ليست كربلاء مأساة فاجعة ، ومناسبة للعويل والبكاء وحسب ، بل هي في جوهرها مهرجان للحق ، وعيد للتضحية حيث تتجسد ـ مفهوميا وميدانيا ـ عظمة الثبات ، وروعة البطولة ، وعزّة الإيمان ، وجلال التضحية.
إن جذوة الحق والصمود التي أضاءها الإمام الحسين عليهالسلام وأصحابه بدمائهم الزكية ، لم يخب نورها باستشهاده ، بل ازدادت ألقا واندفاعا على نحو يبهر الألباب ، لذلك أخذت قوى الإيمان في كل مكان وزمان تتزود من الوقود ـ المعرفي والسلوكي ـ لمحطة كربلاء من خلال دراسة متأنية لأحداثها ومواقف الناس وأدوارهم فيها.
ونحن في هذه الفقرة نبحث عن الخصائص الأساسية ، التي جعلت من جيش الحسين عليهالسلام الذين يقارب عددهم الخمسون إذا ما استثنينا الحسين عليهالسلام وأهل بيته ، يقفون مع قائدهم بكل شجاعة وصمود ، ويواجهون جيشا يمتاز بالتفوق العددي الساحق ، فلم يتعجلوا النصر ، وما أبعده عن قوم يقاتلون في مثل ظروفهم ، وبمثل عددهم ، إنما كانوا يتعجلون الجنّة ، إذ لم يكن لديهم ريب في أنها المنتهى والمصير. أليست هذه الظاهرة النادرة تستحق البحث والنظر من قبل علماء الاجتماع أو من قبل علماء النفس؟
نفر قليل قد رفضوا الباطل ، واختاروا الحق ، ثم مزقوا جدار الصمت ، وجهروا بالمقاومة ، وصمدوا صمودا اسطوريا ، فالذين اتبعوا الإمام الحسين عليهالسلام من غير بني هاشم هم نخبة الأمة الإسلامية ، ولقد وصفهم أحد قادة الجيش الأموي بقوله للجيش : « أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر ، وتقاتلون قوما مستميتين » (1) .
وقال عنهم الإمام علي عليهالسلام : « ليس مثلهم إلا شهداء بدر » (2).
فالذين اتبعوا الإمام الحسين عليهالسلام ونالوا شرف الشهادة بين يديه ، نماذج بشرية عجيبة حقا ، حللت واقعها تحليلاً دقيقا ، وأصغت لنبيها وهو يأمرها بنصر الحسين عليهالسلام ، فاختارت ما اختارت بقلوب راضية مطمئنة.
لقد طلب الحسين عليهالسلام إرجاء القتال ليجعل أهله وأصحابه في حلٍّ من كل التزاماتهم تجاهه ، ومن أجل ذلك جمعهم تحت جنح الظلام ، وقال لهم بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه : « أما بعد ، فاني لا أعلم أصحابا أوفى من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم اللّه عني خيرا ، ألا وإنِّي لأظنّ أنّه آخر يومٍ لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعا في حلٍّ ليس عليكم منّي ذِمامٌ ، هذا الليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جملاً » (3).
ترى هل يتقبل الجيش المتكون من الأهل والأنصار رأيه هذا؟ .. كلا ، ولماذا؟ لأن العظمة ، ولأن البطولة كانتا في ذلك اليوم على موعدٍ مع هؤلاء الأبرار جميعا فتيانا وكهولاً ، لتحققا بهم أروع مشاهدهما ، وأسمى أمجادهما. من أجل ذلك ، لم يكد البطل يفرغ من كلماته ، حتى تحولوا جميعا إلى اُسود تزأر بكلمات الرّفض وتشرق بدموع العطف والمودة ، هبوا جميعا يُعطون البيعة على موت محقق ، فقالوا له : « لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبدا » (4).
كل ذلك جعلنا نتساءل عن الخصائص الرئيسية التي امتاز بها أصحاب الحسين عليهالسلام ، والتي كانت السبب وراء وقوفهم مع قائدهم في ذلك الموقف العصيب ، في وقت لم يكن لهم في إحراز النصر على عدوهم أدنى أمل ، وليس أمامهم سوى القتل ، فمن خلال دراستنا لسلوكهم ومواقفهم في كربلاء نجد هذه الخصائص تتمثل بما يلي :
رفض الإمام الحسين عليهالسلام طلب البيعة الذي تقدم به ( الوليد بن عتبة ) أمير المدينة ، وخرج من المدينة هو وبعض أقطاب المعارضة كعبد اللّه بن الزبير وتوجه إلى مكة ، وهناك في الحرم الآمن أحس بعدم الأمن ، وخشي على الكعبة المشرفة من أن تُنتهك حرمتها بقتله واغتياله ، لذلك خرج يريد العراق بناءً على الكتب المرسلة إليه من أهله ، التي تدعوه إلى القدوم ، وتعده بالسمع والطاعة.
