عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

النزاع فی لبنان

النزاع فی لبنان

بین دولة المواطنة وبین دیمقراطیة التوافق والعیش المشترک بین الطوائف کما هو الحال فی لبنان، ثمة فارق کبیر. وقد رافق الوضع المأزقی الحاد فی لبنان، انقسام رؤیوی استند إلى بعدین أساسین بین فریقی النزاع 14 شباط و8 آذار بحیث مال أحدهما للدفاع ومطالبة الفریق الآخر بضرورة الاعتراف والإقرار بمظلة دستور الطائف والرکون إلى نصوصه الدستوریة باعتبارها انبثقت عن إرادة وطنیة تشکل الأساس فی العبور نحو دولة المواطنة بکل ما تعنیه هذه الدولة من الاحتکام إلى المؤسسات الدستوریة والتسلیم بسیادتها على نفسها وأرضها وعلى أنها الحاضنة لأفرادها. وبهذه الحدود یمکن القول: إن هذه الأفکار تمثل بعضاً من المبادئ التی تقوم علیها دولة المواطنة.
أما الفریق الآخر، فقد أعلن نفسه معارضاً للسلطة ولیس لدولة الطائف مرتکزاً فی طرحه على ثنائیة تعدّ وفق رؤیته منطلقاً للتأسیس لدولة حقیقیة تقوم على مبدأی القوة والعدالة، دون الدخول فی تفاصیل المندرجات والآلیات. لعل الأمر کی یکون تعبیراً عن إرادات جمیع اللبنانیین بحیث یشکل ذلک منطلقاً لنقاش کبیر یبدأ من بلورة ما تختزنه الأبعاد المفهومیة لمعنى القوة والعدالة، ثم الانطلاق نحو التساؤل هل التقید التام بمندرجات الطائف یعبر عن هذه الدولة، أو ثمة مبادئ دستوریة إضافیة یمکن بموجبها إصلاح بعض الاختلالات النصیة دون الخروج عن الدستور، أم أن الأمر مجرد حالة میثاقیة تتجلى بتوافق الإرادات على السیر بها بمعزل عن المساس بنصوص الدستور؟
ولو سلمنا أن الأمر یجب الرکون إلیه من خلال الأبعاد المیثاقیة التی ستنشأ بعد حوار جدی ومستفیض دون المساس ببنود الدستور، بل تبقى مندرجاته حاکمة على الحوار لا سیما وأن الکثیر من هذه المندرجات یختزن فی مضامینه معنى الدولة "القویة العادلة"، کأحد موارده التی تعطی الشرعیة القانونیة للسلطة الحاکمة وتحکم آلیة عملها المؤسساتی، والتی تنص على أن لا سلطة تقوم خارج العیش المشترک، ما یعکس عدالة الدولة فی توزیع السلطة بین الطوائف بمعزل عن الأحجام ویحکم عملها الخارج عن نطاق الطائفیة فی الممارسة ما یعطیها طابعاً عمومیاً وهذا بحد ذاته یشکل القوة التی تضمن استمراریة الدولة وتوجه آلیة عملها.
قد یصح ذلک من الناحیة النظریة التی تأخذ من الأمور بما هو طاف على سطحها، غیر أن الولوج إلى عمق الأمور یجعل من هذا المبدأ الدستوری مادة للنقاش المستفیض، على أنه یستوجب التسلیم أولاً بأن العیش المشترک هو مطلب یجد عمقه الإنسانی لدى جماعة تعیش حیاة مشترکة على أرض واحدة، تعیشه بالمعنى الاجتماعی ثم السیاسی، وعلى الأقل یجری التمسک به حتى ممن یخالفه عبر مبررات قد تکون ذاتیة أو إیدیولوجیة کی لا یتهم فی أخلاقیته الإنسانیة أو الاجتماعیة أوالسیاسیة.
