حرّيّة العبد وعدمها، فالتعبير بكلا شكليه انَّما يناسب فقه الشريعة؛ لأنَّ للمولى امرا ونهيا ورغبةً وحكما، وهذا لا ياتي في بحثنا عن العقل العملي؛ لأنَّ العقل ليس له حكم ورغبة بمعنى الكلمة، وانَّما العقل شانه الدرك لا اكثر، فلابدَّ من بيان فرق اخر في المُدرَك بالعقل العملي بين الوجوب والاستحباب، او الحرمة والكراهة.
 وما يمكن ان يُفتَرض في المقام كتفسير للفرق بين الامرين احد تفاسير ثلاثة:
 فاوَّل تفسير قد يخطر في الذهن هو التفسير باختلاف الدرجة، بان نقول: انَّ الحَسَن الشديد الحُسن هو الواجب والقبيح الشديد القبح هو الحرام، وما بينهما متوسطات، والمتوسط الحقيقيُّ بينهما يكون مباحا عقلاً لا يعدُّ فضيلة ولا رذيلة، فكانَّ لدينا سُلَّما واحدا، وقع في الدرج الاسفل النهائيِّ منه اشدُّ الرذائل المحرّمة، وفي الدرج الاعلى النهائيِّ منه اشدُّ الفضائل الواجبة، وبينهما متوسطات يخفُّ قبحها او حسنها بمقدار بُعدها عن احد القطبين، ويكون الوسط الحقيقيُّ في هذا السُلَّم هو رفُّ المباحات.
 انَّ هذا التفسير يشتمل على بعض المفارقات من قبيل :
  1 ـ انَّنا لا نمتلك حَدّا مشخِّصا لفصل الواجبات عن المستحبات، فيا تُرى هل يُفترض انَّ الحسنَ البالغَ المترتبة السبعين هو الواجب، وما نقص عنه ولو مرتبة واحدة هو المستحب مثلاً ام ماذا ؟
  2 ـ انّ لازم ذلك ان يصحَّ القول بانَّ كلَّ ماهو حسن فنقيضه قبيح؛ لأنَّ الفعل ونقيضه ككفَّتي الميزان، وبقدر ما يصعد احدهما ينزل الاخر، فبقدر ما يقترب الحُسن الى ذروة السُلَّم يقترب نقيضه الى اسفله، في حين انّ هذا خلاف الوجدان، فانّنا نرى بوجداننا انَّ العفو حَسن وفي مرتبة عالية من الحسن، ولكنَّ القصاص ليس قبيحا، وكيف يكون قبيحا وهو حقٌّ؟! والحقَّانيّة لا تجتمع مع القبح.
  3 ـ انَّه لو وقع التزاحم بين قبيح في اقلِّ مراتب الحرمة وحَسَن غير بالغ مرتبة الوجوب، لزم ان يجوز ارتكاب ذاك القبيح، وتنتفي حرمته؛ وذلك لأنّه سيتنزَّل عن قبحه ولو جزئيّا بالمزاحمة مع الحَسَن، وبهذا التنزَّل يخرج من حريم الحرمة؛ لأنّنا كنَّا قد فرضناه في المراتب الدنيا من الحرمة.
 مثال ذلك :
 ما لو كان كشف سرٍّ مختصر عن امر له الف طرف يؤدِّي الى الاضرار بواحد منهم اضرارا خفيفا، وفي نفس الوقت يؤدِّي الى نفع تسع مئة وتسعة وتسعين نسمة نفعا كبيرا، فكانوا راضين بكشف السرِّ، ولم يكن تحقيق هذا النفع واجبا علينا، فياتُرى هل يصبح كشف السرِّ هذا جائزا عقلاً، ولا نكون مُلزَمين امام ذاك الواحد؛ لأجل انّه استلزم نفع كثير من الناس ممّا لم يكن واجبا؟! كلَّا انّ ضميرنا لا يدلَّ على ذلك. وكذلك ضرب يتيم ضربةً ضعيفة لا يبكي منها الا دقائق موجبا لنفع اخرين نفعا هائلاً في غير ما يكون واصلاً حَدَّ الوجوب كانجاء النفس من الهلكة مثلاً، فهل يجوز ظلم هذا اليتيم باقلِّ ظلم في سبيل ادخال نفع هائل في جيب اخرين والذي لولا استيجابه لظلم اليتيم لكان من افضل الاعمال غير الواجبة ؟! كلَّا.
