عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

ابطال مع الحسين عليه‌ السلام

ابطال مع الحسين عليه‌ السلام
ليست كربلاء مأساة فاجعة ، ومناسبة للعويل والبكاء وحسب ، بل هي في جوهرها مهرجان للحق ، وعيد للتضحية حيث تتجسد ـ مفهوميا وميدانيا ـ عظمة الثبات ، وروعة البطولة ، وعزّة الإيمان ، وجلال التضحية.
إن جذوة الحق والصمود التي أضاءها الإمام الحسين عليه‌السلام وأصحابه بدمائهم الزكية ، لم يخب نورها باستشهاده ، بل ازدادت ألقا واندفاعا على نحو يبهر الألباب ، لذلك أخذت قوى الإيمان في كل مكان وزمان تتزود من الوقود ـ المعرفي والسلوكي ـ لمحطة كربلاء من خلال دراسة متأنية لأحداثها ومواقف الناس وأدوارهم فيها.
ونحن في هذه الفقرة نبحث عن الخصائص الأساسية ، التي جعلت من جيش الحسين عليه‌السلام الذين يقارب عددهم الخمسون إذا ما استثنينا الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، يقفون مع قائدهم بكل شجاعة وصمود ، ويواجهون جيشا يمتاز بالتفوق العددي الساحق ، فلم يتعجلوا النصر ، وما أبعده عن قوم يقاتلون في مثل ظروفهم ، وبمثل عددهم ، إنما كانوا يتعجلون الجنّة ، إذ لم يكن لديهم ريب في أنها المنتهى والمصير. أليست هذه الظاهرة النادرة تستحق البحث والنظر من قبل علماء الاجتماع أو من قبل علماء النفس؟
نفر قليل قد رفضوا الباطل ، واختاروا الحق ، ثم مزقوا جدار الصمت ، وجهروا بالمقاومة ، وصمدوا صمودا اسطوريا ، فالذين اتبعوا الإمام الحسين عليه‌السلام من غير بني هاشم هم نخبة الأمة الإسلامية ، ولقد وصفهم أحد قادة الجيش الأموي بقوله للجيش : « أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر ، وتقاتلون قوما مستميتين » (1) .
وقال عنهم الإمام علي عليه‌السلام : « ليس مثلهم إلا شهداء بدر » (2).
فالذين اتبعوا الإمام الحسين عليه‌السلام ونالوا شرف الشهادة بين يديه ، نماذج بشرية عجيبة حقا ، حللت واقعها تحليلاً دقيقا ، وأصغت لنبيها وهو يأمرها بنصر الحسين عليه‌السلام ، فاختارت ما اختارت بقلوب راضية مطمئنة.
لقد طلب الحسين عليه‌السلام إرجاء القتال ليجعل أهله وأصحابه في حلٍّ من كل التزاماتهم تجاهه ، ومن أجل ذلك جمعهم تحت جنح الظلام ، وقال لهم بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه : « أما بعد ، فاني لا أعلم أصحابا أوفى من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم اللّه عني خيرا ، ألا وإنِّي لأظنّ أنّه آخر يومٍ لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعا في حلٍّ ليس عليكم منّي ذِمامٌ ، هذا الليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جملاً » (3).
ترى هل يتقبل الجيش المتكون من الأهل والأنصار رأيه هذا؟ .. كلا ، ولماذا؟ لأن العظمة ، ولأن البطولة كانتا في ذلك اليوم على موعدٍ مع هؤلاء الأبرار جميعا فتيانا وكهولاً ، لتحققا بهم أروع مشاهدهما ، وأسمى أمجادهما. من أجل ذلك ، لم يكد البطل يفرغ من كلماته ، حتى تحولوا جميعا إلى اُسود تزأر بكلمات الرّفض وتشرق بدموع العطف والمودة ، هبوا جميعا يُعطون البيعة على موت محقق ، فقالوا له : « لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبدا » (4).
كل ذلك جعلنا نتساءل عن الخصائص الرئيسية التي امتاز بها أصحاب الحسين عليه‌السلام ، والتي كانت السبب وراء وقوفهم مع قائدهم في ذلك الموقف العصيب ، في وقت لم يكن لهم في إحراز النصر على عدوهم أدنى أمل ، وليس أمامهم سوى القتل ، فمن خلال دراستنا لسلوكهم ومواقفهم في كربلاء نجد هذه الخصائص تتمثل بما يلي :

