عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

انتقال الخلافة إلى الأمويين

انتقال الخلافة إلى الأمويين

لما طمع بنو أمية في الخلافة، كانت قد أفضت إلى علي بن أبي طالب عليه السلام صهر النبي وابن عمه، والمسلمون يعتقدون أنه أحق الناس بها، لقرابته من النبي صلی الله عليه وآله وسلم وتقواه وشجاعته وعلمه، وسابقته في الإسلام وفضله في تأييده.
فتصدى له معاوية بن أبي سفيان، وكان أبوه وإخوته من أشد الناس مقاومة للإسلام عند ظهوره، ولم يسلموا إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، وإنما أقدموا على ذلك مضطرين، لما رأوا الإسلام قد تأيد في جزيرة العرب ولم يبق سبيل إلى مقاومته.
وكان أبو سفيان والد معاوية زعيم أهل مكة، وقد حارب النبي في عدة أمكان. وجاهر بعداوته وطعن فيه. فلما ظفر المسلمون في غزواتهم، واشتد آزرهم وهموا بفتح مكة ومشوا حتى أقبلوا عليها، كان أبو سفيان وبعض كبراء قريش قد خرجوا منها يتجسسون. فلقيهم العباس عم النبي، فقال له أبو سفيان وقد أسقط في يده: «لقد أصبح أمر ابن أخيك عظيمًا»، فأشار عليه العباس أن يستأمن، فلم ير له حيلة في غير ذلك فاستأمن، ثم فتحت مكة ولم يكن له بد من الإسلام فأسلم هو وأولاده وفيهم معاوية، وقد تألفهم النبي بالعطاء ليثبتوا في إسلامهم.(1)

المنافسة بين بني أمية وبني هاشم

والسبب في طلب معاوية للخلافة متصل بالجاهلية. وذلك أن بني عبد مناف هم أشرف بطون قريش وأكثرهم عددًا وقوةً، وهم فخذان: بنو أمية وبنو هاشم، وكان بنو أمية أكثر عددًا من بني هاشم وأوفر رجالًا، وكان لهم قبل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أمية والد أبي سفيان وجد معاوية.
وكان حرب المذكور رئيسهم في واقعة الفجار قبل الإسلام، وله جاه وشوكة في الفخذين جميعًا، فلما جاء الإسلام، والنبي من بني هاشم شق ذلك على بني أمية وكانوا من أقوى الساعين في مقاومته، فلم يفلحوا ولكنهم حملوا النبي على الهجرة من مكة إلى المدينة، وقد نصره الأنصار هناك وهم من القحطانية حتى استتبَّ له الأمر، وقد مات عمه أبو طالب وهاجر بنوه مع النبي إلى المدينة. ثم لحقهم أخوه حمزة ثم العباس وغيره من بني عبد المطلب وسائر بني هاشم، فخلا الجو لبني أمية في مكة، واستغلظت رياستهم في قريش، وزادت سطوتهم بعد واقعة بدر؛ إذ هلك فيها عظماء قريش من سائر البطون.
فاستقل أبو سفيان بشرف أمية بمكة والتقدم في قريش، وكان رئيسهم في واقعة أحد وقائدهم في واقعة الأحزاب وما بعدها. فلما استفحل أمر المسلمين وفتحوا مكة واستأمن أبو سفيان كما تقدم، رأى النبي من حسن السياسة أن يمن على قريش كافة بعد أن ملكهم بالفتح عنوة، فمَنَّ عليهم وأطلق سبيلهم وقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وفيهم معاوية، فأسلموا جميعًا.
