عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

فوكوياما من "نهاية التاريخ" إلى "مستقبلنا ما بعد البشري -3

إن خطابا كهذا يجعل من العولمة عالما أخرويا، استتب دوامه، لأنه انتهى زمن النهايات وقامت القيامة، ولم يبق سوى أن نتموقع في فلك هذا الخلود، وأن نختار هذا الشكل من خلودنا.

إن هذا العالم الجديد (العولمة)، هذا النظام العالمي الجديد هو سعي نحو ترسيخ انسجام يزعم أنه لم يسبق له مثيل، يعتمد في آلياته الكليانية على إعلان حرب ضد الماركسية، لأنها الطيف، حسب دريدا، الذي يهدد كليته المغلقة، ويهدد انسجامه، إنه مجرد اختلال عالمي جديد
nouvel désordre mondial[18
]، هاجسه ترسيخ رأسمالية جديدة وليبرالية جديدة وخالدة ومتحررة من الأشباح التي لازالت تطاردها. إن عولمة العالم، ليست كما يشيع لذلك خطاب العولمة، عبارة عن سيرورة عادية، ومرحلة نهائية من مراحل التطور، بل هو في الأصل، نزعة كليانة تقوم أساسا على إسكاتولوجيا للأزمات ووضع حد للإيديولوجيات.

إنها مهمة تتوخى النظر في هذه التحولات بمعزل عن روح العصر، وبالتالي مهمة نقدية، تتوخى هدم خطاب العولمة، بما هو مطمح يود جعل التحولات دالة على زمن العالم الذي نعيشه، زمن يجب أن نقرأ فيه كل التحولات باعتبارها ليست سوى تجليات لعالم يرسم قدر الحضارات ومصير الإنسانية مصيرا واحدا خالدا، كمرحلة نهاية من مراحل التطور. فالعالم الأفضل الأبدي الذي ينتظره الإنسان، حسب هذا المنظور، ليس هو النموذج الذي عاش فيه سابقا (المجتمع الإنساني ذو الدلالة الاشتراكية ولا حتى النموذج الرأسمالي سابقا) بل هو مملكة خالدة (مملكة إلهية). هذا العالم الأخروي، هذا العالم الجديد،[19] لا يمكن أن ننظر إليه وفق ثنائية الجنة والنار، بل هو العالم المفروض وكفى، العالم الوحيد الذي يمكن أن نعيش فيه. إن مهمة الفلسفة تكمن في خلخلة وهدم هذا الفردوس الذي يزعم الخلود. إنه تصور ينبني على موقف خطي من التاريخ حيث يرفض إسكاتولوجيا فكرة العود الأبدي (رفض عودة الاشتراكية)، فلا عودة للعالم المنتهي. لهذا قد يبدو لنا فردوسا، وقد يبدو لنا جحيما، ولكن لا خيار لنا، فليس هناك عالم آخر بعده، لأنه عالم أخروي أخير. يقول ديريدا في نقد هذا العالم: "يسير العالم نحو الأسوأ (ليس كعالم على ما يرام). لقد أصبح مستنفذا (مبتذلا) ولا يمكن تقدير هذا الابتذال: هل هو شيخوخة أم شباب؟ لا يمكننا تقدير ذلك. أصبح للعالم أكثر من عمر. يعوزنا قياس القياس، إننا لا ننتبه إلى هذا الابتذال وكأن الأمر يتعلق بعمر واحد له دور في تقديم تاريخ ما. ليست المسألة مسألة نضج، ولا أزمة ولا حتى احتضار، يتعلق الأمر بشيء آخر. إن ما يحدث، يحدث في نفس العمر، لكي يعزز النظام الغائي للتاريخ. أما ما يأتي، أو يبدو أنه لا زمني، فهو يحدث في الزمن، ولكنه لا يحدث في وقته[20].

الخاتمة:


إن انتهاء الزمان رياضيا، يعني اقترابه من الصفر أي تحقق السرعة المطلقة-سرعة الضوء، وتفكك فكرة المابعد والما قبل لتتأسس اللحظة، باعتبارها الراهن الفوري المحدد لكل حدث. لا تفيد النهاية هنا، وعلى حد تعبير عبد السلام بنعبد العالي، بلوغ تلك النقطة التي عندها تتوقف كل حركة، وإنما بالضبط جعل الحركة خاصية كل نقطة، مما يشي بالدخول في حالة من التسريع والإسراع، وهو ما نحن عليه اليوم مع حدث "الانفجار الاتصالي عن بعد"(ليوتار) الذي بات يغدي العالم السرنطيقي (عالم التحكم والضبط) بالصور والرسائل والأرقام وغيرها من المنتوجات الإلكترونية التي تبث وتنقل من مكان إلى آخر، ومن نقطة إلى أخرى بسرعة خاطفة، على طول وامتداد الكوكب اللانهائي. وبقدر ما أضحى الإنسان، أمام هذا البث الفوري، لا يبالي بشأن التاريخ والزمان من حوله، كما كان من ذي قبل بقدر ما صار مأخوذا في عالم من الصور المرئية والمعلومات الضوئية التي غدت تخلق له مشهدا واقعيا يستغني فيه تماما عن كل ما تحمله له ذاكرته الخبيثة من مرجعيات وأساطير. أمام زمان الرقم والسرعة إذن، تتشظى كل الصيغ والأشكال، كما تتحول وتتبخر كل المرجعيات والأنساق، كما لو أن لعبة الخروج التي ما فتئ ينبئها بها "دولوز"، قد غدت تتحقق مع ثروة الاتصالات والإعلاميات، حيث تكاثرت المداخل بنفس القدر الذي تكاثرت في المخارج.

