عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

الوحي

الوحي

إن الأنبياء قد استعملوا إصطلاح الوحي وقالوا إنه يوحى إليهم من قبل الله سبحانه، وإنهم على إتصال بالله إما مباشرة أو عبر الإتصال بالملاك الذي يشكل واسطة في تلقّي الوحي، فما هو الوحي؟ وكيف تتمّ هذه العملية؟ وما هو الدليل على صحة هذا المدّعى ؟ هذه أسئلة تعتبر مفتاح وأساس البحث عن مسألة الوحي، مع الإشارة في مقدمة هذا البحث إلى أنه لا أحد يدعي بأنه يستطيع أن يشرح ويبيّن حقيقة هذه العملية وكنهها مع كل ما لهذه الكلمة من خصائص وميزات، وذلك لأنها نحو علاقة وإرتباط خاص بين إنسان خاص مع الله، وليست من نوع الإرتباطات بين البشر أنفسهم، أو بين البشر وسائر الموجودات. والذي بمقدوره أن يوضح هذه العلاقة وهذا النحو من الارتباط هم الأنبياء عليهم السلام أنفسهم، لأنهم أصحاب العلاقة لا غير.
لكن مع ذلك يمكن البحث عن الوحي ويمكن نفي بعض الأمور من خلال حكم العقل أو من خلال القرائن، أو من خلال الآيات القرآنية وما ذكره لنا الأنبياء عليهم السلام أنفسهم.

ما هو الوحي؟
يعرّف الوحي لغةً بأنّه "إلقاء علم (باعلام) في إخفاء أو غيره إلى غيرك"(1)، وكلّ ما يتّسم بالغموض والخفاء على الآخرين يُسمّى وحياً بحسب العرف، فمن الوحي أن يتحدّث شخصٌ إلى آخر ويناجيه سرّاً، أو يتحدّث إليه بالإيماء والإشارة.
ولكنّ المعنى اللغويّ والعرفيّ يحمل في طياته عادةً مفهوماً أعمّ وأوسع من المعنى المصطلح الذي إستعمله الأنبياء عليهم السلام، فهو وإن كان قريباً من المعنى اللغوي من حيث المفهوم، إلا أنّه يختزن معانيَ وحقائق أخرى، والهدف هو البحث عن المعنى المصطلح محاولين رسم صورة عنه، لنرى دائرته، وخصائصه، وتفسيره.
وقد طرحت ثلاث نظريّات لتفسير هذه الظاهرة، سنعرضها ثمّ نرى أيّ النظريّات هي التي تتناسب مع ما ذكره القرآن من موارد الوحي، وتنسجم مع الخصائص التي وردت على لسان أولياء الوحي من الأنبياء عليهم السلام.

1- النظريّة العاميّة:
يتصوّر عوامّ الناس أنّ الله قد إستقرّ في نقطة مرتفعة بعيدة جداً من السماء، بينما النبي يعيش على الأرض، وعليه فإنّ هناك فاصلة شاسعة بين الله والرسول.وبما أنّ النبيّ بشر لا يمكنه أن يحلّق في السماء لتلقّي التعاليم الإلهيّة،فلا بدّ من موجود آخر يتمكّن من قطع هذه المسافة الشاسعة، يهبط إلى الأرض ويتحدّث إلى النبيّ، ويكون حلقة الوصل بينه وبين الله.
ولا بدّ أن يتمتّع هذا الموجود بصفات تنسجم مع طبيعة مهمّته، فيتصورون أنه لقطع المسافة المذكورة لا بدّ أن يكون له أجنحة يطير بها وينقل تعاليم السماء ويبلغها النبيّ ويتحدّث معه، ولا بدّ أن يكون على قدر من العقل والإدراك والقدرة على النطق، فهو من الجهة الأولى له بُعدُ طائرٍ، ومن الجهة الثانية له بعد إنسانيّ(والناس حينما سمعوا أنّ الملائكة كائنات مجرّدة، فإنّهم صوّروها من غير أن ترتدي أيّ لباس).
في النتيجة يكون الوحي وفق هذه النظريّة عبارة عن كلام من الله يتلقّاه النبيّ كما يتلقّى كلامنا، ولكن من خلال واسطة، هو ذلك الملَك العاقل الطائر.
وفي الواقع لا تتعدّى هذه النظريّة كونها تصوّراً يخطر على بال عوامّ الناس، فهي لا تعتمد على أيّ دليل أو تفسير علميّ، وإنّما هي محض تبادر ذهنيّ ساذج، كان حصيلة بعض المفردات المرتبطة بالله وبالوحي، والتي توحي للوهلة الأولى بهكذا خطرات. فهي لا تنسجم أبداً مع موارد الوحي التي ذكرها القرآن، ولا مع المعطيات التي قدّمهاالأنبياء عليهم السلام، ولذا لا تستحقّ التوقّف عندها، وإنّما الجدير بنا تنبيه العوامّ على بعض أخطائهم في تصوّر الحقائق المرتبطة بعالم الغيب.