فلما مات النبي وتولى الخلافة أبو بكر، جاء القرشيون ومعظمهم من بني أمية، وشكوا إليه ما وجدوه في أنفسهم من التخلف عن رتب المهاجرين والأنصار، فقال لهم أبو بكر: «لقد جئتم الإسلام متأخرين، فأدركوا إخوانكم في الجهاد»، فجاهدوا في حروب الردة. ولما تولى عمر بن الخطاب أدرك ما في نفوسهم، فخاف بقاءهم في المدينة، فرمى بهم الروم ورغبهم في الشام، فاستعمل يزيد بن أبي سفيان عليها، فانتقل معه سائر قريش، واستطابوا فاكهة الشام فأقاموا فيها حتى توفي يزيد المذكور، فولى عمر مكانه أخاه معاوية. ولما تولى عثمان سنة ٢٣ﻫ أقر معاوية على الشام، فاتصلت رياسة بني أمية على قريش في الإسلام كما كانت في الجاهلية، وبنو هاشم مشتغلون بالنبوة وقد نبذوا الدنيا.

معاوية وعلي

وكان بنو أمية ينظرون إلى ما ناله بنو هاشم بالنبوة من السلطان والجاه، ويتوقعون فرصة للقبض على أزمة الملك. فلما قتل عمر بن الخطاب وأمر بالشورى، اختار الصحابة عثمان بن عفان وهو من بني أمية، ولا يخلو فوزهم بهذا الانتخاب من دسيسة أموية، وكان عثمان ضعيفًا يؤثر ذوي قرابته في مصالح الدولة، فاغتنم الأمويون ضعفه وتولوا الأعمال واستأثروا بالأموال، فشق ذلك على سائر الصحابة فنقموا عليه، ثم استشهد بعد ذلك على ما هو معروف.
فاتخذ الأمويون قتله ذريعة للقبض على الخلافة، ورئيسهم معاوية بن أبي سفيان عامل عثمان على الشام ومعه رجال قريش. وكان أهل المدينة قد بايعوا علي بن أبي طالب، وجمهورهم الأنصار. فأصبح المسلمون يومئذ حزبين رئيسيين:
•الأنصار ويريدون الخلافة لأهل بيت النبي صلی الله عليه وآله وسلم جريًا على نصرتهم إياه يوم هجرته.
• بنو أمية في الشام ويطلبونها لمعاوية ابن زعيمهم في الجاهلية.
وجمهور الصحابة يرون الحق لعلي، فلم ير معاوية سبيلًا إلى نيل بغيته إلا بالدهاء والتدبير. وكان أدهى أهل زمانه بلا منازع. فنظر في الأمر نظرة رجل يطلب الملك كما يطلبه أهل المطامع وطلاب السيادة في كل عصر بلا علاقة بالدين. وقد ساعده على ذلك أن خصمه عليًّا كان يعتبر الخلافة منصبًا دينيًّا، وهو زاهد في الدنيا لا مطمع له في غير الثواب والحسني. وإن رجال معاوية قد ذهبت منهم حرمة الدين، ونسوا دهشة النبوة وذاقوا لذة الثروة وتعودوا السيادة فاتسعت مطامعهم، فأثمرت مساعي معاوية في اصطناع الأحزاب بقاعدة ذكرها في حديث دار بينه وبين عمرو بن العاص: إذ قال معاوية: «لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت»، فقال عمرو: «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟»، قال: «إن هم شدوا أرخيت، وإذا أرخوا شددت».
فأول شيء فعله معاوية أنه استعان بثلاثة من كبار الصحابة يعدهم المؤرخون أدهى رجال العرب - ومعاوية أدهاهم جميعًا - وهم: عمرو بن العاص، وزياد بن أبيه، والمغيرة بن شعبة. ولولاهم لم يستتب له الأمر؛ لأن ابن العاص احتال في نجاته من واقعة صفين، بعد أن كادت الدائرة تدور عليه، إذ ظهرت جيوش عليّ على جيوشه، فأشار عليه عمرو بن العاص أن يرفع المصاحف لإيقاف الحرب، ثم أشار بالتحكيم وخدع أبا موسى الأشعري نائب علي في ذلك التحكيم فخلع عليًّا وبايع معاوية.