فلیس ثمة دولة فی العالم ترفض هذا الأمر. ولعل الدولة الحدیثة لا تذکره فی دساتیرها بنصوص دستوریة ولکنها تمارسه عبر وسائلها وآلیات ممارساتها السیاسیة. ولذلک، فإن سوسیولوجیا الدولة الحدیثة تفصح عن هذه الممارسة بما لا یحوجها إلى نصوص تأکیدیة. فالعیش المشترک واقع لا محال. وأما من الناحیة الفلسفیة، فالتعایش ناشئ من عقد اجتماعی قائم على ثنائیة الشعب والسلطة. ولکنها ثنائیة بین طرفین أولهما الشعب ثم الحکام الذین یمارسون السلطة باسم الدولة.
فیما واقع الحال أن العقد الاجتماعی فی لبنان هو أقرب ما یکون إلى عقد الطوائف مع سلطة الدولة على أن تحفظ هذه الدولة عبر مؤسساتها مواقع النفوذ لکل طائفة من الطوائف، أی بما یشبه الدولة التی تقوم على فیدرالیة الطوائف ولیست دولة المواطنة بالمعنى الفعلی. هذا العقد معرض للاهتزاز حین إحساس طائفة ما بالغبن وتعمد الإقصاء من قبل الآخرین من الطوائف الأخرى، فتثور حینذاک مقولة العیش المشترک، ویجری الرکون إلیها کمسلمة لا یمکن الحیاد عنها، وهو ما یجعل الدولة عرضة للتصدع والانقسام ولا تستقیم الأمور إلا بعودة الحق إلى نصابه.
على هذا النحو، فالدستور براهنیته هذه یجعل الحیاة السیاسیة للطوائف مفتوحة على الأزمات الآنیة والدوریة. ففی حین تبرز الأولى فی آلیة اشتغال السلطة تجاه صوابیة إدارة العمل الیومی ومدى مراعاته لمبدأ العیش المشترک تبرز الأخرى مع الاستحقاقات الدوریة من انتخابات نیابیة وتشکیل مجالس الدولة ومؤسساتها. وفی کلا الحالین معاً، فثمة دورة أزمة مستجدة فی کل حین. وهی من حین بروزها حتى انتهائها تسلک مساراً ثلاثی الأبعاد بحیث ینجلی الأول مع حدوث خلل یقع على إحدى الطوائف ثم تتعمق الأزمة بنقاشات واعتراضات ترخی بظلالها على مجمل الترکیبة السیاسیة لتبلغ مرحلة الذروة، ثم لتخرج أخیراً من عنق الزجاجة إلى مرحلتها الأخیرة وهی التسویة. فطرق التسویات التی لا تمثل عادة أرجحیة لطائفة على أخرى -و هی إحدى مبتدعات العبقریة اللبنانیة فی عبور الأزمات - لیست مقطوعة الصلة عن جذور الدستور، إذ لها ما یبررها فی مسوغات العیش المشترک، وفی التوافق الذی هو أیضاً لم یغفل الدستور إبرازه فی مواده لیتواءم مع فکرة ومبدأ العیش المشترک.
حین یحتدم النقاش ویتعمق الانقسام لا بد للأزمة من الانحراف عن مسارها إلى وسیلة لحسم النزاع، وهی الاستناد إلى رأی الأکثریة ثم تبریرها محملة بأوصاف مضافة على أن لبنان بلد دیمقراطی على غرار الدول العریقة فی ممارسة الدیمقراطیة التی تصنع الأکثریة فیه قرارها وتتولى تنفیذه، فیما تحفظ للمعارضة حقها بإبداء الرأی. وهی مقولة قد تجد لها سنداً منطقیاً یسوغ مقبولیتها من الناحیة النظریة على الأقل، غیر أنها تبقى مشوبة بالتشویه لکونها تشکل إحدى آلیات الانتصار وتأکید الذات فی حقل المغالبة الطائفیة بحیث تتقدم على مقولة العیش المشترک والتغنی بعراقتها وفرادتها فی لبنان دون غیره من سائر البلدان.
