عربي
Thursday 18th of April 2024
0
نفر 0

الشبهات المثارة حول المكّي والمدني

الشبهات المثارة حول المكّي والمدني
 

يقسم القرآن في عرف علماء التفسير الى‌ََ مكي ومدني ، فبعض آياته مكية وبعض آياته مدنية . وتوجد في التفسير اتجاهات عديدة لتفسير هذا المصطلح :
احدها : الاتجاه السائد وهو تفسيره على‌ََ أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حداً زمنياً فاصلاً بين مرحلتين ، فكل آية نزلت قبل الهجرة تعتبر مكية ، وكل آية نزلت بعد الهجرة فهي مدنية وإن كان مكان نزولها ( مكة ) ، كالآيات التي نزلت على‌ََ النبي حين كان في مكة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنية لا المكانية .
والاتجاه الآخر هو الاخذ بالناحية المكانية مقياساً للتميّز بين المكي والمدني ، فكل آية يلاحظ مكان نزولها ، فان كان النبي صلى الله عليه و آله حين نزولها في مكة سميت مكية ، وإن كان حينذاك في المدينة سميت مدنية .
والاتجاه الثالث يقوم على‌ََ أساس مراعاة اشخاص المخاطبين ، فهو يعتبر أنّ المكي ما وقع خطاباً لأهل المدينة .
ويمتاز الاتجاه الاول عن الاتجاهين الأخيرين بشمول المكي والمدني على‌ََ أساس الاتجاه الأول لجميع آيات القرآن ، لأننا اذا أخذنا بالناحية الزمنية كانت كل آية في القرآن إمّا مكية وإمّا مدنية ، لأنّها اذا كانت نازلة قبل هجرة النبي الى‌ََ المدينة ودخوله فيها فهي مكية ، وإن نزلت على‌ََ النبي في طريقه من مكة الى‌ََ المدينة ، وإذا كانت نازلة بعد دخول النبي مهاجراً الى‌ََ المدينة فهي مدنية ، مهما كان مكان نزولها .
وأمّا على‌ََ الاتجاهين الأخيرين في تفسير المصطلح فقد نجد آية ليست مكية ولا مدنية ، كما اذا كان موضع نزولها مكاناً ثالثاً لا مكة ولا المدينة ولم يكن خطابها لاهل مكة أو أهل المدينة ، نظير الآيات التي نزلت على‌ََ النبي صلى الله عليه و آله في معراجه أو اسرائه .

الترجيح بين الاتجاهات الثلاثة :

واذا أردنا أن نقارن بين هذه الاتجاهات الثلاثة لنختار واحداً منها فيجب ان نطرح منذ البدء الاتجاه الثالث ، لانه يقوم على‌ََ ( اساس خاطئ ) وهو الاعتقاد بأنّ من الآيات ما يكون خطاباً لاهل مكة خاصة ومنها ما يكون خطاباً لأهل المدينة ؛ وليس هذا بصحيح ، فإنّ الخطابات القرآنية عامة وانطباقها حين نزولها على‌ََ أهل مكة أو على‌ََ أهل المدينة لا يعني كونها خطاباً لهم خاصة أو اختصاص ما تشتمل عليه من توجيه أو نصح أو حكم شرعي بهم ، بل هي عامة ما دام اللفظ فيها عاماً .
والواقع أنّ لفظ المكي والمدني ليس لفظاً شرعياً حدّد النبي مفهومه لكي نحاول اكتشاف ذلك المفهوم ، وإنّما هو مجرد اصطلاح تواضع عليه علماء التفسير ؛ وما من ريب في أنّ كل احد له الحق في أن يصطلح كما يشاء ، فلسنا هنا بصدد أن نخطئ الاتجاه الأوّل أو الاتجاه الثاني ما دام لا يعبر كل منهما الا عن اصطلاح ، من حق اصحاب ذلك الاتجاه ان يضعوه ، ولكنا نرى‌ََ أنّ وضع مصطلح المكي والمدني على‌ََ أساس الترتيب الزمني - كما يقرره الاتجاه الاول - أنفع وأفيد للدراسات القرآنية ، لأنّ التمييز من ناحية زمنية بين ما اُنزل من القرآن قبل الهجرة وما اُنزل بعدها أكثر أهمية للبحوث القرآنية من التمييز على‌ََ اساس المكان بين ما اُنزل على‌ََ النبي في مكة وما اُنزل عليه في المدينة ، فكان جعل الزمن أساساً للتمييز بين المكي والمدني واستخدام هذا المصطلح لتحديد الناحية الزمنية أوفق بالهدف .

وتتجلى‌ََ أهمية التمييز الزمني من التمييز المكاني في نقطتين :

احداهما : ( فقهية ) أي أ نّها ترتبط بعلم الفقه ومعرفة الاحكام الشرعية ، وهي أنّ تقسيم الآيات على‌ََ اساس الزمن الى‌ََ مكية ومدنية وتحديد ما نزل قبل الهجرة وما نزل بعد الهجرة يساعدنا على‌ََ معرفة الناسخ والمنسوخ ، لأنّ الناسخ متأخر بطبيعته على‌ََ المنسوخ زماناً ، فاذا وجدنا حكمين ينسخ أحدهما الآخر استطعنا أن نعرف الناسخ عن طريق التوقيت الزمني ، فيكون المدني منهما ناسخاً للمكي لأجل تأخّره عنه زماناً(هذه النقطة انما تكون مهمة بناء على‌ََ المذهب المعروف في علوم القرآن الذي يقول بوجود النسخ بين الآيات القرآنية ، من خلال افتراض وجود حكمين متخالفين احدهما متأخر عن الآخر زماناً فيفترض أنّ الثاني ناسخ للاول ؛ وأمّا اذا التزمنا بعدم وجود النسخ بهذا الشكل وانما موارد النسخ في القرآن مبيّنة من خلال نظر الآية الناسخة للآية المنسوخة في مضمونها ... ، فلا تبقى‌ََ قيمة لهذه النقطة وإنّما تكون مجرد فرضية ((1)
والاُخرى‌ََ هي : أنّ التقسيم الزمني للآيات الى‌ََ مكية ومدنية يجعلنا نتعرّف على‌ََ مراحل الدعوة التي مرّ بها الاسلام على‌ََ يد النبي ، فإنّ الهجرة المباركة ليست‌ مجرّد حادث عابر في حياة الدعوة ، وإنّما هي حد فاصل بين مرحلتين من عمر الدعوة ، وهما مرحلة العمل الفردي ومرحلة العمل ضمن دولة ، ولئن كان بالامكان تقسيم كل من هاتين المرحلتين بدورها أيضاً ، فمن الواضح على‌ََ أي حال أنّ التقسيم الرئيسي هو التقسيم على‌ََ اساس الهجرة .