١ ـ عدالة القضية

لم يكتف معاوية باغتصاب الخلافة ، ولم يرغب ـ وهو على وشك لقاء ربّه ـ في التكفير عن خطئه ، تاركا أمر المسلمين للمسلمين ، بل إنه أمعن في تحويل الإسلام إلى ملك عضوض ، فأخذ البيعة ليزيد كولي عهد له .. انتزعها بالذهب وبالسيف ، ثم هاهو يزيد يتربع على عرش أبيه بعد وفاته ، فيهمل أمر المسلمين ، ويعكف على اللّهو بفهوده وقروده حتى يُلقب بـ ( يزيد القرود )! .. ثم يسلط قواده ورجاله على العباد ويستبيح البلاد ، ويرسل إلى الأصحاب والأشراف من أجل مبايعته!
رفض الإمام الحسين عليه‌السلام طلب البيعة الذي تقدم به ( الوليد بن عتبة ) أمير المدينة ، وخرج من المدينة هو وبعض أقطاب المعارضة كعبد اللّه بن الزبير وتوجه إلى مكة ، وهناك في الحرم الآمن أحس بعدم الأمن ، وخشي على الكعبة المشرفة من أن تُنتهك حرمتها بقتله واغتياله ، لذلك خرج يريد العراق بناءً على الكتب المرسلة إليه من أهله ، التي تدعوه إلى القدوم ، وتعده بالسمع والطاعة.
أدرك أصحاب الحسين عليه‌السلام عدالة قضيته ، وأنه حين خرج إلى الكوفة لم يكن طالبا لدنيا ولا جاه ، وإنما كان مستجيبا لسلطان الإيمان الذي لا يعطى ولا يُغلب. لقد رأى القائد ( الحسين عليه‌السلام ) وصحبه ( الجند ) أن الإسلام بكل قيمه الغالية وأمجاده العالية ، يتعرض لمحنة قاسية يفرضها عليه بيت أبي سفيان ، ورأى الحسين عليه‌السلام ويشاركه في هذه الرؤية جنده أن خطيئة الصمت والسكوت تجتاح السواد الأعظم من الناس رغبةً ورهبةً أحيانا.
وقد وعى الأصحاب جيدا المستجدات ، لما امتازوا به من وضوح في الرؤية ، فصمموا على اختيار الخيار الأصعب ، المتمثل بالانضمام إلى جبهة الحسين عليه‌السلام الذي أعلن هدفه ـ منذ البداية ـ وبدون لبس أمام الناس.
وبعد أن تبين للأصحاب الخيط الأبيض من الأسود من التطورات السياسية ، التي عصفت بالساحة الإسلامية آنذاك ، باتوا على يقين بأن الحسين عليه‌السلام هو القائد الرّباني الجدير بالخلافة ، وأن يزيد رجل شهواني مغامر يتستر خلف سواتر الدين من أجل تأمين البقاء في السلطة ، لذلك اندفعوا إلى آخر الشوط مع قيادتهم الحقة ، ولم يكتفوا بالشجب والاستنكار ، في وقت كان السكوت فيه من ذهب ، وقد سكت البعض
سكوت الأموات ، في هذا الوقت العصيب سارع الأصحاب بالالتحاق بقائدهم الحسين عليه‌السلام بعد أن تيقنوا من عدالة قضيته ، وقاتلوا بجنبه حتى آخر رمق ، وأفضل شاهد على ذلك الطراز من الجُند ( زهير بن القين ) الذي التقى بالإمام عليه‌السلام في مكان يُدعى ( زرود ) حيث أبصر الإمام فسطاطا مضروبا ، فسأل عنه فعلم أنه لـ ( زهير بن القين ) فأرسل في طلبه ، فتثاقل أول الأمر ، ثم ذهب إلى لقائه ضَجِرا .. وحين التقيا أسرَّ الحسين عليه‌السلام إليه حديثا ، لم يكد الرجل يسمعه حتى تهلَّل وجهه ، وامتلأ غبطة وبشرا ، ثم سارع فنقل فسطاطه إلى جوار فسطاط الحسين عليه‌السلام ، وقال لمن كان معه من أهله : « من أحبَّ منكم أن يتبعني ، وإلاَّ فإنه آخر العهد بيننا » (5).
ثم التفت إلى زوجته وقال لها : « أما أنت ، فالحقي بأهلك ، فإني لا أحب أن يصيبك بسببي سوء » (6) .
وانصرف أَقرباؤه عائدين إلى موطنهم ، مصطحبين معهم زوجته. ترى ماذا قال له الحسين عليه‌السلام حين ناجاه؟! .. هل وعده بمنصب أو مغنم؟ .. لو كان ذلك ، ما سرَّح زوجته ، ولا قال للذين كانوا معه موِّدعا إياهم : إنه آخر العهد بيننا .. ثم بأَيِّ مغنم يعدُه ( الحسين ) وقد جاءته الأنباء بمقتل رُسُله ، وشراسة عدُوّه ..؟ أغلب الظن أنه حدَّثه عن قضيته العادلة ، ثم ختم حديثه معه قائلاً : تلك هي القضية ، ففيمَ إبطاؤُك عن الجنَّة؟.
وبالمقابل كان جند يزيد يتذرّعون بمختلف السبل والحيل في سبيل الفرار من جبهة القتال ، وذلك لعدم إيمانهم بالقضية التي يدافعون عنها. يروى أنّ ابن زياد قد « وجّه الحصين بن نمير ، وحجار بن أبجر ، وشبث بن ربعي ، وشمر بن ذي الجوشن ، ليعاونوا عمر بن سعد على أمره. فأمّا شمر فنفذ لما وجّهه له ، وأمّا شبث فاعتلّ بمرض. فقال له ابن زياد : أتتمارض؟ إن كنت في طاعتنا فاخرج إلى قتال عدوّنا. فلمّا سمع شبث ذلك خرج ... قالوا : وكان ابن زياد إذا وجّه الرجل إلى قتال الحسين في الجمع الكثير ، يصلون إلى كربلاء ولم يبق منهم إلاّ القليل ، كانوا يكرهون قتال الحسين ، فيرتدعون ويتخلّفون » (7).
ونتيجة لذلك استخدم ابن زياد أسلوب التهديد والوعيد لحمل الناس على الخروج لقتال الحسين عليه‌السلام.
يروى أنّ ابن زياد بعث سويد بن عبدالرحمن المنقري في خيل إلى الكوفة ، وأمره أن يطوف بها ، فمن وجده قد تخلّف أتاه به. فبينما هو يطوف في أحياء الكوفة إذ وجد رجلاً من أهل الشام قد كان قدم الكوفة في طلب ميراث له ، فأرسل به إلى ابن زياد ، فأمر به ، فضربت عنقه. فلمّا رأى الناس ذلك خرجوا (8).