فهذه الآلیة الدستوریة إلى جانب تناقضها مع مبدأ العیش المشترک تطرح على الاجتماع السیاسی اللبنانی تساؤلات مستقبلیة خطیرة. إذ ماذا لو توافقت طائفتان من الطوائف الکبرى بوجه إحدى الطوائف الکبرى التی تشکل أحد الأعمدة الأساس فی نظام فدرالیة الطوائف؟ فحینذاک تکون الأکثریة الممکنة قد وفرت الإمکانیة لبروز دورة جدیدة من الأزمات قد تخمد بعد أن تطول بالعودة إلى فکرة ومبدأ العیش المشترک، وقد تؤسس بحال لم تسلک سبیلها إلى الحل التسووی لدورة جدیدة من الحروب الأهلیة تعید إنتاج النظام القدیم فی تولیفة جدیدة محملة بإصلاحات فلکلوریة لا تخرج عن روحیة وجوهر ما هو قائم من ذی قبل.
على هذا النحو، ومع أن دستور الطائف یمثل المظلة للخروج من الحرب بتکریسه لحالة السلم الأهلی بعید حرب أهلیة طاحنة بین مکونات الشعب اللبنانی، غیر أنه یحمل بذور ضعف کثیرة بینها هذه المقاربة الجزئیة لأحد مندرجاته التعایشیة، ما یعنی أن هذه الصیغة المستولدة والمتجلیة بروح النص ومندرجاته لیست سوى صیغة تطویریة لما سبقه عبر دستور 1926 والمیثاق الوطنی عام 1943، اللتین شکلتا، حین التوصل إلیهما فی مرحلتین منفصلتین، بادرتیَ أمل لطالما تغنى الکثیر من اللبنانیین بهما حینذاک لیجدوا بعد ذلک أن کلاً منهما قد أسس حین الإشتباک مع واقع الأمور لإنتاج أزمات جدیدة.
على هذا الأساس، فإن شعار ومطلب تحقیق الدولة القویة العادلة هو شعار استراتیجی من شأنه إخراج الاجتماع السیاسی اللبنانی والأهلی من دورة الأزمات المفتوحة، ویوفر الإمکانیة للعبور نحو الدولة. وهو مشروع وطنی کبیر یحتاج إلى إرادات حقیقیة ورجالات تاریخیین هم بحجم الشعار ویحتاج إلى إرادات جموع اللبنانیین لأن الدولة الحقیقیة والوطن الحقیقی لا یصنعه إلا أبناؤه.

الدولة العادلة فی الإمکان اللبنانی

عندما تُطرح قضیة الدولة العادلة کمخرج لأزمة الاجتماع السیاسی اللبنانی، فإنها بلا شک تعنی مسألة السلطة. وهی مسألة لها عمقها التاریخی الذی یتصل بمحاولة الانسان ترتیب علاقاته الاجتماعیة بوصفه کائناً یعیش فی وسط جماعی. وقد تعرض لها الفلاسفة على مرّ التاریخ، فشهدت الدولة العدید من الأشکال سواء اتخذت شکلاً قهریاً استندت فیه إلى حق الحاکم المستبد فی فرض القوة لتأمین استقرار المجتمع، أو الدولة الوازعة التی نشأت بفعل الحاجة إلى وازع یفصل بین اختلاف مصالح الناس، أو الدولة الحامیة والمدافعة عن رعیتها إزاء تهدیدات خارجیة استناداً إلى فکرة الحق فی الحیاة.
ولعل ما شهدته القرون، التی تلت العصور الوسطى فی القرنین الثامن عشر والتاسع عشر ومطلع القرن العشرین، من محاولات فکریة لتسویغ عملیة الوصول إلى السلطة وما أنیط بها من وظائف، إنما یرتکز على منطلقات أساسها السؤال حول کیفیة تحقیق العدالة بین الناس. ولقد ساد العدید من النظریات خصوصاً نظریات العقد الاجتماعی التی تستند إلى فکرة الحقوق الطبیعیة للبشر بوصفهم أفراداً، وبین الدولة الناشئة انطلاقاًً من فکرة العقد هذه لتحاکی الفطرة الإنسانیة وتسایرها وبذلک تتحقق فکرة العدالة.
من هنا فحین تطرح فکرة الدولة العادلة على بساط البحث، فهی تنطلق من اعتبار فکرة العدل قیمة إنسانیة عامة جرى استلهامها فی أزمنة تاریخیة متنوعة کمنطلق للوصول إلى مجتمع ینشد الاستقرار والأمن والرفاه.