ونال عمرو في مقابل ذلك ولاية مصر طعمة له طول العمر.(2)
وزياد بن أبيه رجل لا يُعرف له أب، فلما رأى معاوية دهاءه قربه منه وادَّعى أنه أخوه، واستلحقه بنسبه وسماه زياد بن أبي سفيان، في حديث طويل ذكرنا خلاصته فيما تقدم. واستلحاق زياد أول عمل ردت به أعلام الشريعة الإسلامية علانية(3)
وكان زياد عونًا كبيرًا لمعاوية في حفظ العراق وفارس. أما المغيرة بن شعبة فهو أول من ضرب الزيوف في الإسلام وأول من رشى(4) وهو الذي حرض معاوية على مبايعة ابنه يزيد، وجعل الخلافة وراثية في نسله وساعده على ذلك.
فهؤلاء وغيرهم من كبار القواد اكتسب معاوية مساعدتهم بالدهاء والأطماع، فأطعم ابن العاص مصر، وأطعم المغيرة فارس، وجعل زيادًا أخاه، وكان يتساهل في محاسبة عماله ويغضي عن سيئاتهم(5)
ويبالغ في إكرامهم. ولو رأوا من علي بعض ذلك لكانوا معه، ولكن عليًّا كان دقيقًا في محاسبتهم، متصلبًا في رأيه لا يحيد عما يقتضيه ضميره — كذلك كان يفعل أبو بكر وعمر، ولكن المسلمين كانوا في أيامهما لا يزالون في إبان الحمية الدينية والأريحية العربية، ينصاعون لأوامر خليفتهم بكلمة؛ ولذلك عدوا تصرف علي ضعفًا منه. فلما رأوا ضعفه انحازوا إلى معاوية بعد أن كانوا معه، وأولهم المغيرة بن شعبة، فهذا جاء عليًّا يوم بويع ومعاوية واقف له بالمرصاد، فأشار عليه أن يحاسن معاوية ولا يعزله عن عمله في الشام، ريثما يستتب له الأمر فيعزله إذا شاء، فلم يطعه علي، فعاد إليه في اليوم التالي وخادعه، وأشار عليه أن يعزل معاوية ويفعل كما يشاء، ثم انحاز المغيرة إلى معاوية وصار من أكبر أنصاره.
وقس على ذلك تصرف علي مع ابن عمه عبد الله بن عباس، وكيف كدره وأخرجه من حوزته بتدقيقه كما تقدم. ولما قتل علي خلفه ابنه الحسن، فرأى نفسه عاجزًا عن منازلة معاوية، فتنازل له عن الخلافة سنة ٤١ﻫ، فرسخت قدم معاوية فيها. وسار بنو أمية بعده على خطته، وسار العلويون على خطة علي، وكان الفوز دائمًا لأهل الدهاء، فقضى العلويون معظم أيامهم خائفين شاردين، ومات أكثرهم قتلًا مع أنهم أهل تقوى ودين وحق، وأولئك على الضد من ذلك — مما يدلك على أن السياسة والدين لا يلتحمان إلا نادرًا، وما التحامهما أيام الراشدين إلا فلتة قلما يتفق مثلها. على أننا لا نعد دولة الراشدين حكومة سياسية، وإنما هي خلافة دينية.

رغبة بني أمية في السيادة

إن المحور الذي كانت تدور عليه سياسة بني أمية، والغرض الذي كانوا يرمون إليه، إنما هو إحراز الخلافة والرجوع إلى السيادة التي كانت لهم في الجاهلية، بقطع النظر عن وعورة المسالك المؤدية إلى ذلك، أو وخامة الأسباب التي تمسكوا بها. وقد فازوا بغايتهم، فاتسعت المملكة الإسلامية في أيامهم واشتدت شوكتها، ما لم تبلغ إليه دولة العباسيين بعدها.(6)
وكانوا يطلبون السلطة على أن لا يشاركهم فيها أحد، وكان أشدهم فتكًا عبد الملك بن مروان يقول: «لا يجتمع فحلان في أجمة».(7)
فرغبة بني أمية في السلطة على هذه الصورة، مع وجود من هو أحق منهم بها، جرهم إلى ارتكاب أمور آلت إلى توجيه المطاعن إليهم. وقد ظهرت هذه الدولة وتغلبت على سائر طلاب الخلافة في أيامهم بشيئين: العصبية القرشية، واصطناع العصبيات أو الأحزاب الأخرى، وهما أساس كل ما ظهر من سياسة بني أمية .

