عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

الأمويين و مبادئ الدين

الأمويين و مبادئ الدين

إتخذ الامويون الدين وسيلة لقمع حركات المسلمين الذين طالبوا « الخلفاء » الأمويين بتطبيق مبادئ الدين على تصرفاتهم.
أي أن الامويين كانوا يتظاهرون بالتدين فيدعون المسلمين ـ في خطبهم وخطب ولاتهم ـ إلى التمسك بالدين الذي لا يتمسكون هم ولا ولاتهم بتعاليمه.
وكانت غايتهم من ذلك ـ بالطبع ـ هي صرف الناس عن المطالبة بتطبيق الدين على شؤون الحياة من جهة وعاملا من العوامل التي يبرر الأمويون فيها اعتداءاتهم على أرواح المسلمين وممتلكاتهم.
وقد أصبح الأمويون بهذا النوع من التصرف ممن يشملهم منطوق الآيات التالية التي وردت في القرآن : جاء في سورة البقرة.
« ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وماهم بمؤمنين. يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ».
وإذا قيل لهم : « لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون » .. وجاء في سورة البقرة أيضاً.
« أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ».
« ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد. وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد ». وإلى القارئ نماذج من تصرفات الامويين في هذا الباب.
خطب زياد بن أبيه في حشد كبير من المسلمين فنعى عليهم عدم تمسكهم بالدين ونسي او تناسى نفسه وخليفته وأثر كل منهما في ذلك الوجه من وجوه الحياة الإسلامية. ثم قال :
« كأنكم لم تسمعوا نبي الله ولم تقرأوا كتاب الله ولم تعلموا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته .. إني لأقسم بالله لآخذن الولي بالولي والمقيم بالضاعن والمقبل بالمدبر.
أيها الناس لقد أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة. نسوسكم بسلطان الله الذين أعطانا ونذود عنكم بفئ الله الذي خولنا. فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا (١).
فزياد بن سمية إذن يتهم المسلمين الذين يطالبون الامويين باتباع تعاليم الدين في تصرفاتهم بأنهم لم يقرؤا كتاب الله ولم يسمعوا أحاديث نبيه وأنهم جاهلون بما أعد الله من الثواب لأهل طاعته والعقاب لأهل معصيته. في حين أن زياداً ـ وأسياده الامويين ـ أولى بسماع ذلك واتباعه. فقد أعد الله الثواب والعقاب للذين يطيعونه ويتبعون أوامره ويعرضون عما ينهى عنه.
وعندي إن جانبا من تعبير المسلمين عن طاعتهم الله يتمثل في عصيانهم أوامر ولاة السوء « أمثال زياد بن أبيه » الذي عصوا الله فيما كانوا يعملون.
ولا ندري فيما إذا كانت هناك طاعة الله افضل من عصيان اوامر الخارجين على تعاليمه !!
أما استطراد ابن سمية في التهديد والوعيد « إلى حد الخروج عن أوامر الله » وتصميمه على اخذ الولي بالولي والمقيم بالضاعن والمقبل بالمدبر فشيء يناقض قول الله « ولا تزر وازرة وزر أخرى ».
وأما زعمه بأنه والامويين قد جعلهم الله للناس ساسة فكذب على الله والناس ، ذلك لأنهم نصبوا أنفسهم حكاما عن طريق تمردهم على الله ورسوله.
وأما قوله بأنهم عن الناس ذادة فلسنا ندري كيف يذودون عن الناس بعد الذي ظهر منهم من تمزيق لمصالح الناس وتحد لمبادئ الدين !. ولعله كان يقصد أنه ـ واسياده الامويين ـ يذودون عمن سكت عن موبقاتهم ، وشاركهم اقتسام منافع الملك والتمتع بثمرات « بساتين قريش » ..
وإذا كان الامر كذلك فهل من الانصاف لله أن يزعم ابن أبيه انه يسوس المسلمين بسلطان الله !!. ولو أنه قال : انه يسوسهم بسلطان الامويين ـ الذي لا يرضاه الله ـ لما أخطأ ولا تجنى.
