عربي
Wednesday 24th of April 2024
0
نفر 0

الحریة فی القرآن الکریم

الحریة فی القرآن الکریم


یتنوع مدلول الحریة بتنوع استعمال هذا المفهوم حتى أصبح فی عالم الیوم یُرفع کشعار سواء فی البلدان المتحضرة أو فی تلک التی تنعدم فیها المساحات المتاحة لتطبیق هذا الشعار سواء فی شقه السیاسی الذی یعبر عنه ما بات یعرف بالدیمقراطیة أو بشقیه الاجتماعی والاقتصادی فی عالم الرأسمال وحریة التنقل وحریة المرأة وغیرها من المصادیق التی باتت أکثر من أن تعد أو تحصى حتى بات بعضه تدور حوله السجالات جراء تعارض تطبیق الحریة مقابل بعض القیم السائدة والذی یبرز بشکل أساسی فی الدول التقلیدیة فی حین لم یأفل هذا الجدل فی البلدان المتقدمة فهو ما زال موجوداً وإن بوتیرة ضامرة وخافتة بإزاء غیرها من شعوب وأمم أخرى.
من جهة ثانیة ارتبط مفهوم الحریة بکونه أحد إبداعات فلاسفة ومفکری الغرب ونخبه إن لجهة تأصیله أو لجهة جعله مطابقاً للواقع المعاش، حتى غدا الیوم معیاراً للتمایز الحضاری وشعاراً ینبغی له وفق منطق الغرب أن یعم العالم وأن یتمفصل مع الدیمقراطیة والرأسمالیة ومع سائر أنماط الثقافة السائدة.
فی العالم الإسلامی حیث تعثّرت فی العدید من أقطاره تجربة الحریة یخضع هذا المفهوم للمساءلة إن لجهة مفکری الغرب أنفسهم أو لجهة المفکرین من داخل العالم الإسلامی نفسه وبالتالی تصبح الإشکالیة المطروحة حوله تدور حول استبیان المرتکزات الأصیلة للحریة فی الإسلام نفسه قبل أن یکون لدى المسلمین باعتبار أن النظریة تسبق التطبیق، وأن عدم سلامة التطبیق لا یعنی أن العقم موجود فی النظریة.
على هذا الأساس تسعى هذه المقاربة إلى استکشاف هذه المبادئ وهذه المرتکزات فی أصولها النظریة من خلال النصوص سواء النص القرآنی أو النصوص الذی تتصل بالسنة النبویة باعتبار أن هذه النصوص هی بمثابة الموئل التی سترتکز علیه التجربة وکذلک هی الأساس بالنسبة للنص الفقهی فی شقه الذی سیتعاطى مع العلاقات ومع التجربة فی دائرتها السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة.
ومن هنا سوف نجد عدّة مقاربات حول الحریة سواء على المستوى النظری أو على المستوى التطبیقی. وهی لا تخلو من أهمیة ومن فائدة للرصید المعرفی لالتزامها جادة البحث العلمی الرصین ولمراعاتها الضوابط البحثیة ولغناها بالمقارنات وبالتحلیل الذی لا یخلو من الکثیر من الموضوعیة والتجرد.

مفهوم الحریة فی الکتاب والسنة

إن الکلام عن الحریة یعدّ فی هذه العصور من الأمور التی یصعب على الباحث الإحاطة بها؛ لما لها من مساحة واسعة على الساحة الإنسانیّة بشکل عام، خصوصاً وأن هذه الکلمة لها وقعها الخاص على السامع لها والمدرک لمعناها، حتى أضحت من الکلمات التی یأنس بها عامة الناس، وتدغدغ أحاسیسهم، وتتلاعب بمشاعرهم وعواطفهم، ویرفعها شعاراً کلّ من یرید تغییراً أو إصلاحاً فی أی مجتمع کان، ویفخر بها کل من تنسب إلیه من أصحاب الفکر والمعرفة.
إن الأدیان السماویة ـ وخصوصاً الإسلام منها ـ کان هدفها الأول تحقیق السعادة للناس والأخذ بأیدیهم نحو بر الأمان، قال تعالى:﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَیِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْکِتابَ وَ الْمیزانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدیدَ فیهِ بَأْسٌ شَدیدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِیَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ یَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَیْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِیٌّ عَزیزٌ﴾ الحدید: 25
وبما أن الإسلام دین ودولة، کان لا بدّ من وضع الأنظمة وسنّ القوانین لتوصل الإنسان إلى السعادة. وإذا ما أُرید لأی تشریع أن یکون عادلاً، فلا بد وأن یکون منبثقاً عن الحریة، وإلا أخطأ هدفه، وفَقَدَ غایته.