٢ ـ الإيمان بالقيادة

لابد لكل قضية عادلة من قيادة حقة ، والايمان بالقضية العادلة يستدعي أيضا الايمان بالقيادة المخلصة القادرة على الوصول إلى الهدف بأفضل الطرق وأحسن الأساليب المشروعة ، وتحريك ماهمد من الطاقات وجمعها وتوظيفها لصالح القضية المنشودة.
وقيادة الحسين عليه‌السلام الحقة ، بما اكتسبته من قدسية وشرعية ، وبما اتصفت به من عصمة وحكمة وبُعد نظر ، وبما اتخذته من مواقف مبدئية حاسمة ، ليس فيها مساومة ولا انصاف حلول ، وقد استقطبت أنظار الناس فوجدوا فيها المنقذ والمخلِّص ، ونتيجة لذلك التحقت بها ثلّة مؤمنة ، ولم يكن ذلك أمرا سهلاً لجميع الناس ؛ نظرا لدقّة الظروف وخطورة الاحتمالات ، في وقت كمّم فيه يزيد من خلال ولاته القساة أفواه الناس ، وزرعوا الخوف في النفوس ، وفي وقت آثرت فيه الأغلبية الصمت والعافية ، انضمت هذا الفئة القليلة العدد والصلبة الايمان بمعسكر الحسين ، وآمنت بقيادته ، وأخذت تدين له بالسمع والطاعة ، ووطنت نفسها على التضحية والفداء.
والقائد بدوره نسج علاقة قوية مع أتباعه ، وعبأهم روحيا وفكريا ليكونوا في مستوى الأحداث ، واتبع معهم سياسة المكاشفة والمصارحة التي يُعبر عنها حاليا في العلوم السياسية بـ ( الغلاسنوست ) ، كان يطلعهم على الموقف أولاً بأول ، ويرصد ويحلل كل شاردة وواردة فيما يتعلق بقضيتهم ، ويبين لهم ماذا يحمل رحم الأيام القادمة من أحداث جسام حبلى بها ، وأبقى أمامهم كل أبواب النجاة مفتوحة على مصراعيها ، ولكن مع ذلك نجد أن الأصحاب يوصدون جميع تلك الأبواب ، ويتمسكون بقيادة إمامهم الحسين عليه‌السلام ، ويوطنون أنفسهم على الموت دونه. واكتفي ـ في هذه الفقرة ـ بهذا الموقف ، وذلك حينما طلب الحسين القائد من أصحابه التفرق عنه ، لأن القوم لا يريدون غيره ، قام سعيد بن عبد اللّه الحنفي ، فقال : « لا واللّه يا ابن رسول اللّه ، لا نخذلك أبدا حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا فيك وفيه رسول اللّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .
ثم قال : واللّه ، لو علمت أني أُقتل فيك ثم أُحرق ثم أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقي حِمامي دونك » (9).
وقال زهير بن القين : « واللّه يا ابن رسول اللّه لوددت أني قتلت ثم نشرت ألف مرّة ، وان اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك » (10).
ونفس الموقف أفصح عنه مسلم بن عوسجة ، قال : « أنخلِّي عنك ولمّا نُعذِرْ إلى اللّه سبحانه في أداء حَقِّك؟! أما واللّه حتى أطعن في صدروهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، واللّه لا نُخليك حتى يعلم اللّه أنْ قد حفظنا غيبة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيك ، واللّه لو علمت أنِّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق ثم أحيا ثمّ أُذرَّى ، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدةٌ ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا » (11).
وظاهرة حبّ الأصحاب لقائدهم الحسين عليه‌السلام بهذا العمق لفتت نظر العديد من الكتاب والباحثين ، المسلمين منهم وغير المسلمين ، ومنهم جورج جرداق ، العالم والأديب المسيحي ، فقال : « حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء ، كانوا يقولون : كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون : لو أننا نقتل سبعين مرّة ، فاننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرّة اُخرى أيضا » (12).
ومن خلال هذه المواقف المشرفة ، ضرب الأصحاب المثل الأعلى في الالتفاف حول القيادة التي آمنوا بها ، وجادوا بأنفسهم ، فباعوها صفقة رابحة من أجل قضيتهم العادلة.