وأما إضافة عبارة « الذي أعطانا » بعد عبارة « بسلطان الله » فشئ يمجه الذوق الاسلامي ، ويأباه التاريخ.
ولا ندري كيف أعطى الله سلطانه للامويين الذين حاربوه في شخص نبيه الكريم!!
وخطب الحجاج بن يوسف في اهل البصرة فقال :
« يا أهل العراق إني قد استعملت عليكم محمداً ابني وبه الرغبة عنكم .. وقد أوصيته فيكم خلاف وصية رسول الله بالانصار. فانه أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم. وقد أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم » (2).
ولسنا نعرف سبب وصيته تلك بعدم التجاوز عن المسيء وعدم القبول من المحسن ـ إلا إيغاله في قتل الناس.
وإذا جاز للحاكم ـ في بعض الاحيان ـ أن لا يتجاوز عن المسيء فإنه لا يجوز عدم القبول من المحسن.
ثم هل يجيز الاسلام ذلك؟
وخاطب الحجاج جموعا من المسلمين فقال :
« إني لأرى رؤسا قد أيعنت وقد حان قطافها. إني لأنظر الدماء بين العمائم اللحى ... ثم قرأ قوله تعالى : « وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان. فكفرت بأنعم الله فأذاقها البأس والجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وأنتم أولئك ... »
إنكم أهل بغي وخلاف وشقاق ونفاق. فإنكم طالما أوضعتم في الشر وسننتم سنن البغي ... فو الله لأذيقنكم الهوان ... ولألحونكم لحو العود ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تذلوا. ولأضربنكم ضرب غرائب الابل حتى تذروا العصيان وتنقادوا ».
فالمسلم ـ بنظر الحجاج ـ هو الذي يستسيغ موبقات الامويين ويرتاح لاستهتار الحجاج ، ويفوض أمره لله. وإلا فهو معرض ـ في كل لحظة ـ لشتى صنوف العاب. أما أن يبحث الحجاج ـ « أمير » المسلمين ـ عن عوامل التدمير ، ويسعى إلى إزالتها بالمعاملة الحسنة والسير وفق مستلزمات الشريعة الاسلامية فشئ لم يخطر بباله. وسبب ذلك أنه ـ وأسياده الامويين ـ كانوا من الامرين بالمعروف التاركين له.
وحج عبد الملك بن مروان بالناس في عام « ٧٥ هـ » ـ على ما يذكر ابن الاثير (3) فقال « لست بالخليفة المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون ـ يعني يزيد ـ.
ألا وإني لا أداري هذه الامة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم .. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله ـ بعد مقالي هذا ـ إلا ضربت عنقه. ثم نزل. » أي إن حفيد طريد رسول الله يريدها جاهلية صرفة مبنية على القوة الغاشمة وإراقة الدماء.
أما المسلم الذي ينبه « الخليفة » نحو تقوى الله فسوف ينال حتفه ـ وهو أمرعلى جانب كبير من الخطر على الدين والأخلاق.
ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة أن المفروض بعبد الملك من حيث كونه خليفة المسلمين أن يأمر هو الناس بتقوى الله وأن يعاقب من يتمرد على أوامر الله. أما أن يتمرد الخليفة نفسه على الله وتعاليمه ويعصيه عصياناً مضاعفاً ـ بتمرده على أوامره أو لا وبقتله من يمنعه عن ذلك التمرد ثانياً ـ فأمر على جانب كبير من الخطر على الدين والاخلاق.
ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة أن عبد الملك بن مروان ـ عبد الملك « الخليفة » الجبار المتمرد على الله ـ عندما شاخ وضعف وقرب من الموت ، أخذ يشعر بحقارة نفسه واستصغارها أمام سلطان الله ـ شأن كل إنسان في الاوقات الحرجة ـ فندم. ولات ساعة مندم. قال ابن الاثير (4) :
« لما نزل بعبد الملك بن مروان الموت أمر بفتح باب قصره فإذا قصار يقصر ثوباً. فقال يا ليتني كنت قصاراً ... فقال سعيد بن العزيز : الحمد لله الذي جعلهم يفزعون إلينا ولا نفزع إليهم.