أدرك أصحاب الحسين عليهالسلام عدالة قضيته ، وأنه حين خرج إلى الكوفة لم يكن طالبا لدنيا ولا جاه ، وإنما كان مستجيبا لسلطان الإيمان الذي لا يعطى ولا يُغلب. لقد رأى القائد ( الحسين عليهالسلام ) وصحبه ( الجند ) أن الإسلام بكل قيمه الغالية وأمجاده العالية ، يتعرض لمحنة قاسية يفرضها عليه بيت أبي سفيان ، ورأى الحسين عليهالسلام ويشاركه في هذه الرؤية جنده أن خطيئة الصمت والسكوت تجتاح السواد الأعظم من الناس رغبةً ورهبةً أحيانا.
وقد وعى الأصحاب جيدا المستجدات ، لما امتازوا به من وضوح في الرؤية ، فصمموا على اختيار الخيار الأصعب ، المتمثل بالانضمام إلى جبهة الحسين عليهالسلام الذي أعلن هدفه ـ منذ البداية ـ وبدون لبس أمام الناس.
وبعد أن تبين للأصحاب الخيط الأبيض من الأسود من التطورات السياسية ، التي عصفت بالساحة الإسلامية آنذاك ، باتوا على يقين بأن الحسين عليهالسلام هو القائد الرّباني الجدير بالخلافة ، وأن يزيد رجل شهواني مغامر يتستر خلف سواتر الدين من أجل تأمين البقاء في السلطة ، لذلك اندفعوا إلى آخر الشوط مع قيادتهم الحقة ، ولم يكتفوا بالشجب والاستنكار ، في وقت كان السكوت فيه من ذهب ، وقد سكت البعض
سكوت الأموات ، في هذا الوقت العصيب سارع الأصحاب بالالتحاق بقائدهم الحسين عليهالسلام بعد أن تيقنوا من عدالة قضيته ، وقاتلوا بجنبه حتى آخر رمق ، وأفضل شاهد على ذلك الطراز من الجُند ( زهير بن القين ) الذي التقى بالإمام عليهالسلام في مكان يُدعى ( زرود ) حيث أبصر الإمام فسطاطا مضروبا ، فسأل عنه فعلم أنه لـ ( زهير بن القين ) فأرسل في طلبه ، فتثاقل أول الأمر ، ثم ذهب إلى لقائه ضَجِرا .. وحين التقيا أسرَّ الحسين عليهالسلام إليه حديثا ، لم يكد الرجل يسمعه حتى تهلَّل وجهه ، وامتلأ غبطة وبشرا ، ثم سارع فنقل فسطاطه إلى جوار فسطاط الحسين عليهالسلام ، وقال لمن كان معه من أهله : « من أحبَّ منكم أن يتبعني ، وإلاَّ فإنه آخر العهد بيننا » (5).
ثم التفت إلى زوجته وقال لها : « أما أنت ، فالحقي بأهلك ، فإني لا أحب أن يصيبك بسببي سوء » (6) .
وانصرف أَقرباؤه عائدين إلى موطنهم ، مصطحبين معهم زوجته. ترى ماذا قال له الحسين عليهالسلام حين ناجاه؟! .. هل وعده بمنصب أو مغنم؟ .. لو كان ذلك ، ما سرَّح زوجته ، ولا قال للذين كانوا معه موِّدعا إياهم : إنه آخر العهد بيننا .. ثم بأَيِّ مغنم يعدُه ( الحسين ) وقد جاءته الأنباء بمقتل رُسُله ، وشراسة عدُوّه ..؟ أغلب الظن أنه حدَّثه عن قضيته العادلة ، ثم ختم حديثه معه قائلاً : تلك هي القضية ، ففيمَ إبطاؤُك عن الجنَّة؟.
وبالمقابل كان جند يزيد يتذرّعون بمختلف السبل والحيل في سبيل الفرار من جبهة القتال ، وذلك لعدم إيمانهم بالقضية التي يدافعون عنها. يروى أنّ ابن زياد قد « وجّه الحصين بن نمير ، وحجار بن أبجر ، وشبث بن ربعي ، وشمر بن ذي الجوشن ، ليعاونوا عمر بن سعد على أمره. فأمّا شمر فنفذ لما وجّهه له ، وأمّا شبث فاعتلّ بمرض. فقال له ابن زياد : أتتمارض؟ إن كنت في طاعتنا فاخرج إلى قتال عدوّنا. فلمّا سمع شبث ذلك خرج ... قالوا : وكان ابن زياد إذا وجّه الرجل إلى قتال الحسين في الجمع الكثير ، يصلون إلى كربلاء ولم يبق منهم إلاّ القليل ، كانوا يكرهون قتال الحسين ، فيرتدعون ويتخلّفون » (7).
ونتيجة لذلك استخدم ابن زياد أسلوب التهديد والوعيد لحمل الناس على الخروج لقتال الحسين عليهالسلام.
يروى أنّ ابن زياد بعث سويد بن عبدالرحمن المنقري في خيل إلى الكوفة ، وأمره أن يطوف بها ، فمن وجده قد تخلّف أتاه به. فبينما هو يطوف في أحياء الكوفة إذ وجد رجلاً من أهل الشام قد كان قدم الكوفة في طلب ميراث له ، فأرسل به إلى ابن زياد ، فأمر به ، فضربت عنقه. فلمّا رأى الناس ذلك خرجوا (8).
