عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

الاحداث السخيفة بدأت من السقيفة

الاحداث السخيفة بدأت من السقيفة

هنالك إجماع بين مؤرخي أهل السنة بأن أول من سمع بخبر الاجتماع تحت السقيفة هو عمر ، وفي رواية أخرى له أن أبا بكر بلغه الخبر (1). وبلوغ الخبر لأبي بكر لا ينفي كون عمر هو أول من سمع الخبر وفي رواية ابن هشام: " فأتى آت إلى أبي بكر وعمر فقال... " (2) ثم إنه لا أحد يعرف اسم الذي أتى بالخبر لحد الآن!! إنه ليس صدفة إن يضيع اسم المخبر، مع أن هذا المخبر شخص بارز في المجتمع لأنه يعلم ما يدور في الخفاء، ولأنه أخبر عمر وأبا بكر، ومما يدل على بروز هذا الشخص أن عمر وأبا بكر أصغيا إليه وصدقاه وكلماه، فمخبر بهذا الوزن لأمر بهذه الأهمية لا يمكن أن يضيع اسمه إن وجد، مما يلقي ظلالا من الشك على وجود حقيقي لمثل هذا المخبر.
ثم إنه ليس صدفة أن تجتمع الأنصار وهم الأغلبية الساحقة من سكان العاصمة " المدينة " ولا يعلم بهذا الاجتماع من المهاجرين كلهم إلا عمر وحده! ثم لماذا ينادي عمر أبا بكر وحده ولا ينادي غيره من المهاجرين مع أن المهاجرين كلهم يلقون نظرة الوداع على نبيهم وإمامهم ويشاركون الآل الكرام مصابهم الفادح ؟ وهذا ليس صدفة أيضا، ثم أين كان الفاروق الذي لم تتحمله رجلاه عندما سمع بخبر وفاة النبي وتوعد بالموت وتقطيع أطراف من يزعم موت النبي (3) ؟
ولما تأكد له الموت من المفترض أنه ذهب إلى بيت نبيه وإمامه ليلقي عليه نظرة وليشارك الأمة مصابها. فإذا ذهب إلى بيت نبيه ورئيسه فكيف جاءه الخبر من دون الناس ؟ ومن الذي أتاه بهذا الخبر وكيف اهتدى إليه من بين الألوف المتواجدين في البيت المبارك أو حوله ؟ فمن المؤكد أن هذا ليس صدفة.
وحول الأنصار أنفسهم، من المؤكد قطعا أن الأنصار لم يجتمعوا جميعا فالذين اشتركوا في بدر هم الخيار، كما ورد بنص الشرع ومن غير الممكن أن يتم اجتماع الأنصار ولا يحضره البدريون وهم الخيار، فاللذان صادقا المهاجرين الثلاثة هما من أهل بدر ولو كانت غاية الاجتماع اختيار خليفة لحضره هذان البدريان أو على الأقل لما كانا خارج الاجتماع بتلك اللحظة.
ثم إن النبي قد فارق الحياة وهو مسجى في بيته الطاهر، فهل يعقل أن يتركه الأنصار ولا يذهب منهم أحد لإلقاء نظرة الوداع عليه بالوقت الذي تتأهب فه العترة الطاهرة لمواراته في ضريحه المقدس ؟ هذا أمر لا يمكن تصديقه إلا بحكم التقليد الأعمى، ثم إن الأنصار على فرض اجتماعهم كلهم من أجل انتخاب خليفة عرفوا أحكام الشرع وعرفوا أن محمدا من قريش، وأن الأئمة من قريش، وعرفوا الأحكام الواردة في أهل بيت النبوة، وشهدوا تنصيب الولي والخليفة من بعد النبي في غدير خم وأوصاهم النبي بعلي وبأهل بيته وخاطبهم مجتمعين ذات مرة قائلا لهم: يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده أبدا ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي فإن جبريل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل (4).
فكيف ينسون هذا النص أو يتناسونه جميعا ؟ كيف ينسون قضية التنصيب، وما هي علاقتهم بشعار " لا ينبغي أن يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة "، فهم ليسوا من قريش ولا مصلحة لهم بإبعاد آل محمد، كيف ينسون قوله صلی الله عليه وآله وسلم عن علي: إنه وليكم بعدي، وإنه مولى كل مؤمن ومؤمنة بعده... الخ، ما هي مصلحتهم بتجاهل هذه النصوص الواضحة القاطعة وأمثالها ؟ فالأنصار لم تجتمع لاختيار خليفة منها، وهذا أمر عسير تصديقه بكل الموازين لأن الأنصار يعرفون الولي ويعرفون الخليفة، بدليل أنهم وفي غياب علي وعندما أدركوا أن الأمر سيفلت من أيديهم قالوا: " لا نبايع إلا عليا "، وفي رواية قال بعض الأنصار: " لا نبايع إلا عليا " (5)
مما يدل على أن بعض الموجودين أرادوا مبايعة غيره إن صدقت الرواية الثانية، لكن من المؤكد أن إحدى الروايتين صادقة، وعندما غلب الأنصار على أمرهم وراجعتهم فاطمة الزهراء عليها السلام طالبة النصرة فكانوا يقولون لها: يا بنت رسول الله - قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول علي كرم الله وجهه: أفكنت أدع رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانة ؟
فتقول فاطمة: ما صنع أبو حسن إلا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم ومطالبهم.
وبشير بن سعد - الذي خرج عن إجماع الأنصار وكان أول من بايع أبا بكر - لما سمع حجة الإمام واحتجاجه قال مخاطبا عليا: " لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان " (6).
من كان هذا تفكيرهم لا يعقل أن يعقدوا اجتماعا بقصد انتخاب خليفة للنبي في غياب الولي الذي نصبه النبي وليا لهم من بعده أمام أعينهم في غدير خم وقدموا بأنفسهم له التهاني، وسمعوا النبي مرات ومرات وهو يقول لهم: إنه وليكم من بعدي، وإنه مولى كل مؤمن ومؤمنة بعدي.
ثم إن سعد بن عبادة الصحابي الجليل وسيد الخزرج وصاحب المواقف التي لا تعرف المهادنة أكبر من أن يقبل الخلافة من بعده في وجود الولي وأهل بيته وشيوخ المهاجرين، ثم إنه كان مريضا بالإجماع ولا يقوى على النهوض، ولو كان قادرا على النهوض لما ترك وليه ونبيه دون أن يلقي عليه نظرة الوداع. ومن المؤكد أن منزل سعد ملتصق بهذا المكان حيث حملوه فأدخلوه داره كما يروي ابن قتيبة، ومن الممكن أن هذه المجموعة من الأنصار كانوا من عواده وأخبروه بموت النبي، وليس من المستبعد أن يكون قد جرى حوار هادئ بين المجتمعين، ومن الممكن جدا أن يكون هذا الحوار قد تناول عصر ما بعد النبي صلی الله عليه وآله وسلم .