فاذا ميّزنا بين الآيات النازلة قبل الهجرة وما نزل منها بعد الهجرة استطعنا أن نواكب تطوّرات الدعوة والخصائص العامة التي تجلت فيها خلال كل من المرحلتين .
وأما مجرد أخذ مكان النزول بعين الاعتبار واهمال عامل الزمن فهو لا يمدنا بفكرة مفصلة عن هاتين المرحلتين ، ويجعلنا نخلط بينهما ، كما يحرمنا من تمييز الناسخ عن المنسوخ من الناحية الفقهية .
فلهذا كله نؤثر الاتجاه الاول في تفسير المكي والمدني ، وعلى‌ََ هذا الاساس سوف نستعمل هذين المصطلحين .

ريقة معرفة المكي والمدني :

بدأ المفسرون عند محاولة التمييز بين المكي والمدني بالاعتماد على‌ََ الروايات والنصوص التأريخية ، التي تؤرخ السورة أو الآية وتشير الى‌ََ نزولها قبل الهجرة او بعدها ، وعن طريق تلك الروايات والنصوص التي تتبعها المفسرون واستوعبوها استطاعوا أن يعرفوا عدداً كبيراً من السور والآيات المكية والمدنية ويميزوا بينها .
وبعد أن توفّرت لهم المعرفة بذلك اتجه كثير من المفسرين الذين عنوا بمعرفة المكي والمدني الى‌ََ دراسة مقارنة لتلك الآيات والسور المكية والمدنية التي اكتشفوا تأريخها عن طريق النصوص ، وخرجوا من دراستهم المقارنة باكتشاف خصائص عامة في السور والآيات المكية وخصائص عامة اُخرى‌ََ في المدني من الآيات والسور فجعلوا من تلك الخصائص العامة مقاييس يقيسون بها سائر الآيات والسور التي لم يؤثر توقيتها الزمني في الروايات والنصوص ، فما كان منها يتفق مع الخصائص العامة للآيات والسور المكية حكموا بأ نّه مكي ، وما كان اقرب الى‌ََ الخصائص العامة للمدني واكثر انسجاماً معها أدرجوه ضمن المدني من الآيات بالسور .
وهذه الخصائص العامة التي حددت المكي والمدني بعضها يرتبط باسلوب الآية والسورة ، كقولهم : إنّ قصر الآيات والسور وتجانسها الصوتي من خصائص القسم المكي ، وبعضها يرتبط بموضوع النص القرآني ، كقولهم مثلاً : إنّ مجادلة المشركين وتسفيه احلامهم من خصائص السور المكية .
ويمكن تلخيص ما ذكروه من الخصائص الاسلوبية والموضوعية للقسم المكي فيما يأتي :
1 - قصر الآيات والسور وايجازها وتجانسها الصوتي .
2 - الدعوة الى‌ََ اُصول الايمان باللَّه واليوم الآخر وتصوير الجنة والنار .
3 - الدعوة للتمسّك بالاخلاق الكريمة والاستقامة على‌ََ الخير .
4 - مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم .
5 - استعمال السورة لكلمة « يا أ يّها الناس » وعدم استعمالها لكلمة « يا أ يّها الذين آمنوا » .
وقد لوحظ أنّ سورة الحج تستثنى‌ََ من ذلك لأنّها استعملت الكلمة الثانية ، بالرغم من أ نّها مكية ، فهذه الخصائص الخمس يغلب وجودها في السور المكية(سورة الحج مدنية وليست مكية ، وتستعمل فيها الكلمة الاُولى‌ََ والثانية ، ولكن الاُولى‌ََ اكثر كما ان سورة الحجرات مدنية بلا اشكال وتستعمل فيها كلمة «يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى‌ََ ... »(2)
وأما ما يشيع في القسم المدني من خصائص عامة فهي :
1 - طول السورة والآية واطنابها .
2 - تفصيل البراهين والأدلّة على‌ََ الحقائق الدينية .
3 - مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم الى‌ََ عدم الغلو في دينهم .
4 - التحدّث عن المنافقين ومشاكلهم .
5 - التفصيل لاحكام الحدود والفرائض والحقوق والقوانين السياسية والاجتماعية والدولية .
موقفنا من هذه الخصائص :
وما من ريب في أنّ هذه المقاييس المستمدة من تلك الخصائص العامة تلقي ضوءاً على‌ََ الموضوع ، وقد تؤدي الى‌ََ ترجيح لاحد الاحتمالين على‌ََ الآخر في السور التي لم يرد نص بأ نّها مكية أو مدنية ، فاذا كانت احدى‌ََ هذه السور تتفق مثلاً مع السور المكية في اسلوبها وايجازها وتجانسها الصوتي وتنديدها بالمشركين وتسفيه احلامهم ، فالأرجح أن تكون سورة مكية لاشتمالها على‌ََ هذه الخصائص العامة للسورة المكية .