العصبية العربية في عصر الأمويين

كانت العصبية العربية في الجاهلية بين القبائل بحسب الأنساب، فلما جاء الإسلام تنوسيت تلك العصبية، واجتمع العرب كافةً باسم الإسلام أو الجامعة الإسلامية، وما زالت الجامعة الإسلامية تشمل العرب على اختلاف قبائلهم وبطونهم طول أيام الخلفاء الراشدين. حتى إذا طمع بنو أمية في الملك، وقبضوا على أزمة الخلافة، استبدوا وتعصبوا للعرب، وحافظوا على مقتضيات البداوة وتمسكوا بعاداتها، فظلت خشونة البادية غالبة على حكومتهم وظاهرة في سياستهم، مع ذهاب مناقب البدو التي ذكرناها. وإنما حفظوا من أحوال جاهليتهم تعصبهم لقبيلتهم «قريش»، وإيثار أهلهم على سواهم. فجاشت عوامل الحسد في نفوس القبائل التي كان لها شأن في الجاهلية وضاع فضلها في الإسلام، وخصوصًا أهل البصرة والكوفة والشام؛
لأن أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي صلی الله عليه وآله وسلم، ولا هذبتهم سيرته ولا ارتاضوا بخلقه، مع ما كان فيهم من جفاء الجاهلية وعصبيتها، فلما استفحلت الدولة إذا هم في قبضة المهاجرين والأنصار، من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب، فاستنكفوا من ذلك وغصوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم، ومصادمة فارس والروم، مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس من ربيعة وكندة، والأزد من اليمن، وتميم وقيس من مضر، فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم، فعادت العصبية إلى نحو ما كانت عليه في الجاهلية.
بدأت هذه العصبية بتعصب العرب كافة على قريش، حسدًا لهم كما ذكرنا، ولاستبدادهم بالسلطة دون سائر الصحابة أو التابعين مع استئثارهم بالفيء — إلا الذين تألفهم معاوية من القبائل اليمنية أو العدنانية. وأول خلاف وقع بين المسلمين من هذا القبيل حدث في أيام عثمان، ذلك أن سعيد بن العاص لما ولاه عثمان الكوفة اختار وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة لمجالسته، فكانوا يسمرون عنده وفيهم جماعات من كل القبائل. وكان بنو أمية وغيرهم من الصحابة قد أخذوا في امتلاك العقار وبناء المنازل، وبنو أمية أطول باعًا يومئذ في ذلك لقرابتهم من الخليفة. فاتفق في إحدى مسامراتهم عند سعيد بن العاص أن بعضهم ذكر جود طلحة بن عبيد الله أحد كبار الصحابة، فقال سعيد: «إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جوادًا، ولو كان لي مثله لأعاشكم الله به عيشًا رغدًا».