وقد أُخضع هذا المفهوم للتغییر مع تبدلات الظروف، ولذلک عرفت المجتمعات أشکالاً من النظم التی طرأت علیها تبدلات انطلقت من الإحساس بالحاجة إلیها لسد الثغرات القائمة بفعل تطور الزمن.
ولا یخرج لبنان بصیغته التی شهدت تعدیلات منذ ما بعد دستور 1926 وحتى یومنا هذا عن طبیعة المجتمعات البشریة التی عکست فکرة
العدل خصوصیاتها المجتمعیة. ولکن الخصوصیة اللبنانیة تمظهرت فیه من ناحیة التمثیل السیاسی، وفق منطق أن العدالة تمر عبر الطائفة ولیس عبر الفرد. وهو ما راعته المادة 95 من دستور 1926. غیر أن فکرة العدالة فی مقام السلطة والحکم لم تعبّر بالمطلق عن واقع الدولة، وهو ما تم الاعتراف به خلال المادة نفسها من أن اعتماد آلیة العدالة من خلال التمثیل الطائفی هو ذو صفة مؤقتة ولیست دائمة. کما وتحددت فکرة العدالة لاحقاً من خلال تعدیلات میثاق 1943 عبر تموضع جدید بین الطوائف ومن ثم التأکید على صفتها المؤقتة على اعتبار أن الغایة هی الوصول إلى إلغاء الطائفیة السیاسیة.
ولأن الطائف شکّل أحد المخارج التطویریة فی التماسات العدالة على مستوى تشکیل السلطة والإدارة، لا تزال هذه الالتماسات الدستوریة للعدالة موضع نقاش.
الدعوة إلى بناء الدولة العادلة تتجاوز المبدأ والاقتناع والرغبة إلى إتاحة تطبیقها فی الواقع.
إن کیفیة إتاحة العدالة فی المجتمع هی أساس الحوار والتحاور، ولا بد اذ ذاک مع اختلاف القناعات والرؤى، من تحدید المنطلقات لمفهوم العدل وطبیعة العلاقة بین العدل الکونی والعدل الانسانی، ومن ثم تطبیقاته فی إطار الدولة وتکوین السلطة وإمکانیة شموله المیدان الاجتماعی. هل یتم الوصول إلى ذلک عبر العلمنة، وتطبیق مبدأ المواطنیة، والدیمقراطیة.. أی تحریر السلطة من قیود الطائفة؟ وبحال
تم ذلک، کیف یصار إلى التوفیق بین إیجاد هویة عامة لمکونات المجتمع اللبنانی باعتباره شعباً مؤلفاً من أفراد ولیس طوائف، وبین خصوصیات الانتماء الدینی والطائفی؟
وهل تتلاءم هذه النماذج التی طبقت فی الغرب مع خصوصیة المجتمع اللبنانی؟ کیف تتلاءم الدیمقراطیة باعتبارها دعوة حریة قبل کل شیء، مع إلغاء الخصوصیات فی الانتماء والهویة؟
بحال تم اعتماد إحدى هذه الصیغ التی تهدف إلى إیصال الأکثریة للحکم ما هی ضمانات الحفاظ على حقوق الأقلیة؟
فهل یتم اتباع التدرج فی تحقیق العدالة فی المیدان الاجتماعی أولاً، ومن ثم یتم التدرج إلى المیدان السیاسی نفسه، وداخله أیضاً باعتماد المرحلیة انطلاقاً من محاولة ترسیخ الوعی الفردی بنموذج الدولة العادلة، وتحریرها تدریجیاً من الوعی الطائفی؟ هذه الاسئلة وغیرها یمکن أن تشکل منطلقاً للحوار حول الدعوة إلى الدولة العادلة.