ب – نهاية الأخلاق ما هي إلا بداية لبزوغ قيم التقنية

إن الإنسان وهو يحيا في مدينة الاتصالات "الأمنوبوليتية" على حد تعبير بول فيريليو، هو من غدا بخلاف الأمس، يساير الأحداث ويتفاعل مع العالم على مستوى الزمن الواقعي
temps réel، زمن السرعة المطلقة، معه لا مجال، بل لا طائل من التمييز بين الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة، ما دام الفكر قد غدا لأول مرة في التاريخ، فكرا كوكبيا وكونيا. والحال أن الوجود في ظل هذه المدينة/عالم، قد أضحى خاضعا لإكراهات التقنية، حيث الكل يوصف بالتقني: لقد حلت لائحة جديدة، من المفاهيم محل اللائحة القديمة، فأصبحنا نتحدث عن الزمن التقني، المكان التقني، العقل القني بل والإنسان التقني.. وعليه وجب الاعتراف على ما يبدو بأن ثمة إلها تقنيا صار يتسلل هنا وهناك ليحتل رويدا، رويدا، مكان الإله التيولوجي. يكمن الفرق ما بين الاثنين على ما يتضح في أن الإله التقني هو من لا يتطلب منا الامتثال لقواعد النموس الأخلاقي، حيث لا تعنيه الصلاة، الصوم، الزكاة.. وما إلى غير ذلك في شيء. إنه لا يتلكأ لأي وسيط، وفي رمشة عين يغوص بنا في عالم افتراضي، مغاير تماما لما كان فيما قبل، لا من حيث زمانه وفضائه فحسب، لكن من حيث نظامه وإيقاعه أيضا، وهذا ما عبر عنه عبد العزيز بومسهولي في مؤلفه قائلا: "لم يعد التصور الإيطيقي هو الذي يسير العالم، إنما هو العقل التقني الذي غدا شاملا وكونيا، وشكل مرحلة نهاية الإنسان"، هاته النهاية التي تعلن عن ميلاد نموذج إنساني آخر مغاير لأسلافه: إنه الإنسان الرقمي أو العددي، ما دام لكل كائن صنوه العددي.

ج – كونية الرغبة، كونية الحدث، كونية الكائن، كلها جعلت التنافس يجري حول احتلال موقع في العالم الافتراضي.

إن الحدث الكوني الذي غدت العولمة تمثله، هو ما ينذر بتحولات يستحيل حصرها كما أسلفنا، رغم محاولة العديد من القراءات التنبؤ بمستقبلها، تكن بعض بوادر هذه التحولات فيما نشأ اليوم من طرق جديدة في العيش وممارسة الحياة، بل والتعامل مع الذات والآخر. الأحرى أن أولى هذه العلاقات بخاصة هي تلك التي في حماها يسكن الإنسان، أعني اللغة بما هي "مسكن الوجود" على حد تعبير هايدغر. لقد انتقلنا اليوم أو صرنا ننتقل على الأصح من لغة محلية ترسو على قوام الهوية والإثنية وتعكس تمركز الذات
Egocentrisme إلى فضاء لغة كونية تتكفل بصيانتها شبكات الاتصال والأنترنيت، فاللغة قد أضحت على حد تعبير الباحث عبد العزيز بومسهولي مختزلة تقنيا(…) مما يفيد أن الهوية اللغوية التي هي موطن الكائن قد تحللت في شبكة الأنترنيت لتفسح المجال للترجمة الآلية، التي تنقل مضمون الخطاب من لغة إلى أخرى، فالمتكلم –فيما يرى الكاتب- لم يعد في حاجة إلى تعلم لغة أخرى ليحاور من يتصل به، لأن الشاشة هي الوسيط الذي يقوم بعملية النقل والتلقي، كل شيء يمضي كما لو أن الكائن الإنساني غدا مكتوبا أو كأنه جزء من كتاب كوني، تنعدم فيه حدود الإيطيقا، وتنسحب فيه الرؤية الأخلاقية لصالح رؤية تقنية تتكفل بإعادة ترتيب اللغات والأفكار، والمعلومات التي أضحت سائلة باستمرار، وتغدي جميع الحقول" . على غرار هذا يتشكل ذلك المركز الفائق أو الأعظم Hypércentre الذي يوجد في كل مكان بقدر ما لا يوجد في أي مكان، وبقدر ما يتجسد كمركز للبث والاستقبال بقدر ما يضفي صبغة كونية لا على الرغبة أو الإنسان فحسب بل أيضا على الحدث والأشياء، الزمان والمكان.. أمام هذا الوضع، ألا يليق بنا التسليم بأن التقنية اليوم، قد أضحت تسيطر على النواة الأخلاقية للمجتمعات؟ إذ بقدر ما تخلق الواقع عبر الهندسة اللحظية للأوطان والبلدان، بواسطة القنبلة المعلوماتية التي أصبحت من الآن فصاعدا، أهم بكثير من المجرى الفعلي للأحداث بقدر ما يسعى كل كائن على البسيطة إلى حيازة موقع في العالم السبيرنطيقي، الأثيري.

