عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

أهل الذمة في العصر العباسي

أهل الذمة في العصر العباسي
استخدم المتوکل سياسة التضييق علی کثير من الرعية ولا يستغرب هذا التضييق من المتوكل، فإنه نقم مثل هذه النقمة على سائر أهل الدولة وغيرهم، وشدد النكير على الشيعة وأهلك العلماء والكتاب، وكان شديد التعصب على الشيعة، فاضطهدهم وعذبهم، ولاقى أهل الذمة منه الشدائد(1) على أنه لم يرتكب هذا الشطط بغير سبب دعا إليه، فقد حمله عليه انتصار النصارى لأعداء الدولة — وذلك أن أهل حمص المسلمين وثبوا بعاملهم سنة ٢٤١ﻫ فأعانهم النصارى عليه، فكتب العامل إلى المتوكل فأمره بإخراج النصارى وهدم كنائسهم، وكان هذا من أسباب نقمته عليهم.(2)
ويقال نحو ذلك فيما صدر في أيام الرشيد من الأوامر بهدم الكنائس في الثغور، وأخذ أهل الذمة بمخالفة هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم(3)
فعل الرشيد ذلك على أثر رجوعه من حرب الروم في هرقلة، فالظاهر أن نصارى الثغور (الحدود بين مملكة الروم ومملكة الإسلام) ساعدوا أبناء طائفتهم الروم في التجسس على أحوال المسلمين واستخدموا الكنائس لهذه الغاية، فأمر الرشيد بالتضييق عليهم انتقامًا منهم، وخصص أمره هذا بأهل الثغور على الحدود، وشدد على الخصوص في مخالفتهم هيئة المسلمين في لباسهم، دفعًا لتنكرهم وتجسس أحوال المسلمين — وإلا فالرشيد من أحسن خلفاء بني العباس عدلًا ورفقًا بأهل الذمة، وكان أحد عمال أخيه الهادي قد هدم بعض الكنائس بمصر، فلما أفضت الخلافة إليه أمر بإعادة بنيانها.(4)
وهكذا يقال في اضطهاد النصارى بمصر على عهد الدولة الفاطمية، مع ما تقدم من منزلتهم وحرية الدين عندهم، وأقدم ما قاسوه من تضييق الحكام في طقوسهم وكنائسهم في أيام الحاكم بأمر الله سنة ٣٩٥ﻫ، وسبب ذلك ما ذكرناه من تقدم النصارى في مصالح الدولة في أيامه حتى صاروا كالوزراء، وتعاظموا لاتساع أحوالهم وكثرة أموالهم، فتزايدت مكايدتهم للمسلمين على عهد عيسى بن نسطوروس وفهد بن إبراهيم النصرانيين، فغضب الحاكم بأمر الله — وكان إذا غضب لا يملك نفسه فيبلغ غضبه إلى حد الجنون. فأمر بقتل هذين الرجلين وشدد على النصارى فأمرهم بلبس ثياب الغيار وشد الزنار في أوساطهم، ومنعهم من عمل الشعانين والتظاهر بما كانت عادتهم فيه، وقبض على ما في الكنائس وأدخله في الديوان، ومنع النصارى من شراء العبيد، وهدم كنائسهم وأجبرهم على الإسلام، وغير ذلك من التشديد والعنف(5)
مما لا يقاس النصارى مثله من قبل، ولعله أعظم ما أصابهم من الاضطهاد في إبان التمدن الإسلامي. ولا جناح على التمدن الإسلامي منه؛ لأن مرتكبه أتاه عن حمق أو جنون.