ولكن الاعتماد على‌ََ تلك المقاييس انما يجوز اذا أدّت الى‌ََ العلم ، ولا يجوز الأخذ بها لمجرد الظن ؛ ففي المثال المتقدم حين نجد سورة تتفق مع السور المكية في اسلوبها وايجازها لا نستطيع أن نقول بأ نّها مكية لأجل ذلك ، إذ من الممكن أن تنزل سورة مدنية وهي تحمل بعض خصائص الاسلوب الشائع في القسم المكي . صحيح أ نّه يغلب على الظنّ أنّ السورة مكّية لقصرها وإيجازها ، ولكنّ الأخذ بالظنّ لا يجوز ؛ لأنّه قول من دون علم .
وأمّا إذا أدّت تلك المقاييس الى‌ََ الاطمئنان والتأكد من تأريخ السورة وأ نّها مكية أو مدنية فلا بأس بالاعتماد عليها عند ذاك .
ومثاله النصوص القرآنية التي تشتمل على‌ََ تشريعات للحرب والدولة مثلاً ، فإنّ هذه الخصيصة الموضوعية تدل على‌ََ أنّ النص مدني ، لأنّ طبيعة الدعوة في المرحلة الاولى‌ََ التي عاشتها قبل الهجرة لا تنسجم اطلاقاً مع التشريعات الدولية ، فنعرف من أجل هذا أنّ النص مدني نزل في المرحلة الثانية من الدعوة ، اي في عصر الدولة .
الشبهات المثارة حول المكّي والمدني :
لقد كان موضوع المكي والمدني من جملة الموضوعات القرآنية التي اُثيرت حولها الشبهة والجدل ، وتنطلق الشبهة هنا من اساس هو : أنّ الفروق والميزات التي تلاحظ بين القسم المكي من القرآن الكريم والقسم المدني منه تدعو في نظر بعض المستشرقين الى‌ََ الاعتقاد بأنّ القرآن قد خضع لظروف بشرية مختلفة - اجتماعية وشخصية - تركت آثارها على‌ََ اُسلوب القرآن وطريقة عرضه ، وعلى‌ََ مادته والموضوعات التي عنى‌ََ بها .
ويجدر بنا قبل ان ندخل في الحديث عن الشبهات ومناقشتها أنْ نلاحظ الأمرين التاليين ، لما لهما من تأثير في فهم البحث ومعرفة نتائجه :
الأوّل : أ نّه لا بد لنا ان نفرق منذ البدء بين فكرة تأثر القرآن الكريم ، وانفعاله بالظروف الموضوعية من البيئة وغيرها بمعنى‌ََ انطباعه بها ، وبين فكرة مراعاة القرآن لهذه الظروف بقصد تأثيره فيها وتطويرها لصالح الدعوة .
فإنّ الفكرة الاُولى‌ََ تعني في الحقيقة : بشرية القرآن ، حيث تفرض القرآن في مستوى‌ََ الواقع المعاش وجزءاً من البيئة الاجتماعية يتأثر بها كما يؤثر فيها ، بخلاف الفكرة الثانية فإ نّها لا تعني شيئاً من ذلك ، لأنّ طبيعة الموقف القرآني الذي يستهدف التغيير ، وطبيعة الاهداف والغايات التي يرمي القرآن الى‌ََ تحقيقها قد تفرض هذه المراعاة ، حيث تحدد الغاية والهدف طبيعة الاسلوب الذي يجب سلوكه للوصول اليها .
فهناك فرق بين أنْ تفرض الظروف والواقع أنفسهما على‌ََ الرسالة ، وبين أن تفرض الاهداف والغايات التي ترمي الرسالة الى‌ََ تحقيقها من خلال الواقع اسلوباً ومنهجاً للرسالة ؛ لأنّ الهدف والغاية ليسا شيئين منفصلين عن الرسالة ليكون تأثيرهما عليها تأثيراً مفروضاً من الخارج .
فنحن في الوقت الذي نرفض فيه الفكرة الاولى‌ََ بالنسبة الى‌ََ القرآن ، نجد أنفسنا لا تأبى‌ََ التمسك بالفكرة الثانية في تفسير الظواهر القرآنية المختلفة ، سواء ما يرتبط منها بالاسلوب القرآني أو الموضوع والمادة المعروضة فيه .
الثاني : أنّ تفسير أصل وجود الظاهرة القرآنية لا بد أن يعتبر هو المصدر الاساس في جميع الاحكام التي تصدر على‌ََ محتوى‌ََ القرآن واسلوب العرض فيه ؛ فقد تكون النقطة الواحدة في القرآن الكريم سبباً في إصدار حكمين مختلفين نتيجة للاختلاف في تفسير أصل وجود القرآن ، وسوف نورد بعض الامثلة لهذا الاختلاف في الحكم عندما نذكر أنّ من شروط المفسّر للقرآن ان يكون ذا ذهنية إسلامية .
ومن أجل ذلك فنحن لا نسوغ لانفسنا ان نقبل حكماً ما في تفسير نقطةحول القرآن الكريم ، لمجرد انسجام هذا الحكم مع تلك النقطة ، بل لا بد لنا أن ننظر أيضاً - بشكل مسبق - الى‌ََ مدى‌ََ انسجام الحكم مع التفسير الصحيح لوجود الظاهرة القرآنية نفسها .
إنّ الظاهرة القرآنية - كما سنشرحها في البحوث القادمة - ليست نتاجاً شخصياً لمحمد صلى الله عليه و آله ومن ثمَّ ليست نتاجاً بشرياً مطلقاً ، وانما هي نتاج الهي مرتبط بالسماء ، وعلى‌ََ هذا الاساس يمكننا ان نجزم بشكل مسبق ببطلان جميع الشبهات التي تثار حول المكي والمدني ، لأنّها في الحقيقة تفسيرات لظاهرة الفرق بين المكي والمدني على‌ََ أساس أنّ القرآن الكريم نتاج بشري .