أمام عالم كهذا يتساءل الباحث: "كيف يمكن للكائن الإنسان انتشال كينونته واستعادة حريته التي بدت خاضعة لتدبير التقنية؟ كيف يستعيد الإنسان إيطيقاه وينفلت على الأقل بطاقته الإبداعية في ظل هيمنة التقنية؟ . وإن راح يتساءل على هذا النحو، فلأنه يعرف بل ويقر بأن السؤال تقوى الفكر، من حيث كونه الجرثومة التي لا تتوقف عن التناسل وإصابتنا نحن القراء بالحمى..

هذا هو المراد من هذا الكتاب، الذي بقدر ما يضعنا على قدم وساق أمام حكم التقنية وقدرها، بقدر ما يعدنا بأن الأمور غير قابلة للحسم على اعتبار أن سؤال نهاية الأخلاق هو من يكشف لنا عن وجه لوحة باهتة يعرضها علينا المؤلف في عصر اللايقين التقني، عصر تحكمه ربما عودة الأسطوري والرمزي، اللاعقل والجنون، التيهان واستحالة الضبط القبلي لمجريات الأمور.


------------------------------------------------------------------------------

- باحثة في قسم الفلسفة،جامعة وهران،الجزائر[1]

فرنسيس فوكوياما :مستقبلنا بعد البشري،عواقب ثورة التقنية الحيوية،ترجمة إيهاب عبد الرجيم محمد،مركز الإمارات للدراسات والتحوث الإستراتيجية، الطبعة الأولى،2006,ص,40,[2]

المصدر نفسه،ص.46.[3]

فرنسيس فوكوياما:مستقبلنا بعد البشرية،عواقب ثؤرة التقنية الحيوية،ص.180.[4]

- فوكوياما فؤنسيس.بداية التاريخ،المقال المؤسس لكتاب نهاية التاريخ والنسان الاخير،مجلة العرب والفكر العالمي،الغدد15-16،1996,ص87[5]

- فرنسيس فزكزياما. المرجع السابق،الصفحة،73[6]

[7] -
Francis Fukuyama :The End of Hestory and the Ladt Man,perennial,1992.P.92.

[8] -
Ibid:p,92,

- فوكوياما فرنسيس:نهاية التاريخ،برجمة حسين الشيخ،دار العلوم،بيروت،1993.ص.153[9]

- المرجع السابق،ص.123[10]

- فوكوياما:مستقبلنا بعد البشري،المرجع السابق،ص.86[11]

-المصدر السابق،ص.54[12]

[13]
Derrida Jacqes :of gramatologie,trans :Gayatri Cayatri LONDON Univ/PRESS ?1972 ?P/46

-فوكوياما:عواقب الثؤرة الحيوية،ص.123[14]

[15]
M Foucaut :L’Archéologie du Savoir,éd Gallimard,Paris ,1969.P 54

-المرجع السابق،ص75[16]

- فوكوياما:مستقبلنا بعد البشري،ص,09[17]

-المصدر نفسه،ص76[18]

المصدر السابق،عواقب ثورة التقنية الجيوية،ص،231[19]

-فوكوياما:مستقبلنا بعد البشري،ص،98[20]

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

تطابق الحقيقة التاريخية والحقيقة الوجودية في ...
مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم في الدليل على وجود ...
دولة الإمام المهدي (عج) ورسالات الأنبياء
عالمية حكومة الإمام المهدي عليه السلام
الامام الهادي عليه السلام وقضاة عصره
کتابة رقعة الحاجة إلی مولانا صاحب العصر والزمان ...
لمحة إجمالية في أدلة انقطاع النيابة الخاصة في ...
الملامح الشخصية للامام المهدي عليه السلام
عظمة الإمام المهدي (عج) عند الأئمة (ع) والصالحين
امام مہدی علیہ السلام اولادعلی (ع)سے ہیں

 
user comment