وقال سعيد بن بشير : إن عبد الملك حين ثقلجعل يلوم نفسه ويضرب يده على رأسه وقال : وددت أن كنت أكتسب يوماً بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله. فذكر ذلك لأبن حازم فقال : الحمد لله الذي جعلهم يتمنون ـ عند الموت ـ ما نحن فيه ، ولا نتمنى ـ عند الموت ما هم فيه ».
وسبب ذلك واضح ، هو أن عبد الملك ـ ومن هم على شاكلته ـ يخافون الله لموبقاتهم في الوقت الذي يشعرون فيه أنهم ملاقوه وتنعكس الآية عند غيرهم من أنصار الله.
فقد روي عن الامام علي بن أبي طالب أنه قال : عند ما ضربه ابن ملجم وشعر بالموت ـ « فزت ورب الكعبة » ـ فأطلقها صيحة ، لا شعورية ، مرحباً بلقاء ربه لأنه كان عف اللسان واليد والقلب.
ذلك جانب من جوانب فلسفة الامويين في الحكم.
وقد وضع معاوية بن أبي سفيان أصبعه على موطن الداء في الحكم الاموي.
ومعاوية بالطبع أعرف بدخائل ذلك الحكم من غيره ـ حين قال ـ عندما تلقاه رجال من قريش بعد عام الجماعة فقالوا :
الحمد لله الذي أعز نصرك وأعلا كعبك ـ « أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي. ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة. ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن ابي قحافة وأردتها على عمل عمر ، فنفرت من ذلك نفاراً شديداً. واردتها على ثنيات عثمان ، بأبت. فسلكت بها طريقاً لي ولكم فيه منفعة ـ مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة. فان لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية.
يا أهل المدينة إقبلونا بما فينا. فان ما وراءنا شر لكم. وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى ، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت (5) ».
ومما يلفت النظر حقاً أن الامويين وولاتهم لم يصغوا لنصح الناصحين من المسلمين وقد مر بنا موقف من مواقف عبد الملك في هذا الشأن. وهناك أمثلة أخرى كثيرة من هذا القبيل.
خطب الحجاج متذمراً من أهل العراق « فقال : له جامع المحاربي أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك. على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ، ولا لذات نفسك فدع عنك ما يباعدهم منك إلى ما يقربهم إليك.
فقال الحجاج : ما أراني أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف.
فقال أيها الأمير : إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار.
قال الحجاج : الخيار يومئذ لله ... قال أجل .. ولكنك لا تدري لمن يجعله الله ..
قال الحجاج : والله لقد هممت أن أخلع لسانك فأضرب به وجهك.
فقال يا حجاج : إن صدقناك أغضبناك وإن كذبنا أغضبنا الله. فغضب الامير أهون علينا من غضب الله (6).
ويلاحظ ـ في الظاهر ـ أن جامع المحاربي لم يقل للحجاج شيئاً يستلزم أن يهدده الحجاج بالقتل !! غير إننا إذا نفذنا إلى الجانب النفسي العميق ـ في هذا الموضوع ـ أمكننا أن نقول :
إن جامع المحاربي قد استفز الحجاج وأثار كوامن نفسه فكان طبيعياً أن يجيبه الحجاج بالشكل الذي مر بنا ذكره. فالحجاج ـ في قرارة نفسه ـ عارف أنه متمرد على الله وعلى رسوله ، وإن حكم الله سيكون عليه لاله. ولكنه ـ مع هذا ـ حاول أن يخفي ذلك في قرارة نفسه كلما وجد إليه سبيلا ، فلما حادثه جامع ـ بالذي ذكرناه ـ تحركت نوازع نفسه فطفحت تهديداً على لسانه ليقطع الحديث على جامع ويخيفه لئلا يعود إليه في المستقبل.
و « دخل إعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال : ـ يا أمير المؤمنين ـ إني أريد أن أكلمك بكلام ... فإذا أمنت بادرة غضبك فسأطلق لساني بما خرست به الألسن ... تأدية لحق الله.