الدولة العادلة فی المیزان

تعرّض شعار "الدولة العادلة والقادرة" (الذی طرحه أمین عام حزب الله السید حسن نصرالله) لعدد من المآخذ کتلک التی عرضها وجیه کوثرانی حیث یرى أنّ العدالة والقدرة هی صفات نسبیّة وتاریخیّة أی هی نتاج لمسار تاریخی یتشکّل ویتکوّن. هی مشروع لا یهبط منجزاً من السماء بل هو جملة من البرامج والخطط والمنطلقات القانونیة والدستوریّة، وهی إلى ذلک محکومة بنظریة معیّنة للدولة وبثقافة معیّنة فی المجتمع الذی تنبثق عنه الدولة.
کذلک یجد أن العلاقة بین حزب الله والولی الفقیه تنطوی على مستویین من الإشکالات تجعل من شعار الدولة العادلة وبالتالی دولة المواطنة غیر ذی جدوى:
أولاً: صعوبة الانتظام فی دولة, وطن تنحو بحکم حرکیة الاجتماع السیاسی المدنی وضرورة الإصلاح، وبحکم ترکیبها التعددی والطائفی، لأن تتحول إلى دولة مدنیة، أی دولة مدنیین تنفصل فیها السلطة المدنیة عن السلطة الدینیة، وتتساوى فیها المواطنة فی الحقوق المدنیة والشخصیة والسیاسیة، لتکون هناک دولة مواطنین، لا دولة طوائف.
وثانیاً: إن الإیمان بولایة الفقیه المطلقة یشکل قطیعة أو على الأقل افتراقاً عن منهج الإصلاحیة الشیعیة الذی شهده التاریخ الإسلامی - الشیعی وهو ما یرى کوثرانی أنه حمل المخرج النظری والفقهی للتکیف مع الدولة المدنیة الحدیثة والاندماج مع اجتماعها الوطنی(1)
وقد أدرج خلال مقاربته هذه آراء کل من الشیخ محمد جواد مغنیة والشیخ محمد مهدی شمس الدین کنموذجی للإصلاح الشیعی.
إن اعتبار کوثرانی مشروع الدولة العادلة مشروعاً تدریجیاً لا یهبط من السماء لاعتبار نسبیة مفهوم العدالة لدى البشر واحتیاج نشدانها إلى مسارٍ تاریخی طویل، لا یعیب الطرح الذی تقدّم به سماحة السید حسن نصر الله، بل یضفی علیه الکثیر من العمق والموضوعیّة لملامسته طبیعة الفطرة الإنسانیة فی نزوعها الاجتماعی نحو تطبیق هذا المبدأ ولاختزانه الکثیر من عناصر التحفیز لمکوّنات المجتمع اللبنانی فی الکشف أو التوصل إلى صیغة حکم تنطلق من خصوصیاتها الثقافیة والدینیة ومن موقعیة المشترکات بین الأدیان فی القیم والمعاییر والغایات.
وعلى العکس من ذلک فلو کان مطلب الدولة العادلة یُراد له أن یُنفَّذ على نحو الإکراه من وجهة نظر حزب الله لخالف بذلک قواعد العدالة نفسها، لأن فرضَ رؤیةٍ ما بالإکراه وخلافاً للإرادة والمصلحة العامة یعدُّ ظلماً فی کثیر من الأحیان.
إذاً لا بد من إیجاد صیغة تطویریة للنظام اللبنانی تتناسب مع الدعوة إلى بناء الدولة العادلة، وهی دعوة حواریة ولیست إسقاطیة، یصار خلالها إلى البحث بین النخب والمکونات السیاسیة والاجتماعیة والثقافیة للمجتمع اللبنانی فی کیفیة الوصول إلى هذا المبتغى. فحین تشکل العدالة قاعدة للتحاور بین مکونات اجتماعیة تصبح العدالة قیمة إنسانیة مسنودة إلى فطرة الإنسان بشکل عام فکیف إذا کان هذا الإنسان ینظر إلى العدالة نفسها کقیمة بحد ذاتها انطلاقاً من إیمانه الدینی بالعدل الإلهی والعدل فی الوجود؟
على هذا الأساس لا تعود فکرة تطبیق العدالة متنازعاً علیها لأنها محل اتفاق ولکن الاختلاف فی آلیات الوصول إلیها فالإیمان بالعدل أو العدالة لیس هو العدل نفسه حین یدخل إلى حیز التطبیق العملی.