وقد سوغ للحاكم المبالغة في اضطهاد النصارى حرب كانت بين الروم والمسلمين يومئذ، فخرب الروم بعض جوامع المسلمين ومنها جامع كان في القسطنطينية، فانتقم الحاكم منهم بالتضييق على أهل مذهبهم في بلاده، وكان في جملة ما هدمه من الكنائس كيسة القيامة بالقدس. فلما تولى الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بعد الحاكم، عقدت الهدنة بينه وبين ملك الروم سنة ٤١٨ﻫ واتفقا على إعادة بناء جامع القسطنطينية، وأن يعاد بناء كنيسة القيامة، وأن يؤذن لمن أظهر الإسلام في أيام الحاكم أن يعود إلى النصرانية إذا شاء، فرجع إليها كثيرون.(6)
وربما كان السبب الذي حمل الحاكم على ذلك التضييق طفيفًا، فعظمه تعصبه وحمقه فأمر بالهدم والقتل. على أنه كثيرًا ما كلف رعاياه من المسلمين وغيرهم أمورًا مضحكة تشبه الجنون الصريح، كإصداره المنشورات بمنعهم من أكل الملوخيا أو من البقلة المسماة بالجرجير، أو منعهم من عمل الفقاع، ومنع النساء من التبرج أو المسير في الطرق، والأمر بسبب السلف ولعنهم، ونقش ذلك على المساجد وأبواب الحوانيت على المقابر، ونحو ذلك من الأوامر التي تدل على اختلال في عقله.
على أننا قلما نراه أتى أمرًا إلا لسبب، وإن كان ضعيفًا — فالسبب في منعه الناس من أكل الملوخيا مثلًا أن معاوية بن أبي سفيان عدو الشيعة كان يحبها، والدولة الفاطمية شيعية. ومنعهم من أكل بقلة الجرجير؛ لأنها منسوبة إلى عائشة أم المؤمنين، ومنعهم من أكل المتوكلية؛ لأنها تنسب إلى المتوكل وهو من أعداء الشيعة. ومنع الناس من شرب الفقاع لأن علي بن أبي طاب كان يكرهه(7)
وقس على ذلك سائر ضروب الحماقة والغرابة، ومن هذا القبيل اضطهاد النصارى وتخريب كنائسهم. على أنه عاد، لسبب طفيف أو بلا سبب، فأمر ببناء تلك الكنائس(8)
وخير النصارى في الرجوع إلى دينهم فارتد كثير منهم — وقد تقدم أن ذلك كان في أيام ابنه الظاهر. ومن أعماله الغريبة أنه ابتنى المدارس، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ثم قتلهم وخربها، وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهارًا وفتحها ليلًا، فظل الناس على ذلك دهرًا طويلًا(9)
فمن كانت هذه أعماله لا يستغرب منه اضطهاد، ولا يعد اضطهاده عارًا على الدولة أو الأمة.
على أن أفظع ما قاساه النصارى واليهود من الاضطهاد، إنما كان في دور الاضمحلال أو التقهقر في العصور الإسلامية الوسطى، وخصوصًا بعد الحروب الصليبية؛ لأنها كانت سببًا كبيرًا في إثارة التعصب بين الأمتين. فالنصارى تذكروا تقدم المسلمين عليهم واضطهاد حكامهم لدينهم، وزاد حقد المسلمين على رعاياهم النصارى لما كان من نصرتهم الإفرنج سرًّا، فبالغ أمراء المسلمين في الفتك بهم. فنصارى «قارا» مثلًا — بين دمشق وحمص — كانوا يسرقون المسلمين في أثناء تلك الحرب، ويبيعونهم خفية للإفرنج، فلما مر بها السلطان الملك الظاهر في أثناء عودته من بعض غزواته سنة ٦٦٤ﻫ أمر بنهب أهلها وقتل كبارهم، واتخذ صبيانهم مماليك فتربوا بين الأتراك في الديار المصرية، فصار منهم أجناد وأمراءكما فعل العثمانيون بتجنيد الإنكشارية بعد ذلك بزمن غير بعيد. (10)
وتزايدت الضغائن بعد تلك الحروب بين المسلمين وأهل الذمة في بلادهم، حتى أصبحت كل من الطائفتين تبذل جهدها في أذى الأخرى، ولما كانت الحكومة إسلامية فالنصارى هم المغلوبون. فإذا احترقت حارة للمسلمين اتهموا النصارى واليهود بإحراقها، فتأمر الحكومة بإحراقهم أو إحراق كنائسهم(11)
وهذا التعصب من مقتضيات تلك العصور المظلمة؛ لأن الدول النصرانية كانت تعامل المسلمين في بلادهم مثل هذه المعاملة أو أشد منها. وكثيرًا ما كانوا يهددون أسرى المسلمين بالقتل أو يتنصروا(12)
وإذا دخلوا بلدًا إسلاميًّا بالحرب عنوة ضربوا نواقيسهم في الجوامع،(13)
ولما تغلب نصارى الأندلس على المسلمين أجبروهم على حمل علامة كان يحملها اليهود وأهل الدجن، ولما غلبوهم في آخر الدولة خيروهم بين النصرانية والموت فتنصروا عن آخرهم.(14)
إن الخلفاء والأمراء قدموا النصارى في مصالح الدولة، وأغدقوا عليهم الأموال وأكرموهم ورفعوا منزلتهم، وإنهم فعلوا ذلك لاحتياجهم إليهم في إبان ذلك التمدن؛ لنقل العلوم أو الطب أو الحساب أو الكتابة أو غيرها مما تحتاج إليه الدولة في تنظيم شؤونها، لاشتغال المسلمين يومئذ بالرياسة.