دخول المهاجرين الثلاثة
أخذ الاجتماع طابعا خاصا بدخول المهاجرين الثلاثة ومن الطبيعي أن الحديث سينقطع بعد دخول هؤلاء المهاجرين، من الذي بدأ الحديث ؟ من الذي فتح المناقشة بعد دخولهم ؟ لا أحد في الدنيا من أهل الملة يعرفه على وجه التحديد، لكن الفاروق يتصور أن هؤلاء يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر ، وأن الفاروق نفسه كان يتوقع قدوم جدد وانضمامهم إلى هذا الاجتماع. وأقبلت أسلم بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر فكان عمر يقول: " ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر " (7) بمعنى أنه يعلم اسم مؤيده سلفا.
وأسلم بطن كبير من بطون الأنصار كثير العدد كما يبدو، ومع هذا لم يكونوا في الاجتماع هذا، مما يؤكد أن اجتماع الأنصار لم يكن له طابع سياسي أبدا، ثم قول الفاروق: " فأيقنت بالنصر " النصر على من ؟ والنصر بماذا ؟ وكل هذا يؤكد المهمة الترجيحية التي فرضت على الأنصار بالمعنى الذي نوهنا عنه آنفا.

الغاية من قدوم المهاجرين الثلاثة
كان الهدف من ذهاب المهاجرين الثلاثة إلى الأنصار هو بالتحديد تنصيب خليفة للنبي وذلك بغياب قريش كلها، فرأي قريش هو عينه رأي الثلاثة، وهو ينصب بالدرجة الأولى والأخيرة على عدم تمكين الهاشميين من الجمع بين الخلافة والنبوة،
وبهذه الحالة فلا داعي لوجود قريش لأنها ممثلة بهؤلاء الثالثة أو على الأقل ممثلة بعمر المؤمن إيمانا تاما بهذه المقولة، والغاية أيضا أن يجري تنصيب الخليفة في غياب العترة الطاهرة كلها وخاصة عميدها علي بن أبي طالب، لأنه إن حضرت العترة الطاهرة أو حضر العميد تتغير حتما النتائج ويقيم الحجة عليهم ويقنع الأنصار. فإذا غابت العترة الطاهرة وغاب عميدها، فمن المؤكد أن الجو سيصفو لهم ويتمكنوا من تعيين أحدهم خليفة، فيبايعه مؤيدوهم من الأنصار، وإذا بايع أناس من الأوس فبالضرورة ستبايع الخزرج حتى تتقاسم المجموعتان هذا الشرف.
وعندما يتم ذلك تواجه العترة الطاهرة ويواجه عميدها بمرجع وهو بيعة الأنصار، وإذا بايعت الأنصار فلن ترجع عن بيعتها. وأي مواجهة من العميد أو من العترة لن تكون بين علي وأبي بكر أو بين علي وعمر، أو بين علي وأبي عبيدة كأشخاص، إنما تكون مواجهة بين خليفة حاكم وأحد رعاياه أو بين أحد نائبي الخليفة وأحد الرعايا المحكومين للدولة، وهي مواجهة معروفة النتائج. فبمواجهة منطقية متكافئة لا قدرة للفاروق على الولي، لأن الولي باب الحكمة اللدنية، وبمواجهة متكافئة بين الفاروق والولي فإن الولي سيحسمها على مستوى القوة، لأن أفعال الفاروق بالقتال ليست كأفعال الولي، ففي معركة الخندق مثلا نادى عمرو بن ود حتى بح صوته والصحابة ومنهم الفاروق يسمعون ولم يقوى على التصدي إلا الولي. لكن عندما يكون الفاروق نائبا للخليفة فلا داعي ليواجه الولي بنفسه إنما يرسل له سرية مجتمعة وتجر الولي إلى الفاروق جرا كما حدث فعلا.
والوقت الذي اختاره الثلاثة لتنصيب الخليفة ملائم جدا لهدفهم، وهو وقت تجهيز النبي والإعداد لمواراته في ضريحه، وهذا هو الوقت المثالي لتنصيب الخليفة في غياب العترة الطاهرة وغياب عميدها، فهم منصرفون بكليتهم إلى مصابهم وذاهلون حتى عن أنفسهم بهذه الفاجعة الأليمة، بل إن المسلمين أنفسهم في حالة ذهول وبالتالي هذا هو الوقت المناسب لتنصيب خليفة بالصورة التي تتمناها بطون قريش.
ثم إن اختيار الأنصار بالذات للترجيح اختيار موفق ودقيق، فغاية بطون قريش أن لا يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة، وهذه البطون لا تحفظ لها على أي شخص إذا لم يكن هاشميا، فمعارضة قريش غير واردة، فأول من بايع الخليفة هو عثمان الأموي ومن معه من بني أمية، ثم سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة (8).