والنشاستج ضيعة في الكوفة كانت لطلحة، وهي عظيمة كثيرة الدخل اشتراها من أهل الكوفة المقيمين بالحجاز بمال كان له بخيبر وعمَّرها فعظم دخلها.(8)
فلما قال سعيد ذلك قام غلام من الحضور فقال له: «لوددت أن هذا الملطاط لك». والملطاط ما كان للأكاسرة على جانبي الفرات مما يلي الكوفة. فنهض بعض الحاضرين من غير قريش وانتهر الغلام فاعتذر أبوه عنه وقال: «غلام فلا تجاوزه». فقال: «كيف يتمنى له سوادنا؟» أي: سواد العراق فقال سعيد: «السواد بستان قريش». وكان الأشتر النخعي حاضرًا، وهو من اليمنية، وكان شديد التعصب لعلي بن أبي طالب، فغضب وقال لسعيد: «أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟» فقال عبد الرحمن الأسدي صاحب شرطة سعيد فقال للأشتر: «أتردون على الأمير مقالته؟» وأغلظ لهم، فأشار الأشتر إلى رفاقه فوثبوا على الرجال فوطئوه وطأً شديدًا حتى غُشي عليه، ثم جروا برجله ونضحوه بالماء فأفاق، فنظر إلى سعيد وقال: «إن الذين انتخبتهم لمسامرتك قتلوني». فقال سعيد: «والله لا يسمر عندي أحد أبدًا».(9)
فوقعت الوحشة بين قريش وسائر القبائل من ذلك الحين، وخصوصًا بينهم وبين اليمنية، ومنهم الأنصار. وثبت الأنصار في نصرة أهل البيت ضد أهلهم من قريش مثلما فعلوا في أول الإسلام، إذ جاءهم النبي مهاجرًا فرارًا من أهله. ولما جرت واقعة صفين سنة ٣٧ﻫ بين علي ومعاوية عدوها بين اليمنية «الأنصار» وقريش. فلما احتدم القتال في تلك الواقعة قال رجل يمني من أنصار علي: «أيها الناس هل من رائح إلى الله تحت العوالي (أي: السيوف)؟ والذي نفسي بيده لنقاتلنكم على تأويله (القرآن) كما قاتلناكم على تنزيله»، وتقدم وهو يقول:
نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
ضربًا يزيل المهاب عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله(10)

القبائل اليمنية والمضرية

ثم صار أكثر اليمنية شيعة علي وأنصاره، إلا الذين تألفهم معاوية بالعطاء؛ لعلمه أن اكتفاءه بقريش ونحوهم لا يجديه نفعًا، فقَّرب منه قبيلة كلب وتزوج منها بجدل أم يزيد ابنه، واستنصرهم على قتلة عثمان؛ لأن امرأة عثمان كانت كلبية، واستغواهم بالمال فحاربوا معه، ولما فاز في حروبه ورسخت قدمه في الخلافة تقربت منه قبائل كثيرة من مضر واليمن، وظلت كلب على نصرة يزيد ابنه بعده؛ لأنهم أخواله.
فلما مات يزيد وابن الزبير في مكة يطالب بالخلافة، واختلف بنو أمية على اختيار خالد بن يزيد أو مروان بن الحكم (وكلاهما من أمية)، ووقع الخصام بين دعاة ابن الزبير ودعاة بني أمية، كان أنصار ابن الزبير من قيس (مضرية) يدعون لابن الزبير، وأنصار بني أمية بنو كلب (يمنية) يدعون لخالد بن يزيد؛ لأنه ابن أختهم. ونهض أناس من بني أمية فاعترضوا على صغر سن خالد، فأجمعوا على بيعة مروان لشيخوخته على أن تكون الخلافة بعده لخالد.
ثم جرت واقعة مرج راهط بين أصحاب مروان وأصحاب ابن الزبير، أي: بين كلب وقيس، وفاز مروان وثبتت قدمه في الخلافة. ثم توفي مروان ولم يفِ لخالد، فخلفه ابنه عبد الملك بن مروان الشديد الوطأة، وظلت كلب معه وقيس مضطغنة عليه، وانقسم العرب في سائر أنحاء المملكة الإسلامية بين هذين الحزبين: قيسية وكلبية، أو مضرية ويمنية، أو نزارية وقحطانية. وقامت المنازعات بينهما في الشام والعراق ومصر وفارس وخراسان وإفريقية والأندلس. وفي كل بلد من هذه البلاد وغيرها حزبان: مضري ويمني، تختلف قوة أحدهما أو الآخر باختلاف الخلفاء أو الأمراء أو العمال.