ثم إن الحریة فی المفهوم الإسلامی تارة تطلق ویراد بها معنى مقابل العبودیة، وأخرى یراد بها الاختیار والقبول والرضا، فیقال: فلان حرٌّ فی تصرفاته، أی غیر مجبر أو مکره، وقد تطلق ویراد بها غیر ما ذُکر. وکیف کان، فإن الإسلام جاء لرفع القیود والأغلال عن الناس التی هی نتاج فعل الظالمین، قال تعالى: ﴿الَّذینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الْأُمِّیَّ الَّذی یَجِدُونَهُ مَکْتُوباً عِنْدَهُمْ فِی التَّوْراةِ وَ الْإِنْجیلِ یَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ یَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْکَرِ وَ یُحِلُّ لَهُمُ الطَّیِّباتِ وَ یُحَرِّمُ عَلَیْهِمُ الْخَبائِثَ وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتی‌ کانَتْ عَلَیْهِمْ فَالَّذینَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذی أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ الاعراف:157
ومن هنا کانت المجتمعات ترزح تحت نیر عادات خرافیة وممارسات وهمیة أثقلت کاهل البشریة ومنعتها من التقدم والتطور، حتى سطعت شمس الإسلام على البسیطة، فدعا، بل عمل على التحرّر من هذه التقالید ونبذها وراء ظهورهم، وأمر باتّباع صوت العقل، ونداء الفکر النابعین من الفطرة السلیمة، وقد ورد فی القرآن الکریم ما یناهز التسعمائة آیة تدعو إلى النظر والتأمل وتحکیم العقل.
إن کلمة الحریة لم ترد فی القرآن الکریم، وإنما وردت مرادفاتها ومشتقّاتها کحرّ، وتحریر، ومحرر، وعتق، وما شابه ذلک.
وأمّا الآیات التی وردت فی القرآن الکریم، ویمکن الاستدلال بها على الحریة فی المفهوم الإسلامی، فیمکن تقسیمها إلى عدة مجموعات.
المجموعة الأولى:
الآیات التی تدل على حریة الاعتقاد وأن الناس لا یجبرون على اعتناق أی عقیدة، ولا یُکرهون على اتخاذ الدین، وهی آیات عدیدة أبرزها
1ـ ﴿ لا إِکْراهَ فِی الدِّینِ قَدْ تَبَیَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَیِّ فَمَنْ یَکْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ یُؤْمِنْ بِاللَّهِ فقد استَمْسَکَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‌ لاَ انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَمیعٌ عَلیمٌ ﴾ البقرة ٢٥٦
2- ﴿ وَ لَوْ شاءَ رَبُّکَ لَآمَنَ مَنْ فِی الْأَرْضِ کُلُّهُمْ جَمیعاً أَ فَأَنْتَ تُکْرِهُ النَّاسَ حَتَّى یَکُونُوا مُؤْمِنین ﴾ ‌یونس ٩٩
3ـ ﴿ قالَ یا قَوْمِ أَ رَأَیْتُمْ إِنْ کُنْتُ عَلى‌ بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّی وَ آتانی‌ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّیَتْ عَلَیْکُمْ أَ نُلْزِمُکُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها کارِهُون َ﴾ هود ٢٨
4ـ ﴿ قُلْ یا أَیُّهَا الْکافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَکُمْ دینُکُمْ وَ لِیَ دینِ ﴾ الکافرون 1 ـ ٦
5ـ ﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دینی‌ . فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرینَ الَّذینَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلیهِمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ أَلا ذلِکَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبین﴾ الزمر : 14 ـ ١٥
6ـ ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْیَکْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمینَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ یَسْتَغیثُوا یُغاثُوا بِماءٍ کَالْمُهْلِ یَشْوِی الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ الکهف : ٢٩
المجموعة الثانیة:
الآیات التی تدلّ على أن الإنسان حرٌّ فی اختیاره، ثم علیه تقع مسؤولیة هذا الاختیار، ویتحمّل جمیع تبعات قراراته . والمحاسبة من قبل الله تعالى یوم القیامة للخلْق ستکون على أساس ما منحهم من القدرة على الاختیار بین الفعل والترک، وهذا ما یصطلح علیه بالحریة التشریعیة، وبالتالی فإن الناس مسؤولون عن أفعالهم، ومحاسبون عما یصدر عنهم، فتکون الحریة هی الأساس فی اختیار الإنسان، والاختیار هو السبب فی المسؤولیة والجزاء .
