عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية، وأن يكون له قدرة عليها، فقد دل على ذلك الشرع والواقع.
أما الشرع: فالأدلة على ذلك كثيرة جداً ومنها قوله تعالى: (فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا)(1) وقوله: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) (2)، وقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) (3)، وقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (4)، وقوله: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (5)
أما الواقع: فكل إنسان يعلم أن له مشيئةً، وقدرةً يفعل بهما ويترك، ويفرق بين ما يقع بإرادته، كالمشي، وما يقع بغير إرادته كالارتعاش(
لكنَّ مشيئته، وقدرته واقعتان بمشيئة الله وقدرته، لقوله تعالى : (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (6)
وتوضيح ذلك كما قال العلامة ابن سعدي أن العبد إذا صلى، وصام، وعمل الخير، أو عمل شيئاً من المعاصي كان هو الفاعل لذلك العمل الصالح، والعمل السيِّئ.
وفعله المذكور بلا ريب واقع باختياره، وهو يحس ضرورة أنه غير مجبور على الفعل أو الترك، وأنه لو شاء لم يفعل.
وكما أن هذا هو الواقع، فهو الذي نص الله عليه في كتابه، ونص عليه رسوله" حيث أضاف الأعمال صالحها، وسيَّئها إلى العباد، وأخبر أنهم هم الفاعلون لها، وأنهم محمودون عليها إذا كانت صالحة، ومثابون عليها، ومذمومون إذا كانت سيئة، ومعاقبون عليها.
فقد تبين بهذا واتضح أنها واقعة منهم وباختيارهم، وأنهم إن شاؤوا فعلوا، وإن شاؤوا تركوا، وأن هذا الأمر ثابت عقلاً وحساً، وشرعاً، ومشاهدة.
ومع ذلك إذا أردت أن تعرف أنها وإن كانت كذلك واقعة منهم، كيف تكون داخلة في القدر؟ وكيف تشملها المشيئة؟ فيقال:بأي شيء وقعت هذه الأعمال الصادرة من العباد خيرهاُ وشرُها؟ فيقال: بقدرتهم، وإرادتهم.
والذي خلق ما تقوم به الأفعال هو الذي خلق الأفعال؛ فهذا الذي يحل الإشكال، ويتمكن العبد أن يعقل بقلبه اجتماع القدر، والقضاء، والاختيار.
ومع ذلك فهو تعالى أمد المؤمنين بأسباب، وألطاف، وإعانات متنوعة، وصرف عنهم الموانع، كما قال ": .وأما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة.
وكذلك خذل الفاسقين، ووكلهم إلى أنفسهم؛ لأنهم لم يؤمنوا به، ولم يتوكلوا عليه، فولاَّهم ما تولوه لأنفسهم.

فعل الأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر، بل إن مباشرتها من تمام الإيمان بالقضاء والقدر.