وكان أولو الأمر من الجهة الأخرى يقدمون المسلمين في المعاملات الرسمية على سواهم من أهل الذمة، كما كان الأمويون يقدمون العرب على غير العرب، فنشأ التحاسد بين عامة المسلمين وعامة المسيحيين. وذلك طبيعي في كل مملكة يتنازع العمل فيها ملتان أو طائفتان، ولا يزال ذلك جاريًا على نحو هذا الشكل إلى يومنا هذا.
نشأ هذا التحاسد أولًا بين العامة ونحوهم من أهل المهن العلمية أو الحرف الصناعية، الذين يحومون حول الخلفاء والأمراء للارتزاق بما يعوزهم من أسباب المدنية، أو يرضيهم من عوامل الرخاء والترف كالشعر والغناء والكتابة والحساب وغيرها. وأما أهل الطبقة العليا (الشرفاء) والأغنياء ورجال الدولة، فقلما كانوا يتعصبون أو يتباغضون، وإنما كانوا ينظرون إلى الرجال من حيث هم بقطع النظر عن مذاهبهم، فالشريف الرضي الذي كتب إلى الخليفة القادر بالله:
عطفًا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدًا، كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوق
رثى أبا إسحق الصابي بقصيدته المشهورة التي مطلعها:
أرأيت من حملوا على الأعواد؟
أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟
فلم يقع ذلك موقع الاستحسان عند العامة، فعابه بعضهم لكونه شريفًا يرثي صابئًا فقال له: «إنما رثيت فضله».(15)
وأما العامة ومن جرى مجراهم، أو استعان بهم على بعض المصالح أو المناصب، فكانوا يُظهرون التعصب على النصارى، ويسعون في أذيتهم لدى ولاة الأمور، فإذا كان صاحب الأمر حازمًا لا يصغي للوشاية — ذكروا أن رجلًا نصرانيًّا من أهل بغداد اتهمه بعض المسلمين سنة ٢٨٤ﻫ أنه شتم النبي صلی الله عليه وآله وسلم فاجتمع أهل بغداد وصاحوا بالقاسم بن عبيد الله وزير المعتضد بالله يومئذ وطالبوه بإقامة الحد عليه، وكأنه اعتقد براءة الرجل فلم يجب طلبهم،(16)
واتصل الأمر بالخليفة وكان له شأن كبير. والحكم صاحب الأندلس في أوائل القرن الثالث للهجرة صلب أحد عماله؛ لأنه ظلم أبناء أهل الذمة.(17)
فلما اقتربت الدولة من الشيخوخة أخذ هذا التعصب يسري من العامة إلى الخاصة، لرغبة الناس يومئذ في التقرب من رجال الدولة بالتزلف والتملق التماسًا للكسب، فينتحلون الأسباب المساعدة على ذلك، ويتسابقون إلى دس الدسائس واختلاق الوشايات.