٣ ـ التضحية الغالية

تعتبر التضحية من لوازم الإيمان سواءً بالقضية أو بالقيادة ، فمن آمن بشيء ضحى من أجله ، وخاصة عندما يتعلق الأمر بإنقاذ الإسلام من خطر السقوط في وهدة الظلم والضلال ، وكان الأنصار تبعا لرؤية قائدهم الحسين عليه‌السلام قد استشعروا الخطر المحدق بالأمة من جراء سيطرة يزيد الفاسق ، الذي حَرَف الأمة عن مسارها الصحيح وحرَّف مبادءها الحقة ، وقوَّض دعائم مجدها ، كانوا كقائدهم الحسين قد وطّنوا أنفسهم لتحمّل كل الضغوط ، وكان بإمكانهم أن يستسلموا أو أن ينسحبوا تحت جنح الظلام ، لكن إرادتهم كارادة قائدهم واحدة لا تتجزأ هي انقاذ الإسلام ، يقول واشنطن ايروينغ ، المؤرخ الامريكي الشهير : « كان بميسور الامام الحسين النجاة بنفسه عبر الاستسلام لارادة يزيد ، إلاّ أنّ رسالة القائد الذي كان سببا لانبثاق الثورات في الاسلام لم تكن تسمح له الاعتراف بيزيد كخليفة ، بل وطّن نفسه لتحمّل كل الضغوط والمآسي لاجل انقاذ الاسلام من مخالب بني اُميّة. وبقيت روح الحسين خالدة ، بينما سقط جسمه على رمضاء الحجاز ـ والصحيح هو كربلاء ـ اللاهبة ، أيها البطل ، ويا اُسوة الشجاعة ، ويا أيها الفارس يا حسين » (13).
واذا كان أكثر مايمنع الناس عن التضحية ، حب المال والملذات ، وحب الحياة ، فان الأصحاب قد قطعوا علائق الدنيا تلك ، عندما رأوا في بداية مسيرهم نحو العراق ضباب الحرب ، وعندما دخلوا ـ من بعد ذلك ـ في أتونها ولسعهم لهيبها ، فلم يتهيبوا من رؤية الكتائب الجرارة التي تحيط بهم من كل حدب وصوب ، بل صمموا على التضحية بالنفوس وهي أغلى مايمكن التضحية به.
يقول الكاتب المصري خالد محمد خالد وحقا ما يقول : « إن اللَّوحة التي رسمتها تضحيات الحسين وأهله وصحبه ، بوَّأت هذا الشرف وتلك الجدارة أعلى منازل الذُّرى ، إنهم لم يقدموا على التضحية ذاتها .. وهكذا جعلوها وسيلة وغاية .. كما أكدوا معنى أنها مثوبة نفسها ، وأنها قيمة بذاتها » (14).
ومن أبرز الشواهد العامة على مدى تسابق جند الإمام على التضحية بالنفوس ، تقدم شباب أهل البيت ، ليأخذوا مكانهم في الصف الأول عند شروع الطرفين في صفحة القتال الجماعي ، فدفعهم الأنصار عن محلهم ، قائلين لهم بلسان الحال والمقال : معاذ اللّه أن تموتوا ونحن أحياء ، نشهد مصارعكم ، بل نحن أولاً ثم تجيئون على الأثر. وتقدم الأنصار واقتحموا الميدان في مشهد فريد ، جسّد القدوة في القدرة الرائعة على التضحية الغالية.