2- النظريّة التنويريّة:
وتقوم هذه النظرية على تبنّي نمط خاصّ من التفسير، يقوم على تأويل كلّ ما جاء بشأن علاقة النبيّ بالله، فتعتبرها من الأمور العاديّة الجارية بين أفراد البشر مع أنّ أصحاب هذه النظريّة لا يتوخّون إنكار النبوّة، وإنّما يحاولون تفسيرها ضمن نمط خاصّ. ، غاية ما هناك أنها أمور خاصة بالنوابغ والإستثنائيين من البشر، فترى أن كلّ ما ورد بالنسبة للوحي ونزول الملائكة، نوع من التعبيرات المجازيّة، حيث لا يمكن التحدث مع عوام الناس إلا بهذه اللغة.
وفحوى هذه النظريّة أنّ النبيّ نابغة إجتماعيّ محبّ للخير، تأمّل في ما آلت إليه أوضاع المجتمع، ورصد ما يحيط الناس من أوجاع وضروب الفساد، ثمّ سعى بما آتاه الله من نبوغٍ إلى تغيير أوضاعهم، مستلهماً من داخله، من روحه ونفسه، أفكاراً ترسم طريقاً صحيحاً يحلّ المشكلات، ثمّ قام ببثّ هذه الأفكار بين الناس.
فالوحي وفق هذه النظريّة، هو عبارة عن إنبثاقٍ من عمق فكر النبيّ إلى ظاهر فكره، وهو عملٌ إبداعيٌّ إقتضته بنية النابغة الخاصّة.
في المقابل يرفض أصحاب هذه النظريّة الإذعان إلى وجود حقيقةٍ وراء فكر الإنسان وروحه وعقله بحيث يرتبط بها باطن النبيّ، ويتنكّرون للإيمان بأيّ بُعد غير عاديّ في مسألة النبوّة والوحي.
وأمّا بالنسبة لبعض التعابير الواردة المتعلقة بالوحي فيقومون بتأويلها:
فمثلاً "الروح الأمين وروح القدس" ليس شيئاً غير روح النبيّ، فمعنى أن يأتي الروح الأمين بالأفكار وتعاليم الدين، هو نفس إنبثاق هذه الأفكار من أعماق روح النبي النابغة.
وأما الملائكة فهي عندهم عبارة عن قوى الطبيعة ذاتها، ولما كان الله يستخدم القوى الطبيعيّة فستكون الملائكة تحت إختياره.
وأما "الدين" فهو عندهم لا يتعدّى كونه مجموعة القوانين التي وضعها النابغة، وهي قوانين صالحة ومفيدة لسعادة المجتمع، وهذا ما ينشده الناس، ولذلك يمكننا أن نعتبر هذا الدين من عند الله.
ولكنّ هذه النظريّة لا تتناسب مع ما ورد من إستعمال القرآن للوحي في مختلف الموجودات، ولذا فهي عاجزة عن تفسير ذلك، كما أنّها تُعبّر عن تفسير بعيد عن الوقائع التي طرحها الأنبياء بالنسبة لخصائص الوحي المُلقى إليهم، كوجود حالة التعليم والأخذ من مصدر خارج ذواتهم، وشعورهم بمصدر الوحي العلويّ، وإدراكهم للواسطة فيه...
فهي إذاً تتجاوز كثيراً من المفاهيم والحقائق الدينيّة التي أتى بها الأنبياء عليهم السلام أنفسهم، وتحاول تبسيط الأمور وجعلها أموراً عاديّة، من خلال اللجوء إلى التأويل، فيما نعتقد أنّ هكذا مسائل تُعدّ مسائل عميقة ومهمّة، فهي جديرة بأن يتأمّل فيها الإنسان أكثر، ويدخل إلى أعماق نفسه ويُراقب العوالم المحيطة به، ليقوم بتفسير الوحي تفسيراً صحيحاً.