وأسهل وسائل التزلف في الدولة الإسلامية التدين، لاشتراك الدين والسياسة في مصالحها، فكان بعضهم يستعينون في إظهار التدين والغيرة على الإسلام بالطعن في الأديان الأخرى، فإذا كان صاحب الأمر ضعيفًا انطلى عليه ذلك، واضطهد أهل تلك الأديان؛ ولذلك كان التعصب على أهل الذمة، ولا سيما النصارى، يزداد بتقدم الدولة الإسلامية نحو الشيخوخة. وقد اشتد في الأجيال الإسلامية الوسطى على أثر الحروب الصليبية، فأصبح الحكام وأرباب المناصب العلمية وغيرها يجاهرون باحتقار غير المسلمين، ويبالغون في اضطهادهم ويعاملونهم معاملة الأعداء.
وكثيرًا ما كان أهل النفوذ من النصارى أنفسهم أشد وطأة على أهل دينهم من حكامهم المسلمين، كما كان عيسى بن شهلا الطبيب لما تولى الطبابة. ونال منصبًا في دار الخلافة، فاغتنم تلك الفرصة وبسط يده على المطارنة والأساقفة يأخذ أموالهم لنفسه، حتى إنه كتب إلى مطران نصيبين كتابًا يلتمس منه فيه من آلات البيعة أشياء عظيمة المقدار ويهدده، ومن أقواله له: «ألست تعلم أن أمر الملك بيدي، إن شئت أمرضته وإن شئت عافيته؟»، فبعث المطران بالكتاب إلى الربيع حاجب الخليفة فانتقم الخليفة منه.
واعتبر ما أجراه بختيشوع بن خبرائيل الطبيب مع حنين بن إسحق المترجم الشهير، لما رأى من منزلته عند الخليفة المتوكل، فحسده عليها وعمل على الكيد له من طريق الدين، وذلك أنه اصطنع أيقونة (صورة) للسيدة العذراء وفي حجرها السيد المسيح. وأوعز إلى بعض خاصته أن يحملها هدية إلى الخليفة في وقت عينه له، وذهب إلى مجلس الخليفة في الميعاد المضروب، وكان هو المستقبل للأيقونة من يد الخادم والحامل لها، وهو الذي وضعها بين يدي المتوكل، فاستحسنها المتوكل جدًّا، وجعل بختيشوع يقبلها بين يديه مرارًا كثيرة، فقال له المتوكل: «لم تقبلها؟» فقال له: «يا مولانا إذا لم أقبل صورة سيدة العالمين فمن أقبل؟» فقال له المتوكل: «وكل النصارى يفعلون كذلك؟» فقال: «نعم يا أمير المؤمنين وأفضل مني؛ لأني أنا قصرى حيث أنا بين يديك. ومع تفضيلنا معشر النصارى، فإني أعرف رجلًا من النصارى في خدمتك، وأفضالك وأرزاقك جارية عليه، يتهاون بها ويبصق عليها، وهو زنديق ملحد لا يقر بالوحدانية ولا يعرف آخرة، يستتر بالنصرانية وهو معطل مكذب بالرسل»، فقال له المتوكل: «من هذا الذي هذه صفته؟» فقال له: «حنين المترجم» فقال المتوكل: «أوجه أحضره، فإن كان الأمر على ما وصفت نكلت به وخلدته في المطبق، مع ما أتقدم به في أمره من التضييق عليه وتجديد العذاب» فقال: «أنا أحب أن يؤخر مولاي أمير المؤمنين أمره إلى أن أخرج وأقيم ساعة، ثم تأمر بإحضاره»، فقال: «إني أفعل ذلك». وخرج بختيشوع توًّا إلى حنين وأخبره: «أن الخليفة أهديت إليه أيقونة كذا، وقد استحسنها. وإن نحن تركناها عنده ومدحناها بين يديه، احتقرنا وقال لنا: هذا ربكم وأمه مصوران. وقد سألني أمير المؤمنين عن رأيي فيها، فقلت له: مثلها يكون في الحمامات والكنائس وغيرها مما لا نبالي به. فطلب إلي أن أبصق عليها فبصقت، فإذا دعا بك أفعل مثل فعلي»، فصدقه حنين. ولما دعاه الخليفة فعل كما قال له