وإذ یجد کوثرانی أن الدولة العادلة محکومة بنظریة معیّنة وبثقافة معیّنة فی المجتمع الذی تنبثق عنه الدولة - کما تقدّم ذکره - فإن تعددیة وتنوّع المجتمع اللبنانی سوف یؤدیان إلى تباینات فی هذه النظرة فی حین یرى أن خصوصیة حزب الله نابعة من تثقیف قاعدته الحزبیّة على أسس طائفیة ومن ثم ربط نظرته إلى الدولة من خلال رؤیة الولی الفقیه أی الدمج بین الدین والسیاسة ومن ثم بین الطائفة والدولة المبنیة على ولایة الفقیه.
على هذا الأساس فإن الدولة العادلة بنظر حزب الله لیست إلاَّ دولة الولی الفقیه. وهی تشکّل بنظر کوثرانی قطیعة مع الرؤیة الحداثویة التی تقوم على بناء دولة مدنیة مستقلّة عن الشأن الدینی. ولکن إذا ما عدنا إلى أدبیات الحزب التی یمکننا وفقها تحدید بعض الملامح الرؤیویة لمشروعه الوطنی، نجد أن هذا المشروع لا یعبّر عن خصوصیة ضیّقة بقدر ما یعبّر عن فهم خاص ینطلق من المرتکز الدینی لیتسع أمام المکوّنات الاجتماعیة اللبنانیة ولیتجسّد فی خطاب یقوم على أساس الشراکة والمساواة. وهو مشروع حداثوی ینطلق من عمق الإیمان الدینی الذی یتشارک به اللبنانیون بمختلف طوائفهم.
ومن بین هذه الأدبیات التی تعبّر فی بعض مندرجاتها عن المشروع الوطنی لحزب الله، ما ورد فی منشور صدر عن المؤتمر الدائم للمقاومة بقلم رئیس المجلس التنفیذی فی الحزب سماحة السید هاشم صفی الدین، حیث یجد أن حزب الله انطلق فی بنائه للمشروع الوطنی من حیثیات وأولویات نورد منها ما یلی:
- الحیثیة الإیمانیة: هی أن الإیمان بالله تعإلى والالتزام بالأحکام الفردیة والعامة للإسلام هما أصل حاکم فی حزب الله. وهما محور کل الأعمال والمواقف والأهداف والأسالیب التی یتبناها الحزب ویمارسها، وهما ینطلقان من قناعات لدى الحزب بأن الإیمان یدعو إلى الالتقاء مع الآخر مهما کان معتقده، وهو لا ینفی الخصوصیات، وهی محل تقدیر فی نظر الحزب، بل هو یثیرها ویملؤها بقیم الخیر والعدل وذلک حتماً غیر الطائفیة التی هی أقرب إلى مفهوم الجماعة الخاصة والقبیلة والعشیرة فی خلفیتها وفی کل ما یترتب علیها من أحکام ومواقف. فالدین یحکم بالعدل، والطائفة لا تقره دائماً، والدین یمد حبل التواصل مع أتباع کل الدیانات الأخرى من موقع التقدیر والاحترام، والطائفیة عقلیة إقصائیة حدودها المصالح الخاصة.
إن الإیمان یُلطّف الانتماء الطائفی، ویسحب منه عوامل التهدید المستمر. وهو بنظر الحزب عنصر قوّة فی لبنان یعکس الحضارات والتعددیة الدینیة والثقافیة ویحافظ علیها، بینما الذهنیة الطائفیة أثبتت فشلها وخطرها على الکیان.
إن الموقع الإیمانی هو الذی یدعو إلى إقامة الوحدة الإسلامیة دون استهداف للشریک المسیحی. وهو الذی یدعو إلى الوحدة الوطنیة مع کافة الشرکاء، دون الدخول أو المشارکة فی أی مشروع عزل.