وبالأحرى‌ََ يجب ان يقال : إنّ شبهات المكي والمدني ترتبط في الحقيقة بالشبهات التي اُثيرت حول الوحي ارتباطاً موضوعياً ، لأنّها ترتبط بفكرة انكار الوحي ، ولذا فسوف نناقش هذه الشبهات بعد التحدث عنها لايضاح بطلانها من ناحية ، وتقديم التفسير الصحيح للفرق بين المكي والمدني - بعد ذلك - من ناحية ثانية .
الشبهة حول المكّي والمدني :
للشبهة حول المكي والمدني جانبان : جانب يرتبط بالاسلوب القرآني فيها ، وجانب آخر يرتبط بالمادة والموضوعات التي عرض القرآن لها في هذين القسمين ، وفي كلّ من القسمين تصاغ الشبهة على‌ََ عدة اشكال ، نذكر منها صياغتين لكلّ واحد من القسمين :
أ - اسلوب المكي يمتاز بالشدة والعنف والسباب :
فقد قالوا : إنّ اسلوب القسم المكي من القرآن يمتاز عن القسم المدني بطابع الشدة والعنف ، بل السباب أيضاً ؛ وهذا يدل على‌ََ تأثر محمد بالبيئة التي كان يعيش فيها ، لأنّها مطبوعة بالغلظة والجهل ، ولذا يزول هذا الطابع عن القرآن الكريم عندما ينتقل محمد الى‌ََ مجتمع المدينة الذي ، تأثر فيه - بشكل أو بآخر - بحضارة أهل الكتاب وأساليبهم .
وتستشهد الشبهة بعد ذلك لهذه الملاحظة بالسور والآيات المكية المطبوعة بطابع الوعيد والتهديد والتعنيف ، أمثال : سورة ( المسد ) وسورة ( العصر ) وسورة ( التكاثر ) وسورة ( الفجر ) وغير ذلك .
ويمكن ان نناقش هذه الشبهة :
أوّلاً : بعدم اختصاص القسم المكي من القرآن الكريم بطابع الوعيد والانذار دون القسم المدني ، بل يشترك المكي والمدني بذلك ، كما أنّ القسم المدني لا يختص أيضاً - كما قد يفهم من الشبهة - بالاسلوب اللين الهادئ الذي يفيض سماحة وعفواً ، بل نجد ذلك في المكي ، والشواهد القرآنية على‌ََ ذلك كثيرة .
فمن القسم المدني الذي اتسم بالشدة والعنف قوله تعالى‌ََ : «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتّقوا النار التي وقودها الناس والحجارة اُعدَّت للكافرين »(3).
وقوله تعالى‌ََ : «الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلّاكما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس ... »(4)و «يا أ يّها الذين آمنوا اتّقوا اللَّه وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من اللَّه ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون »(5).
وقوله تعالى‌ََ : «إنّ الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللَّه شيئاً واُولئك هم وقود النار * كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآياتنا فأخذهم اللَّه بذنوبهم واللَّه شديد العقاب * قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى‌ََ جهنم وبئس المهاد »(6).
كما نجد في القسم المكي ليناً وسماحة كما جاء في قوله تعالى‌ََ : «ومن أحسن قولاً ممّن دعا إلى‌ََ اللَّه وعمل صالحاً وقال انّني من المسلمين * لا تستوي الحسنة ولا السيّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأ نّه وليّ حميم * وما يلقّاها إلّاالذين صبروا وما يلقّاها إلّاذو حظٍّ عظيم »(7).
وقوله تعالى‌ََ : «فما اُوتيتم من شي‌ء فمتاع الحياة الدنيا وما عند اللَّه خير وأبقى‌ََ للذين آمنوا وعلى‌ََ ربّهم يتوكّلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى‌ََ بينهم وممّا رزقناهم ينفقون * والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون * وجزاء سيّئة سيّئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على‌ََ اللَّه إنّه لا يحبّ الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فاُولئك ما عليهم من سبيل * إنّما السبيل على‌ََ الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحقّ اُولئك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عزم الاُمور »(8).
وقوله تعالى‌ََ : «ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم * لا تمدنَّ عينيك إلى‌ََ ما متّعنا به أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين »(9).
وقوله تعالى‌ََ : «قل يا عبادي الذين أسرفوا على‌ََ أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللَّه إن اللَّه يغفر الذنوب جميعاً إنّه هو الغفور الرحيم »(10).
وثانياً : إنّه ليس في القرآن الكريم سبابٌ وشتمٌ كيف وقد نهى‌ََ القرآن نفسه عن السب والشتم ، حيث قال تعالى‌ََ : «ولا تسبّوا الذين يدعون من دون اللَّه فيسبّوا اللَّه عدواً بغير علم ... »(11).
وليس في سورة ( المسد ) أو ( التكاثر ) سب أو بذاءة - كما يحاول المستشرقون ان يقولوا ذلك - وانما فيهما تحذير ووعيد بالمصير الذي ينتهي إليه أبو لهب والكافرون باللَّه .
نعم ، يوجد في القرآن الكريم تقريع وتأنيب عنيف ، وهو موجود في المدني كما هو في المكي - وان كان يكثر وجوده في المكي - بالنظر لمراعاة ظروف الاضطهاد والقسوة التي كانت تمر بها الدعوة ، الامر الذي اقتضى‌ََ ان يواجه القرآن ذلك بالعنف والتقريع - احياناً - لتقوية معنويات المسلمين من جانب ، وتحطيم معنويات المقاومة من جانب آخر ، كما سوف نشير إليه قريباً .
ومن هذا التقريع في السور المدنية قوله تعالى‌ََ : «إنّ الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم اللَّه على‌ََ قلوبهم وعلى‌ََ سمعهم وعلى‌ََ أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم * ومن الناس من يقول آمنّا باللَّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ... صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون »(12).