بختيشوع، فحالما بصق على الأيقونة أمر الخليفة بحبسه، ووجه إلى ثيودوسيوس الجاثليق يومئذ فأحضره، فلما رأى الأيقونة وقع عليها وقبلها، ولم يزل يقبلها ويبكي طويلًا، ثم أخذها بيده وقام قائمًا فدعا لأمير المؤمنين وأطنب في دعائه، فدعاه إلى الجلوس والأيقونة في حجره، فطلب الجاثليق إليه أن يتركها له. ثم سأله الخليفة عما يستحق الذي يبصق عليها، فقال: «إذا كان مسيحيًّا عارفًا فإني أحرمه دخول الكنيسة ومن القربان، وأمنع النصارى من ملامسته وكلامه وأضيق عليه»، فأعطى الخليفة الأيقونة للجاثليق مع جائزة، وأمر بحنين فجلد بالسياط والحبال، وأمر بنقض منازله وحبسه، ولم ينج من ذلك حتى اعتل المتوكل واحتاج إلى مشورته فأفرج عنه.(18)
فإذا كان هذا فعل المتوكل في هذه الحال، وهو كما وصفناه من شدة وطأته على النصارى وغيرهم من أهل الذمة، فكيف في غيره من الخلفاء المعتدلين؟ وقد رأيت من حديث حنين هذا أن الخلفاء كانوا يفرضون على النصارى صدق التدين في النصرانية، فضلًا عن إعفائهم من الإسلام، إلا من أراده باختياره. وكانوا أيضًا يشاركون النصارى في احتفالاتهم بالأعياد الكبرى، كالميلاد والشعانين، ويخرجون معهم إلى أماكن النزهة كأنهم أمة واحدة(19)
ولم يكن ذلك مقصورًا على العراق والشام، فإن المصريين كانوا يحتفلون بأعياد النصارى السنوية كما يحتفل بها النصارى أنفسهم، وكان الخليفة يفرق في الناس الهدايا في عيد الميلاد والغطاس، ويفرح المصريون جميعهم معًا.(20)
وكانت الحكومة إذا أنشأت معهدًا خيريًّا كان حظ أهل الذمة منه مثل حظ المسلمين، وخصوصًا المستشفيات ودور المرضى، فإنها كانت تبنى لمعالجة المسلم والذمي، فإذا لم يكن فيها ما يكفي الاثنين قدموا المسلم.(21)
على أن المسلمين في إبان تمدنهم أطلقوا حرية الدين لرعاياهم، على اختلاف طوائفهم ونحلهم، فلم يسمع أنهم أكرهوا طائفة من الطوائف على الإسلام تعصبًا للدين، حتى في أيام بني أمية مع ضغطهم على غير العرب في طلب المال، فقد رأيت ما كان من خالد القسري وغيره.
وأما بنو العباس فكانوا أقرب إلى الاعتدال وحرية الدين؛ ولذلك تعددت البدع الدينية في أيامهم من المجوس وغيرهم، ناهيك بالفرق الإسلامية وتعددها. وكان أكثر الخلفاء تسامحًا في الدين المأمون، فكان هو نفسه شيعيًّا، وكان وزيره يحيي بن أكثم سنيًّا، ووزيره أحمد بن أبي داود معتزليًّا(22)
يكفيك من تسامحه في الدين انتصاره للمعتزلة في القول بخلق القرآن — وأول من قال بذلك رجل يهودي اسمه لبيد الأعصم، الذي يقال: إنه سحر النبي صلی الله عليه وآله وسلم. فكان لبيد يقول: إن التوراة مخلوقة، ثم قال: بخلق القرآن، وعنه أخذ طالوت ابن أخته، وأخذه إبان بن سمعان عن طالوت، وأخذه الجعد بن درهم عن إبان في أيام هشام بن عبد الملك الأموي، وأظهر مقالته في خلق القرآن وإنكار ما فيه، وإن فصاحته لا تعجز الناس بل يقدرون على مثلها وأحسن منها(21)
فغضب عليه هشام وبعث به إلى خالد القسري أمير العراقيين وأمره بقتله، فحبسه ولم يقتله. فالح عليه، فأخرجه يوم الأضحى، وبعد أن صلى قال: «أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول: ما كلم الله موسى ولا اتخذ إبراهيم خليلًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا» ثم ذبحه.(24)