وبعبارة أخرى: الحریة فی المفهوم الإسلامی لا تنفکّ عن الالتزام ولا تفارقها المسؤولیة، بل یصح أن یقال : لا اختیار بلا مسؤولیة، ولا مسؤولیة بلا اختیار، أی بلا حریة . وهذا یقال أیضاً حتى فی الفضائل الأخلاقیة، فإنها تحتاج فی تحقق فضیلتها إلى إرادة واختیار، فالتقوى، والصدق، والعفّة، والأمانة، وأمثالها لا تعدّ فضیلة إلا إذا اختارها الإنسان بنفسه من غیر إجبار أو إکراه .
ومن هنا بحث علماء العقیدة الإسلامیة هذا الترابط والالتزام بین الحریة والمسؤولیة بحثاً مستفیضاً، وأثبتوا على أساسه رؤیتهم لتفسیر العمل والسلوک الإنسانی، ومدى ارتباطه بعدل الله تعالى، وخلصوا إلى أن الذی لا یملک اختیاراً کالمضطر والمجبر والمکره لا یحاسب أمام الله تبارک وتعالى .
ومن الآیات التی تدل على ذلک أی على أنه حر ومسؤول قوله تعالى :
1ـ ﴿ مَنِ اهْتَدى‌ فَإِنَّما یَهْتَدی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‌ وَ ما کُنَّا مُعَذِّبینَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ الإسراء : ١٥
2ـ ﴿ وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى‌ فَإِنَّما یَهْتَدی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرین﴾‌ النمل : ٩٢
3ـ ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى‌ نَفْسی‌ وَ إِنِ اهْتَدَیْتُ فَبِما یُوحی‌ إِلَیَّ رَبِّی إِنَّهُ سَمیعٌ قَریب ﴾ ‌سبأ : ٥٠
4ـ ﴿ قَدْ جاءَکُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِیَ فَعَلَیْها وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِحَفیظ ﴾ الأنعام : ١٠٤
5ـ ﴿ یا أَیُّهَا الَّذینَ آمَنُوا عَلَیْکُمْ أَنْفُسَکُمْ لا یَضُرُّکُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَیْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمیعاً فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ تَعْمَلُون َ﴾ المائدة : ١٠٥
6ـ ﴿ قُلْ یا أَیُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَکُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنِ اهْتَدى‌ فَإِنَّما یَهْتَدی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَ ما أَنَا عَلَیْکُمْ بِوَکیلٍ ﴾ یونس : 108
7ـ ﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فی‌ شِقاقٍ فَسَیَکْفیکَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمیعُ الْعَلیم ﴾ ‌البقرة : ١٣٧
8 ـ ﴿فَإِنْ حَاجُّوکَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِیَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذینَ أُوتُوا الْکِتابَ وَ الْأُمِّیِّینَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَیْکَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصیرٌ بِالْعِباد َ﴾ آل عمران: ٢٠
9ـ ﴿قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِی اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّکُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَکُمْ أَعْمالُکُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ﴾ ‌البقرة: ١٣٩
10ـ ﴿إِنَّها لَإِحْدَى الْکُبَرِ نَذیراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْکُمْ أَنْ یَتَقَدَّمَ أَوْ یَتَأَخَّرَ کُلُّ نَفْسٍ بِما کَسَبَتْ رَهینَةَ﴾ المدثر: 35 ـ ٣٨
11ـ ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِکُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِیَسُوؤُا وُجُوهَکُمْ وَ لِیَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ کَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِیُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبیراَ﴾ الإسراء: ٧
12ـ ﴿ قُلْ أَطیعُوا اللَّهَ وَ أَطیعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَیْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَیْکُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطیعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبینُ﴾ النور: ٥٤
المجموعة الثالثة: الآیات التی أشارت إلى اختلاف الناس فی الآراء، وأن الله تعالى لم یخلقهم لکی یجبرهم على رأی واحد، وإنما الاختلاف بین الناس هو فی طبیعتهم، والله بعث الأنبیاء والرسل وأنزل الکتب حتى یحکموا بینهم فیما اختلفوا فیه، ومن هذه الآیات:
1ـ ﴿وَ لَوْ شاءَ رَبُّکَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا یَزالُونَ مُخْتَلِفینَ﴾ هود: ١١٨
2ـ ﴿وَ لَقَدْ آتَیْنا مُوسَى الْکِتابَ فَاخْتُلِفَ فیهِ وَ لَوْ لا کَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّکَ لَقُضِیَ بَیْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفی‌ شَکٍّ مِنْهُ مُریب﴾ هود : ١١٠ والآیة نفسها وردت فی سورة فصّلت الآیة 45 .