٤ ـ الانضباط التام

وهو الالتزام الصارم بأوامر وتوجيهات القيادة ، وينتج غالبا من قوة الشخصية ، والإيمان بالقضية ، يقول الجنرال كورتوا : « إن قوي الشخصية هو من حافظ على التفكير الواضح المنطقي رغم المتاعب ، وبحث عن الحقيقة ، وتمسك بها بكل اصرار مهما كلفه الأمر ، وثبت في المأزق بكل صبر ولو انسحب الجميع من حوله » (15).
ونحن نجد أن هذه الصفات تنطبق بحذافيرها على جند الإمام ، الذين انقادوا ـ طواعيةً ـ لتوجيهات قائدهم الحسين عليه‌السلام وخضعوا له عن طيب قلب ، نتيجة لطغيان حالة من الغليان والحماس والعشق للشهادة ، فعلى سبيل المثال ، نقرأ عن موقف عابس الشاكري ، وكيف أنه نزل الى المعركة بعد أن تقاعس الأعداء عن منازلته وانهالوا عليه بالحجارة ، فرمى بسيفه جانبا ، ونزع درعه ، ثم واجه جحافل الأعداء وهو أعزل إلا من سلاح الإيمان ، ومع هذا الاندفاع الذي قلّ نظيره ، فانه لم يخرج عما رسمته له قيادته من حدود ، وإنما أراد التعبير عن استهانته بالموت في سبيل قضيته العادلة وحبه لقائده وهيامه للشهادة ، كما أنه أراد بث الرّعب في صفوف أعدائه وإظهار استخفافه بجمعهم. ويبدو ـ أيضا ـ أنه أراد أن يقوم بمظاهرة احتجاج ، يُظهر فيها للملأ بأن القوة الباغية لا تستطيع إخماد جذوة الحق المتّقدة في القلوب. وكأن لسان حاله يقول : ليأت الموت ، وليأت القتل ، ولتأت الشهادة! ..ليجيء ذلك كله ، فذلك دورهم في الحياة.
أن يُعلِّموا الناس في جيلهم ، ولكل الاجيال ، أنّ الوقوف إلى جانب الحق ، والتضحية المستمرة في سبيله ، هما أصدق مظهر لشرف الإنسان.
المصادر :
1- الارشاد ٢ : ١٠٣.
2- اُسدالغابة / ابن الأثير ١ : ١٢٣ و٣٤٩ ، الإصابة / ابن حجر ١ : ٦٨.
3- الإرشاد ٢ : ٩١.
4- الإرشاد ٢ : ٩١.
5- روضة الواعظين : ١٧٨ ، وقريب منه في تاريخ الطبري ٦ : ٢١٠ ، حوادث سنة إحدى وستين.
6- الإرشاد ٢ : ٧٣.
7- الأخبار الطّوال : ١٩٠.
8- المصدر السابق : ١٩٠.
9- روضة الواعظين : ١٨٤.
10- روضة الواعظين : ١٨٤.
11- الإرشاد ٢ : ٩٢.
12- موسوعة عاشوراء : ٢٩٣.
13- موسوعة عاشوراء : ٢٩١.
14- ابناء الرسول في كربلاء / خالد محمد خالد ، ١٢٩ ، دار الكتاب العربي ، ط٤.
15- لمحات من فن القيادة / ج ـ كورتوا ، تعريب المقدم هيثم الايوبي ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط٢.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الارتباط بالمعصومين(ع) و أقسامها
النتائج الأخروية للارتباط بالمعصومین(ع)ـ القسم ...
آيات بحق أهل البيت عليهم السلام
علماء أهل السنة يكتشفون أن المهدي المنتظر من أهل ...
النبي عيسى وآدم (ع) من منظار القرآن الكريم
تزوجه ص بخديجة( س )و فضائلها و بعض أحوالها
أسباب الغيبة الصغرى للإمام المهدي
في أن الاستقامة إنما هي على الولاية
صُبت علـَـيَ مصـــائبٌ لـ فاطمه زهراعليها ...
التقیة لغز لا نفهمه

 
user comment