وقوله تعالى‌ََ : «... وضربت عليهم الذلّة والمسكنة وباؤا بغضب من اللَّه ذلك بأ نّهم كانوا يكفرون بآيات اللَّه ويقتلون النبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون »(13)وقوله : «بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللَّه بغياً أن ينزّل اللَّه من فضله على‌ََ من يشاء من عباده فباؤا بغضب على‌ََ غضب وللكافرين عذاب مهين »(14).
وقوله تعالى‌ََ : «إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى‌ََ من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب اُولئك يلعنهم اللَّه ويلعنهم اللاعنون »(15).
وقوله تعالى‌ََ : «إذ قال اللَّه يا عيسى‌ََ إنّي متوفّيك ورافعك إليَّ ومطهّرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتّبعوك فوق الذين كفروا إلى‌ََ يوم القيامة ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأمّا الذين كفروا فاُعذّبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين »(16).
وقوله تعالى‌ََ : «قل هل اُ نَبِّئُكم بشرٍّ من ذلك مثوبة عند اللَّه من لعنه اللَّه وغضب عليه وجعل منهم القرَدَة والخنازير وعبد الطاغوت اُولئك شرٌّ مكاناً وأضلّ عن سواء السبيل »(17).
وقوله تعالى‌ََ : «وقالت اليهود يد اللَّه مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ... »(18).
ب - اسلوب القسم المكي يمتاز بقصر السور والآيات :
وقالوا أيضاً : إنّ من الملاحظ قصر السور والآيات في القسم المكي على‌ََ عكس القسم المدني الذي جاء بشي‌ء من التفصيل والاسهاب؛ فنحن نجد أنّ السور المكية جاءت قصيرة ومعروضة بشكل موجز ، في الوقت الذي نجد في القسم المدني سورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرها من السور الطوال .
وهذا يدل على‌ََ انقطاع الصلة بين القسم المكي والقسم المدني ، وتأثرهما بالبيئة التي كان يعيشها محمد صلى الله عليه و آله ، فإنّ مجتمع مكة لما كان مجتمعاً اُ مّياً لم يكن النبي بقدرته التبسط في شرح المفاهيم وتفصيلها ، وانما واتته القدرة على‌ََ ذلك عندما أخذ يعيش مجتمع المثقفين المتحضر في يثرب .
وتناقش هذه الشبهة بالامرين التاليين :
الاول : أنّ القصر والايجاز ليسا مختصين بالقسم المكي ، بل توجد في القسم المدني سور قصيرة أيضاً كالنصر والزلزلة والبينة وغيرها ، كما أنّ الطول والتفصيل ليسا مختصين بالقسم المدني ، بل توجد في المكي أيضاً سور طويلة ، كالانعام والاعراف .
وقد يقصد من اختصاص المكي بالقصر والايجاز : أنّ هذا الشي‌ء هو الغالب الشائع فيه .
وقد يكون هذا صحيحاً ، ولكنه لا يدل بوجه من الوجوه على‌ََ انقطاع الصلة بين القسمين المذكورين من القرآن الكريم ، لأنه يكفي في تحقيق هذه الصلة ان يأتي القرآن الكريم ببعض السور الطويلة المفصلة في القسم المكي ، كدليل على‌ََ القدرة والتمكن من الارتفاع الى‌ََ مستوى‌ََ التفصيل في المفاهيم والموضوعات .
بالإضافة الى‌ََ أنّ من الملاحظ وجود آيات مكية قد اُثبتت في السور المدنية وبالعكس ، وفي كلا الحالتين نجد التلاحم والانسجام في السورة ، وكأ نّها نزلت مرة واحدة ، الامر الذي يدل بوضوح على‌ََ وجود الصلة التامة بين القسمين .
الثاني : أنّ الدراسات اللغوية التي قام بها العلماء المسلمون وغيرهم دلت على‌ََ أنّ الايجاز يعتبر مظهراً من مظاهر القدرة الخارقة على‌ََ التعبير ، وهو بالتالي من مظاهر الاعجاز القرآني ، خصوصاً اذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ القرآن قد تحدى‌ََ العرب بأن يأتوا بسورة من مثله ، حيث يكون التحدي بالسورة القصيرة أروع وأبلغ منه حين يكون بسورة مفصلة .
ج - لم يتناول القسم المكي في مادته التشريع والاحكام :
وقالوا : إنّ القسم المكي لم يتناول - فيما تناول من موضوعات - جانب التشريع من أحكام وأنظمة ، بينما تناول القسم المدني هذا الجانب من التفصيل . وهذا يعبر عن جانب آخر من التأثر بالبيئة والظروف الاجتماعية ، حيث لم يكن مجتمع مكة مجتمعاً متحضراً ، ولم يكن قد انفتح على‌ََ معارف أهل الكتاب وتشريعاتهم ، على‌ََ خلاف مجتمع المدينة الذي تأثر الى‌ََ حد بعيد بالثقافة والمعرفة للأديان السماوية كاليهودية والنصرانية .
وتناقش هذه الشبهة بالأمرين التاليين أيضاً :
اولاً : إنّ القسم المكي لم يهمل جانب التشريع ، وانما تناول اُصوله العامة وجملة مقاصد الدين ، كما جاء في قوله تعالى‌ََ : «قل تعالوا اتل ما حرّم ربّكم عليكم أ لّاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرَّم اللَّه إلّابالحقّ ذلكم وصّاكم به لعلّكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلّابالتي هي أحسن حتّى‌ََ يبلغ أشدّه ... »(19).
بالإضافة الى‌ََ أ نّنا نجد في القسم المكي ، وفي سورة الانعام‌(20) بالخصوص مناقشة لكثير من تشريعات أهل الكتاب والتزاماتهم ، وهذا يدل على‌ََ معرفة القرآن الكريم بهذه التشريعات وغيرها مسبقاً .