3ـ ﴿ تِلْکَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ کَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَیْنا عیسَى ابْنَ مَرْیَمَ الْبَیِّناتِ وَ أَیَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذینَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَیِّناتُ وَ لکِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ کَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لکِنَّ اللَّهَ یَفْعَلُ ما یُریدُ﴾ البقرة : ٢٥٣
4ـ ﴿کانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرینَ وَ مُنْذِرینَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْکِتابَ بِالْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فیمَا اخْتَلَفُوا فیهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فیهِ إِلاَّ الَّذینَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَیِّناتُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذینَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فیهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ یَهْدی مَنْ یَشاءُ إِلى‌ صِراطٍ مُسْتَقیمٍ﴾البقرة : ٢١٣
5- ﴿وَ ما أَنْزَلْنا عَلَیْکَ الْکِتابَ إِلاَّ لِتُبَیِّنَ لَهُمُ الَّذِی اخْتَلَفُوا فیهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُون﴾ ‌النحل : ٦٤
6ـ ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَیْکَ الْکِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَیْنَ یَدَیْهِ مِنَ الْکِتابِ وَ مُهَیْمِناً عَلَیْهِ فَاحْکُمْ بَیْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَکَ مِنَ الْحَقِّ لِکُلٍّ جَعَلْنا مِنْکُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لکِنْ لِیَبْلُوَکُمْ فی‌ ما آتاکُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمیعاً فَیُنَبِّئُکُمْ بِما کُنْتُمْ فیهِ تَخْتَلِفُون﴾ ‌المائدة : ٤٨

 

7ـ ﴿ وَ لا تَکُونُوا کَالَّتی‌ نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْکاثاً تَتَّخِذُونَ أَیْمانَکُمْ دَخَلاً بَیْنَکُمْ أَنْ تَکُونَ أُمَّةٌ هِیَ أَرْبى‌ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما یَبْلُوکُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَیُبَیِّنَنَّ لَکُمْ یَوْمَ الْقِیامَةِ ما کُنْتُمْ فیهِ تَخْتَلِفُونَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَکُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لکِنْ یُضِلُّ مَنْ یَشاءُ وَ یَهْدی مَنْ یَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا کُنْتُمْ تَعْمَلُون﴾ ‌النحل : 92 ـ ٩٣
والحریة فی المفهوم الإسلامی ووفق المعاییر الإسلامیة حریة مقیدة بجملة قیود، انطلاقاً من الخلفیة العَقَدیّة التی یتبناها المسلم :
هی حریة مقیدة نعم، مقیدة؛ لأن الحریة المطلقة تعنی الفوضى المطلقة والفساد المطلق، ولا یقبل بها عاقل متدبّر.
وفی الوقت الذی دعا الإسلام فیه إلى الحریة والتحرّر أقرّ العبودیة لله تعالى وحده لا شریک له، واعتبرها تحرراً واقعیاً من کل أنواع الخضوع لغیر الله تبارک وتعالى، بل اعتبر الإسلام أن عبادة غیر الله تعالى والخضوع له دلیل على الجهل وعدم إعمال العقل، فالحریة فی نظر الإسلام تبدأ من العبودیة المخلصة لله تعالى، لتنتهی إلى التحرر الکامل، بینما فی نظر غیره تبدأ بالتحرر لتنتهی إلى العبودیة المذلّة، قال تعالى : ﴿قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا یَنْفَعُکُمْ شَیْئاً وَ لا یَضُرُّکُمْ أُفٍّ لَکُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ الأنبیاء : 66 ـ 67
وانطلاقاً من هنا شرّع الله تعالى الأحکام بواجباتها ومحرّماتها ورغّب المکلفین بالالتزام بقوانین الشریعة والتقیّد بها، قال تعالى :
﴿تِلْکَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ یُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ یُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْری مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدینَ فیها وَ ذلِکَ الْفَوْزُ الْعَظیم﴾‌ النساء :13
وفی حال المخالفة والعصیان ـ والإنسان قادر على ذلک بمقتضى الحریة التکوینیة الممنوحة له والمخلوقة فیه ـ فإنه حینئذٍ یتحمل کامل المسؤولیة، وعلیه تبعات ذلک فی الدنیا والآخرة، قال تعالى : ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَیْها وَ ما رَبُّکَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبید﴾ِ فصلت :46
وفی آیة أخرى : ﴿وَ کُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فی‌ عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ یَوْمَ الْقِیامَةِ کِتاباً یَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ کِتابَکَ کَفى‌ بِنَفْسِکَ الْیَوْمَ عَلَیْکَ حَسیباً مَنِ اهْتَدى‌ فَإِنَّما یَهْتَدی لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‌ وَ ما کُنَّا مُعَذِّبینَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾الإسراء : 13 ـ 14 ـ ١٥
ومن هنا فإن العقل لا یسمح للإنسان بأن یقبل رأیاً بخصوص المسائل العَقَدیّة، إذا لم یکن هذا الرأی ثابتاً بالدلیل والحجّة، وهذا مسلّم به؛ لأن الأصول العَقْدیّة لا بد من العلم بها، والتقلید لا یکسبها علماً : وهل یُعقل أن یبنی الإنسان کل نشاطاته الفردیة والاجتماعیة على أساس عقیدة لا یَعرف صحتها من بطلانها، وإلى أیّ حدّ هی مطابقة للواقع؟!