يا أمير المؤمنين أنه قد تكنفك رجال أساؤا الإحسان لأنفسهم ، وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم ، وخافوك في الله ، ولم يخافوا الله فيك ... فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه ، إنهم لم يأتوا إلا ما فيه تضييع ، وللأمة خسف وعسف. وأنت مسئول عما اجترموا ، وليسوا مسئولين عما اجترمت. فلا تصلح دنياههم بفساد آخرتك ... فتغافل سليمان كأن لم يسمع شيئاً.
وخرج الإعرابي فكان آخر العهد به. (7)
وموقف سليمان هذا لا يختلف عن موقف الحجاج من الناحية المبدئية العامة ، وان اختلف عنه من حيث الشكل المظهر الخارجي.
فقد صمت سليمان وانطوى على نفسه بدلا من أن يجيب كما أجاب الحجاج. وسليمان بصمته هذا كتم نوازع نفسه التي أظهرها الحجاج. غير أن الأمر ، مع هذا ، اعمق من ذلك وأكثر تعقيداً.
فقد صرح الإعرابي ـ على بساطته ـ بما يجول في نفسه ، وألقى اللوم ـ في ظاهره ـ على حاشية الملك سليمان. وقد فاته أن يتذكر أن سليمان مسئول عن حاشيته لأنه اختارها وفق إرادته ووفق هواه ومزاجه. وأخذ هؤلاء ـ بدورهم يقومون بضروب الأفعال التي يرتضيها مزاج الملك. واذا بدر منهم ما يثيره ـ أحيانا ـ حمل ذلك منهم على حسن النية.
فسليمان الاموي لا « يصلح » إلا بحاشية فاسدة. والحاشية الصالحة لا « تصلح » لسليمان.
لقد فتح الامويون قلوبهم كما فتحوا خزائن بيت مال المسلمين لكل من حدثته نفسه بالخروج على أسس الدين أو مناوؤة الامام علي بن ابي طالب وتعاليمه.
فقد انضوى تحت لواء معاوية ـ مثلا ـ « أثناء نزاعه مع علي » كل من كان حاقداً علي ابن ابي طالب لعدالته وسلامة معتقداته في السياسة والدين والأخلاق. وفي مقدمة أولئك :
عبيد الله بن عمر بن الخطاب الذي هرب خوفاً من أن يقيده الامام بالهرمزان الذي قتله ظلماً.
ولجأ إلى معاوية أيضاً هصقلة بن هبيرة الشيباني الذي اشترى أسرى الخوارج من جماعة الخريت بن راشد السامي بعد أن التوى بما شرطه على نفسه.
وفر إلى معاوية كذلك القعقاع بن شور بعد إعتدائه على أموال المسلمين.
والتحق بمعاوية أيضا النجاشي بن الحرث بن كعب الشاعر المعروف. وبما أن قضية هروب النجاشي تكشف بعض الجوانب من أخلاق الإمام ـ يالإضافة إلى طرفتها ـ فقد رأينا أن ننقلها إلى القارئ ..
حدث ابن الكلبي عن عوانه. قال : خرج النجاشي في اول يوم من شهر رمضان فمر بأبي سمال الاسدي وهو قاعد بفناء داره. فقال له أين تريد؟ فقال :
اردت الكناسة. فقال : هل لك في رؤوس وآليات قد وضعت في التنور من أول الليل فأصبحت قد أينعت وقد تهرت !!.
قال ويحك ! في أول يوم من رمضان ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!. قال دعنا مما لا يعرف.
قال ثم مه ! قال اسقيك من شراب كالورس. يطيب النفس ، يجري في العرق ويزيد في الطرق ، يهضم الطعام ، ويسهل للقدم الكلام. فنزل فتغديا. ثم أتاه بنبيذ فشرباه.
فلما كان آخر النهار. علت أصواتهما ، ولهما جار من شيعة علي ، فأتاه فأخبره بقصتهما. فأرسل إليهما قوماً فأحاطوا بالدار.
فأما أبو سمال فوثب إلى دور بني أسد فأفلت ، وأخذ النجاشي فأتى به إلى علي فلما أصبح أقامه في سراويل فضربه ثمانين جلدة (8).