3- نظريّة حكماء الإسلام:
وهي أهم نظريّة في هذا المجال، فإنّها تفسّر موارد إستعمال القرآن، وتجمع جميع الخصائص التي ذكرها الأنبياء عليهم السلام في وحي النبوّة، وتبتنى على رؤية معمّقة في معرفة الإنسان والعوالم المحيطة به، والتي بيّنت عدّة حقائق وأُسس:
أوّلاً: وجود عالميْن
تنطلق هذه النظريّة من الإيمان بوجود واقعيّ لعالَمَين إثنين:
1- عالم الطبيعة، وهو عالم المادّة والجسميّة والتغيّر، وهو هذا العالم الذي نعيش فيه.
2- عالم ما وراء الطبيعة، أو ما يُسمّى بعالم الغيب أو الملكوت، وهو عالم القوى الروحيّة، التي تُعتبر قوى مستقلّة بحدّ ذاتها.
فما حولنا يقع تحت تأثير مجموعتين من القوى: القوى الماديّة للعالم، والقوى
الروحيّة، وتوجد الأولى في العالم الماديّ الطبيعي، والأخرى في عالم ما وراء الطبيعة.
من جهة أخرى يمثّل عالم الغيب والملكوت عالم القدرة، لأن له الهيمنة والسيطرة الحقيقيّة، وبالتالي تكون له فوقيّة واقعيّة على عالم الطبيعة الذي لا يُعدّ أكثر من رشح وفيض لذلك العالم، أو ظلّ ومعلول له. وقد صرّح القرآن الكريم بأنّ كلّ ما هو موجود في هذه الدنيا إنّما يُنزّل من ذلك العالم: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾(2)، وهذا معنى السيطرة والهيمنة والفوقيّة.
ثانياً: قدرة الإنسان على الاتصال بعالم ما وراء الطبيعة
ثمّ ينطلق أصحاب هذه النظريّة إلى التأمّل في نفس الإنسان، فيتحقّق لديهم أنّ وجوده لا يقتصر على بدنه الماديّ، وإنّما له إستعدادات روحيّة ذات وجهين:
الأوّل: وجهٌ طبيعيّ، يسمح له بالتواصل والإرتباط مع الطبيعة عن طريق الحواسّ، فيتلقّى العلوم الطبيعيّة، حيث يستجمع ما يأخذه من خلال حواسّه- في خزانة الخيال والذاكرة، ثمّ يُسبِغُ الكليّةَ والتعميم والتجريد على تلك المعلومات.
الثاني: وجهٌ تتسانخ فيه الروح مع عالم ما وراء الطبيعة- أي عالم القوى الروحيّة، حيث يتمكن، بقواه وإستعداداته الروحيّة- من إكتساب علومِ ذلك العالم، فيغرف من حقائقه المؤثّرة في عالم الطبيعة.
إذاً، لجميع أفراد البشر، بالإضافة إلى العقل والحسّ العاديين، إدراك وشعور باطنيّ، يسمح بالإرتباط بعالم ما وراء الطبيعة ينهلون منه علوماً وحقائق ترتبط بعالمنا، وهذا ما نسمّيه بالوحي. غاية الأمر أنّ هذا الشعور والإستعداد الباطنيّ يتفاوت بين الأفراد تفاوتاً كبيراً، فهو نور في أقوى مراتبه عند الأنبياء، يؤهّلهم للإرتباط الحقيقيّ الواقعيّ مع عالم الغيب فيطرقون مختلف أبوابه، فيما يضعف في بقيّة أنواع البشر ليكون شعاعاً خافتاً وومضة طفيفة من عين ذلك النور.
وأدنى تجلّيات حالة الإتّصال بعالم ما وراء الطبيعة يتمثّل في الرؤى والأحلام الصادقة، فقد نصّت الروايات على أنّ الرؤيا الصادقة هي جزء من سبعين جزءاً من النبوّة.
كذلك تعدّ الإلهامات التي تحصل لبعض الناس ضرباً من ضروب الإتّصال بذلك العالم، ولكنّه في مرتبة متدنيّة منه، حيث لا يشعر المُلهَم بعلّة الإلهام ولا بمصدره، كما ربما يختلط بغيره.
تأييد الفلاسفة وعلماء النفس لوجود هذه القدرة:
إنّ من يراجِع كلمات قدامى الفلاسفة عند حديثهم عن النفس، يجد أنّهم آمنوا بوجود هذه القدرة الروحيّة والإستعداد الباطنيّ فيها، واستدلّوا عليه.
كذلك فإنّ عدداً كبيراً من كبار علماء النفس أيّدوا هذا المعنى، ك- "وليام جيمس"، الذي أرسى علم النفس على أساس التجربة، حيث توصّل إلى أنّ لدى الإنسان حسّاً باطنيّاً يستطيع من خلاله أن يتواصل مع أرواح وأماكن أخرى، فكأنّ هناك آباراً محفورة في الباطن متّصلة في ما بينها، وإن بدت في ظاهرها منفصلة ومستقلّة عن بعضها البعض، لذا يعتقد "جيمس" بأنّ هناك طريقاً باطنيّاً يمكّن الروح من الاتصال بعالم الأرواح الأخرى.وهذه الحقيقة مؤيَّدة بالوقائع الكثيرة التي تُنقل في هذا المجال، وقد أورد الشهيد مطهّري شيئاً منها، رواها عن ثُقات، في كتاب النبوّة.
ثالثاً: ارتقاء النفس
وهو الأساس الثالث التي تقوم عليه هذه النظريّة، وهو إثبات أنّ نفس الإنسان وروحه، عندما تريد أن تطلّ على عالم الغيب، فإنّها ترتقي من مرتبة الطبيعة نحو الأعلى إلى أن تصل إلى عالَم ما وراء الطبيعة، على أنّها تكتسب في كلّ مرتبة تصل إليها شكلاً ووضعاً خاصّاً يتناسب مع طبيعة المرتبة.
وفي الجهة المقابلة فإنّ الحقائق التي تتنزّل من عالم ما وراء الطبيعة تتّخذ الأشكال المناسبة للعوالم التي تتنزّل إليها.
وتوضيح ذلك:
إنّ الحقائق المدرَكة تتناسب مع ظرف ووعاء وجودها، فكما أنّ الأمر الخارجيّ في الطبيعة له نحو من الوجود الماديّ والجسميّ، ثمّ عندما يُدرَك بحواسّ الإنسان يتّخذ شكلاً آخر- صورة حسيّة- يتناسب مع الإدراك الحسّي، فإذا انتقل إلى عالم الخيال إتّخذ وضعاً جديداً، قبل أن يقوم العقل في مرتبته بتجريده وتعميمه بما يتناسب ومرتبة العقل، كذلك الموجود في عالم ما وراء الطبيعة والمادّة، إذا ما تنزّل إلى مرتبة الحسّ والمادّة، فإنّه لا بدّ أن يتّخذ الشكل المناسب لهذا العالم.