ولفهم دقة الاختيار لو أن قريش كلها بايعت أبا بكر ولم يبايعه الأنصار لما كان لبيعة قريش أدنى قيمة واقعية ولأمكن الإمام في ما بعد أن يقيم الحجة على قريش وأن ترجح كفته بالأنصار. ومن هنا فلا معنى لتحضير قريش لأنها فريق والثلاثة يقومون مقامها ويحققون أهدافها.
وهكذا ولأول مرة في التاريخ بقيت العترة الطاهرة خاصة والهاشميون عامة بدون مرجح واقعي يضمن لهم الفوز على بطون قريش، بعد أن تمكن الثلاثة من الانفراد بالأنصار والتعبير عن ضمير البطون القرشية، واستبعاد الهاشميين بالكامل عن الخلافة والولاية والأعمال فيما بعد.
ومن هنا نفهم سر أسلوب عمر بأخذ بيعة المهاجرين والعترة الطاهرة وعميدها بعد خروج الثلاثة من السقيفة: كان الناس في المسجد الشريف مجتمعين، فلما أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة وقد بايع الأنصار أبا بكر، قال لهم عمر:
ما لي أراكم مجتمعين حلقا شتى، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته وبايعه الأنصار. فقام عثمان ومن معه من بني أمية فبايعوا وقام سعد و عبد الرحمن ومن معهما من بني زهرة فبايعوا. وأما علي والعباس بن عبد المطلب ومن معهم من بني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام، فذهب إليهم عمر في عصابة، فقالوا: انطلقوا فبايعوا أبا بكر، فأبوا......
أنظر إلى لهجة الفاروق وأسلوبه بأخذ البيعة......
في السقيفة
الجالسون في السقيفة مجرد جماعة من جماعات الأنصار وليسوا كل الأنصار ولا نصفهم ولا ثلثهم ولا ربعهم ولا حتى عشرهم، لأن الأكثرية الساحقة من سكان المدينة من الأنصار، والقسم الأكبر منهم كان في بيت النبي أو حوله بالعقل والضرورة وحتى الذين شاهدوا سعد بن عبادة ومن حوله لم ينضموا إليهم " الرجلان الصالحان " اللذان شهدا بدرا وهما عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة برواية للطبري، وبرواية أخرى عويم بن ساعدة ومعن بن عدي ، فلو كان اجتماعا للأنصار لما تركاه، ثم إن أسلم " التي أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السلك " لم تكن موجودة ويبدو أن عمر كان يتوقع قدومها وموقن من تأييدها بدليل قوله: " ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت النصر "، هؤلاء جاءوا بعد المبايعة مما يدل على أن موضوع اختيار الخليفة من بعد النبي ولد بقدوم المهاجرين الثلاثة وفرضه المهاجرون الثلاثة.
لأن الذي جاء بخبر اجتماع الأنصار ما زال مجهولا للآن ولا يعلم به أحد، ولأن الذي فتح المناظرة بعد قدوم المهاجرين الثلاثة ما زال مجهولا، فعندما يدخل هؤلاء المهاجرون لا بد أن يطرحوا السلام ولا بد من تكلم بعد طرح السلام. فمن هو هذا المتكلم الذي فتح المناظرة ؟ إنه تماما كالذي جاء بخبر اجتماع الأنصار وما زال مجهولا، مع أن الذين لهم أدوار أقل من دور ناقل خبر الاجتماع ومن دور فتح باب المناظرة عرفوا. كل هذا يؤكد أن هنالك مقاطع من الحقيقة مقصوصة، وجوانب من الروايات مبتورة بالرغم من تعدد الروايات وتعدد الرواة. والحقيقة أن قصة اجتماع السقيفة صيغت وأرخت تحت إشراف مؤيدي الفاروق والصديق، وتم تناول القصة وطرحها بالطريقة التي لا تثير حفيظة الحكام ولا تستفز المؤيدين والتي تصور هؤلاء الثلاثة كرواد وكأبطال لقصة تاريخية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تعدد الروايات ومضامين هذه الروايات وتناقضها مع بعضها أحيانا فما قاله " الصالحان البدريان " ورد مضمونه بروايتين متناقضتين مثلا (9)، وسعد بن عبادة يصور في رواية كطالب للخلافة ومنافس عنيد للثلاثة يثير غضب الجموع وتوشك أن تقتله بل ويقال:
اقتلوه قتله الله (10)، ويصور في رواية ثانية كرجل أقام الفاروق عليه الحجة فسكن واقتنع وبايع (11)، ولا ترى تمردا من الحباب أو من غيره، لأن الأمور استقرت في مكانها الصحيح...... الخ.