فالعامل المضري يقدم المضرية، والعامل اليمني يقدم اليمنية، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال، وله تأثير في كل شيء من تصاريف أحوالهم، حتى في تولية الخلفاء والأمراء وعزلهم، وكثيرًا ما كانت الولاية والعزل موقوفين على الانحياز إلى أحد هذين الحزبين.
فقد رأيت أن قبيلة قيس كانت على عبد الملك بن مروان، ولكنها كانت أول نصير لابنه هشام، فنصرته فقربها وألحقها بالديوان أي: فرض لأهلها الرواتب والجرايات. وفي أيامه نقل كثير من بطونها وأفخاذها إلى بلاد الإسلام وخصوصًا مصر والشام. وفي أيام هشام ارتفع شأن القيسية، وصارت سائر المضرية أنصارًا لبني أمية، ولا سيما لما قتل الوليد بن يزيد وأمه قيسية(11)
فقام مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية يطالب بدمه رغبة في نصرتهم ليشتد أزره بهم، فأجمع المضرية على نصرة مروان، وما زالوا كذلك إلى آخر أيامه، فلما قامت شيعة بني العباس كانت اليمنية من أنصارها.
وكانت تحت هذين الحزبين الكبيرين أحزاب فرعية تتخاصم وتتحارب. على أن مقام قريش ما زال في كل حال محفوظًا ومفضلًا على مقام سائر القبائل شرفًا ونفوذًا، فكانوا إذا خافوا عصيان بعض الولايات على عاملها ولوا عليها عاملًا من قريش، فيذعنون له ويُجمعون على طاعته.(12)
على أن قريشًا كانوا منقسمين فيما بينهم، وأهم انقساماتهم بين بني أمية وبني هاشم، فكان الناس يتعصبون لأحدهما على الآخر تبعًا لغرضه أو وطنه، وكثيرًا ما كانوا يتشاجرون في هذا السبيل فيشغلون أوقاتهم بالمناظر والمفاخرة، حتى تحتدم نار الخصام وتتحول إلى حرب يطير شرارها وتسفك فيها الدماء. وكانت قوة بني هاشم في الحجاز والعراق، وقوة بني أمية في الشام، ويختلف هذا التحديد باختلاف العصور. وكثيرًا ما كان الخصام يبدأ بين الشعراء، واشتهر بعضهم على الخصوص في هذه المطاعنات، وأشهر مناظراتهم في هذا السبيل ما كان بين سديف الشاعر، الذي ينتسب بولائه إلى بني هاشم، فقد كان يتعصب لهم، وسياب الشاعر وكان يتعصب لبني أمية، فكان هذان الشاعران يخرجان إلى ظاهر مكة يذكران المثالب والمعائب، والناس ينقسمون في التعصب لهما، حتى تولد من ذلك عصبتان كبيرتان عرفتا بالسديفية والسيابية، وتواصل ذلك إلى أيام الدولة العباسية، وتغير اسمهما إلى الحناطين والجزارين(13)
وسديف هذا هو الذي قال شعرًا بين يدي السفاح قتل به سليمان بن هشام الأموي.