- الحیثیة السیاسیة: وهی تعبّر عن الشراکة والمساواة کرؤیة وطنیة استوحاها حزب الله من انتمائه الدینی، ومن فهمه للخصوصیة اللبنانیة جیّداً، على قاعدة أن مدماک بناء الدولة هو العدالة والدستور، وتوفیر فرص المشارکة فی بناء الوطن بالتساوی بین جمیع أبنائه. والحزب یجد أن التعددیة إذا أُحسن ربطها بالدیانات والحضارة، هی مصدر غنى وقوّة. ویندرج ضمن موضوع المساواة والشراکة موضوع القیم والأخلاق التی یولیها الحزب أهمیة خاصّة لتکون أساساً فی صیاغة مفهوم الدولة، وللتطلّع نحو وطن قوی وعادل، وطن الشراکة الوطنیة والعیش المشترک تحت سقف الدستور الذی یشکّل صیغة العقد الاجتماعی والسیاسی الملزِم للجمیع(2)
نخلص مما تقدم إلى القول إن الدعوة إلى بناء الدولة القویة العادلة وإن کانت دعوة حواریة تتجه إلى الفریق الآخر، ولکنها تحتاج إلى بلورة تفصیلیة وإلى الکثیر من التسویغ لدى الجهة الداعیة نفسها لا سیما حین تکون المنطلقات الفکریة تقوم على أسس ومبادئ مستمدة من فهمها لنصوصها الدینیة خصوصاً فی مجال تشکل السلطة أی فی مصدرها وآلیاتها ومصدر التشریع. وقد سبق تجاوز هذا الأمر عبر التأکید على فکرة إلغاء الطائفیة السیاسیة ثم التأکید على فکرة الدیمقراطیة التوافقیة وبعدها الدولة القویة العادلة.
وبلا شک فإن هذه الدعوات تشیر إلى ممکنات تجاوز الدعوة إلى أسلمة السلطة ولکنها لم تترافق مع التسویغات الفکریة المطلوبة لاقناع الذوات الجمعیة للإسلامیین قبل غیرهم الذین ینظرون إلى تلک الدعوات بعین الشک حیث لا تغدو بنظرهم سوى مناورة أو کإحدى الحلقات المندرجة فی سبیل الوصول إلى أسلمة السلطة.
کذلک فإن دولة المواطنة بالمعنى الفعلی لا بالمعنى النفعی والتکتیکی الذی یطرحه العلمانیون خصوصاً أو الدعوة إلى الدولة القویة العادلة یستوجب تسویغهما انطلاقاً من مدى توافقهما أو تعارضهما مع مبادئ الشرع إلى نقاش مستفیض، لیس أقله مشارکة عمیقة ممن لهم باع فی النظر وإبداء الرأی فی النصوص الفقهیة، وفی الأحادیث الواردة، ومن ثم مقاربة جدیة للمراحل التاریخیة التی عاشها المسلمون، وتعاطیهم مع السلطات القائمة. مع ذلک، لا بد من إثارة بعض الإضاءات التی تحتاج بدورها إلى إعمال النظر فی مدى ملاءمة دولة المواطنة کذلک بناء الدولة القویة العادلة للمنطلقات الدینیة وهی على الشکل التالی:
العدالة بمفهومها الفلسفی تقوم على أساس إعطاء کل ذی حق حقه أو وضع الأمور فی نصابها. ولکن هل العدالة تنظر إلى الأفراد ومساواتهم داخل الدولة أو تنظر إلى الطوائف بحیث لا یتم انتقاص حقوق الطوائف ومن هنا نعود إلى الدیمقراطیة التوافقیة؟
الإکراه المادی لسلطة دولة المواطنة لا یتحول إلى عسف الأکثریة الوهمیة مع وجود الحریة ومبدأ الحقوق والواجبات.
هل تجسد دولة المواطنة التماهی مع مرکوزات العقل، النظام حسن والفوضى قبیحة، العدالة حسنة والظلم قبیح؟
العقل الإجرائی والتاریخی قد یقع أسیر الموازنة والترجیح بین المصلحة الجماعیة الخاصة والمصلحة العامة. لیس من عقال ورادع لتفلته سوى الدولة التی توفر أسباب عقلنته بما هی نتاج توافر إرادات الأفراد أو العقل الجمعی.
الشرع لا ینافی العقل العام، بل ینافی المصلحة الخاصة إذا أضرت بالمصلحة العامة، بل یدعو إلى تجاوز المصلحة الخاصة لأجل الصالح العام وهو ما تجسده دولة المواطنة.