ورأی الإسلام فی هذه المسألة ـ أی التقلید فی أصول العقائد ـ لا یختلف عن رأی العقل، فإن الإسلام نادى صراحة وبشکل واضح بحرمة التقلید فی أصول العقائد، وطالب الناس وشدّد علیهم بأن یحققوا فی المسائل العَقْدیّة، ولا یقبلوا أی عقیدة إذا لم تکن مبنیة على أساس الدلیل والبرهان والعلم، ومما ورد فی القرآن الکریم حول هذه المسألة قوله تعالى:
﴿ وَقالُوا لَوْ کُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما کُنَّا فی‌ أَصْحابِ السَّعیر﴾ الملک: ١٠
بل ذمّ الله تعالى اتّباع غیر العلم، یقول تعالى: ﴿ سَیَقُولُ الَّذینَ أَشْرَکُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَکْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَیْ‌ءٍ کَذلِکَ کَذَّبَ الَّذینَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَکُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُون﴾ ‌الأنعام: ١٤٨
ویقول فی آیة أخرى: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ کُلُّ أُولئِکَ کانَ عَنْهُ مَسْؤُلا﴾الإسراء: ٣٦
وقد ورد فی الأحادیث الشریفة منع صریح عن تبعیة الفرد للآخرین کیفما کان، ومن دون علم أو حجّة، فعن الإمام الصادق علیه السلام فی وصیته لأحد أصحابه قال: "لا تکن إمّعة" ثم أردف موضحاً: " أنا مع الناس وأنا کواحد من الناس"(1) ، أی لا تقلّد الناس وتقول ما یقولون وتفعل ما یفعلون.
ومما روی أیضاً عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: "من دخل فی هذا الدین بالرجال أخرجه منه الرجال کما أدخلوه فیه، ومن دخل فیه بالکتاب والسنّة زالت الجبال قبل أن یزول"(2).
وهذا نهی صریح من الإمام علیه السلام عن اتّباع الأشخاص والانسیاق خلفهم بلا دلیل، وفیه دعوةٌ لاتباع الکتاب والسنة لأنهما یشتملان على البرهان والحجّة.
ثم فی هذا الحدیث الشریف إشارة مهمة، وهی أنه من أخذ دینه من الرجال کان دینه مرهوناً بهم، فقد یتغیّرون، فیتغیّر دینه تبعاً لهم، وأما إذا بنى دینه على الکتاب والسنة، فإنهما ثابتان لا یتغیّران، وهذا الأمر لا یحتاج إلى مزید بیان, لأن الوقائع على الأرض أکّدت ذلک قدیماً وحدیثاً.
وکم کان توصیف أمیر المؤمنین علیه السلام رائعاً عندما خاطب کمیل بن زیاد النخعی بقوله: "الناس ثلاثة: عالم ربّانی، ومتعلّم على سبیل نجاة، وهمج رعاع أتباع کل ناعق، یمیلون مع کل ریح، لم یستضیئوا بنور العلم، ولم یلجؤوا إلى رکن وثیق"(3).