 وعليه فلننتقل الى تفسير ثانٍ للوجوب والاستحباب، او للحرمة والكراهة في باب الفضائل والرذائل العقليتين، وهو: ان نفترض للفضائل والرذائل سُلَّمين متباينين بدلاً عمّا مضى من افتراض سُلَّم واحد لها جميعا، فهناك سُلَّم للفضائل، وهي: ما يكون فعلها حسنا، وسلم اخر للرذائل، وهي: مايكون فعلها قبيحا. وهما سُلَّمان متوازيان لا يلتقيان، ولا يستلزم حسن الشي ء قبح نقيضه وبالعكس. ونفترض الفرق بين الوجوب والاستحباب فرق درجة، وكذلك الفرق بين الحرمة والكراهة.
 وهذا التفسير - ايضا - باطل؛ لأنّه لا يخلو من بعض المفارقات، من قبيل :
  1 ـ لم يتضح لنا ما هو الحَدُّ الدقيق بين الوجوب والاستحباب ، والمفروض انَّ الواجبات والمستحبَّات في سُلَّم واحد، والفرق بينهما فرق درجة. وكذلك لم يتَّضح لنا ما هو الحَدُّ الدقيق بين الحرمة والكراهة، والمفروض انَّ المحرمات والمكروهات في سُلَّم واحد، والفرق بينهما فرق درجة. ولا اظن امكان الوصول الى حدٍّ مائز الا بالاعتباط.
  2 ـ يلزم من ذلك عدم استبطان الوجوب لعنصر الالزام؛ لأنَّ الالزام مساوق للذَّم على الترك، والذَّم على الترك مساوق لقبح الترك، وقد فرضنا عدم استلزام الحُسن قبح النقيض ، وبالعكس . ولا معنى لفرض مساوقة شدة الحسن لقبح النقيض، فانَّ الحسن الشديد لو ساوق قبح النقيض شديدا لكان الحسن الخفيف - ايضا - مساوقا لقبح النقيض، ولكن بدرجة اخفّ. وهذا رجوع الى التصوير الاوّل الذي كان السلم فيه واحدا، ايْ: كان الحسن والقبح فيه عبارة عن نسبة كلّ من الفعل والترك الى نقيضه في درجة الرجحان.
 وعليه، فينحصر الامر في التفسير الثالث، وهو ان يقال: انَّ للحسن والقبح سُلَّمين: سُلَّم للحسن وسُلَّم للقبح، ويكون سُلَّم الحسن هو سُلَّم المستحبات والمكروهات، ايْ: انَّ كلَّ حسن مستحب ونقيضه مكروه، وسلم القبح هو سلم الواجبات والمحرّمات، ايْ: انَّ كلَّ قبيح حرام ونقيضه واجب.
 وبكلمة اخرى: انَّ الحسن مهما بلغ ذروته لا يستبطن الالزام، وانَّما الالزام عنصر مستبطن في القبح، فانَّ الالزام عبارة اخرى عن استحقاق الذم على المخالفة، وهو عبارة اخرى عن قبح المخالفة.
 اذن، فالفرق بين الواجب والمستحبِّ في منطق العقل العملي عبارة عن انَّ المستحبَّ ما لا يحكم العقل العملي بقبح تركه وان حكم بحسن فعله، وعنصر الحسن غير عنصر قبح الترك. ومهما صعد الحسن في سُلَّمه لا يعني قبح الترك، فالمستحبُّ ما يكون حسنا وليس تركه قبيحا، كالعفو، والواجب ما يكون تركه قبيحا، سواءٌ كان فعله حسنا بحسن اخر او كان حسن فعله عبارة اخرى عمَّا فيه من الاحتراز عن القبيح. وايضا نقول: المكروه العقليُّ ما يكون تركه حسنا من دون ان يكون فعله قبيحا، وذلك من قبيل: القِصاص في مورد يحسن العفو. والحرام العقلي ما يكون فعله قبيحا، سواءٌ كان تركه حسنا بحسن اخر او كان حسن تركه عبارة اخرى عمَّا فيه من الاحتراز عن القبيح.
 ومثال ذلك :
 ايذاء شخص بلا سبب فانَّه قبيح وحرام عقلاً، وتركه لا حسن فيه الا بمعنى مجانبة القبح؛ ولذا ترى انَّ فاعل الايذاء يستحقُّ الذمَّ والتقاصَ من قبل الشخص المؤذى، ولكن تارك الايذاء لا يستحقَّ شكرا من قبل الشخص الذي لم يؤذ

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في أصالة الوجود واعتبارية الماهية
المخالفون والولاية التكوينية الإعتقادبها ولكن ...
الموت أفضل من الحياة
أفعال الإنسان
الحلم وکظم الغیظ
نظرية الصدفة في خلق العالم:
نظرة الكتب المقدسة إلى النساء، نظرة تقدير أم ...
إثبات الأشاعرة لرؤيته تعالى في الآخرة
الأخوة في القرآن الكريم
من أنزل عليه القرآن

 
user comment