وروى صاحب « كتاب الغارات » أن عليا لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي. فدخل عليه فقال يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أهل المعصية والطاعة ، وأهل الفرقة والجماعة ـ عند ولاة العدل ومعادن الفضل ـ سيان في الجزاء حتى راينا ما كان من صنيعك بأخي الحرث فأوغرت صدورنا ..
فقال علي : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين !! وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفارته.
أن الله تعالى يقول : ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا. إعدلوا هو أقرب للتقوى.
قال : فخرج طارق من عنده فلقيه الاشتر فقال يا طارق : انت القائل لأمير المؤمنين أو غرت صدورنا وشتت أمورنا؟
قال طارق : نعم أنا قائلها.
قال : والله ماذاك كما قلت. إن صدورنا له لسامعة وإن أمورنا لجامعة. فغضب طارق وقال ستعلم يا أشتر غير ما قلت. فلما جنه الليل همس والنجاشي إلى معاوية ، فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما ـ وعنده وجوه اهل الشام منهم : عمرو بن مرة الجهني وعمرو بن صيفي وغيرهما. فلما دخلا نظر معاوية إلى طارق وقال : مرحبا بالمورق غصنه المعرق أصله المسود غير المسود من رجل كانت منه هفوة ونبوة باتباعه صاحب الفتنة ورأس الضلالة والشبهة .. فقام طارق فقال يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك. ثم قال :
أما بعد فان ما كنا نوضع فيما اوضعنا فيه « بين يدي إمام تقي عادل » مع رجال من أصحاب رسول الله أتقياء مرشدين ما زالوا مناراً للهدى ، ومعالم للدين ، خلفا عن سلف مهتدين أهل دين لا دنيا. كل الخير فيهم. اتبعهم من الناس إقيال وأهل بيوتان وشرف ليسوا بناكثين ولا قاسطين ، فلم يكن رغبة من رغب منا عنهم ؛ وعن صحبتهم إلا بقرارة الحق حيث جرعوها ولوعورته حيث أسلكوها وغلبت عليهم دنياً مؤثرة وهوى متبع.
فلا تفخرن يا معاوية إن شددنا نحوك الرحال وأوضعنا إليك الركاب .. فعظم على معاوية ما سمعه. وغضب ولكنه أمسك. وقال يا عبد الله : إنا لم نرد بما قلناه أو نوردك مشرع ظما ولا أن نصدرك عن مكرع ري. ولكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل.
ثم أجلسه معه على سريره ... وأقبل نحوه بوجهه يحدثه حتى قام وقام معه عمرو بن مرة وعمرو بن صيفي الجهنيان. فأقبلا عليه بأشد العتاب وأمضه ، يلومانه في خطيته وما واجه به معاوية.
فقال طارق : والله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل إلى أن بطن الارض خير لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب والنقص لمن هو خير منه في الدنيا والآخرة (9).
فلم يكن طارق يرى ـ وهو على حق ـ أن أهل المعصية والطاعة ، وأهل الفرقة والجماعة ـ أي الخصوم والانصار على السواء ـ سيان في الجزاء ، عند ولاة العدل ، إلا حين رأى معاملة الامام للمسلمين بصورة عامة وموقفه من النجاشي ، ـ شاعره ـ بصورة خاصة. ولكن ذلك الموقف العادل ـ مع هذا ـ قد أوغر صدر طارق وأثار حفيظة قومه على ما يقول. فقد كان قومه ـ على زعمه ـ يتوقعون أن يغض الامام طرفه عن هفواتهم لاتصالهم به ووقوفهم معه أزاء خصومه الذين انغمسوا في الموبقات إلى الاذقان.
ويلوح للباحث إن طارق بن عبد الله كان جاهلا بنفسية الامام ـ وإن كان ملتصقا به ـ. فغاب عن ذهنه أن الصديق الوحيد للإمام هو الحق وإشاعة العدل بين الناس. وقد دفعه جهله إلى إعلان استغرابه من موقف الامام ـ الطبيعي ـ من النجاشي. فالنجاشي ـ بنظر الامام ـ رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فاستحق على ذلك العقوبة الشرعية المناسبة.