ثم إن هذه الدعوة إلى رفض التقلید واتباع العلم وإعمال العقل، لا تؤتی ثمارها وتظهر فوائدها إلا فی أجواء من الحریة والرفق واللین، لأن الذی یُحاصر فکریاً ویُقمع ویُکبّل بقیود الاستبداد لا یمکنه أن یهتدی إلى مدارج الکمال، أو أن یعطی البشریة طاقاته الفکریة الکامنة فی داخله.
إن الإسلام أعطى الفرد حریة الفکر بشکل مطلق، حتى یُعْمِلَ هذا العقل ویختار طریقه الصحیح الموصل إلى السعادة، ولم یعطه حریة العقیدة کیفما کان، وهذا القید ضروری, لأن حریة الفکر تقود الإنسان نحو الاعتقاد القائم على أساس الدلیل والبرهان، بینما حریة العقیدة تؤدی ـ بل أدّت إلى ذلک فی العدید من المجتمعات القدیمة والحدیثة ـ إلى اعتقاد باطل وتقلید خاطئ، واتباع عاطفی للهوى والغرائز, فلذا لا یحق له اختیار العقائد الباطلة والقائمة على أساس الوهم والتعصّب والخرافة، لأن فی ذلک مخالفةً صریحةً للعقل .
ومن هنا رفض الإسلام رفضاً قاطعاً کل ما یقوم على أساس التقلید والعادة واتباع الآخرین، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَیْهِمْ نَبَأَ إِبْراهیمَ إِذْ قالَ لِأَبیهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاکِفینَ قالَ هَلْ یَسْمَعُونَکُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ یَنْفَعُونَکُمْ أَوْ یَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا کَذلِکَ یَفْعَلُون﴾ الشعراء: 69 ـ ٧٤ .
وقال فی آیة أخرى: ﴿وَ إِذا قیلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَیْنا عَلَیْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ کانَ آباؤُهُمْ لا یَعْقِلُونَ شَیْئاً وَ لا یَهْتَدُون﴾‌ البقرة: ١٧٠ .
وما کل ذلک إلا لأن العقائد التی لا تقوم على أسس فکریة تعد استعباداً وأسراً، ولا تتماشى مع حریة الفکر، فلذا دعا الإسلام إلى محاربتها واجتثاثها، واعتبر ذلک جهاداً على طریق تحریر الإنسان .
وأما من لم تتضح له المحجّة، وإن قرعت سمعه الحجّة، فإنه یتحمّل کامل المسؤولیة على اختیاره، قال تعالى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْیا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى‌ وَ الرَّکْبُ أَسْفَلَ مِنْکُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِی الْمیعادِ وَ لکِنْ لِیَقْضِیَ اللَّهُ أَمْراً کانَ مَفْعُولاً لِیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَنْ بَیِّنَةٍ وَ یَحْیى‌ مَنْ حَیَّ عَنْ بَیِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمیعٌ عَلیم﴾ ‌الأنفال: ٤٢
وبناءً على ما تقدّم، فإن الإسلام لم یتخوّف من الحوار الفکری المبتنى على أسس علمیة صحیحة، حتى لو کان هذا الحوار یطاول أخطر المسائل وأکثرها حساسیة على مستوى العقیدة، بل لقد دعا الإسلام بصوت عال إلى طرح المسائل العلمیة بالأسلوب الهادئ الرصین بعیداً عن التشنّج والعصبیة، قال تعالى :﴿ ادْعُ إِلى‌ سَبیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتی‌ هِیَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّکَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبیلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدین﴾ ‌النحل : ١٢٥
﴿وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْکِتابِ إِلاَّ بِالَّتی‌ هِیَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذینَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذی أُنْزِلَ إِلَیْنا وَ أُنْزِلَ إِلَیْکُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُکُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾ ‌العنکبوت : ٤٦
وعندما تفشل جمیع الأسالیب من حوار ومجادلة، وکلمة طیبة، وغیر ذلک من الطرق المؤدّیة إلى اتباع العقل، فلن یقف الإسلام حینئذٍ مکتوف الأیدی یرى الضلال والفساد ینتشر فی المجتمعات ولا یتدخّل، بل من الضروری وبمقتضى الحکمة، والعدل، والرحمة، واللطف الإلهی أن یتدخّل الإسلام لرفع الفساد وإزالة أسبابه من المجتمعات، ولو عن طریق استخدام القوة إنْ أمکن کآخر وسیلة لرفع الظلم عن الناس . ولا أعنی باستخدام القوة هنا أن الإسلام یفرض رأیه وعقیدته على الناس بالإکراه والإجبار، وإلا یکون الإسلام قد رفع عقیدة بالقوة لیفرض أخرى بالأسلوب نفسه، وإنما أقصد أن الإسلام یرفع الموانع، ویحطّم القیود ویحرر العقل ویجعله طلیقاً حتى تتاح له الفرصة للتفکیر بحریة لاختیار الطریق الصحیح الذی یوصله إلى السعادة .