وقيادة الحسين عليهالسلام الحقة ، بما اكتسبته من قدسية وشرعية ، وبما اتصفت به من عصمة وحكمة وبُعد نظر ، وبما اتخذته من مواقف مبدئية حاسمة ، ليس فيها مساومة ولا انصاف حلول ، وقد استقطبت أنظار الناس فوجدوا فيها المنقذ والمخلِّص ، ونتيجة لذلك التحقت بها ثلّة مؤمنة ، ولم يكن ذلك أمرا سهلاً لجميع الناس ؛ نظرا لدقّة الظروف وخطورة الاحتمالات ، في وقت كمّم فيه يزيد من خلال ولاته القساة أفواه الناس ، وزرعوا الخوف في النفوس ، وفي وقت آثرت فيه الأغلبية الصمت والعافية ، انضمت هذا الفئة القليلة العدد والصلبة الايمان بمعسكر الحسين ، وآمنت بقيادته ، وأخذت تدين له بالسمع والطاعة ، ووطنت نفسها على التضحية والفداء.
والقائد بدوره نسج علاقة قوية مع أتباعه ، وعبأهم روحيا وفكريا ليكونوا في مستوى الأحداث ، واتبع معهم سياسة المكاشفة والمصارحة التي يُعبر عنها حاليا في العلوم السياسية بـ ( الغلاسنوست ) ، كان يطلعهم على الموقف أولاً بأول ، ويرصد ويحلل كل شاردة وواردة فيما يتعلق بقضيتهم ، ويبين لهم ماذا يحمل رحم الأيام القادمة من أحداث جسام حبلى بها ، وأبقى أمامهم كل أبواب النجاة مفتوحة على مصراعيها ، ولكن مع ذلك نجد أن الأصحاب يوصدون جميع تلك الأبواب ، ويتمسكون بقيادة إمامهم الحسين عليهالسلام ، ويوطنون أنفسهم على الموت دونه. واكتفي ـ في هذه الفقرة ـ بهذا الموقف ، وذلك حينما طلب الحسين القائد من أصحابه التفرق عنه ، لأن القوم لا يريدون غيره ، قام سعيد بن عبد اللّه الحنفي ، فقال : « لا واللّه يا ابن رسول اللّه ، لا نخذلك أبدا حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا فيك وفيه رسول اللّه محمد صلىاللهعليهوآله .
ثم قال : واللّه ، لو علمت أني أُقتل فيك ثم أُحرق ثم أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقي حِمامي دونك » (9).
وقال زهير بن القين : « واللّه يا ابن رسول اللّه لوددت أني قتلت ثم نشرت ألف مرّة ، وان اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك » (10).
ونفس الموقف أفصح عنه مسلم بن عوسجة ، قال : « أنخلِّي عنك ولمّا نُعذِرْ إلى اللّه سبحانه في أداء حَقِّك؟! أما واللّه حتى أطعن في صدروهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، واللّه لا نُخليك حتى يعلم اللّه أنْ قد حفظنا غيبة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فيك ، واللّه لو علمت أنِّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق ثم أحيا ثمّ أُذرَّى ، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدةٌ ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا » (11).
وظاهرة حبّ الأصحاب لقائدهم الحسين عليهالسلام بهذا العمق لفتت نظر العديد من الكتاب والباحثين ، المسلمين منهم وغير المسلمين ، ومنهم جورج جرداق ، العالم والأديب المسيحي ، فقال : « حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء ، كانوا يقولون : كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون : لو أننا نقتل سبعين مرّة ، فاننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرّة اُخرى أيضا » (12).
ومن خلال هذه المواقف المشرفة ، ضرب الأصحاب المثل الأعلى في الالتفاف حول القيادة التي آمنوا بها ، وجادوا بأنفسهم ، فباعوها صفقة رابحة من أجل قضيتهم العادلة.
واذا كان أكثر مايمنع الناس عن التضحية ، حب المال والملذات ، وحب الحياة ، فان الأصحاب قد قطعوا علائق الدنيا تلك ، عندما رأوا في بداية مسيرهم نحو العراق ضباب الحرب ، وعندما دخلوا ـ من بعد ذلك ـ في أتونها ولسعهم لهيبها ، فلم يتهيبوا من رؤية الكتائب الجرارة التي تحيط بهم من كل حدب وصوب ، بل صمموا على التضحية بالنفوس وهي أغلى مايمكن التضحية به.
يقول الكاتب المصري خالد محمد خالد وحقا ما يقول : « إن اللَّوحة التي رسمتها تضحيات الحسين وأهله وصحبه ، بوَّأت هذا الشرف وتلك الجدارة أعلى منازل الذُّرى ، إنهم لم يقدموا على التضحية ذاتها .. وهكذا جعلوها وسيلة وغاية .. كما أكدوا معنى أنها مثوبة نفسها ، وأنها قيمة بذاتها » (14).
