عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

نصائح لخدام المنبر الحسيني

نصائح لخدام المنبر الحسيني

تنقسم النصائح العامّة إلى قسمين : منها ما يرتبط بالمسؤوليّة الدينيّة العامّة ، ومنها ما يرتبط بواقعة الحسين ( عليه السلام ) ، ونحن فيما يلي ذاكرون بعون الله الأهمّ ممّا يخطر على البال من كلا القسمين :
أوّلاً : البدء بالخطبة بـ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، لا بشيء آخر حتّى لو كان ذاكراً للحسين ( عليه السلام ) ، فإنّ كل كلام لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر ، وبالبسملة يمكن للخطيب أن يُعاذ في خطبته من الشيطان وأن يُؤيَّد برحمة الرحمان .
ثانياً : الموعظة والإرشاد ؛ فإنّه من الضروريات والواجبات في هذا المجتمع وفي كلّ مجتمع ، وفي هذا الزمان وفي كلّ زمان ، لكي تصل الموعظة إلى أهلها ويستفيد منها أكبر عدد ممكن ، سواء كانت الموعظة مرتبطة بقضايا الحسين ( عليه السلام ) أم لا ؟ فإنّ في تلك القضايا من العِبر والمواعظ ما لا حدّ لهُ ، فضلاً عن غيرها .
ثالثاً : عدم إيذاء أحد من الناس أو من الطوائف في كلام الخطباء ، وهو معنى ( التقيّة ) فإنّها واجبة على كلّ حال ، ما لم يكن الأمر خارجاً عن موردها ، يعني أن يَحرز الفرد أنّ كلامه سالم النتيجة .
رابعاً : التورّع عن نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين ( عليهم السلام ) وغيرهم كذباً ؛ فإنّ الكذب على المعصومين من أعظم الكبائر ، والكذب على غيرهم كبيرة ، سواء على الأشخاص التاريخيّين ، أو على مؤلّفي المصادر ، أو على أيّ مؤمنٍ ومؤمنة ، وأوضح أسلوب يتّخذه في هذا الصدد أن يقول : ( قيل ) ، أو ( روي ) ، أو ( يقال ) ، ونحو ذلك حتّى لا ينبغي له ذكر أحد من أسماء المؤلّفين ، ما لم يَحرز باليقين وجوده في كتابه وصحّة انتساب الكتاب إليه باليقين أو بدليلٍ معتبر .
خامساً : أن يتوّرع من نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين ( عليهم السلام ) وغيرهم ، باعتبار لسان الحال ، شعراً كان ما يقوله الخطيب أم نثراً ، فصيحاً كان الكلام أم دارجاً ، ما لم يَعلم أو يطمئنّ بأنّ لسان حالهم هو كذلك فعلاً ، وقد ناقشنا ذلك مفصّلاً فيما سبق ، فراجع .
سادساً : أن يتوّرع الخطيب عن ذِكر الأمور النظريّة والتاريخيّة أو غيرها ، ممّا قد يُثير شُبهات حول الأمور الاعتقاديّة في أذهان السامعين ، ويكون هو قاصراً أو عاجزاً عن ردّها ومناقشتها أو غافلاً عن ذلك ، بل يجب عليه أن يختار ما سيقوله بدقّة وإحكام ، وإلاّ فسوف يكون هو المسؤول عن عمله ، فيقع في الحرام من حيث يعلم أو لا يعلم .
وينبغي أن يلتفت إلى أنّ هذا ممّا لا يُفرّق فيه بين أن يكون مرتبطاً بحوادث الحسين ( عليه السلام ) أو غير مرتبط ، أو كان مُسلّم الصحّة في اعتقادهم أو غير مُسلّم .
سابعاً : أن يحاول الخطيب سترَ ما سترهُ الله سبحانه وتعالى من الأمور ، فلا يُصرّح بأمورٍ قد حَدثت خلال الحرب أو القتل ، قد توجِب ذلّة أو مهانة المقتول ، أو ما يسمّى في عرفنا ( بالبهذلة ) ، فيسكت عن كلّ شي يوجِب بهذلة المؤمنين الموجودين يومئذٍ ، بل كلّ المؤمنين في كلّ جيل ، وخاصّة الحسين ( عليه السلام ) ونسائه وأصحابه وأهل بيته .