ومن هنا یمکننا فهم فریضتی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر على أساس أنهما ضمانتان للمجتمع من أیّ تفسّخ أو انحلال . وکمثال على ذلک أذکر حدیثاً واحداً لیتبیّن لنا ما أرمی إلیه، فقد رُوی عن رسول الله صلى الله علیه وآله وسلمأنه قال: "مَثَلُ الفاسق فی القوم، کمثل قوم رکبوا سفینة فاقتسموها، فصار لکل إنسان منها نصیب، فأخذ رجل منهم فأساً، فجعل ینقر فی موضعه، وقال له أصحابه: أی شیء تصنع، ترید أن تغرق وتغرقنا؟
قال: هو مکانی. فإن أخذوا على یده نجوا ونجا، وإن ترکوه غرق وغرقوا"(4).
ویمکن أن نلمس هذا بشکل واضح مما جرى مع الأنبیاء علیهم السلام، فإبراهیم علیه السلام بعد أن استنفد جمیع الوسائل السلمیة عمد إلى تحطیم الأصنام، ووضع القوم أمام واقع لا یُعذر أحدهم فیه إذا لم یفکر بعقله بعد أن أزال من أمامهم الموانع ورفع الحجب، قال تعالى على لسان النبی إبراهیم علیه السلام وهو یخاطب القوم: ﴿أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا یَنْفَعُکُمْ شَیْئاً وَ لا یَضُرُّکُمْ أُفٍّ لَکُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ﴾ الأنبیاء: 66 ـ ٦٧
وکذلک فعل نبی الله موسى علیه السلام عندما انحرف بعض قومه وعبدوا العجل، فما کان أمام النبی موسى علیه السلام إلا أن ألقى العجل فی النار.
ولنا فی سیرة النبی محمد صلى الله علیه وآله وسلم خیر مثال ودلیل، فبعد عدة سنوات من بعثته الشریفة، وإقامة دولة الإسلام، لم یتعامل مع أهل الکتاب کما تعامل مع المشرکین فی مکة، ففی الوقت الذی سمح فیه لأهل الکتاب من الیهود والمسیحیین بممارسة عقیدتهم وطقوسهم، لم یسمح للمشرکین بإبقاء أصنامهم فی مکة؛ لذا أمر بتحطیمها، بل حطّم قسماً منها بنفسه الشریفة فی أوّل فرصة سمحت له بذلک.
وهذا الأسلوب الشرعی هو أسلوب عقلی یعمل علیه العقلاء، فإن العقل لا یقبل ببقاء مریض جسمانی فیه مرض معدٍ وقاتل ینتشر بین الناس ویقضی على المجتمع من دون أن یحرّک ساکناً، فکیف إذا کان المریض مریضاً روحیاً وهو أکثر خطراً وأشدّ فتکاً فی المجتمعات من سابقه؟
وبما أن الإنسان یمتلک قوة الفکر التی منحها الله تعالى له، فإنه یستطیع من خلالها دراسة القضایا، ثم الاختیار والانتخاب على أساس الحجة والدلیل.
وأما فی الأحادیث الشریفة، فقد وردت هذه الکلمة "الحریة" وبعض مشتقاتها، ولکن فی عدد قلیل نسبة إلى سائر الأحادیث، وأما مرادفاتها فهی کثیرة إلى حدّ ما.
فعن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: "خمس خصال من لم تکن فیه خصلة منها، فلیس فیه کثیرُ مستمتع، أوّلها: الوفاء، والثانیة: التدبّر، والثالثة: الحیاء، والرابعة: حسن الخلق، والخامسة: وهی تجمع هذه الخصال الحریة "(5).
وعن الإمام أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام فی وصیته لولده الحسن علیه السلام أنه قال: "...ولا تکن عبد غیرک وقد جعلک الله حراً"(6).
ولیس المراد بالحریة هنا مقابل الرقیة والملکیة للآخرین؛ لأن هذا الأمر خارج عن قدرة الفرد فی حال کونه عبداً، ولا أن الإمام یدعو العبید للتمرد على مالکیهم، وإنما المراد: أنک حر فی أصل وجودک وخلقتک، وأنک حر فی مقابل سائر الخلق، فلا تتنازل عنها للآخرین، ولا تبحث عنها عندهم.