ومن أبرز الشواهد العامة على مدى تسابق جند الإمام على التضحية بالنفوس ، تقدم شباب أهل البيت ، ليأخذوا مكانهم في الصف الأول عند شروع الطرفين في صفحة القتال الجماعي ، فدفعهم الأنصار عن محلهم ، قائلين لهم بلسان الحال والمقال : معاذ اللّه أن تموتوا ونحن أحياء ، نشهد مصارعكم ، بل نحن أولاً ثم تجيئون على الأثر. وتقدم الأنصار واقتحموا الميدان في مشهد فريد ، جسّد القدوة في القدرة الرائعة على التضحية الغالية.
ونحن نجد أن هذه الصفات تنطبق بحذافيرها على جند الإمام ، الذين انقادوا ـ طواعيةً ـ لتوجيهات قائدهم الحسين عليهالسلام وخضعوا له عن طيب قلب ، نتيجة لطغيان حالة من الغليان والحماس والعشق للشهادة ، فعلى سبيل المثال ، نقرأ عن موقف عابس الشاكري ، وكيف أنه نزل الى المعركة بعد أن تقاعس الأعداء عن منازلته وانهالوا عليه بالحجارة ، فرمى بسيفه جانبا ، ونزع درعه ، ثم واجه جحافل الأعداء وهو أعزل إلا من سلاح الإيمان ، ومع هذا الاندفاع الذي قلّ نظيره ، فانه لم يخرج عما رسمته له قيادته من حدود ، وإنما أراد التعبير عن استهانته بالموت في سبيل قضيته العادلة وحبه لقائده وهيامه للشهادة ، كما أنه أراد بث الرّعب في صفوف أعدائه وإظهار استخفافه بجمعهم. ويبدو ـ أيضا ـ أنه أراد أن يقوم بمظاهرة احتجاج ، يُظهر فيها للملأ بأن القوة الباغية لا تستطيع إخماد جذوة الحق المتّقدة في القلوب. وكأن لسان حاله يقول : ليأت الموت ، وليأت القتل ، ولتأت الشهادة! ..ليجيء ذلك كله ، فذلك دورهم في الحياة.
أن يُعلِّموا الناس في جيلهم ، ولكل الاجيال ، أنّ الوقوف إلى جانب الحق ، والتضحية المستمرة في سبيله ، هما أصدق مظهر لشرف الإنسان.
المصادر :
1- الارشاد ٢ : ١٠٣.
2- اُسدالغابة / ابن الأثير ١ : ١٢٣ و٣٤٩ ، الإصابة / ابن حجر ١ : ٦٨.
3- الإرشاد ٢ : ٩١.
4- الإرشاد ٢ : ٩١.
5- روضة الواعظين : ١٧٨ ، وقريب منه في تاريخ الطبري ٦ : ٢١٠ ، حوادث سنة إحدى وستين.
6- الإرشاد ٢ : ٧٣.
7- الأخبار الطّوال : ١٩٠.
8- المصدر السابق : ١٩٠.
9- روضة الواعظين : ١٨٤.
10- روضة الواعظين : ١٨٤.
11- الإرشاد ٢ : ٩٢.
12- موسوعة عاشوراء : ٢٩٣.
13- موسوعة عاشوراء : ٢٩١.
14- ابناء الرسول في كربلاء / خالد محمد خالد ، ١٢٩ ، دار الكتاب العربي ، ط٤.
15- لمحات من فن القيادة / ج ـ كورتوا ، تعريب المقدم هيثم الايوبي ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط٢.
إن جذوة الحق والصمود التي أضاءها الإمام الحسين عليهالسلام وأصحابه بدمائهم الزكية ، لم يخب نورها باستشهاده ، بل ازدادت ألقا واندفاعا على نحو يبهر الألباب ، لذلك أخذت قوى الإيمان في كل مكان وزمان تتزود من الوقود ـ المعرفي والسلوكي ـ لمحطة كربلاء من خلال دراسة متأنية لأحداثها ومواقف الناس وأدوارهم فيها.
ونحن في هذه الفقرة نبحث عن الخصائص الأساسية ، التي جعلت من جيش الحسين عليهالسلام الذين يقارب عددهم الخمسون إذا ما استثنينا الحسين عليهالسلام وأهل بيته ، يقفون مع قائدهم بكل شجاعة وصمود ، ويواجهون جيشا يمتاز بالتفوق العددي الساحق ، فلم يتعجلوا النصر ، وما أبعده عن قوم يقاتلون في مثل ظروفهم ، وبمثل عددهم ، إنما كانوا يتعجلون الجنّة ، إذ لم يكن لديهم ريب في أنها المنتهى والمصير. أليست هذه الظاهرة النادرة تستحق البحث والنظر من قبل علماء الاجتماع أو من قبل علماء النفس؟
نفر قليل قد رفضوا الباطل ، واختاروا الحق ، ثم مزقوا جدار الصمت ، وجهروا بالمقاومة ، وصمدوا صمودا اسطوريا ، فالذين اتبعوا الإمام الحسين عليهالسلام من غير بني هاشم هم نخبة الأمة الإسلامية ، ولقد وصفهم أحد قادة الجيش الأموي بقوله للجيش : « أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان أهل المصر ، وتقاتلون قوما مستميتين » (1) .