وثانياً : إنّ هذه الظاهرة يمكن ان نطرح في تفسيرها نظرية اُخرى‌ََ تنسجم مع الأساس الموضوعي لوجود الظاهرة القرآنية نفسها ، وهذه النظرية هي ان يقال : إنّ الحديث عن التشريع في مكة كان شيئاً سابقاً لأوانه ، حيث لم يتسلم الاسلام حينذاك زمام الحكم بعد ، بينما الامر في المدينة على‌ََ العكس ؛ فلم يتناول القسم المكي التشريع ، لأن ذلك لا يتفق مع المرحلة التي تمر بها الدعوة ، وانما تناول الجوانب الاُخرى‌ََ التي تنسجم مع الموقف العام ، كما سوف نشرح ذلك قريباً .
د - لم يتناول القسم المكي في مادته الأدلة والبراهين :
وقالوا : إنّ القسم المكي لم يتناول أيضاً الأدلة والبراهين على‌ََ العقيدة واُصولها ، على‌ََ خلاف القسم المدني ؛ وهذا تعبير آخر أيضاً عن تأثر القرآن بالظروف الاجتماعية والبيئة ، اذ عجزت الظاهرة القرآنية - بنظر هؤلاء - عن تناول هذا الجانب الذي يدل على‌ََ عمق النظر في الحقائق الكونية ، عندما كان يعيش محمد صلى الله عليه و آله في مكة مجتمع الاُميين ، بينما ارتفع مستوى‌ََ القرآن في هذا الجانب عندما أخذ محمد صلى الله عليه و آله يعيش الى‌ََ جانب أهل الكتاب في المدينة ، وذلك نتيجة لتأثره بهم ولتطور الظاهرة القرآنية نفسها أيضاً .
وتناقش هذه الشبهة من وجهين :
الاول : أنّ القسم المكي لم يخلُ من الأدلة والبراهين بل تناولها في كثير من‌ سوره ، والشواهد القرآنية على‌ََ ذلك كثيرة وفي شتى‌ََ المجالات فمن موارد الاستدلال على‌ََ التوحيد قوله تعالى‌ََ :
«ما اتّخذ اللَّه من ولد وما كان معه من إله اذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على‌ََ بعضٍ سبحان اللَّه عمّا يصفون »(21).
وقوله تعالى‌ََ : «لو كان فيهما آلهة إلّااللَّه لفسدتا فسبحان اللَّه ربّ العرش عمّا يصفون * لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون * أم اتّخذوا من دونه آلهةً قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي ، بل أكثرهم لا يعلمون الحقّ فهم معرضون »(22).
وبصدد الاستدلال على‌ََ نبوة محمد صلى الله عليه و آله وارتباط ما جاء به بالسماء : «وما كنت تتلو من قبله من كتابٍ ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون * بل هو آيات بيّنات في صدور الذين اُوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلّاالظالمون * وقالوا لولا اُنزل عليه آياتٌ من ربّه قل إنّما الآيات عند اللَّه وإنّما أنا نذير مبين * أوَ لم يكفهم انّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى‌ََ عليهم إنّ في ذلك لرحمة وذكرى‌ََ لقومٍ يؤمنون »(23).
وبصدد الاستدلال على‌ََ البعث والجزاء قوله تعالى‌ََ : «ونزّلنا من السّماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنّات وحبّ الحصيد * والنخل باسقات لها طلعٌ نضيد * رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج ... أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلقٍ جديد »(24).
وقوله تعالى‌ََ : «أفحسبتم انّما خلقناكم عبثاً وانّكم إلينا لا ترجعون »(25).
وقوله تعالى‌ََ : «أم حسب الذين اجترحوا السيّئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون * وخلق اللَّه السّماوات والأرض بالحقّ ولتجزى‌ََ كلّ نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون »(26).
وهكذا تتناول الأدلّة جوانب اُخرى‌ََ من العقيدة الاسلامية والمفاهيم العامة .
الثاني : أ نّه لو تنازلنا عن ذلك فمن الممكن تفسير هذا الفرق على‌ََ اساس مراعاة طبيعة موقف المواجهة من الدعوة ، حيث كانت تواجه الدعوة في مكة مشركي العرب وعبدة الأصنام ، والأدلة التي كان يواجه القرآن بها هؤلاء أدلة وجدانية ، من الممكن ان تستوعبها مداركهم ويقتضيها وضوح بطلان العقيدة الوثنية ، وحين اختلفت طبيعة الموقف ، وأصبحت الأفكار المواجهة تمتاز بكثير من التعقيد والتزييف والانحراف - كما هو الحال في عقائد أهل الكتاب - اقتضى‌ََ الموقف مواجهتها ، باسلوب آخر من البرهان والدليل أكثر تعقيداً وتفصيلاً(27) .
الفروق الحقيقية بين المكي والمدني :
ولم نجد في الشبهات التي تناولناها - ولا نجد في غيرها - ما يمكنه‌ أن‌ يصمد أمام النقد العلمي أو الدرس الموضوعي ، ولكن مع كل ذلك يجدر بنا أن‌ نقدم تفسيراً منطقياً لظاهرة الفرق بين القسم المكي والقسم المدني ، وان‌ كنا قد ألمحنا الى‌ََ جانب من هذا التفسير عندما تناولنا الشبهات بالنقد والمناقشة .
ويحسن بنا ان نذكر الفروق الحقيقية التي امتاز بها المكي عن المدني سواء ما يتعلق بالاسلوب أو بالموضوع الذي تناوله القرآن ، ثم نفسر هذه الفروق على‌ََ اساس الفكرة التي أشرنا إليها في صدر البحث ، والتي تقول : إنّ هذه الفروق كانت نتيجة لمراعاة ظروف الدعوة والأهداف التي تسعى‌ََ الى‌ََ تحقيقها ، لأنّ الهدف والغاية يلقيان - في كثير من الأحيان - بظلّهما على‌ََ طريق العرض والمادة المعروضة .
وتُلخص هذه الفروق والخصائص التي يمتاز بها المكي عن المدني غالباً بالاُمور التالية:
1 - ان المكي عالج بشكل أساسي مبادئ الشرك والوثنية ، واُسسها النفسية والفكرية ، ومؤداها الأخلاقي والاجتماعي .