وعنه علیه السلام أنه قال: "إن قوماً عبدوا الله رغبةً، فتلک عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة، فتلک عبادة العبید، وإن قوماً عبدوا الله شکراً، فتلک عبادة الأحرار"(7).
وفی هذا الحدیث جمع أمیر المؤمنین علیه السلام بشکل واضح بین العبودیة والحریة، معتبراً أن العبادة الحقیقیة هی التی تُجرّد من المصلحة النفعیة من طمع وخوف.
وعنه علیه السلام أنه قال: "الحریة منزّهة من الغل والمکر"(8).
وقال أیضاً: "من قضى ما أسلف من الإحسان، فهو کامل الحریة"(9).
وعنه علیه السلام أیضاً: "من ترک الشهوات کان حراً"(10)
وعن الإمام الحسین علیه السلام أنه قال یوم العاشر من محرم على أرض کربلاء، وهو یخاطب الذین احتشدوا لحربه: "ویْحَکم یا شیعة آل أبی سفیان، إنْ لم یکن لکم دینٌ، وکنتم لا تخافون المعاد، فکونوا أحراراً فی دنیاکم هذه"(11)
وهذه دعوة صریحة من الإمام الحسین علیه السلام للمناوئین له إلى أن یکونوا ملتزمین بالقیم الإنسانیة والمعاییر الأخلاقیة حتى لو لم یلتزموا بأی دین.
وعن أبی الحسن الحذّاء، قال: کنت عند أبی عبد الله علیه السلام، فسألنی رجلٌ ما فعل غریمک؟ قلت: ذاک ابن الفاعلة، فنظر إلیّ أبو عبد الله علیه السلام نظراً شدیداً. قال: قلت: جُعلت فداک إنه مجوسی، أمه أخته، فقال: أولیس ذلک فی دینهم نکاحاً؟ (12)
والإمام الصادق علیه السلام فی هذا الحدیث یعترض على صاحبه؛ لأنه لم یحترم ما هو فی دین واعتقاد الآخرین وإن کان هذا الدین والاعتقاد لا یُقبل عندنا.
وعن الإمام علی علیه السلام أنه قال: "أیها الناس إنّ آدم لم یلد عبداً ولا أَمَةً، وإن الناس کلهم أحرار"(13)
هذا إلى غیر ذلک من الأحادیث التی وردت بهذا المعنى.
ومن أراد المزید فی هذا المجال، فلیقف على کلمات الإمام علی علیه السلام، خصوصاً فی العهد الذی کتبه إلى مالک الأشتر حین ولاّه مصر، وکذلک وصیة الإمام الکاظم علیه السلام إلى هشام بن الحکم حول العقل وأهمیة دوره.(14)

المصادر :
1- معانی الأخبار للشیخ الصدوق، ص: 266.
2- کتاب الغیبة للنعمانی، ص: 22.
3- نهج البلاغة، قسم قصار الحکم، رقم 147.
4- تفسیر الثعالبی: ج 3، ص: 123.
5- کتاب الخصال للشیخ الصدوق، ص: 284، باب الخمس، ح 33.
6- نهج البلاغة، الکتاب 31.
7- المصدر نفسه، قصار الحکم، رقم 237.
8- غرر الحکم، رقم 1485.
9- المصدر نفسه، رقم 8721.
10- تحف العقول، ص: 99.
11- مقتل الحسین علیه السلامللخوارزمی، ج2، ص: 33، واللهوف فی قتلى الطفوف لابن طاووس، ص: 119.
12- الکافی للشیخ الکلینی، ج 7، ص: 240، کتاب الحدود باب 47، ح3.
13- المصدر نفسه، ج8، ص: 69، ح 26.
14- المصدر نفسه، ج1، ص: 13، کتاب العقل والجهل، الباب الأول، ح12.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

القرائن المفيدة لمعنى الحاكمية في حديث الغدير
حجّ الإمام عليّ(عليه السلام)
ادخال ما لیس من الدین فی الدین
مرقدها (زينب الکبري سلام الله عليها)
السعادة في النظام الاخلاقي الاسلامي
تنشيط نظام المناعة بالصيام
المقام العلمي للإمام الباقر عليه السلام
البرمجيات القرآنية المتعددة اللغات بإمكانها أن ...
طبیعة التشریع الإسلامی
الدلالات في القرآن، وفي العهد القديم (قصة يوسف)

 
user comment