ولهذا يجب على العبد مع الإيمان بالقدر الاجتهادُ في العمل، والأخذ بأسباب النجاة، والالتجاء إلى الله تعالى بأن ييسر له أسباب السعادة، وأن يعينه عليها.
ونصوص الكتاب والسنة حافلة بالأمر باتخاذ الأسباب المشروعة في مختلف شؤون الحياة؛ فقد أمرت بالعمل، والسعي في طلب الرزق، واتخاذ العدد لمواجهة الأعداء، والتزود للأسفار، وغير ذلك.
قال تعالى : (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ) (7)، وقال: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا) (8)، وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)(9)، وأمر المسافرين للحج بالتزود، فقال: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (10)، وأمر بالدعاء والاستعانة، فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (11)، وقال: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (12)
وأمر باتخاذ الأسباب الشرعية التي تؤدي إلى رضوانه، وجنته، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج.
وحياةُ الرسول "وأصحابه، بل حياة المسلمين جميعاً، والسائرين على نهجهم كلها شاهدة على أخذهم بالأسباب، والجد، والاجتهاد.
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي ويظن كثير من الناس أن إثبات الأسباب ينافي الإيمان بالقضاء والقدر، وهذا غلط فاحش جدّاً، وهو عائد على القدر بالإبطال، وهو إبطال أيضاً للحكمة.
وكأن هذا الظَّانَّ يقول ويعتقد أن الإيمان بالقدر هو اعتقاد وجود الأشياء بدون أسبابها الشرعية والقدرية، وهذا نفي للوجود لها، فإنها كما ذكرنا أن الله ربط الكون بعضه ببعض، ونظم بعضه ببعض، وأوجد بعضه ببعض، فهل تقول أيها الظَّان جهلاً: إن الأولى إيجاد البناء من دون بنيان؟ وإيجاد الحبوب، والثمار، والزروع من دون حرث وسقي؟ وإيجاد الأولاد والنسل من دون نكاح؟ وإدخال الجنة من دون إيمان وعمل صالح؟ وإدخال النار من دون كفر ومعصية؟
بهذا الظن أبطلت القدر، وأبطلت معه الحكمة، أما علمت أن الله بحكمته، وكمال قدرته جعل للمسببات أسباباً؟ وللمقاصد طرقاً ووسائل تحصل بها؟ وقرر هذا في الفطر، والعقول، كما قرره في الشرع، وكما نفذه في الواقع؛ فإنه أعطى كل شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلق له من أصناف السعي، والحركة، والتصرفات المتنوعة، وبنى أمور الدنيا والآخرة على ذلك النظام البديع العجيب الذي شهد أولاً لله بكمال القدرة، وكمال الحكمة، وأشهد العباد ثانياً أن بهذا التنظيم، والتيسير، والتصريف وجّه العاملين إلى أعمالهم، ونشطهم على أشغالهم.
إلى أن قال فطالِبُ الآخرة إذا علم أنها لا تنال إلا بالإيمان والعمل الصالح وترك ضدِّها جدَّ واجتهد في تحقيق الإيمان، وكثرت تفاصيله النافعة، واجتهد في كل عمل صالح يوصله إلى الآخرة، واجتنب في مقابلة ذلك الكفر، والعصيان، وبادر للتوبة النصوح من كل ما وقع منه من ذلك.
وصاحب الحرث إذا علم أنه لا يُنَال إلا بحرث وسقي وملاحظة تامة جد واجتهد في كل وسيلة تنمي حراثته، وتكملها، وتدفع عنها الآفات.
وصاحب الصناعة إذا علم أن المصنوعات على اختلاف أنواعها، ومنافعها لا تحصل إلا بتعلم الصناعة، وإتقانها، ثم العمل بها جد في ذلك.
ومن أراد حصول الأولاد، أو تنمية مواشيه عمل وسعى في ذلك، وهكذا جميع الأمور.
وكذلك من غلط فترك الدعاء، أو ترك الاستعانة، والتوكل ظانَّاً أن ذلك من مقامات الخاصة، ناظراً إلى القدر، فكل هؤلاء جاهلون ضالون، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي"أنه قال: .احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان.
فأمره بالحرص على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء ألا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر، ويسلم الأمر لله؛ فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك، كما قال بعض العقلاء: الأمور أمران: أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه.
ومما يقال لهؤلاء الذين يتركون العمل اعتماداً على القدر إن الذي قال: .كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
والذي قال: ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار.
هو الذي قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (13)

الإيمان بالقدر لا يمنح العاصي حجة على ما ترك من الواجبات، أو فَعَلَ من المعاصي.