وقال عنهم الإمام علي عليهالسلام : « ليس مثلهم إلا شهداء بدر » (2).
فالذين اتبعوا الإمام الحسين عليهالسلام ونالوا شرف الشهادة بين يديه ، نماذج بشرية عجيبة حقا ، حللت واقعها تحليلاً دقيقا ، وأصغت لنبيها وهو يأمرها بنصر الحسين عليهالسلام ، فاختارت ما اختارت بقلوب راضية مطمئنة.
لقد طلب الحسين عليهالسلام إرجاء القتال ليجعل أهله وأصحابه في حلٍّ من كل التزاماتهم تجاهه ، ومن أجل ذلك جمعهم تحت جنح الظلام ، وقال لهم بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه : « أما بعد ، فاني لا أعلم أصحابا أوفى من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم اللّه عني خيرا ، ألا وإنِّي لأظنّ أنّه آخر يومٍ لنا من هؤلاء ، ألا وإنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعا في حلٍّ ليس عليكم منّي ذِمامٌ ، هذا الليلُ قد غشيكم فاتّخذوه جملاً » (3).
ترى هل يتقبل الجيش المتكون من الأهل والأنصار رأيه هذا؟ .. كلا ، ولماذا؟ لأن العظمة ، ولأن البطولة كانتا في ذلك اليوم على موعدٍ مع هؤلاء الأبرار جميعا فتيانا وكهولاً ، لتحققا بهم أروع مشاهدهما ، وأسمى أمجادهما. من أجل ذلك ، لم يكد البطل يفرغ من كلماته ، حتى تحولوا جميعا إلى اُسود تزأر بكلمات الرّفض وتشرق بدموع العطف والمودة ، هبوا جميعا يُعطون البيعة على موت محقق ، فقالوا له : « لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللّه ذلك أبدا » (4).
كل ذلك جعلنا نتساءل عن الخصائص الرئيسية التي امتاز بها أصحاب الحسين عليهالسلام ، والتي كانت السبب وراء وقوفهم مع قائدهم في ذلك الموقف العصيب ، في وقت لم يكن لهم في إحراز النصر على عدوهم أدنى أمل ، وليس أمامهم سوى القتل ، فمن خلال دراستنا لسلوكهم ومواقفهم في كربلاء نجد هذه الخصائص تتمثل بما يلي :
١ ـ عدالة القضية
لم يكتف معاوية باغتصاب الخلافة ، ولم يرغب ـ وهو على وشك لقاء ربّه ـ في التكفير عن خطئه ، تاركا أمر المسلمين للمسلمين ، بل إنه أمعن في تحويل الإسلام إلى ملك عضوض ، فأخذ البيعة ليزيد كولي عهد له .. انتزعها بالذهب وبالسيف ، ثم هاهو يزيد يتربع على عرش أبيه بعد وفاته ، فيهمل أمر المسلمين ، ويعكف على اللّهو بفهوده وقروده حتى يُلقب بـ ( يزيد القرود )! .. ثم يسلط قواده ورجاله على العباد ويستبيح البلاد ، ويرسل إلى الأصحاب والأشراف من أجل مبايعته!رفض الإمام الحسين عليهالسلام طلب البيعة الذي تقدم به ( الوليد بن عتبة ) أمير المدينة ، وخرج من المدينة هو وبعض أقطاب المعارضة كعبد اللّه بن الزبير وتوجه إلى مكة ، وهناك في الحرم الآمن أحس بعدم الأمن ، وخشي على الكعبة المشرفة من أن تُنتهك حرمتها بقتله واغتياله ، لذلك خرج يريد العراق بناءً على الكتب المرسلة إليه من أهله ، التي تدعوه إلى القدوم ، وتعده بالسمع والطاعة.
أدرك أصحاب الحسين عليهالسلام عدالة قضيته ، وأنه حين خرج إلى الكوفة لم يكن طالبا لدنيا ولا جاه ، وإنما كان مستجيبا لسلطان الإيمان الذي لا يعطى ولا يُغلب. لقد رأى القائد ( الحسين عليهالسلام ) وصحبه ( الجند ) أن الإسلام بكل قيمه الغالية وأمجاده العالية ، يتعرض لمحنة قاسية يفرضها عليه بيت أبي سفيان ، ورأى الحسين عليهالسلام ويشاركه في هذه الرؤية جنده أن خطيئة الصمت والسكوت تجتاح السواد الأعظم من الناس رغبةً ورهبةً أحيانا.
وقد وعى الأصحاب جيدا المستجدات ، لما امتازوا به من وضوح في الرؤية ، فصمموا على اختيار الخيار الأصعب ، المتمثل بالانضمام إلى جبهة الحسين عليهالسلام الذي أعلن هدفه ـ منذ البداية ـ وبدون لبس أمام الناس.