أعظم ثروة فكرية إنسانية
لو أن المهاجرين الثلاثة شاركوا العترة الطاهرة والمسلمين في تجهيز النبي لمواراته في ضريحه المقدس وبعد مواراته اتجهت جموع المشيعين إلى المسجد فأدت الصلاة المفروضة بإمامة مولى الثلاثة ومولى كل مؤمن ومؤمنة باعتراف الثلاثة، وبعد أن فرغت من صلاتها قام كل واحد من هؤلاء الثلاثة فتكلم بما يحلو له، ويبين تصوره وطرح فكره، وأتيحت الفرصة ليقول كل ذي رأي رأيه. وبعد ذلك قام الولي ببيان رأيه وحكم الشرع في كل الآراء المطروحة باعتباره هو الهادي بنص الشرع، وهو المبين للأمة بعد النبي كل أمر تختلف عليه بنص الشرع، والأنصار وجموع المسلمين يسمعون كل ذلك ويعونه ويقومون بدور المرجح ثم يبايعون الإمام الذي أرادهم الله بالنص أن يبايعوه، لو حدث ذلك لكانت ثمرة هذه المناظرة أعظم ثروة فكرية إنسانية على الاطلاق ولتغير مجرى التاريخ تماما، ولأمكن تطبيق النظام السياسي الإسلامي الذي أنزله الله على عبده، ولأمكن من خلاله انتشال الجنس البشري كله وتكوين الدولة العالمية التي تحكم الكرة الأرضية وفق أحكام الشرع.
تلك أمنية، ما تحققت لأننا تركنا النص واجتهدنا، وأمة تترك النصوص الشرعية وتعمل باجتهادها أمة هالكة لا محالة وذائقة وبال أمرها جزاء وفاقا لتبديلها نعمة الله وهدايته وتأويلها للواضحات من أوامر الله لا لشئ إلا ليتوافق هذا التأويل مع ما تهوى الأنفس.

الحجج الشرعية لأطراف السقيفة
عاجلا أم آجلا سيكتشف الباحثون أن لقاء جماعة من الأنصار مع سعد بن عبادة هو لقاء عادي من كل الوجوه، وليس له أي طابع سياسي، وإن جرى فيه حديث سياسي فما هو إلا مجرد تبادل بوجهات النظر بين أناس اجتمعوا عند مريض.
لكن الذي أعطى لقاء هذه الجماعة هذا الطابع السياسي والتأسيسي هو قدوم المهاجرين الثلاثة، لقد حوله هؤلاء المهاجرون إلى لقاء سياسي وتأسيسي اتخذوه أساسا لتنصيب الخليفة من بعد النبي بالصورة التي أرادوها. وطالما أن هذا اللقاء أصبح سياسيا وتأسيسيا فما هي الحجج الشرعية التي طرحت فيه، حتى فاز بموجبها من فاز ؟.
حجة المتواجدين من الأنصار
لم تكن غاية المتواجدين من الأنصار أن ينصبوا خليفة منهم كما يحلو للرواة التركيز على ذلك، لأن كل الأنصار تعلم أن الخلافة ليست فيهم ومن غير الوارد أن يبدلوا جميعا عهد الله وعهد رسوله والنبي لم يدفن بعد. وهم يعلمون أيضا أن النبي قد نصب الولي من بعده، وأن التهاني قد قدمت لهذا الولي حال حياة النبي صلی الله عليه وآله وسلم وكل مسلم على الاطلاق بما فيه الثلاثة يعلمون أن عليا مولى المؤمنين ووليهم مجتمعين من بعد النبي ومولى وولي كل مؤمن ومؤمنة على انفراد بما فيهم الثلاثة المهاجرين.
وبالتالي وحيث أن المتواجدين لا غاية لهم ولا مطمع بتنصيب خليفة منهم ولم يطرح ذلك أصلا قبل حضور الثلاثة فمن الطبيعي أن لا تكون لهم حجة بذلك، والحجج المنسوبة إليهم لا تخلو من روح المواءمة والتسوية ومن مستلزمات إخراج القصة وتتويج أبطالها، وتبرير ما فعلوه، ثم تداولت الأمة هذه القصة تحت إشراف الأبطال وبالكيفية التي أقروها وتداولتها وسائل الإعلام الرسمية، وأهملت الروايات المتناقضة معها ثم أخذتها الأجيال اللاحقة كحقيقة مكرسة رسميا وشعبيا ونفرت واستنكرت من كل ما يعيبها باعتباره خارجا على إجماع الأمة.