نفس المحتجّ بالقدر إذا اعتدي عليه، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه، بل يتناقض، وتناقض القول يدل على فساده، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول.
وبما أن هذا الأمر مما يعمّ به البلاء فهذا إيراد لبعض الأدلة الشرعية والعقلية، والواقعية التي يتضح من خلالها بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي أو ترك الطاعات.
قال الله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ) سورة الأنعام: 148، فهؤلاء المشركون احتجوا بالقدر على شركهم، ولو كان احتجاجهم مقبولاً صحيحاً ما أذاقهم الله بأسه.
ولهذا قال الله لهم:(هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) أي هل عندكم دليل صحيح، فتخرجوه لنا؛ لننظر فيه، ونتدبره.
والمقصود من هذا التبكيت لهم؛ لأنه قد عَلِم أنه لا عِلْم عندهم يصلح للحجة، ويقوم به البرهان، ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم، وأنهم إنما يتبعون الظنون، التي هي محل الخطأ، ومكان الجهل.
قال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) سورة النساء: 165.
فلو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لما كان هناك داعٍ لإرسال الرسل؛ فلم يبق للخلق على الله حجة بعد إرساله الرسل تترى يبينون للناس أمر دينهم، ومراضي ربهم.
أن الله أمر العبد ونهاه، ولم يكلِّفه إلا ما يستطيع، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) سورة التغابن: 16، وقال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) سورة البقرة: 286.
ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلَّفاً بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل، ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو نسيان، أو إكراه فلا إثم عليه لأنه معذور.
أن القدر سرٌّ مكتوم، لا يعلمه أحد من الخلق إلا بعد وقوعه، وإرادة العبد لما يفعله سابقة لفعله، فتكون إرادته للفعل غير مبنية على علمٍ بقدر الله، فادعاؤه أن الله قدَّر عليه كذا وكذا ادِّعاءٌ باطل؛ لأنه ادعاءٌ لعلم الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، فحجَّته إذاً داحضة؛ إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
أننا لو سلَّمنا للمحتج بالقدر على الذنوب لعطَّلنا الشرائع.
لو كان الاحتجاج بالقدر على هذا النحو حجة لقُبل من إبليس الذي قال: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) سورة الأعراف: 16.
ولو كان حجة هؤلاء مقبولة أيضاً لتساوى فرعون عدو الله، مع موسى كليم الله عليه السلام .
الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعائب تصحيح لمذهب الكفار، وهذا لازم لهذا المحتج، لا ينفكّ عنه.
ولو كان حجة لاحتجَّ به أهل النار، إذا عاينوها، وظنوا أنهم مواقعوها، كذلك إذا دخلوها، وبدأ توبيخهم وتقريعهم، هل يحتجون بالقدر على معاصيهم وكفرهم؟
الجواب: لا؛ بل إنهم يقولون كما قال عز وجل عنهم: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ) سورة إبراهيم: 44، ويقولون: (رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا) سورة المؤمنون: 106، وقالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) سورة الملك: 10، وقالوا: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) سورة المدثر: 43، إلى غير ذلك مما يقولون.
ولو كان الاحتجاج بالقدر على المعاصي سائغاً لاحتجوا به؛ فهم بأمس الحاجة إلى ما ينقذهم من النار.
ومما يردُّ هذا القول أيضاً أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه في أمور دنياه حتى يدركه، ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر.
فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟!
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو أراد إنسان السفر إلى بلد، وهذا البلد له طريقان أحدهما آمن مطمئن، والآخر كله فوضى واضطراب، وقتل، وسلب، فأيهما سيسلك؟
لا شك أنه سيسلك الطريق الأول، فلماذا لا يسلك في أمر الآخرة طريق الجنة دون طريق النار؟
ومما يمكن أن يرد به على هذا المحتج بناء على مذهبه أن يقال له: لا تتزوج؛ فإن كان الله قد قضى لك بولد فسيأتيك، وإلا فلن، ولا تأكل ولا تشرب؛ فإن قدَّر الله لك شبعاً وريَّاً فسيكون، وإلا فلن، وإذا هاجمك سَبُعٌ ضَارٍ فلا تفر منه؛ فإن قدَّر الله لك النجاة فستنجو، وإن لم يقدرها لك فلن ينفعك الفرار، وإذا مرضت فلا تتداوَ؛ فإن قدَّر الله لك شفاءً شفيت، وإلا فلن ينفعك الدواء.
فهل سيوافقنا على هذا القول أم لا؟ إن وافقنا علِمْنا فساد عقله، وإن خالفنا علمنا فساد قوله، وبطلان حجته.
المحتج بالقدر على المعاصي شبَّه نفسه بالمجانين، والصبيان؛ فهم غير مكلفين، ولا مؤاخذين، ولو عومل معاملتهم في أمور الدنيا لما رضي.
لو قبلنا هذا الاحتجاج الباطل لما كان هناك حاجة للاستغفار، والتوبة، والدعاء، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لو كان القدر حجَّة على المعائب والذنوب لتعطلت مصالح الناس، ولعمَّت الفوضى، ولما كان هناك داعٍ للحدود، والتعزيرات، والجزاءات؛ لأن المسيء سيحتج بالقدر، ولما احتجنا لوضع عقوبات للظَلَمة، وقطَّاع الطرق، ولا إلى فتح المحاكم، ونصب القضاة؛ بحجة أن كل ما وقع إنما وقع بقدر الله، وهذا لا يقول به عاقل.
أن هذا المحتج بالقدر الذي يقول: لا نؤاخذ؛ لأن الله كتب ذلك علينا؛ فكيف نؤاخذ بما كُتِبَ علينا؟
يُقال له: إننا لا نؤاخذ على الكتابة السابقة، إنما نؤاخذ بما فعلناه، وكسبناه، فلسنا مأمورين بما قدره الله لنا، أو كتبه علينا، وإنما نحن مأمورون بالقيام بما يأمرنا به؛ فهناك فرق بين ما أريد بنا، وما أريد منا، فما أراده الله بنا طواه عنا، وما أراده منه أمرنا بالقيام به.
ومما تجدر الإشارة إليه أن احتجاج كثير من هؤلاء ليس ناتجاً عن قناعة وإيمان، وإنما هو ناتج عن نوع هوى ومعاندة؛ ولهذا قال بعض العلماء فيمن هذا شأنه: أنت عند الطاعة قدري؛ وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
يعني أنه إذا فعل الطاعة نسب ذلك إلى نفسه، وأنكر أن يكون الله قدر ذلك له، وإذا فعل المعصية احتج بالقدر.
وبالجملة فإن الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، أو ترك الطاعات احتجاج باطل في الشرع، والعقل، والواقع.