دولة المواطنة قانونیة ولیست شرعیة، والشرعیة قد تقوم بالإکراه والإجبار على المبایعة.
دولة المواطنة قانونیة ولکن نشارک فیها کذوات فاعلة. وهی أفضل حالاً من القانونیة الإکراهیة التی تضطهد الخصوصیات الثقافیة (العالم العربی مصر ترکیا)
- الشرع أباح التعامل مع الدولة القانونیة والإکراهیة کأمر واقع فی مقابل الفوضى وبمقابل تجسیدها لأحد مقتضیات العدالة ولو جزئیاً. فکیف بدولة قانونیة کل الذوات الجماعیة فیها فاعلة ولیست منفعلة بالإکراه؟ لو فعلها ابن الأصفر: التغاضی عن نزع الشرعیة مقابل المصلحة العامة للمسلمین ولشوکة الإسلام.
- دولة المواطنة کذلک دولة الدیمقراطیة التوافقیة کما فی لبنان، تقوی نزعة الإیمان خلاف الدولة المادیة. الدین یبقى محور العلاقات الاجتماعیة. الطائفة تتحول إلى جماعة لا بد من اجتذاب الفرد ومن وضع أهداف ومعاییر.
- دولة المواطنة وکذلک دولة التوافقیة تقف فی وجه العولمة التی أفرزت خصوصیات وذوبت بعضها.
- تؤکد أیضاً عالمیة الدین وقدرته مع الاحتفاظ بعالمیته على التعایش ولیس الانحصار فی دائرته الخاصة. العلاقة بالمقدس (الإیمان) وسریانه فی المجتمع.
- الدولة-المواطنة لا تضعف الدین بالضرورة (ترکیا نموذجاً)، الدولة الدینیة قد تقوی العصبیة ولیس الدین.
- دولة المواطنة تنمی روح التضامن جراء الإحساس بالمسؤولیة تجاه المجتمع مسؤولیة تکاملیة تجاه الأفراد (ضرائب) مسؤولیة تطویریة (برامج اجتماعیة، اقتصادیة، بیئیة..)، إحساس الفرد المحکوم کالحاکم.
جراء ذلک فثمة مجموعة من الحسنات، سواء فی دولة المواطنة المنشودة، أو فی دولة الدیمقراطیة التوافقیة. ولکن یبقى السؤال أیهما تقترب من مفهوم الدولة القویة العادلة؟ هل تقوم بتبنی دولة المواطنة أم مع إضفاء مبادئ إصلاحیة وتطویریة على دولة دیمقراطیة التوافق بین الطوائف؟ وما هی حدود کل ذلک مع المنطلقات الدینیة؟ هل هذه المنطلقات تعمل انطلاقاً من مبدأ الواقع وتتکیف معه أم أنها تعلو علیه وتسعى لتکیفه مع مبادئها ومندرجاتها؟
وبالتالی هل الدعوة إلى بناء الدولة القویة العادلة تشکل المخرج لهذه الإشکالیة؟ وإذا کانت الإجابة تتحدد بالإیجاب، ینطلق السؤال من جدید لیتمحور حول الخطوط العریضة ولیست التفصیلیة لمشروع الدولة المنشودة على قاعدة القوة والعدالة.
المصادر:
1- وجیه کوثرانی، بین فقه الإصلاح الشیعی وولایة الفقیه، دار النهار للنشر، بیروت 2007، ص 49.
2- السید هاشم صفی الدین، المقاومة ومشروع بناء الوطن، منشور صادر عن المؤتمر الدائم للمقاومة.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

شبهات حول المتشابه في القرآن، وتفنيدها
الإستراتيجية العسكرية في معارك الإمام علي (عليه ...
النجاة في العقل
السيدة زينب في عهد والدها أمير المؤمنين(عليه ...
دعاء في آخر ليلة من شعبان
أسند عنه
الجنة لمن زارها
لـمـــاذا كــــتـم جـمـــاعـــــة مــن ...
غزة
من وصايا الإمام الباقر (عليه السلام)

 
user comment