وبعد أن تبين للأصحاب الخيط الأبيض من الأسود من التطورات السياسية ، التي عصفت بالساحة الإسلامية آنذاك ، باتوا على يقين بأن الحسين عليهالسلام هو القائد الرّباني الجدير بالخلافة ، وأن يزيد رجل شهواني مغامر يتستر خلف سواتر الدين من أجل تأمين البقاء في السلطة ، لذلك اندفعوا إلى آخر الشوط مع قيادتهم الحقة ، ولم يكتفوا بالشجب والاستنكار ، في وقت كان السكوت فيه من ذهب ، وقد سكت البعض
سكوت الأموات ، في هذا الوقت العصيب سارع الأصحاب بالالتحاق بقائدهم الحسين عليهالسلام بعد أن تيقنوا من عدالة قضيته ، وقاتلوا بجنبه حتى آخر رمق ، وأفضل شاهد على ذلك الطراز من الجُند ( زهير بن القين ) الذي التقى بالإمام عليهالسلام في مكان يُدعى ( زرود ) حيث أبصر الإمام فسطاطا مضروبا ، فسأل عنه فعلم أنه لـ ( زهير بن القين ) فأرسل في طلبه ، فتثاقل أول الأمر ، ثم ذهب إلى لقائه ضَجِرا .. وحين التقيا أسرَّ الحسين عليهالسلام إليه حديثا ، لم يكد الرجل يسمعه حتى تهلَّل وجهه ، وامتلأ غبطة وبشرا ، ثم سارع فنقل فسطاطه إلى جوار فسطاط الحسين عليهالسلام ، وقال لمن كان معه من أهله : « من أحبَّ منكم أن يتبعني ، وإلاَّ فإنه آخر العهد بيننا » (5).
ثم التفت إلى زوجته وقال لها : « أما أنت ، فالحقي بأهلك ، فإني لا أحب أن يصيبك بسببي سوء » (6) .
وانصرف أَقرباؤه عائدين إلى موطنهم ، مصطحبين معهم زوجته. ترى ماذا قال له الحسين عليهالسلام حين ناجاه؟! .. هل وعده بمنصب أو مغنم؟ .. لو كان ذلك ، ما سرَّح زوجته ، ولا قال للذين كانوا معه موِّدعا إياهم : إنه آخر العهد بيننا .. ثم بأَيِّ مغنم يعدُه ( الحسين ) وقد جاءته الأنباء بمقتل رُسُله ، وشراسة عدُوّه ..؟ أغلب الظن أنه حدَّثه عن قضيته العادلة ، ثم ختم حديثه معه قائلاً : تلك هي القضية ، ففيمَ إبطاؤُك عن الجنَّة؟.
وبالمقابل كان جند يزيد يتذرّعون بمختلف السبل والحيل في سبيل الفرار من جبهة القتال ، وذلك لعدم إيمانهم بالقضية التي يدافعون عنها. يروى أنّ ابن زياد قد « وجّه الحصين بن نمير ، وحجار بن أبجر ، وشبث بن ربعي ، وشمر بن ذي الجوشن ، ليعاونوا عمر بن سعد على أمره. فأمّا شمر فنفذ لما وجّهه له ، وأمّا شبث فاعتلّ بمرض. فقال له ابن زياد : أتتمارض؟ إن كنت في طاعتنا فاخرج إلى قتال عدوّنا. فلمّا سمع شبث ذلك خرج ... قالوا : وكان ابن زياد إذا وجّه الرجل إلى قتال الحسين في الجمع الكثير ، يصلون إلى كربلاء ولم يبق منهم إلاّ القليل ، كانوا يكرهون قتال الحسين ، فيرتدعون ويتخلّفون » (7).
ونتيجة لذلك استخدم ابن زياد أسلوب التهديد والوعيد لحمل الناس على الخروج لقتال الحسين عليهالسلام.
يروى أنّ ابن زياد بعث سويد بن عبدالرحمن المنقري في خيل إلى الكوفة ، وأمره أن يطوف بها ، فمن وجده قد تخلّف أتاه به. فبينما هو يطوف في أحياء الكوفة إذ وجد رجلاً من أهل الشام قد كان قدم الكوفة في طلب ميراث له ، فأرسل به إلى ابن زياد ، فأمر به ، فضربت عنقه. فلمّا رأى الناس ذلك خرجوا (8).
٢ ـ الإيمان بالقيادة
لابد لكل قضية عادلة من قيادة حقة ، والايمان بالقضية العادلة يستدعي أيضا الايمان بالقيادة المخلصة القادرة على الوصول إلى الهدف بأفضل الطرق وأحسن الأساليب المشروعة ، وتحريك ماهمد من الطاقات وجمعها وتوظيفها لصالح القضية المنشودة.وقيادة الحسين عليهالسلام الحقة ، بما اكتسبته من قدسية وشرعية ، وبما اتصفت به من عصمة وحكمة وبُعد نظر ، وبما اتخذته من مواقف مبدئية حاسمة ، ليس فيها مساومة ولا انصاف حلول ، وقد استقطبت أنظار الناس فوجدوا فيها المنقذ والمخلِّص ، ونتيجة لذلك التحقت بها ثلّة مؤمنة ، ولم يكن ذلك أمرا سهلاً لجميع الناس ؛ نظرا لدقّة الظروف وخطورة الاحتمالات ، في وقت كمّم فيه يزيد من خلال ولاته القساة أفواه الناس ، وزرعوا الخوف في النفوس ، وفي وقت آثرت فيه الأغلبية الصمت والعافية ، انضمت هذا الفئة القليلة العدد والصلبة الايمان بمعسكر الحسين ، وآمنت بقيادته ، وأخذت تدين له بالسمع والطاعة ، ووطنت نفسها على التضحية والفداء.