الوحي، النزول، المَلك:
إذاً تقوم هذه النظريّة على أنّه يوجد في كلّ إنسان، وبدرجات متفاوتة، استعدادٌ روحيّ باطنيّ للإطّلاع على عالمٍ من القوى الروحيّة، وهو عالم وراء عالمنا، مهيمنٌ ومسيطرٌ عليه، كما تبيّن في الأساسين الأوّل والثاني، وليس الوحي سوى نافذةٍ تنفتح للإنسان- الذي يملك هذا الحسّ والإستعداد- على ذلك العالم ترفده بالعلوم والحقائق المرتبطة بعالمنا.
فالوحي، حالة من الإتّصال الباطنيّ مع عالم الغيب، وهو لا يتفاوت أساساً مع بقية الرؤى والإلهامات- التي تطرأ على البشر- من حيث الحقيقة والماهيّة، وإنّما يتفاوت من حيث الدرجة والمرتبة، فتختلف حالة الوحي بإختلاف الوعاء الباطنيّ المتلقّي له، وهي موجودة بأقوى مراتبها في وحي النبوّة.
وهذا يفسّر ما ورد في آيات القرآن من أنّ حالة الوحي ليست مختصّة بالأنبياء بل تعمّ جميع الموجودات، غاية الأمر أنّ النبيّ يمتلك الاستعداد بدرجته العليا، بحيث يستطيع عقد إرتباطٍ حقيقيٍّ وواقعيٍّ مع ذلك العالم المهيمن، فيتمكّن من أخذ الحقائق وتعاليم الدين منه، وهو في تمام إدراكه وشعوره.
بعدها تتنزّل حقائق ذلك العالم، التي كانت واقعاً مجرّداً لا يُدرك إلا بالقوّة الباطنيّة المتناسبة مع ظرف وجودها، تتنزّل إلى عالم المادّة والطبيعة لتظهر بصورة أمرٍ حسيّ مبصر أو مسموع، فيراه النبيّ كواقع مجسّد في أمرٍ محسوس، كما ذكر في الأساس الثالث، وهذا ما يعبّر عنه بنزول الوحي.
والنزول هنا هو نزول واقعيّ، لأنّ ما يأتي من حقائق في عمليّة الوحي، إنّما يأتي من عالم له فوقيّة حقيقيّة وهيمنة واقعيّة على عالمنا، ولذا صحّ أن نقول عنه بأنّه نزول، غايته أنّه نزول معنويّ وليس نزولاً مكانيّا.
وأمّا الملَك، فهو الحقيقة التي يلمسها النبيُّ. ويتناسب وضع الملَك مع العالَم الذي يتمثّل فيه، فلجبرائيل، الذي هو الروح الأمين وروح القدس، شكل ووضع خاصّ في ذلك العالم، وإذا ما تنزّل إلى عالم الطبيعة فإنّه يتمثّل في كالفوقيّة المعنويّة التي يذكرها القرآن لله عزّ وجلّ: ﴿وهو القاهر فوق عباده﴾، وليس الوحي وحده هو الذي عُبّر عنه بأنّه ينزل من ذلك العالم، بل كلّ ما في الدنيا على هذا المنوال، وذلك قوله تعالى: ﴿وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزّله إلا بقدر معلوم﴾
صورة إنسان ضمن نقطة محدّدة، لذا كان النبيّ تارة يرى جبرائيل على صورته الحقيقيّة الواقعيّة، حيث كان يراه بباطنه وقد ملأ الأفق أمامه، وأخرى يراه متمثّلاً بصورة إنسان.