وهنا ينبغي أن نلتفت إلى أمرين :
الأمرُ الأوّل : إنّ هذا الذي قلناه الآن غير ما سبق أن نفيناه من وجود الذلّة للحسين ( عليه السلام ) وأنصاره ؛ فإنّهم لم يمرّوا في الذلّة بكلّ تأكيد ، ولكنّ المقتولين مرّوا بالذلّة بكلّ تأكيد ، وهذا ما تعمّده الأعداء وما يكون طبيعيّاً وجوده عند الحرب ، إلاّ أنّ ستره واجب ، والتصريح به حرام .
الأمرُ الثاني : إنّ هذا الذي قلناه غير ما سبقَ من حرمة نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومين وغيرهم كذباً ، بمعنى أنّ الخطيب حتّى لو كان عالِماً بالحال ، أو متأكّداً منه ، أو قامت عنده الحجّة الشرعيّة لديه ، فإنّه أيضاً لا يجوز عليه أن يفتح فَمه بالأمور التي توجب مهانتهم رضوان الله عليهم .
ثامناً : أن لا يروي الخطيب أموراً مستحيلة بحسب القانون الطبيعي حتّى وإن ثَبتت بطريقٍ معتبر ؛ لأنّها على أيّ حالٍ ستكون صعبة التحمّل على السامعين ، ولعلّ أوضح أمثلة ذلك : ما يذكرهُ بعض الخطباء عن عليّ بن الحسين الأكبر ( سلام الله عليه ) ، أنّه حين ضُرب على رأسه بالعمود تناثرَ مُخّه ، وفي بعض المصادر أنّه سالَ مُخّه على كتفيه ، ثمّ يقول الخطباء : إنّه في آخر رَمق من حياته دعا أباه الحسين ( عليه السلام ) ، فبادرَ بالذهاب إليه فأخبرهُ قائلاً :
( هذا جدّي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قد سقاني شُربة لا أظمأُ بعدها أبداً ) (1) .
مع العلم اليقين أنّ مَن تناثرَ مُخّه ، فهو ميّت لا محالة ، ولا يستطيع الكلام ولا بكلمة واحدة ، فضلاً عن انتظار مدّة إلى أن يصل إليه أبوه ؛ فإنّ تَلف المُخ طبيّاً يعني الوفاة ، وعدم إمكان استمرار الحياة بكلّ تأكيد ، فيكون ما يقوله الخطباء من كلامٍ بعد ذلك مُمتنعاً بحسب القانون الطبيعي ، إلاّ أنّ يقول : إنّ مُخّه لم يتناثر ولم يسل على كتفيه ، عندئذٍ تكون له فرصة الكلام .
وقد يخطر في البال أمران :
الأمرُ الأوّل : إنّ هذا وأمثاله يمكن أن يحصل بنحو المعجزة ؛ فإنّه وإن كان خارقاً للناموس الطبيعي ، إلاّ أنّ كلّ معجزة خارقة له بطبيعة الحال ، فليكن هذا منها .
وجواب ذلك : إنّنا بحسب ما نفهم ، فإنّ واقعة كربلاء بكلّ تفاصيلها ليست قائمة على شيء من المعجزات ، وإلاّ لم يكن الإمام الحسين ( عليه السلام ) في حاجة إلى الحرب ، وإلى تحمّل هذا البلاء الدنيوي العظيم ، بل كان يمكن بدعاء واحدٍ لله عزّ وجل أن يقتل كلّ أعدائه ، وأن يعود إلى المدينة بأسلوب طيّ الأرض ، أو أن يُسخّر الجنّ ، أو الملائكة في القتال ، أو أن يَصرف قلوب أو أذهان أعدائه عن مقاتلته أو قتله .... إلى غير ذلك من احتمالات السلامة ، ولعلّنا نبحث هذا الأمر بمزيدٍ من التفاصيل حين تسنح الفرصة إليه قريباً .