ولما تولى مروان بن محمد كان يقول بخلق القرآن مثل الجعد(25)
حتى إذا تولى المأمون نصر المعتزلة — ولعله أخذ الاعتزال من يحيي بن المبارك مؤدبه — وتبعه الواثق بالله فقال مثل قوله، فعظم ذلك على عامة المسلمين وأنكروه وسموا الواثق كافرًا(26)
كما سموا المأمون أمير الكافرين(27)
وكان ما كان من المحنة في ذلك أيام المتوكل. وانقسم المسلمون إلى حزبين، والخلفاء ضد المعتزلة وقد شددوا النكير على القائلين: بخلق القرآن، وتناشدت الشعراء ذلك طعنًا فيهم وتكفيرًا لهم، كقول أبي خلف المعافري:
لا والذي رفع السما ء بلا عماد للنظر
ما قال خلق في القرآ ن بخلقه إلا كفر
لكن كلام منزل من عند خلاق البشر(28)
وبالجملة فقد كانت الأفكار من حيث الدين مطلقة الحرية في تلك العصور، لا يكره الرجل على معتقده أو مذهبه، فربما اجتمع عدة إخوة في بيت واحد وكل منهم على مذهب. فأولاد أبي الجعد ستة، كان منهم اثنان يتشيعان واثنان مرجئين واثنان خارجيين.(29)
فسياسة الدولة العباسية في معاملة الرعايا من المسلمين وأهل الذمة إنما هي المحاسنة والعدل والرفق. وقد أتينا بأمثلة من عدل الخلفاء الأولين من بني العباس ورفقهم في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وكانوا يحاسنون الفرس وسائر أهل النفوذ من الموالي على الخصوص، ولاسيما بعد أن صارت الحكومة إليهم وقبضوا على جندها ومالها، فكان الخلفاء يقدمونهم ويكرمونهم ويطلقون أيديهم في شؤون الدولة، فإذا داخلهم شك في إخلاصهم ولو على سبيل الوشاية فتكوا بهم فتكًا ذريعًا، كما اتفق للبرامكة وغيرهم من وزراء العصر العباسي الأول.
المصادر :
1- تاريخ المشارقة (خط) ١٤٦.
2- ابن الأثير ٢٩ ج٧.
3- ابن الأثير ٨٢ ج٦.
4- المقريزي ٥١١ ج٢.
5- المقريزي ٤٩٥ ج٢.
6- المقريزي ٣٥٥ ج١.
7- المقريزي ٣٤١ ج٢.
8- ابن الأثير ٨٦ ج٩.
9- السيوطي ١٧ ج٢.
10- أبو الفداء ٤ ج٤.
11- المقريزي ٨ ج٢ وأبو الفداء ١١٧ ج٤ وسراج الملوك ١٨٩.
12- ابن الأثير ٢٩ ج٧.
13- ابن الأثير ٦٢ ج٨.
14- نفح الطيب ١٢٦٩ ج٢.
15- ابن خلكان ١٢ ج١ و٢ ج٢.
16- ابن الأثير ١٩٢ ج٧.
17- ابن الأثير ١٥٧ ج٦ ص ١٣٦.
18- طبقات الأطباء ١٩٤ ج١.
19- ابن الأثير ١١٣ ج٨. والفرج ١٥٦ ج٣.
20- المقريزي ٤٩٤ ج١.
21- طبقات الأطباء ٢٢١ ج١.
22- ابن خلكان ٢٢٣ ج٢.
23- المقريزي ٣٤٦ ج٢.
24- ابن الأثير ١٢٣ ج٥ و٢٨ ج٧.
25- ابن الأثير ٢٠٤ ج٥.
26- ابن الأثير ٨ ج٧.
27- ابن الأثير ١٣١ ج٦.
28- نفح الطيب ١٥٨ ج٣.
29- المعارف ١٥٦.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

التقشف في ایطاليا
في الدعاء لأخيك بظهر الغيب
علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
تربية أطفالنا في ظلّ الإسلام
الإيمان بالإمام المهدي (عج)
حديث الغدير في مصادر أهل السنة
عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
خصال الإمام
أدعية الإمام الرضا ( عليه السلام )
ما هو اسم الحسين عليه السلام

 
user comment