النظريّة ومعطيات القرآن والأنبياء:
ويمكن بناءً على هذه النظريّة أن نفهم معنى الوحي الملقى على مختلف الكائنات، كما ورد في القرآن، فما هو إلا حالة خاصّة من الهداية الموجودة في الأشياء، وضرب من الإلهام والنور المعنويّ الذي يمكن أن يُصاحب الموجودات ولو بدرجات متفاوتة، وما هذه الهداية والإلهام إلا نوع ارتباطٍ بعالم الغيب.
كما أنّ هذه النظريّة تتطابق مع ما ذكره الأنبياء من خصائص لوحي النبوّة، فمن جهة يعبّر الوحي عن حالة داخليّة وقوّة باطنيّة خفيّة ولا يتمّ عن طريق الحواسّ العاديّة، كما أنّ عنصر التعليم يتمثّل بالحقائق التي يُقاربها النبيّ في ذلك العالم، فالإتّصال والتماسّ الواقعيّ مع حقائق العالم الآخر الذي هو عبارة عن مصدر خارجيّ يتلقّى منه النبيّ، والنبيّ- وفق هذه النظريّة- بما يتمتّع به من إستعداد في أعلى مراتبه، يشعر تماماً بالمصدر الذي يتلقّى منه، وإذا تمّ الوحي عن طريق واسطة تجسّمت بما يتوافق وعالم الطبيعة، فيدركها النبيّ تمام الإدراك.

إثبات دعوى وحي النبوّة:
إذا تمّ التفسير المعقول لحالة الوحي، وتبيّن أنّه حاصل وواقع بدرجات متفاوتة- وربما حصل معنا بعضها- وأعلى درجاته هي درجة وحي النبوّة التي يتمّ بواسطتها نقل تعاليم الدين للناس، يبقى البحث عن كيفية إمكان إثبات أنّ ما ينقله شخصٌ معيّن هو من وحي النبوّة، إذا ما ادّعى ذلك.
ففي الواقع، هناك مشخّصات لا بدّ أن يأتي بها صاحب هذا الإدّعاء. فقد صرّح القرآن بأنّ النبيّ الذي يُبعث لا بدّ له من آيات وبيّنة، تمثّل العلامة والقرينة على صدق دعواه. إذاً، تتوقّف صحّة دعوى وحي النبوّة، على إتيان مدّعيها بمعجزة يتلقّاها من ذلك العالم، تمثّل الإثبات على صحّة كلامه.
وبحث المعجزة بحث مستقلّ نبحثه في مقام خاصّ به.