الأمرُ الثاني : إنّه من المروي ، بل المؤكّد حصول بعض المعجزات في ساحة كربلاء يومئذٍ ، حين يوجد شخص أو أكثر ، وربّما مُتعدّدون دعا عليهم الحسين ( عليه السلام ) ، فحصلَ فيه حادث مروّع : كالموت حَرقاً ، أو غرقاً (كالذي جرى مع ( ابن جوزة ) ، فقد ذَكر السيّد المقرّم في مقتله نقلاً عن مَجمع الزوائد للهيثمي ، ومقتل الخوارزمي ، وروضة الواعظين للفتّال : ( أنّ عبد الله بن جوزة أتى الحسين ( عليه السلام ) وصاحَ : يا حسين ، أبشر بالنار ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : ( كذِبتَ ، بل أقدِم على ربٍّ غفور كريم فمَن أنتَ ؟ فقال : أنا أبو جوزة ، فرفعَ الحسين ( عليه السلام ) يديه حتّى بانَ بياض إبطيه وقال : اللهمّ جرّهُ إلى النار ) ، فغضبَ ابن جوزة وأقحمَ فرسهُ إليه ، وكان بينهم نهر فسقطَ عنها ، وعَلِقت قدمهُ بالركاب وجالت به الفرس ، وانقطعت قَدمه وساقه وفخذه وبقى جانبه الآخر بالركاب ، وأخذت تضرب به كلّ حجرٍ وشجر ، وألقتهُ بالنار المشتعلة في الخندق .
وكالذي جرى مع محمّد بن الأشعث حينما قال للحسين ( عليه السلام ) : أيّ قرابة بينك وبين محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) ! فدعا عليه الحسين ( عليه السلام ) ، فخرجَ من المعسكر لقضاء حاجته ، فلَدغهُ عقرب أسود لدغة تركتهُ متلوّثاً في ثيابه ممّا به ، وماتَ باديَ العورة ( مقتل المقرّم نقلاً عن روضة الواعظين للفتّال) . (2)
أو غير ذلك ، وإذا أمكنت المعجزة هناك مرّة أمكنت مرّات .
وجواب ذلك على مستويين :
المستوى الأوّل : إنّ المروي من أمثال هذه الحوادث قد حَدثت بأسباب طبيعيّة ، مهما كانت ضعيفة ، فهي وإن كانت استجابةً لدعاء الحسين ( عليه السلام ) ومن أقسام المعجزة ، إلاّ أنّ الله سبحانه لم يشأ أن تَحدث فجأة وبدون سبب ، وإذا عُرف السَبب زالَ العَجَب .
المستوى الثاني : إنّنا لو تنازلنا عن المستوى الأوّل وفرضناها معجزات ناجزة ، فيمكننا أن نلتفت إلى أنّ المعجزات على قسمين في حدود ما نستهدفه الآن :
القسم الأوّل : معجزات قد تحصل لإقامة الحجّة على المعسكر المعادي ، لجلب الانتباه إلى أنّ الحقّ إلى جانب الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، وتركيز ذلك في أذهانهم ، فإنّني أعتقدُ أنّهم لم يكونوا يحتاجون إلى ذلك في موقفهم أمام الله سبحانه ، لوضوح ذلك للمعادين وغيرهم ، ولكن قد تقتضي الحكمة الإلهيّة الزيادة في ذلك التركيز واثبات ذلك حسيّاً أمامهم ؛ لإمكان أن يرجع بعضهم إلى التوبة ، وإن لم يرجع لها فسوف يشعر بضخامة عمله ووخامة عاقبته ، وهذا ما يندرج في إجابة دعاء الحسين ( عليه السلام ) في بعض الأفراد ، كما سبق .
القسم الثاني : معجزات لا ربطَ لها بإقامة الحجّة على المعسكر المعادي ، بل لعلّ الحكمة تقتضي عدم تحقّقها ؛ ليكون البلاء الدنيوي الواقع على معسكر الحسين ( عليه السلام ) أشدّ ، لتكون المقامات لهم أعلى ، والثواب أجزل ، ورضاء الله سبحانه وتعالى أفضل .
تاسعاً : من الأمور التي ننصح بها الخطيب الحسيني أيّاً كان :
أن يحاول برمجة مصادره جهد الإمكان في قالب موحّد ومنسجم ، وليس متنافراً ومتناقضاً من ناحية ، ولا متباعداً ومتناثراً من ناحية ، بل يذكر أموراً متقاربة تاريخيّاً منسجمة نظريّاً ، ويبذل أقصى إمكانه فيه .