غاية المهاجرين الثلاثة
المقاصد الحقيقية للثلاثة هي:
أن ينصبوا خليفة من بعد النبي، وبهذا الوقت بالذات وفي غياب العترة الطاهرة، وأثناء انشغال الجميع بتجهيز النبي ودفنه، وأن يحصلوا على بيعة من حضر، فإذا بايعهم أناس من الأوس، فبالضرورة سيبايع الحاضرون من الخزرج حتى لا ينال الأوس الشرف وحده. وتصبح للمبايعين مصلحة بتثبيت الخليفة الجديد، فيخرج من يبايعه الحاضرون كخليفة، ويخرج المهاجران الاثنان كنائبين للخليفة وخلف الثلاثة يسير الذين بايعوا الخليفة كجيش له يأتمر بأمره، ومن يتصدى لمن بايعوه أو يعارضه فإنه لا يعارض شخصا عاديا، إنما يعارض خليفة النبي، ويخرج عن طاعة ولي أمرها، ومن يفعل ذلك فلا غضاضة على الخليفة لو قتله حتى قتلا باعتباره خارجا على الجماعة وشاقا لعصا الطاعة، وطامع بالسلطة وحريص عليها وموقف الشرع واضح: " لا نولي هذا الأمر من طلبه...... الخ " وهذا ما حدث بالضبط.
ما هي الحجة الشرعية لهؤلاء الثلاثة
بماذا احتج هؤلاء الثلاثة حتى أعطتهم الأنصار المقادة ؟ وهل كانت حجتهم شرعية فعلا ؟ بمعنى أن لها وجودا في الشرع ؟ احتج أبو بكر وعمر بالقرابة من النبي وأن أقارب النبي هم أولى بسلطانه.
ملخص حجة أبي بكر التي احتج بها على من حضر من الأنصار
قال أبو بكر: " فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما، والناس تبع لنا، ونحن عشيرة رسول الله، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابا ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة ".
ملخص حجة عمر التي احتج بها على من حضر من الأنصار
" إنه والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيها وأولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة ".
جواب الأنصار
قالت الأنصار: " لا نبايع إلا عليا ". قال بعض الأنصار: " لا نبايع إلا عليا " (12)
حدث هذا وعلي غائب بإجماع الأمة، فكيف لو كان حاضرا لهذا الاجتماع ؟.
لو أن الثلاثة المهاجرين قبلوا خلافة علي لما حدث أي إشكال ولسار النظام السياسي الإسلامي سيرا طبيعا، ولكن يتعذر عليهم ذلك فلا يجوز أن يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة، فقد أخذوا النبوة وهي لهم خالصة لا يشاركهم بها أحد، ويجب أن تكون الخلافة لبطون قريش خالصة لا يشاركهم بها هاشمي قط.

الخليفة واحد من ثلاثة
تجاهل الثلاثة قول الأنصار " لا نبايع إلا عليا "، وقال أبو بكر: " إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين: أبي عبيدة بن الجراح أو عمر فبايعوا من شئتم ". فقال عمر: " معاذ الله أن يكون ذلك وأنت بين أظهرنا..... أبسط يدك أبايعك ".
أول من بايع
لما رأى بشير بن سعد أن المهاجرين الثلاثة لم يقبلوا بولاية علي أدرك أن البيعة واقعة لا محالة، فأراد أن يكون له السبق فقال: " إن محمدا رسول الله رجل من قريش وقومه أحق بميراثه، وتولي سلطانه..... " ثم قفز وكان أول من بايع أبا بكر. ويجدر بالذكر أن بشيرا هذا هو ثاني اثنين من الأنصار وقفا مع معاوية ضد علي فيما بعد.

تنصيب الخليفة ومبايعته
لما رأت الأوس موقف سعد بن عبادة سيد الخزرج ورأت موقف المهاجرين الثلاثة وما آلت إليه الأمور أدرك أسيد بن حضير أن أبا بكر سيكون الخليفة فقال لجماعته: قوموا بايعوا أبا بكر ففعلت الأوس ذلك، وحتى ينال الخزرج جزءا من هذا الشرف ولا يأخذه الأوس وحدهم بايع أكثرية من حضر.
المكافأة
أصبح بشير بن سعد من أقرب مستشاري الخليفة ونائبيه، فهو نفسه الذي أشار على أبي بكر وعمر بعدم قتل سعد بن عبادة، وأصبح أسيد بن حضير قائد قوى الأمن الداخلي - إن صح التعبير - فهو نفسه الذي ساعد عمر بقيادة السرية التي ذهبت لتطويع بني هاشم والزبير والممتنعين عن البيعة وأخرجتهم بالقوة، يساعده في ذلك سلمة بن أسلم (13).