وهنا يكمن سر خلود الامام ـ على مر الاجيال ـ ، ويتجلى الامام ـ في اتباعه الحق ـ كالطود ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير. وفي هذه النقطة بالذات يصعق مناوؤه ويتخاذلون فيذهبون مع الملك بالايام التي انسلخت من أعمارهم أثناء الحياة.
وفي هذه النقطة بالذات كذلك يبرز أنصار الامام ومشايعوه على السواء. فطارق المار الذكر لم يكن من أنصاره ـ من مشايعيه. وينعكس الامر عند الاشتر كما رأينا.
ولم يكن الامام غافلا عما ذكرناه. ولكنه كان مقيدا ـ في سياسته العامة ـ بقيود الشريعة ، مدفوعاً إلى اتباعها. فكان يقف مع النصوص لا يتعداها إلى الاجتهاد والاقيسة إذ لا اجتهاد في معرض النص.
وكان الامام يطبق أمور الدنيا على امور الدين ، ويسوق المسلمين جميعا مساقا واحداً. ولا يرفع ولا يضع إلا بالكتاب والسنة. ولم يكن يرى مخالفة الشرع لأجل السياسة سواء اكانت سياسة دينية ام دنيوية.
ولم يكن أيضا ينزل العقوبة ـ بمن يستحقا ـ إلا إذا ثبت عنده أن الانسان قام بعمل يستوجب العقاب. أي ان الاصل ـ عنده ـ براءة الذمة كما يقولون. ولا يعاقب قبل حدوث الجرم.
فالإمام إذن ـ وان فتح قلبه للمشايعين ـ لم يتردد في إزاحتهم عنه كلما آنس بتصرفاتهم خروجا عن الدين. واذا صح ما ذهبنا اليه جاز لنا ان نقول أن أولئك المشايعين كانوا ـ في عواطفهم ـ مع خصومه قبل إلتحاقهم الظاهر بهم. ولا تخرج عملية الالتحاق تلك عن كونهم حملوا أجسامهم من مكان إلى مكان. والعكس صحيح كذلك.
ولقد اشار الامام الى هذا المعنى حين قال : « إني وشيعتي في ميثاقي الله لا يزاد فينا رجل ولا ينقص إلى يوم القيامة(روى ذلك يونس بن أرقم عن زيد بن أرقم عن زيد بن ارقم عن أبي ناجية ـ مولى ام هانئ ـ قال كنت عند علي فأتاه رجل عليه زي السفر. فقال يا أمير المؤمنين إني أتيتك من بلدة ما رأيتك لك بها محباً. قال من أين أتيت؟ قال من البصرة. قال من البصرة. قال أما انهم لو يستطيعون أن يحبوني لاحبوني. « إني وشيعتي ـ في ميثاق الله ـ لا يزاد فينا رجل ولا ينقص إلى يوم القيامة. ») (10).
المصادر :
1- ابن الاثير : « الكامل في التاريخ » ٣ / ٢٢٢ ـ ٢٣٣.
2- المسعودي : « مروج الذهب ومعادن الجوهر » ٣ / ٨٥ ـ ٨٦.
3- ابن الاثير : « الكامل في التاريخ » ٤ / ٣٣ ـ ٣٤.
4- الكامل في التاريخ ٤ / ٤١.
5- ابن عبد ربه : « العقد الفريد » ٢ / ٣٦١.
6- ابن قتيبة « عيون الأخبار » ٢ / ٢١٢ طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة.
7- المسعودي « مروج الذهب » ومعادن الجوهر ٣ / ١١٥ ـ ١١٦.
8- ابن أبي الحديد « شرح نهج البلاغة » ١ / ٣٦٦ ـ ٣٦٨.
9- شرح نهج البلاغة ١ / ٣٦٧.
10- ابن أبي الحديد ، ١ / ٣٦٨. ١٠٨

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ما هو اسم الحسين عليه السلام
سورة الناس
نقد الذات
صلاة ألف ركعة
جنة آدم عليه السلام
الإقتباسات القرآنية في أشعار المواكب الحسينية (1)
ما هي ليلة الجهني، و لماذا سُمِّيت بالجهني؟
من أذكار الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم
هل المهديّ المنتظر هو المسيح عليهما السلام
الشعائر الحسينية‌ العامة‌

 
user comment