وكما كان القرشيون في أيام بني أمية مقدمين على سائر قبائل العرب، فإن العرب على الإجمال كانوا مقدمين على سائر الأمم الذين دانوا بالإسلام. ولم يكن هؤلاء يستنكفون من ذلك، بل كانوا يعتقدون فضل العرب في إقامة هذا الدِّين، وأنهم مادته وأصله، ولا كانوا يأنفون من أن يسموا العرب أسيادهم ويعدُّوا أنفسهم من مواليهم، بل كانوا يعدُّون طاعتهم وحبهم فرضًا واجبًا عليهم، عملًا بالحديث المأثور: «من أبغض العرب أبغضه الله»(14)
وكثيرًا ما كانوا يعترفون بفضلهم عليهم في العقل والحزم وسائر المناقب، فإن عبد الله بن المقفع المنشئ الشهير - وكان عريقًا في النسب الفارسي - ضمَّه مجلس في بيت بعض كبراء الفرس بالبصرة، وفيه جماعة من أشراف العرب، فتصدَّى هو للكلام فسأل بعض الحضور: «أيُّ الأمم أعقل؟» فظنوه يريد أمته فقالوا: «فارس» فقال: «كلا … لأنهم وإن ملكوا الأرض وضمَّت دولتهم الخلق، لكنهم لم يستنبطوا شيئًا بعقولهم»، فقالوا: «الروم» فقال: «لا» حتى سئموا فقالوا: «قل أنت»، قال: «العرب. وإذا فاتني حظي من النسبة إليهم فلا يفوتني حظي من معرفتهم. إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها ولا آثار أثرت عليها، أصحاب إبل وغنم وسكان شعره وأدم، يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده، ويشارك ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيحسن فيقبح، أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر على الخير فيهم ولهم».
وکان البعض يکره أن يصل خلف الموالي، وإذا صلوا خلفهم قالوا: إننا نفعل ذلك تواضعًا لله. وكان نافع بن جبير التابعي الشهير إذا مرت به جنازة قال: «من هذا؟»، فإذا قالوا: «قرشي» قال: «وا قوماه!»وإذا قالوا: «عربي» قال: «وا بلوتاه!» وإذا قالوا: «مولى» قال: «هو مال الله يأخذ ما شاء ويدع ما شاء».(15)
وكانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يدعونهم يتقدمونهم في المواكب، وإن حضروا طعامًا قاموا على رؤوسهم، وإن أطمعوا المولى لسنه وفضله وعلمه أجلسوه في طريق الخباز؛ لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب - وسيأتي الكلام على أحكام الموالي في هذا العصر.
لم يكن العرب يشتغلون في صدر الإسلام إلا بالسياسة والحكومة، وتركوا سائر الأعمال لسواهم وخصوصًا المهن والصناعات. ومن أمثالهم «أن الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين»؛ لأنها صناعات أهل الذمة(16) وتخاصم عربي ومولى بين يدي عبد الله بن عامر صاحب العراق فقال المولى: «لأكثر الله فينا مثلك»، فقال العربي: «بل كثر الله فينا مثلك»، فقيل له: «أيدعو عليك وتدعو له؟»، قال: «نعم، يكسحون طرقنا ويخرزون خفافنا ويحوكون ثيابنا».(17)
ولم يكن العرب يعتنون بشيء من العلم غير الشعر والتاريخ؛ لأنه لازم للسيادة والفتح، وأما الحساب والكتابة فقد كانت من صناعات الموالي وأهل الذمة؛ ولذلك كان العمال في أيام بني أمية مع تعصبهم للعرب، قلما يولونهم الدواوين؛ لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يحسبون.(18)
وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعًا وأرقاء. فلما تكاثر الموالي أدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب، فهم أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم. وقبل مباشرة ذلك استشار بعض كبار الأمراء من رجال بطانته، وفيهم الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب، فقال لهما: «إني رأيت هذه الحمراء (يعني: الموالي) وأراها قد قطعت على السلف، وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان، فرأيت أن أقتل شطرًا وأدع شطرًا لإقامة السوق وعمارة الطريق، فما ترون؟». فقال الأحنف: «أرى أن نفسي لا تطيب … أخي لأمي وخالي ومولاي وقد شاركناهم وشاركونا في النسب»، وأما سمرة فأشار بقتلهم وطلب أن يتولى ذلك هو بنفسه، فرأى معاوية أن الحزم في رأي الأحنف فكفَّ عنهم. فاعتبر مقدار استخفاف العرب بسواهم، وكيف يخطر للخليفة أن يقتل شطرًا منهم بغير ذنب اقترفوه كأنهم من الأغنام.