شيوع الخبر والمبايعة
أقبل الخليفة وأبو عبيدة وعمر، وقد بايع الصديق من بايع، وكان الناس مجتمعين في المسجد الشريف فصاح بهم عمر: ما لي أراكم حلقا شتى، قوموا بايعوا أبا بكر فقد بايعته وبايعه الأنصار، فقام عثمان ومن معه من بني أمية فبايعوا، وقام سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة فبايعوا... ومن الطبيعي أن من كان في المسجد من الأنصار بايعوا أيضا عندما أشيع أن الأنصار قد بايعت، خاصة وهم يرون بشير بن سعد، وأسيد بن حضير، وسلمة بن أسلم يتصرفون وكأنهم جزء من السلطة الجديدة......
أما علي والعباس ومن معهم من بني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام، مما اضطر نائب الخليفة أن يتحرك بسرية من المؤيدين فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم ويذهبوا لإخراجهم للبيعة بالقوة ولو استدعى الأمر أن يحرقوا بيت فاطمة بنت محمد الذي اجتمعوا فيه. ولكن الله سلم وخرجوا لما شاهدوا الحطب وأدركوا عزم عمر على إحراق بيت فاطمة فبايعوا. وقد أثبتنا حادثة التحريق أكثر من مرة ولا عجب في ذلك، فإن فاطمة ليست أعظم من أبيها محمد رسول الله ومع هذا حيل بينه وبين كتابة ما يريد وقيل عنه حاشا له: " هجر استفهموه إنه يهجر " كما وثقنا ذلك.

المواجهة الغير متكافئة بين الولي والسلطة الجديدة
الولي من بعد النبي قد جرد من كل سلطاته، وأتي به إلى أبي بكر بالقوة وهو يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، فقيل له: بايع أبا بكر فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلى الله عليه وآله) وتأخذونه منا أهل البيت غصبا ؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الأمارة وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيا وميتا فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلا تبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون.
كلام الولي هذا لا يستحق حتى رد السلطة، فقال له عمر على الفور: إنك لست متروكا حتى تبايع، فقال له علي: احلب حلبا لك شطره واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا، ثم قال: والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه. فقال أبو عبيدة بن الجراح لعلي كرم الله وجهه: يا ابن عم إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور أرى أبا بكر أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالا واضطلاعا به فسلم لأبي بكر، فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك. فقال علي عليه السلام: الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ولا تدافعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أولى بهذا الأمر ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، والمدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى، فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعدا.

حكم لأول من بايع
من الطبيعي أن السلطة لا تملك ردا على حجة الإمام لأنها قاطعة، وكان بشير بن سعد أول من بايع أبا بكر حاضرا لمواجهة الإمام المنطقية مع السلطة، فقال لعلي في حضرة أركان السلطة الجديدة: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان .
خرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة عليها السلام على دابة ليلا في مجالس الأنصار يسألهم النصرة، فكانوا يقولون: قد سبقت بيعتنا لهذا الرجل ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا عنه، فيقول علي: أفكنت أدع رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه ؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم. (14) وأدرك الإمام أن الأمة قد غدرت به كما يبين رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم .

إذلال الولي وتهديده بالقتل إن لم يبايع
هددت السلطة - كما أسلفنا - بحرق بيت فاطمة على من فيها إن لم يخرج المتعاطفون مع الولي، فقيل لعمر: إن في البيت فاطمة، فقال: وإن. وأدرك المتواجدون في بيت علي أن عمر جاد في عزمه على حرق بيت فاطمة فخرجوا فبايعوا بالقوة، إلا عليا صاحب البيت، فوقفت فاطمة على باب بيتها فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم، تركتم رسول الله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقنا... وأرسل أبو بكر من يدعو عليا وعلي يرفض، ثم قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة فدقوا الباب فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبت رسول الله ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ؟ فلما سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين وكادت قلوبهم تتصدع وأكبادهم تتفطر. إلا أن عمر القوي الذي لا يعرف اللين ولا تأخذه في الحق لومة لائم بقي ومعه قوم فأخرجوا عليا فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا: بايع، فقال:
إن لم أفعل فمه ؟ قالوا: إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك. قال علي: إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله، قال عمر: أما عبد الله فنعم وأما أخو رسوله فلا (أخوة النبي لعلي ثابتة). فقال عمر: ألا تأمر فيه بأمرك ؟ فقال: لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة إلى جانبه. فلحق علي بقبر رسول الله يصيح ويبكي وينادي: " يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ".

محاولة لاسترضاء الزهراء
بعد إلحاح تمكن الفاروق والصديق من مقابلة الزهراء، فقالت لهما:
نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: " رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ". قالا: نعم سمعناه. قالت: فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه. فأخذ أبو بكر ينتحب وهي تقول: والله لأدعون عليك في كل صلاة أصليها ثم خرج باكيا .