عاشراً : أن يَدع ما أمكن التفلسف في الحوادث ، أعني التعرّض إلى الحُكم والأسباب التي اقتضتها ، ما لم يَحرز في نفسه الإصابة لذلك ، وإلاّ فليدع ذلك إلى أهله ، وهو خيرٌ له في الدنيا والآخرة من أن يكلّف نفسه ما لا يُطيق ، أو أن يُكلّف السامعين ما لا يطيقون ، فقد تثبُت الشُبهة في أذهانهم ويكون الخطيب عاجزاً عن ردّها ، أو عن إقناع السامعين بالرد ، فيتورّط بالحرام من حيث لا يعلم ، وليس ذلك فقط ، أعني فيما يخصّ كربلاء ، أو حركة الحسين ( عليه السلام ) ، بل كلّ أمور الشريعة على هذا الغرار ، فلا ينبغي لأيّ فردٍ التعدّي إلى التفلسف فيها ما لم يَحرز في نفسه الأهليّة والقدرة ، وإلاّ فمن الأولى لهُ إيكال عِلمها إلى الله سبحانه : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ) (3) .
ومن أمثلة ذلك : ما سمعتهُ شخصيّاً من بعض الخطباء ، حيث كان يُحلّل معنى ما ورد : ( لا عَدوى في الإسلام ) (4) ، ولم يكن يُفلح في ذلك ، وسمعتُ من بعضهم أيضاً : أنّه كان يُحلّل قول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) ، على ما هو مروي في نهج البلاغة : ( يا علي ، إنّك ترى ما أرى وتسمعُ ما أسمع ) (5) .
وكلاهما كان عاجزاً عن الوصول إلى حقيقة المعنى ، فلو كانا قد تعرّضا إلى ما ينفع الناس من أمورهم الخاصّة والعامّة ، لكانَ خيراً لهم وأحسن تأويلاً .
الحادي عشَر : أن يدع الخطيب التشكيك فيما تسالمَ العامّة ـ أعني جمهور الناس ـ على صحّته ، فضلاً عن إنكاره بصراحة ؛ فإنّه ينبغي أن يستهدف هدايتهم وتوجيههم نحو الطاعة والعقيدة ، ومن الواضح أنّهم إذا وجدوا مثل هذا التشكيك في كلامه سوف ينتقدونه وسيسقط من أنظارهم ، فيسبّب ذلك عدم سماعهم لمواعظه وإرشاده ، أو بُعده عنهم ، أو مقاطعتهم له عمليّاً .
ومن هذا القبيل : ما طرَقَ سَمعي من أنّ شخصاً معروفاً في هذا العصر ، طبعَ كتاباً عن الحسين ( عليه السلام ) ، حاولَ فيه بوضوح أن يبرهن على أنّه ( سلام الله عليه ) لم يكن يعلم بمقتله قبل حصوله ، فسقطَ الكتاب والمؤلِّف عن أعين الناس ، كما هو أهلٌ له فعلاً ، لو صحّ النقل (6) .
الثاني عشر : أن لا يَنسب الخطيب الحسيني وغيره إلى غير المعصومين من المؤمنين ـ فضلاً عن المعصومين ( عليهم السلام ) ـ الوقوع في الحرام ، قلّ ذلك أم كثُر ؛ فإنّ غير المعصومين وإن كان يمكن ذلك في حقّهم ، إلاّ أنّه مع ذلك يجب السكوت عن مثله :
أوّلاً : لأنّهم علماء عظماء من تربية الأئمّة المعصومين ( عليهم السلام ) .
ثانياً : لأنّ نسبة المحرّم إليهم لم يَثبت بطريقٍ معتبر لو وجِد ، فيكون ذكرهُ من الكذب الحرام .
ثالثاًَ : لو تنزّلنا وفَرضنا ثبوته بدليلٍ معتبر ، فالسترُ على فاعله أولى وأفضل .
رابعاً : لو تنزّلنا عن كلّ ذلك ، فلا أقلّ من عدم تحمّل الجمهور لمثل هذه الروايات ، ممّا يحصل رد فعلٍ غير مناسب لديهم ، فإمّا أن يسقط الخطيب من أنظارهم ، وإمّا أن يتجرّأوا على الحرام ، بعنوان : أنّ أصحاب الأئمّة ( عليهم السلام ) ، كانوا يعملون الحرام فلماذا لا نعمله ، وتكون الخطيئة في النتيجة في ذمّة الخطيب الناقل للرواية .
ويحسن بنا الآن أن نذكر لهذا الأمر مثالين يخطران على البال ؛ لأجل التدليل بهما أوّلاً ، ولأجل التعرّض إلى فلسفتهما وأسبابهما ثانياً :
المثال الأوّل : قولهُ عن نساء الحسين ( عليه السلام ) في وصف حالهنّ بعد مقتله ، وذلك في زيارة الناحية : ( فخرجنَ من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات ، وللوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات ، وبعد العزّ مُذلّلات ، وإلى مصرعك مُبادرات ) (7) .