إستعمالات القرآن:
ورد الوحي ضمن آيات القرآن في موارد متعدّدة، ولم يقتصر على وحي النبوّة، وهذا يعني عدم إختصاص الوحي بالأنبياء، فالقرآن كما ذكر إلقاء الوحي إلى الأنبياء، فإنّه حدّثنا عن أشخاص أوحي إليهم مع أنّهم لم يكونوا في عدادهم، وذلك من قبيل الوحي الذي تلقّته أمّ موسى عليه السلام، كما تُشير الآيات الكريمة: ﴿إذ أوحينا إلى أمّك ما يوحى﴾(3).
والأمر نفسه تكرّر مع السيّدة مريم، التي ظهرت لها الملائكة وتحدّثت إليها: ﴿يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّركِ واصطفاك على نساء العالمين﴾(4)، بل كان غذاؤها يأتيها من وراء حجب الغيب، ممّا إستدعى إستغراب النبيّ زكريّا عليه السلام، كما ينصّ القرآن الكريم: ﴿يا مريم أنّى لك هذا؟، قالت: هو من عند الله، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب﴾(5).
وقد أطلقت روايات أهل البيت عليهم السلام على الشخص الذي يوحى إليه، من غير
أن يكون نبيّاً ولا رسولاً، لقب "المحدَّث"
ثمّ إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد بيّن في نهج البلاغة وجود أفراد على طول الخطّ يتلقون مسائل من الغيب، كحالة أهل الذكر، والتي يصفها لنا في قوله: "إنّ الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب ﴿فتتفتّح آذان قلوبهم﴾، تسمع به بعد الوقرة، وترى فيه بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فكرهم وكلّمهم في ذات عقولهم"(6).
فالإمام عليه السلام يريد في هذا النصّ أن ينبّه على حقيقة كانت في الدهور الماضية، وستمضي باطّراد، وهي أنّه ثمة أشخاص من غير الأنبياء، قد لقّنوا أنفسهم ذكر الله، ممّا جعلهم يسمعون كلام الحقّ ويتلقّون الإلهام عنه.

الوحي لغير الإنسان:
بل الذي يتّضح من الآيات الكريمة أنّ الوحي ليس مختصّاً بنوع الإنسان، بل هو واقع له وجوده في جميع الأشياء، حتّى في الحيوانات والجمادات:
فقد ورد في سورة النحل: ﴿وأوحى ربّك إلى النحل أن اتّخذي من الجبال بيوتاً، ومن الشجر، وممّا يعرشون﴾(7).
كما ورد هذا المعنى تارة بالنسبة للأرض: ﴿يومئذ تُحدّث أخبارها بأنّ ربّك أوحى لها﴾(8)، وأخرى بالنسبة للسماء: ﴿وأوحى في كلّ سماء أمرها﴾(9).
وخلاصة القول: إنّ القرآن لم يعتبر الوحي أمراً مختصّاً بالأنبياء ولم يحصره بهم، بل إعتبره حالةً تُصاحب جميع الموجودات بلا إستثناء.
وينبغي التنبيه إلى أنّ الوحي، وإن كانت ماهيّته وحقيقته واحدة، إلا أنّه يتّخذ أشكالاً وأنماطاً متعدّدة، متناسبةً مع طبيعة كلّ واحد من الموجودات التي مرّ ذكرها فلكل موجود وحي بحسبه.
والبحث المهمّ هو في خصوص الوحي المرتبط بالأنبياء، الذين يتلقّون بواسطته تعاليم الدين من الله.
نعم ربما نستعين بحالات الوحي الأخرى لنحاول مقاربة النظريّة الصحيحة في تفسيره.
المصادر :
1- معجم مقاييس اللغة لابن فارس، ج6، ص92، طبع إيران (مادة وحي).
2- الحجر/21.
3- طه/20.
4- آل عمران/42ـ 43.
5- آل عمران/37.
6- نهج البلاغة/ الخطبة220.
7- النحل/68.
8- الزلزلة/4ـ 5.
9- فصّلت/12

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

صلاة ألف ركعة
العلاقة بين المصحف العلوي والقرآن المتداول اليوم
في رحاب نهج البلاغة – الأول
حد الفقر الذی یجوز معه اخذ الزکاة
ومن وصيّة له لولده الحسن (عليهما السلام): [يذكر ...
شبهات حول المهدي
الدفن في البقيع
ليلة القدر خصائصها وأسرارها
آداب الزوجین
مفاتيح الجنان(600_700)

 
user comment