أبو بكر يهم بالتنازل عن الخلافة
فاجتمع الناس إليه لما خرج فقال لهم: " يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته مسرورا بأهله وتركتموني وما أنا فيه. لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني ببيعتي ".
ومن الطبيعي أن من حوله سيرفضون ذلك ويعللون هذا الرفض تعليلا شرعيا (15).
الموقف النهائي للولي
لقد استقر الأمر للسلطة الجديدة، وأصبح الولي مجرد مواطن عادي لا حق له على أحد، إن شاءت السلطة قربته منها وإن شاءت أبعدته عنها، فهي صاحبة الحق الواقعي بذلك بحكم الغلبة، لقد ضاعت الخلافة منه مع أنها حق خالص من الله ورسوله له. واستمراره بالمعارضة قد يؤدي لقتله، ومبررات القتل كثيرة فيمكن أن يسند له جرم شق عصا الطاعة والخروج على الجماعة ومنازعة الأمر أهله...... الخ.
ثم إنه لا أحد معه إلا أهل بيته، وهو يصف حاله بتلك الفترة فيقول:
" ونظرت فإذا ليس معي إلا أهل بيتي فظننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى وشربت على الشجا وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم " (16)
وقال يوما " فجزت قريش عني الجوازي فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن أمي (فهو مؤمن أن الحق له) (17)، وأجمعوا على منازعتي أمر هو لي.... وقد قال قائل: إنك على هذا الأمر يا ابن أبي طالب لحريص، بل أنتم والله الأحرص، وإنما طلبت حقا لي، وأنتم تحولون بيني وبينه، فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض رسول الله حتى يومنا هذا " (18).
ولم يكن أمامه إلا الاحتفاظ بحقه في الخلافة والاحتجاج على من عدل عنه بها على وجه لا تشق بها للمسلمين عصا، ولا تقع بينهم فتنة ينتهزها عدوهم، فقعد في بيته حتى أخرجوه كرها، ولو أسرع إليهم ما تمت له حجة ولا سطع لشيعته برهان، لكنه جمع بين حفظ الدين والاحتفاظ بحقه في خلافة المسلمين، وحين رأى أن حفظ الإسلام ورد عادية أعدائه موقوف في تلك الأيام على الموادعة والمسالمة شق بنفسه طريق الموادعة وآثر مسالمة القائمين في الأمر احتفاظا بالأمة واحتياطا على الملة وضنا بالدين وإيثارا للعاجلة على الآجلة وقياما بالواجب شرعا وعقلا من تقديم الأهم في قيام التعارض على المهم (19).

سر كراهية قريش لولاية علي
مكمن السر في التربية السياسية القريشية القائمة على اقتسام البطون القريشية لمناصب الشرف في الجاهلية بحيث يختص كل بطن بنصيب ما من هذه " الشركة " التي لا غنى عن وجودها، فجاءت النبوة الهاشمية فنسفت صيغة قريش السياسية، واختص الهاشميون بالنبوة بحكم القدر الذي لا مفر منه ولا محيد عنه رغم كفاح بطون قريش المرير لإبطال هذه النبوة، فحاز الهاشميون شرف النبوة وحدهم ولم يشاركهم بهذا الشرف أحد وحال حياة النبي نصب عليا بن أبي طالب ليكون الولي والخليفة من بعده بأمر من ربه، لأن عليا هو الأعلم والأفهم والأفضل والأنسب والأقدر على قيادة سفينة الإسلام

الخوف من وقوع المحظور
فإذا تمت مبايعة علي كخليفة من بعد النبي، فمعنى ذلك أن الهاشميين قد جمعوا الخلافة مع النبوة وذهبوا بالشرف كله، ولم يتركوا لبطون قريش شيئا من هذا الشرف، وهذا أمر لا يمكن قبوله بكل الموازين، ولا يمكن التسليم له بأي ثمن، فقد دخلت قريش بالإسلام، والإسلام ساوى بينها، والإسلام يجب ما قبله، فما الداعي لاستمرار الهاشميين بالسبق والتمييز والانفراد ؟
القسمة العادلة
لقد أخذ الهاشميون النبوة واختصوا بها وحدهم ولم يشاركهم بها أحد من بطون قريش، ولن يشاركهم بها أحد مستقبلا، وهذا شرف ما بعده شرف. والهاشميون والبطون أخوه.
فما هو الغلط إذا اختصت بطون قريش بالخلافة وحدها ولم يشاركها أحد من بني هاشم بهذا الشرف ؟ إن هذه القسمة هي الحل وهي أقرب الحلول للعدل.للهاشميين النبوة وحدهم ولا يشاركهم بها أحد من البطون، والخلافة لبطون قريش تتداولها بينها ولا يشاركهم بها أي هاشمي.