حيث إنّ الظاهر الأوّلي لقوله : ناشرات الشعور ، كونهنّ كذلك أمامَ الرجال الأجانب من المعسكر المعادي ، وهو ممّا لا شكّ في حُرمته في الشريعة المقدّسة ، فيكون ذكرهُ من نسبة المحرّم إلى نساء الحسين ( عليه السلام ) .
وجوابُ ذلك من وجوه :
الوجهُ الأوّل : ضعف هذه الرواية سنداً ، فهي لا تقوم كدليلٍ معتبر على أيّ شيء فيها ، فينتفي الأمر من أصله .
الوجه الثاني : لو تنزّلنا وفرضناها معتبرة ، فالدليل إنّما يكون معتبراً في حدود ما يمكن تصديقه والأخذ به من المعاني والأفكار ، وأمّا ما لا يمكن فيه ذلك فلا يكون الدليل معتبراً أو حجّة فيه ، فإذا نَسَبت أيّة رواية إلى هؤلاء الأجلاّء أيّ محرّم ـ والعياذ بالله ـ كانت هي الساقطة عن الحجيّة ، لا أنّ التصديق بمضمونها يكون ممكناً ، وليست هذه الرواية ببدَعٍ عن ظواهر القرآن الكريم ، حيث ثبتَ في علم الأصول أنّها إنّما تكون حجّة ، إذا لم تكن منافية للدليل القطعي .
وأمّا إذا كانت منافية له ، لم تكن حجّة كقوله تعالى : ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (8) ، أو قوله تعالى : ( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (9) ، بعد قيام الدليل العقلي القطعي على استحالة ثبوت مثل هذه الأمور للذات الإلهيّة المقدّسة .
الوجهُ الثالث : أنّ النساء كنّ مدهوشات وحائرات الفكر وغير شاعرات بواقعهنّ ، لمَدى الحُزن والأسى الذي تَملَكهنّ وسيطر عليهنّ لمقتل الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، فإذا كُنّ قد خرجنَ أمام الرجال الأجانب ، فهنّ غير ملتفتات إلى واقعهنّ وغافلات عن الحكم الشرعي أو قل : ناسيات له ، فلا يكون الحكم فعليّاً أو مُنجّزاً في حقّهنّ أو قل : إنّهن معذورات بالنسبة إليه ، وهذا الوجه له درجة من الوجاهة ، بعد التنزّل عن الوجهين السابقين ، وهو المشهور بين الناس ، ولعلّه هو المقصود في الزيارة لو كانت معتبرة سنداً ، إلاّ أنّه مع ذلك لا يخلو من استبعادٍ لأمرين نذكرهما مع إحالة القناعة بهما إلى وجدان القارئ اللبيب :
الأمرُ الأوّل : إنّ النساء كنّ كثيرات كعشرة أو أكثر ، ولم تكن واحدة أو اثنتين مثلاً ، فإذا أمكنَ سيطرة الحزن بشدّة على واحدة أو اثنتين ونحو ذلك ، لم يكن ذلك في الجميع باستمرار أو قل طيلة الوقت ، فلا أقلّ من أنّ واحدة أو أكثر تلتفت لحالهنّ فيجب عليها تنبيههنّ على ذلك ويتمّ الأمر .
الأمر الثاني : إنّه يُستبعد جدّاً أن يكون مقتضى الحكمة الإلهيّة ذلك ؛ لأنّ الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه قُتلوا في سبيل الله والدين ، فمن الصعب أو من السخف أن نتصوّر أنّ في التقدير الإلهي أن يصدر العصيان الصريح ، والمنظر القبيح من نسائه الأشدّ ارتباطاً به من بعد مقتله مباشرة .
الوجه الرابع : للجواب على هذه الرواية : إنّه لم يقل في الرواية : ناشرات الشعور أمام الرجال الأجانب ، أم أمام الأعداء ونحو ذلك ، بل من الواضح أنّهن ناشرات الشعور فقط ، وهذا من الممكن بل المتعيّن أن يكون ضمن التعاليم الدينيّة أو الحجاب الإسلامي ، فإذا ضَممنا إلى ذلك هذه الفكرة ، وهي : إنّ النساء في الشرق كنّ و لازلنَ ، قد ورثنَ الأمر عن الأجيال السابقة ورأيناه عَياناًَ ، وهو اعتياد النساء في حالة الحزن والمصيبة على الالتزام بنشر شعورهنّ وإرسالها وذلك لأمرين :
أحدهما : أنّ ذلك بنفسه علامة الحزن والحِداد .