والقائد بدوره نسج علاقة قوية مع أتباعه ، وعبأهم روحيا وفكريا ليكونوا في مستوى الأحداث ، واتبع معهم سياسة المكاشفة والمصارحة التي يُعبر عنها حاليا في العلوم السياسية بـ ( الغلاسنوست ) ، كان يطلعهم على الموقف أولاً بأول ، ويرصد ويحلل كل شاردة وواردة فيما يتعلق بقضيتهم ، ويبين لهم ماذا يحمل رحم الأيام القادمة من أحداث جسام حبلى بها ، وأبقى أمامهم كل أبواب النجاة مفتوحة على مصراعيها ، ولكن مع ذلك نجد أن الأصحاب يوصدون جميع تلك الأبواب ، ويتمسكون بقيادة إمامهم الحسين عليهالسلام ، ويوطنون أنفسهم على الموت دونه. واكتفي ـ في هذه الفقرة ـ بهذا الموقف ، وذلك حينما طلب الحسين القائد من أصحابه التفرق عنه ، لأن القوم لا يريدون غيره ، قام سعيد بن عبد اللّه الحنفي ، فقال : « لا واللّه يا ابن رسول اللّه ، لا نخذلك أبدا حتى يعلم اللّه أنا قد حفظنا فيك وفيه رسول اللّه محمد صلىاللهعليهوآله .
ثم قال : واللّه ، لو علمت أني أُقتل فيك ثم أُحرق ثم أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقي حِمامي دونك » (9).
وقال زهير بن القين : « واللّه يا ابن رسول اللّه لوددت أني قتلت ثم نشرت ألف مرّة ، وان اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك » (10).
ونفس الموقف أفصح عنه مسلم بن عوسجة ، قال : « أنخلِّي عنك ولمّا نُعذِرْ إلى اللّه سبحانه في أداء حَقِّك؟! أما واللّه حتى أطعن في صدروهم برمحي ، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة ، واللّه لا نُخليك حتى يعلم اللّه أنْ قد حفظنا غيبة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فيك ، واللّه لو علمت أنِّي أُقتل ثمّ أُحيا ثمّ أُحرق ثم أحيا ثمّ أُذرَّى ، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدةٌ ، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا » (11).
وظاهرة حبّ الأصحاب لقائدهم الحسين عليهالسلام بهذا العمق لفتت نظر العديد من الكتاب والباحثين ، المسلمين منهم وغير المسلمين ، ومنهم جورج جرداق ، العالم والأديب المسيحي ، فقال : « حينما جنّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء ، كانوا يقولون : كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون : لو أننا نقتل سبعين مرّة ، فاننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرّة اُخرى أيضا » (12).
ومن خلال هذه المواقف المشرفة ، ضرب الأصحاب المثل الأعلى في الالتفاف حول القيادة التي آمنوا بها ، وجادوا بأنفسهم ، فباعوها صفقة رابحة من أجل قضيتهم العادلة.
٣ ـ التضحية الغالية
تعتبر التضحية من لوازم الإيمان سواءً بالقضية أو بالقيادة ، فمن آمن بشيء ضحى من أجله ، وخاصة عندما يتعلق الأمر بإنقاذ الإسلام من خطر السقوط في وهدة الظلم والضلال ، وكان الأنصار تبعا لرؤية قائدهم الحسين عليهالسلام قد استشعروا الخطر المحدق بالأمة من جراء سيطرة يزيد الفاسق ، الذي حَرَف الأمة عن مسارها الصحيح وحرَّف مبادءها الحقة ، وقوَّض دعائم مجدها ، كانوا كقائدهم الحسين قد وطّنوا أنفسهم لتحمّل كل الضغوط ، وكان بإمكانهم أن يستسلموا أو أن ينسحبوا تحت جنح الظلام ، لكن إرادتهم كارادة قائدهم واحدة لا تتجزأ هي انقاذ الإسلام ، يقول واشنطن ايروينغ ، المؤرخ الامريكي الشهير : « كان بميسور الامام الحسين النجاة بنفسه عبر الاستسلام لارادة يزيد ، إلاّ أنّ رسالة القائد الذي كان سببا لانبثاق الثورات في الاسلام لم تكن تسمح له الاعتراف بيزيد كخليفة ، بل وطّن نفسه لتحمّل كل الضغوط والمآسي لاجل انقاذ الاسلام من مخالب بني اُميّة. وبقيت روح الحسين خالدة ، بينما سقط جسمه على رمضاء الحجاز ـ والصحيح هو كربلاء ـ اللاهبة ، أيها البطل ، ويا اُسوة الشجاعة ، ويا أيها الفارس يا حسين » (13).واذا كان أكثر مايمنع الناس عن التضحية ، حب المال والملذات ، وحب الحياة ، فان الأصحاب قد قطعوا علائق الدنيا تلك ، عندما رأوا في بداية مسيرهم نحو العراق ضباب الحرب ، وعندما دخلوا ـ من بعد ذلك ـ في أتونها ولسعهم لهيبها ، فلم يتهيبوا من رؤية الكتائب الجرارة التي تحيط بهم من كل حدب وصوب ، بل صمموا على التضحية بالنفوس وهي أغلى مايمكن التضحية به.