2 - وقد اكد على ما في الكون من بدائع الخلقة وعجائب التكوين ، الأمر الذي يشهد بوجود الخالق المدبر لها . كما أكد ( عالم الغيب ) و ( البعث والجزاء ) و ( الوحي ) و ( النبوّات ) وشرح ما يرتبط بذلك من أدلة وبراهين ، كما خاطب الوجدان الانساني وما أودعه اللَّه فيه من عقل وحكمة وشعور .
3 - والى‌ََ جانب ذلك تحدث عن الأخلاق بمفاهيمها العامة ، مع ملاحظة الجانب التطبيقي منها وحذر من الانحراف فيها كالكفر والعصيان والجهل‌ والعدوان وسفك الدماء ووأد البنات واستباحة الأعراض وأكل أموال اليتامى‌ََ ، الى‌ََ غير ذلك ، وعرض الى‌ََ جانب ذلك الوجه الصحيح للأخلاق ، كالايمان باللَّه والطاعة له والعلم والمحبة والرحمة والعفو والصبر والاخلاص واحترام الآخرين وبر الوالدين واكرام الجار ونظافة اللسان والصدق في المعاملة والتوكل على‌ََ اللَّه ، وغير ذلك .
4 - وقد تحدث عن قصص الأنبياء والرسل والمواقف المختلفة التي كانوا يواجهونها من قبل أقوامهم واُممهم ، وما يستنبط من ذلك من العبر والمواعظ .
5 - انه سلك طريق الايقاع الصوتي والايجاز في الخطاب ، سواء في الآيات أو السور .
ويكاد أن يكون المدني بخلاف ذلك على‌ََ الغالب ، وان كان قد امتاز بالأمرين التاليين :
1 - دعوة أهل الكتاب الى‌ََ الاسلام مع مناقشتهم ، وبيان انحرافهم عن العقيدة والمناهج الحقة التي اُنزلت على‌ََ انبيائهم .
2 - بيان التفصيلات في التشريع والنظام ، ومعالجة مشاكل العلاقات المختلفة في المجتمع الانساني .
التفسير الصحيح للفرق بين المكي والمدني :
وحين نريد أن ندرس ظاهرة الفرق بين المكي والمدني من خلال هذه الخصائص والميزات نجد :
أوّلاً : أنّ الدعوة الاسلامية بدأت في مكة وعاشت فيها ثلاث عشرة سنة ، وهذه الفترة منسوبة الى‌ََ زمن نزول القرآن ، تعتبر في الحقيقة فترة إرساء اُسس العقيدة الإسلامية بجوانبها المختلفة سواء ما يتعلق بالجانب الإلهي أو الغيبي أو الأخلاقي أو الاجتماعي وسواء ما يتعلّق بالجانب الايجابي ، كعرض مفاهيمها على الكون والحياة والأخلاق والمجتمع ، أو ما يتعلق بالجانب السلبي ، كمناقشة الأفكار الكافرة التي كانت تسود المجتمع آنذاك .
وهذه الحقيقة تفرض - بطبيعة الحال - ان يكون القسم المكي أكثر شمولاً واتّساعاً من جانب وأن يكون مرتبطاً - بمادته وموضوعاته - بالاُسس والركائز للرسالة الجديدة من جانب آخر ، وهذا هو الذي يفسّر لنا غلبة المكي على‌ََ المدني من الناحية الكمية ، مع أنّ الفترة المدنية تبدو - تأريخياً - وكأ نّها زاخرة بالأحداث الجسام ، والمجتمع المدني أكثر تعقيداً ومشاكل ، كما أنّ هذا بنفسه بالإضافة إلى الفكرة التي أشرنا إليها وهي مراعاة الظروف التي تشير بها الدعوة يفسّر لنا هذه الخصائص والميّزات التي غلبت على المكّي من جانب ، والمدني من جانب آخر . فأمّا بالنسبة إلى الخصيصة الاُولى : نلاحظ أنّ المجتمع المكّي كان مجتمعاً يتّسم بطابع الوثنية في الجانب العقيدي بالإضافة إلى أنّ إيضاح الموقف تجاهها يشكّل نقطة أساسية في القاعدة للرسالة الجديدة لأنّها تتبنّى التوحيد الخالص كأساس لكلّ جوانبها وتفصيلاتها الاُخرى . فكان من الطبيعي التأكيد على فكرة رفض الشرك والوثنية والدخول في مناقشة طويلة معها بشتّى الأساليب والطرق .
وبالنسبة إلى الخصيصة الثانية : نلاحظ أنّ المجتمع المكّي لم يكن يؤمن بفكرة الإله الواحد كما لا يؤمن بعوالم الغيب والبعث والجزاء والوحي وغير ذلك ، وهذه الافكار من القواعد الأساسية للرسالة والعقيدة الاسلامية .
بالإضافة الى‌ََ أنّ مجتمع أهل الكتاب كان يؤمن بهذه الاصول جميعها ، فكان من الضروري أن يؤكد القسم المكي على ذلك ، انسجاماً مع طبيعة المرحلة المكية التي تعتبر مرحلة متقدمة ، كما أنّ بيانها في هذه المرحلة يجعل المرحلة الثانية في غنى‌ََ عن بيانها مرة اُخرى‌ََ .
وبالنسبة الى‌ََ الخصيصة الثالثة : فلعل التأكيد على الاخلاق في القسم المكي دون المدني كان بسبب العوامل الثلاثة التالية :
أ - إنّ الاخلاق تعتبر قاعدة النظام الاجتماعي ، فالتأكيد عليها يعني - في الحقيقة - ارساء لقاعدة النظام الاجتماعي الذي يستهدفه القرآن .