بطون قريش تتصرف كفريق واحد
ومن هنا فإن كافة بطون قريش تصرفت طوال التاريخ كفريق واحد لا فرق بين بطن وبطن طالما أن للجميع هدف واحد وهو منع الهاشميين من الجمع بين الخلافة والنبوة.
ففي سقيفة بني ساعدة قال أبو بكر مخاطبا الحاضرين من الأنصار: " إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين أبي عبيدة بن الجراح أو عمر، فبايعوا من شئتم منهما "، فقال عمر: " معاذ الله أن يكون ذلك، وأنت بين أظهرنا " (20). ومن الطبيعي أن لأبي عبيدة نفس الموقف، فلا فرق بين الثلاثة فكلهم أخوة وكلهم من فريق، ولكن عندما قالت الأنصار: لا نبايع إلا عليا، رفض الثلاثة هذا العرض مجتمعين (21).
وعندما هم أبو بكر بالتنازل عن الخلافة تصدت له قريش وأبت عليه ذلك، فقريش مجمعة على ذلك. انظر إلى قول الولي: " فجزت قريش عني الجوازي فقد قطعوا رحمي وسلبوني سلطان ابن أمي " (22). وقال مرة: " اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي أمرا لي " (23). ثم إنه عندما أراد أبو بكر أن يستخلف من بعده كتب له الوصية عثمان فقال أبو بكر: أكتب ثم أغمي عليه فكتب عثمان: " إني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا "، وعندما أفاق الخليفة من إغماءته قال له اقرأ.... فقال أبو بكر: " لو كتبت نفسك لكنت أهلا لها " (24). فلا فرق على الاطلاق بين عمر وعثمان فكلاهما أخوة ومن نفس الفريق، وقبيل وفاة عمر قال: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح باقيا استخلفته ووليته، ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفته، ولو أدركت خالد بن الوليد... ولو أدركت سالم مولى أبي حذيفة...
إنه لا فرق بين أبي عبيدة وخالد فكلاهما من نفس الفريق، ولا يوجد أي خطأ بتولية معاذ بن جبل وهو من الأنصار، وما كان جائزا أن يتولى أنصاري الخلافة لأنها محصورة بمن كانت النبوة فيهم حسب رأي الفاروق آنذاك، وما هو الخطأ بأن يتولى الخلافة رجل من الموالي كسالم مولى أبي حذيفة، المهم أن لا يتولاها علي بالذات أو أي هاشمي. ويوم تشاور الخمسة لأن طلحة كان غائبا، لو لم يكن علي بالصورة لما تعقدت الأمور ولبايعوا عثمان فورا فهو أول من بايع الصديق بعد عمر وأبي عبيدة من المهاجرين، وهو الذي كتب، إني أستخلف عليكم عمر، وهو المرشح الوحيد لخلافة عمر، فقد كان يعرف بالرديف في زمن عمر ومن يدقق بوصية عمر يكتشف بأقل جهد بأن عثمان هو الفائز بكل الحالات.
وعند عودة طلحة أعلن عثمان عن استعداده للتنازل لطلحة إن رغب بذلك، ولم لا فكلهم أخوة، وكلهم فريق، وغايتهم واحدة، وهي عدم تمكين الهاشميين من أن يجمعوا الخلافة مع النبوة. بل ولا مانع من أن يتولى الخلافة عبد الله بن عمر بعد أبيه، بل شاروا على الفاروق بذلك فقالوا له: يا أمير المؤمنين استخلفه إن فيه للخلافة موضعا، فكل قريش فريق ولا فرق بينها على الاطلاق.
المصادر :
1- تاريخ الطبري ج 3 ص 219. ص 201
2- ابن هشام ج 2 ص 656.
3- تاريخ الطبري ج 3 ص 197.
4- راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 9 ص 170 وحلية الأولياء لأبي نعيم ج 1 ص 63 ومجمع الزوائد ج 9 ص 132 وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 210 وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 313 وكنز العمال ج 15 ص 126 والرياض النضرة للطبري ج 2 ص 233 وفضائل الخمسة ج 2 ص 98 ومطالب السؤول لابن طلحة ج 1 ص 60 وفرائد السمطين ج 1 ص 197 ح 154.
5- الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 8 وشرح النهج لابن أبي الحديد ج 2 ص 266.
6- الإمامة والسياسة ص 12 و ص 8.
7- تاريخ الطبري ج 3 ص 201 - 218. ص 222.
8- الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 11
9- تاريخ الطبري ج 3 ص 205 - 206.
10- الإمامة والسياسة ص 10.
11- تاريخ الطبري ج 3 ص 203.
12- تاريخ الطبري ج 3 ص 198 وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 2 ص 265.
13- الإمامة والسياسة ص 9 وما فوق.
14- الإمامة والسياسة ص 11 - 12.
15- الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 11 ص 12 - 13.
16- شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 1 ص 62.
17- شرح النهج ج 3 ص 67.
18- شرح النهج ج 2 ص 103 و ص 37 ج 1
19- المراجعات للإمام شرف الدين العاصمي ص 332 - 334 .
20- الإمامة والسياسة ص 9
21- تاريخ الطبري ج 3 ص 198 وشرح النهج ج 2 ص 265.
22- ج 3 ص 67 من شرح النهج.
23- شرح النهج ج 2 ص 103 و ج 1 ص 37 من الشرح.
24- تاريخ الطبري ج 3 ص 429 وسيرة عمر لابن الجوزي ص 37 وتاريخ ابن خلدون ج 2 ص 85.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عصر ظهور المذاهب الاسلامية
واقع ﺍﻏﺘﻴﺎﻝ ﻋﺎﺋﺸﺔ
أمير المؤمنين شهيد المحراب
كربلاء ؛ حديث الحق والباطل
الشيعة وإحياؤهم ليوم عاشوراء
في تقدم الشيعة في علم الصرف ، وفيه صحائف -2
تأملات وعبر من حياة أيوب (ع)
تاريخ الثورة -6
من مناظرات الامام الصادق(عليه السلام)
من خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله ...

 
user comment