الصورة الجائزة المسوغة للاحتجاج بالقدر:

يسوغ الاحتجاج بالقدر عند المصائب التي تحل بالإنسان كالفقر، والمرض، وفقد القريب، وتلف الزرع، وخسارة المال، وقتل الخطأ، ونحو ذلك؛ فهذا من تمام الرضا بالله ربَّاً، فالاحتجاج إنما يكون على المصائب، لا المعائب، .فالسعيد يستغفر من المعائب، ويصبر على المصائب، كما قال تعالى :(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) سورة غافر:55.
والشقي يجزع عند المصائب، ويحتج بالقدر على المعائب.
ويوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلاً قتل آخر عن طريق الخطأ، ثم لامه من لامه، واحتج القاتل بالقدر، لكان احتجاجه مقبولاً، ولا يمنع ذلك من أن يؤاخذ.
ولو قَتَلَ رجلٌ رجلاً عن طريق العمد، ثم قُرِّع القاتل، ووُبِّخ على ذلك، ثم احتج بالقدر لم يكن الاحتجاج منه مقبولاً؛ ولهذا حجَّ آدم موسى عليهما السلام كما في قوله " في محاجتهما: .احتج آدم موسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، ثم تلومني على أمر قد قدّر عليَّ قبل أن أخلق؟ فحجَّ آدم موسى.
فآدم عليه السلام لم يحتج بالقدر على الذنب كما يظن ذلك بعض الطوائف، وموسى عليه السلام لم يلُمْ آدم على الذنب؛ لأنه يعلم أن آدم استغفر ربه وتاب، فاجتباه ربه، وتاب عليه، وهداه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
ولو أن موسى لام آدم على الذنب لأجابه: إنني أذنبت فتبت، فتاب الله عليَّ، ولقال له: أنت يا موسى أيضاً قتلت نفساً، وألقيت الألواح إلى غير ذلك، إنما احتج موسى بالمصيبة فحجَّه آدم بالقدر.
.فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له؛ فإنه من تمام الرضا بالله ربَّاً، أما الذنوب فليس لأحد أن يُذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب، ويصبر على المصائب.
وممن يسوغ له الاحتجاج بالقدر التائبُ من الذنب، فلو لامه أحد على ذنب تاب منه لساغ له أن يحتج بالقدر.
فلو قيل لأحد التائبين: لم فعلت كذا وكذا؟ ثم قال: هذا بقضاء الله وقدره، وأنا تبت واستغفرت، لقُبل منه ذلك الاحتجاج.
ثم إنه لا يسوغ لأحد أن يلوم التائب من الذنب؛ فالعبرة بكمال النهاية، لا بنقص البداية.
المصادر :
1- سورة النبأ: 39،
2- سورة البقرة:223
3- سورة البقرة: 286
4- سورة آل عمران: 133
5- سورة الكهف: 29.
6- سورة التكوير:2829.
7- سورة الجمعة:10
8- سورة الملك: 15
9- سورة الأنفال:60
10- سورة البقرة: 197
11- سورة غافر: 60
12- سورة البقرة: 45.
13- سورة البقرة: 85.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

في أن الاستقامة إنما هي على الولاية
صُبت علـَـيَ مصـــائبٌ لـ فاطمه زهراعليها ...
التقیة لغز لا نفهمه
الحجّ في نصوص أهل البيت(عليهم السلام)
وصول الامام الحسین(ع) الى کربلاء
دعاء الامام الصادق عليه السلام
الصلوات الكبيرة المروية مفصلا
الشفاعة فعل الله
أخلاق أمير المؤمنين
اللّيلة الاُولى

 
user comment