ب - كما أنّ الدعوة كانت بحاجة - من اجل نجاحها - الى‌ََ استثارة العواطف الانسانية الخيرة ، ليكون نفوذها في المجتمع وتأثيرها في الافراد عن طريق مخاطبة هذه العواطف ، والأخلاق هي الأساس الحقيقي لكل هذه العواطف ، وهي الرصيد الذي يمدها بالحياة والنمو .
ج - إنّ المجتمع المدني كان يمارس الأخلاق من خلال التطبيق الذي كان يباشره الرسول محمد صلى الله عليه و آله بنفسه ، فلم يكن بحاجة كبيرة إلى‌ََ التأكيد على المفاهيم الأخلاقية ، على‌ََ العكس من المجتمع المكي الذي كان يعيش فيه المسلمون حياة الاضطهاد ، وكان يمارس التطبيق فيه الأخلاق الجاهلية .
وبالنسبة للخصيصة الرابعة : نجد القصص تتناول - من حيث الموضوع - أكثر النواحي التي عالجها القرآن الكريم ، من العقيدة بالاله الواحد وعالم الغيب والوحي والأخلاق والبعث والجزاء ، بالإضافة الى‌ََ أ نّها تصور المراحل المتعددة للدعوة والمواقف المختلفة منها ، والقوانين الاجتماعية التي تتحكم فيها وفي نتائجها ، والمصير الذي يواجهه أعداؤها .
والى‌ََ جانب ذلك تعتبر القصة في القرآن أحد اسباب الاعجاز فيه ، وأحد الأدلة على‌ََ ارتباطه بالسماء .
وكل هذه الاُمور لها صلة وثيقة بالظروف التي كانت تمر بها الدعوة في مكة ، ولها تأثير كبير في تطويرها لصالح الدعوة واهدافها الرئيسية .
ومع كل هذا لم يهمل القسم المدني القصة مطلقة ، بل تناولها بالشكل الذي ينسجم مع طبيعة المرحلة التي تمر بها ، كما سوف نتعرف على‌ََ ذلك عند دراستنا للقصة .
وبالنسبة الى‌ََ الخصيصة الخامسة : فقد كان لها ارتباط وثيق بجوانب مرحلية واعجازية ، لأنّ المرحلة كانت تفرض كسر طوق الأفكار الجاهلية ، الذي كان مضروباً على‌ََ المجتمع ، فكان لهذا الاسلوب الصاعق الحاد تأثير فعال في تذليل الصعوبات ، وتحطيم معنويات المقاومة العنيفة .
وحين يتحدى‌ََ القرآن الكريم العرب في أن يأتوا بسورة منه ، يكون الايجاز في السورة أبلغ في ايضاح الاعجاز القرآني ، واعمق تأثيراً وابعد مدى‌ََ .
وقد كانت المعركة - [ بالإضافة ] الى‌ََ ذلك كله - في أولها معركة شعارات وتوطيد مفاهيم عامة عن الكون والحياة ، والايجاز والقصر ينسجم مع واقع المعركة واطارها ، أكثر من الدخول في تفصيلات واسعة ، ولهذا نشاهد السور القصيرة تمثل المرحلة الاولى‌ََ تقريباً من مراحل القسم المكي .
وهذه الملاحظات لم تكن تتوفر في مجتمع المدينة بعد أن أصبح الاسلام هو الحاكم المسيطر على‌ََ المجتمع ، وبعد أن اصبحت مسألة الوحي والاتصال بالسماء مسألة واضحة ، وبعد أن جاء دور آخر للمعركة يفرض اُسلوباً آخر في العرض والبيان .
ومن هذا الدرس لخصائص ومميزات القسم المكي تتضح مبررات خصائص القسم المدني ، من الدخول في تفصيلات الأحكام الشرعية والانظمة الاجتماعية ، أو مناقشة أهل الكتاب في عقائدهم وانحرافاتهم ، حيث فرضت ظروف الحكم في المدينة والحاجة الى‌ََ تنظيم العلاقات بين الناس بيان هذه التفصيلات في الأنظمة .
كما أنّ المعركة في المدينة انتقلت من الاصول والاسس العامة للعقيدة الى‌ََ جوانب تفصيلية منها ، ترتبط بحدودها واشكالها وبالعمل على‌ََ تقويم الانحراف الذي وضعه أهل الكتاب فيها .
وبهذا نفسّر الفرق بين المكي والمدني ، بالشكل الذي ينسجم مع فكرتنا عن القرآن ، وفكرتنا عن مراعاته للظروف من أجل تحقيق أهدافه وغاياته .
المصادر :
1- للمزيد من التوضيح يراجع بحث ( النسخ ) للسيد الشهيد محمد باقر الصدر قس الله سره الشريف
2- الحجرات : 13
3- البقرة : 24
4- البقرة : 275
5- البقرة : 278 ، 279
6- آل عمران : 10 - 12
7- فصلت : 33 - 35
8- الشورى‌ََ : 36 - 43
9- الحجر : 87 - 88
10- الزمر : 53
11- الأنعام : 108
12- البقرة : 6 - 18
13- البقرة : 61
14- البقرة : 90
15- البقرة : 159
16- آل عمران : 55 و 56
17- المائدة : 60
18- المائدة : 64
19- الانعام : 151 ، 152
20- الآيات : 119 - 121 و 138 - 146
21- المؤمنون : 91
22- الانبياء : 22 - 24
23- العنكبوت : 48 - 51
24- ق : 9 - 11 و 15
25- المؤمنون : 115
26- الجاثية : 21 ، 22
27- راجع ما ذكره الزرقاني في « مناهل العرفان » 1 : 199

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمام الحسن العسكري (ع) والتمهيد لولادة وغيبة ...
إنّ الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة ...
الإمام موسى الكاظم عليه السلام والثورات العلوية
زيارة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)
الصلاة من أهم العبادات
علة الإبطاء في الإجابة و النهي عن الفتور في ...
ألقاب الإمام الرضا عليه السلام
كلام محمد بن علي الباقر ع
منهج القرآن لإحداث التغيير
برهان على صحة الرسالة

 
user comment