وثانيهما : أنّ ذلك ناشئ من إعراضها عن الزينة حزناً ، أو من ضيق نفسها عن التمشّط أساساً ، إمّا حقيقةً ، أو أنّ المرأة تريد أن تُظهر ذلك أمام الآخرين ، أو أن تكون في هذا الحال كغيرها من النساء ؛ فإنّ التزام النساء بعادات بعضهنّ البعض ممّا هو واضحٌ ومُسلّم . فإذا ضَممنا هذه الفكرة إلى ما سبقَ أمكننا أن نقول : إنّ نساء الحسين ( عليه السلام ) ناشرات الشعور ، حِداداً على هذا المصاب الجَلل ، وحزناً وإظهاراً لزيادة المصاب ، وليس في الأمر ولا في الرواية بالمرّة أنّهنّ كنّ ناشرات الشعور أمام الرجال الأجانب ، بل كنّ كذلك في مجتمعهنّ الخاصّ ، أعني النساء أمام بعضهنّ البعض .
فإن قال قائل : إنّ هذا الوجه مُحتمل وليس أكيداً ، قلنا : إنّه بعد التنزّل عن كلّ ما سبق ممّا يقتضي كونه أكيداً ، فإنّ مجرّد الاحتمال هنا يكفينا ، كأطروحة موهِنة للاستدلال بهذه الرواية ضدّ نساء الحسين ( عليه السلام ) ، أو قيامهنّ بالمحرّمات ، وإذا دَخلَ الاحتمال بطلَ الاستدلال .
المثال الثاني : لِمَا رويَ من قضايا الحسين ( عليه السلام ) ، ممّا يكون ظاهره العمل بشيءٍ من المحرّمات ، مع التعرّض إلى جوابه :
ما وردَ في تاريخ مسلم بن عقيل ( سلام الله عليه ) : من أنّه حين أُخذَ مكتوفاً إلى عُبيد الله بن زياد ، رأى قُلّة (10) ماء بارد فقال : اسقوني منها ، فقال له بعضهم : انظر إليها ما أبرَدها ، لن تذوق منها حتّى تذوق الحميم ، إلى أن تقول القصّة : إنّه صُبّ لهُ في قدح ماء وقرّبه إلى فمه لكي يشربه ، فامتلأ القدح دَماً ؛ لأنّه كان قد حَصلت له ضربة على شَفته العليا ووصلت إلى أسنانه فسكبَ الماء ، فملؤوه لهُ مرّة أخرى ، فامتلأ القدح دماً فسكبه ، فلمّا كانت الثالثة قال : لو كان من الرزق المقسوم لشربتهُ (11) .
ففي هذه الحادثة يمكن أن نلاحظ كملاحظة أوّليّة : عدم مشروعيّة مطالبة مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) بالماء ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون ملتفتاً إلى جرحه الذي في فَمه أم لا ، والجَرح لم يكن مضت عليه مدّة طويلة ، ولعلّه كان ينزف لحدّ الآن .
أمّا عدم التفاته إليه فهذا مُستبعد جدّاً ، باعتبار الدم الذي ينزف ، وإن لم يكن له دم كان الألم موجوداً ، ومن الصحيح أنّه ( سلام الله عليه ) يتحمّله ويصبر عليه ، إلاّ أنّ ذلك لا يعني نسيانه ، بحيث يستطيع أن يأكل أو يشرب كأيّ إنسانٍ اعتيادي .
فإذا كان ملتفتاً إلى الجَرح ، فلماذا طلبَ الماء وهو يعلم سَلفاً باختلاطه بالدم ؛ لأنّ الدم وإن لم يكن ينزف بشدّة ، ولكنّه إذا شربَ الماء فسوف يدخل الماء في الجرح ويحدث نزف جديد يقيناً ، فهذا فيه احتمالان باطلان لإتمام الاستشكال ومُحتمل ثالث صحيح للجواب عليه :
أمّا الاحتمالان الباطلان فهما :
الأوّل : أن يكون مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) مستعدّاً لشرب الماء المختلط بالدم بالرغم من نجاسته ، وهذا باطلٌ ؛ لأنّه حرام أوّلاً ، وينصّ التاريخ على تركه وإراقة الماء ثلاث مرّات ثانياً .