يقول الكاتب المصري خالد محمد خالد وحقا ما يقول : « إن اللَّوحة التي رسمتها تضحيات الحسين وأهله وصحبه ، بوَّأت هذا الشرف وتلك الجدارة أعلى منازل الذُّرى ، إنهم لم يقدموا على التضحية ذاتها .. وهكذا جعلوها وسيلة وغاية .. كما أكدوا معنى أنها مثوبة نفسها ، وأنها قيمة بذاتها » (14).
ومن أبرز الشواهد العامة على مدى تسابق جند الإمام على التضحية بالنفوس ، تقدم شباب أهل البيت ، ليأخذوا مكانهم في الصف الأول عند شروع الطرفين في صفحة القتال الجماعي ، فدفعهم الأنصار عن محلهم ، قائلين لهم بلسان الحال والمقال : معاذ اللّه أن تموتوا ونحن أحياء ، نشهد مصارعكم ، بل نحن أولاً ثم تجيئون على الأثر. وتقدم الأنصار واقتحموا الميدان في مشهد فريد ، جسّد القدوة في القدرة الرائعة على التضحية الغالية.
٤ ـ الانضباط التام
وهو الالتزام الصارم بأوامر وتوجيهات القيادة ، وينتج غالبا من قوة الشخصية ، والإيمان بالقضية ، يقول الجنرال كورتوا : « إن قوي الشخصية هو من حافظ على التفكير الواضح المنطقي رغم المتاعب ، وبحث عن الحقيقة ، وتمسك بها بكل اصرار مهما كلفه الأمر ، وثبت في المأزق بكل صبر ولو انسحب الجميع من حوله » (15).ونحن نجد أن هذه الصفات تنطبق بحذافيرها على جند الإمام ، الذين انقادوا ـ طواعيةً ـ لتوجيهات قائدهم الحسين عليهالسلام وخضعوا له عن طيب قلب ، نتيجة لطغيان حالة من الغليان والحماس والعشق للشهادة ، فعلى سبيل المثال ، نقرأ عن موقف عابس الشاكري ، وكيف أنه نزل الى المعركة بعد أن تقاعس الأعداء عن منازلته وانهالوا عليه بالحجارة ، فرمى بسيفه جانبا ، ونزع درعه ، ثم واجه جحافل الأعداء وهو أعزل إلا من سلاح الإيمان ، ومع هذا الاندفاع الذي قلّ نظيره ، فانه لم يخرج عما رسمته له قيادته من حدود ، وإنما أراد التعبير عن استهانته بالموت في سبيل قضيته العادلة وحبه لقائده وهيامه للشهادة ، كما أنه أراد بث الرّعب في صفوف أعدائه وإظهار استخفافه بجمعهم. ويبدو ـ أيضا ـ أنه أراد أن يقوم بمظاهرة احتجاج ، يُظهر فيها للملأ بأن القوة الباغية لا تستطيع إخماد جذوة الحق المتّقدة في القلوب. وكأن لسان حاله يقول : ليأت الموت ، وليأت القتل ، ولتأت الشهادة! ..ليجيء ذلك كله ، فذلك دورهم في الحياة.
أن يُعلِّموا الناس في جيلهم ، ولكل الاجيال ، أنّ الوقوف إلى جانب الحق ، والتضحية المستمرة في سبيله ، هما أصدق مظهر لشرف الإنسان.
المصادر :
1- الارشاد ٢ : ١٠٣.
2- اُسدالغابة / ابن الأثير ١ : ١٢٣ و٣٤٩ ، الإصابة / ابن حجر ١ : ٦٨.
3- الإرشاد ٢ : ٩١.
4- الإرشاد ٢ : ٩١.
5- روضة الواعظين : ١٧٨ ، وقريب منه في تاريخ الطبري ٦ : ٢١٠ ، حوادث سنة إحدى وستين.
6- الإرشاد ٢ : ٧٣.
7- الأخبار الطّوال : ١٩٠.
8- المصدر السابق : ١٩٠.
9- روضة الواعظين : ١٨٤.
10- روضة الواعظين : ١٨٤.
11- الإرشاد ٢ : ٩٢.
12- موسوعة عاشوراء : ٢٩٣.
13- موسوعة عاشوراء : ٢٩١.
14- ابناء الرسول في كربلاء / خالد محمد خالد ، ١٢٩ ، دار الكتاب العربي ، ط٤.
15- لمحات من فن القيادة / ج ـ كورتوا ، تعريب المقدم هيثم الايوبي ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، ط٢.
source : راسخون