وكأنَّ العرب سكروا بخمرة السيادة والنصر، بارتقائهم من رعاية الإبل إلى سياسة الممالك في بضعة عشر عامًا، فتوهَّموا في فطرتهم ما ليس في سواهم من المناقب والسجايا كما توهم الرومان قبلهم، وكما يتوهم أهل هذا العصر في بعض الأمم السائدة، فيعتقدون امتيازها بأصل فطرتها عن سائر الأمم، فتوهم العرب في أنفسهم الفضل على سائر الأمم …
حتى في أبدانهم وأمزجتهم فكانوا يعتقدون أنه لا تحمل في سن الستين إلا قرشية، ولا تحمل لخمسين إلا عربية كما تقدم، وأن الفالج لا يصيب أبدانهم، ولا يضرب أحدًا من أبنائهم، إلا أن يبذروا بذورهم في الروميات والصقلبيات وما أشبههن فيعرض الفالج لمن يلدنه؛(19)
ولذلك كانوا في أيام بني أمية شديدي العناية في حفظ أنسابهم من شوائب العجمة، تسند بعض المناصب الدينية المهمة الی المن یجید العربیة كالقضاء، فقالوا: «لا يصلح للقضاء إلا من یجید العربیة»(20) وحرموا منصب الخلافة على ابن الأمة ولو كان أبوه قرشيًّا، وكان ذلك من جملة ما احتج به هشام على يزيد بن علي بن الحسين، إذ قام يطلب الخلافة لنفسه فقال له هشام بن عبد الملك: «بلغني أنك تخطب الخلافة ولا تصلح لها؛ لأنك ابن أمة»(21) مع أن أمه من بنات ملوك فارس. وأول من ولي الخلافة من أبناء الإماء يزيد بن الوليد الأموي سنة ١٠١ﻫ، ولم يكن أثقل على طباعهم من الااسترقاق .(22)
المصادر :
1- الجزء الأول من هذا الكتاب.
2- المقريزي ٣٠٠ ج١.
3- ابن الأثير ٢٢٥ ج٣.
4- المعارف ١٨٩.
5- ابن الأثير ٢٦٠ ج٣.
6- الفخري ٢٥.
7- ابن الأثير ٩١ ج٦.
8- ياقوت ٧٨٣ ج٤.
9- ابن الأثير ٧٢ و٩٧ ج٣.
10- المسعودي ١٦ ج٢.
11- ابن الأثير ١٥٩ ج٥.
12- ابن الأثير ١٧٨ ج٥.
13- الأغاني ١٦٢ ج١٤.
14- العقد الفريد ٤٢ ج٢.
15- العقد الفريد ٧٣ ج٢.
16- البيان والتبيين ١٠٠ ج١.
17- العقد الفريد ٧٣ ج٢.
18- المسعودي ١١٤ ج٢.
19- طبقات الأطباء ١٥٠ ج١ والأغاني ٨٨ ج١٥.
20- ابن خلكان ٢٠٥ ج١.
21- ٢ سراج الملوك على هامش مقدمة ابن خلدون ٢٨٨.
22- ابن الأثير ٤٤ و١٣١ ج٥.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمام الصادق (عليه السلام) يشهر سيف العلم!
قرّاء القرآن و كيفية قراءته
منكروا المهدي من أهل السنة وعلة إنكارهم
مفاتيح الجنان(300_400)
حبيب بن مظاهرو حبه لأهل البيت
حديثٌ حول مصحف فاطمة (ع)
قال الحكيم و المراد بعترته هنا العلماء العاملون ...
الوصايا
تشبيه لطيف من صديق حقيقي‏
خلق الأئمة ( ع ) وشيعتهم من علِّيِّين :

 
user comment