الثاني : تبذير الماء بحيث كان كلّما امتلأ دَماً أراقهُ ، وخاصّة في المرّة الثالثة حيث كان من المعلوم حصول نفس النتيجة ، وهذا الاحتمال باطل أيضاً ؛ لأنّه وإن كان تبذيراً إلاّ أنّه ليس بمحرّم على مسلم بن عقيل في ذلك المورد ، لوجود المصلحة فيه ـ على ما سيأتي ـ ولكن لو صحّ أحد هذين الاحتمالين لتمّ الاستشكال ، ولم يبقَ عندنا من جواب إلاّ الطعن بسند هذه القصّة نفسها ، واحتمال كونها مكذوبة أساساً أو تأكيد ذلك ؛ لأنّنا نَجلّ مسلم بن عقيل عن مثل هذا الإسفاف .
ولكنّ الاحتمال الثالث والأخير يصلح جواباً على الإشكال أساساً : وهو أنّنا ينبغي أن نلتفت إلى أنّ طلبهُ للماء كان في أوّل دخوله على عبيد الله بن زياد ، فأراد أن يبرهن له عمليّاً وحسيّاً على حاله السيّئة دنيويّاً والبلاء الحاصل عليه قبل القبض عليه وشدّ وثاقه ، فهو مُتعب جدّاً وعطشان جدّاً ومجروح جَرحاً بليغاً ، مضافاً إلى كونه أسيراً ومكتوفاً ، ولئن كان في شرب الماء نوع من الراحة لهُ ، فهو قد أصبحَ بحالٍ بحيث لا يستطيع أن يشرب الماء ليرتاح حتّى بهذا المقدار ، كلّ هذا فَهَمهُ عُبيد الله بن زياد من تنفيذ طلبه ومحاولته لشرب الماء ، بل أكثر من ذلك وهو : أنّ الجرح بليغ إلى درجة لا يؤمَل معه انقطاع الدم حتّى في الصبّة الثالثة للماء .
وهذا الذي أشرنا إليه : من أنّ المصلحة تقتضي وجود هذه الصّبة فلا تكون تبذيراً ، فقد كان طلبهُ بيان عملي لشرح حاله لا أكثر ، وبهذا يندفع الإشكال السابق جملةً وتفصيلاً .
المصادر :
1- مقتل الخوارزمي : ج2 ، ص31 ، اللهوف لابن طاووس : ص49 ، البحار : ج45 ، ص44 .
2- السيّد المقرّم في مقتله نقلاً عن مَجمع الزوائد للهيثمي : ج9 ، ص193 ، ومقتل الخوارزمي : ج1 ، ص249 ، وروضة الواعظين للفتّال : ص159 / مقتل المقرّم نقلاً عن روضة الواعظين للفتّال : ص159 ، الكامل لابن الأثير : ج4 ، ص27
3- سورة آل عمران : آية 7 .
4- شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ج19 ، ص381 .
5- نهج البلاغة : خطبة 192 ، ص301 ، تحقيق د. صبحي الصالح .
6- كتاب ( شهيد جاويد ) بالفارسيّة ، وقد تُرجم إلى العربيّة باسم واقعة كربلاء ( ط ) .
7- زيارة الناحية المقدّسة المرويّة عن الإمام الحجّة ( عجّل الله فرجه ) .
8- سورة الفتح : آية 10 .
9- سورة طه : آية 5 .
10- القُلّة : بمعنى الجرّة ، وقيل : الكوز الصغير ( أقرب الموارد : ج2 ، ص1034 بتصرّف ) .
11- الإرشاد للشيخ المفيد : ص215 ، ط نجف ، تاريخ الطبري : ج6 ، ص212 ، الكامل لابن الأثير : ج3 ، ص274 ، مقاتل الطالبيين

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الفرق بين علوم القرآن والتفسير
وتسلّط‌ ارباب‌ السوء
اليقين والقناعة والصبر والشکر
القصيدة التائية لدعبل الخزاعي
في رحاب أدعية الإمام الحسين (عليه السلام)
أقوال أهل البيت عليهم السلام في شهر رمضان
آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
أوصاف جهنم في القرآن الكريم
ألقاب الإمام الرضا عليه السلام

 
user comment