عربي
Thursday 25th of April 2024
0
نفر 0

المدلول الاجتماعي واللفظي للنص

المدلول الاجتماعي واللفظي للنص
الفهم الحقيقي للنص يؤخذ من مدرسة الإمام الصادق‌ عليه السلام اذ ان هناک أوسع نظريّة لعنصر الفهم الاجتماعي للنصّ ، يعالج فيها بدقّة وعمق الفرق بين المدلول اللغوي - اللفظي - للنصّ ، والمدلول الاجتماعي ، ويحدّد للمدلول الاجتماعي حدوده المشروعة .
وبالرغم من أنّ الفقهاء - في ممارستهم للعمل الفقهي ومجالات الاستنباط من النصّ - يدخلون عنصر الفهم الاجتماعي ويعتمدون عليه في فهم الدليل ، إلى جانب العنصر الآخر الذي يمثّل الجانب اللفظي من الدلالة ، غير أ نّهم لا يبرزون في الغالب الجانب اللفظي من عمليّة فهم الدليل ، والجانب الاجتماعي بوصفهما جانبين متميّزين لكلّ منهما ملاكه وحدوده ، بل يبرز الجانبان في مجالات تطبيقهم مزدوجين وتحت اسم واحد وهو الظهور .
كانت هذه المرّة الاُولى التي قرأت فيها ذلك عن عنصر الفهم الاجتماعي للنصّ ، هي حين قرأت بعض أجزاء الكتاب المجدّد الخالد « فقه الإمام الصادق » الذي وضعه شيخنا الحجّة الكبير الشيخ « محمّد جواد مغنية » الذي حصل الفقه‌ الجعفري على يده في هذا الكتاب المبدع على صورة رائعة في الاُسلوب والتعبير والبيان .

حجّيّة الظهور :

من الاُمور المتّفق عليها بصورة مبدئيّة في علم الاُصول ، المبدأ القائل بحجّيّة الظهور ، وهو المبدأ الذي يحتّم أن نفسّر كلّ خطاب شرعي على ضوء ظهوره ما لم توجد قرينة على الخلاف .
والظهور - كما تقرّره البحوث الاُصوليّة التي تدرس هذا المبدأ - عبارة عن درجة خاصّة من دلالة الكلام ، وهي الدرجة التي تجعل المعنى الذي نشير إليه ظاهراً من الكلام وأكثر انسجاماً معه من أيّ معنىً آخر . فاللفظ قد يصلح للتعبير عن عدد من المعاني ولكنّه يظلّ ظاهراً في معنى خاصّ من تلك المعاني ، كلفظ الأسد قد تستخدمه للتعبير عن الحيوان المفترس ، فتقول : الأسد ملك الغابة ، وقد تستخدمه للتعبير عن شجاعة الإنسان ، فتقول : هذا الإنسان أسد .
ولكنّ كلمة الأسد حين ينظر إليها بصورة منفصلة عن‌ القرائن الخاصّة نجد أ نّها ظاهرة في المعنى الأوّل ؛ لأنّ كلمة الأسد بطبيعتها اللغويّة تدلّ على الحيوان المفترس بدرجة أكبر من دلالتها على الإنسان الشجاع ، الأمر الذي يجعل من الحيوان المفترس أكثر المعاني انسجاماً معها ، وهو معنى الظهور .

تنويع الظهور :

والظهور - الذي يمثّل كما عرفنا درجة معيّنة من دلالة اللفظ على المعنى - يعتبر حصيلة نوعين من الدلالات :
الأوّل‌ :
الدلالات اللفظيّة الوضعيّة ، أي الدلالات الناتجة عن الوضع في اللغة ، فكلمة الأسد إنّما كانت ظاهرة في الحيوان المفترس دون الإنسان الشجاع لأ نّها موضوعة للدلالة على ذلك المعنى .
الثاني‌ :
الدلالات اللفظيّة السياقيّة ، أي الدلالات الناتجة عن سياق الحديث وطريقة التعبير ، فحين يقول الآمر مثلاً : اغتسل غسل الجمعة لأنّك تثاب على ذلك ، نعرف أنّ غسل الجمعة مستحبّ وليس واجباً ، وأنّ الأمر أمر ندب لا أمر إلزام نظراً إلى الطريقة التي اتّبعها الآمر في الترغيب في غسل الجمعة ، إذ رغّب فيه عن طريق ما يؤدّي إليه من الثواب ، وهذا السياق من الترغيب يدلّ على الاستحباب ، بالرغم من أنّ الواجب فيه ثواب أيضاً ، غير أنّ الغسل لو كان واجباً لكان الأولى تبديل السياق واستعمال طريقة التخويف من العقاب بدلاً عن الترغيب في الثواب . فالدلالة هنا دلالة سياقيّة ، وظهور الكلام في الاستحباب يقوم على أساس هذه الدلالة السياقيّة .
ومن مجموع الدلالات السياقيّة والوضعيّة يتكوّن الظهور اللفظي للنفس ويتحدّد معناه المنسجم مع تلك الدلالات .
أمّا أنّ هذه الدلالات الوضعيّة والسياقيّة كيف تنشأ وتتكوّن ؟ وما هي العلاقات المتبادلة بينها ؟ وكيف نثبت ونعيّن نوع الدلالات الوضعيّة والسياقيّة لكلّ كلام ؟
وهل يمكن أن يتّخذ كلّ فرد إطاره اللغوي الخاصّ مقياساً لتعيين تلك الدلالات أو لا بدّ من اتّخاذ الإطار اللغوي العامّ مقياساً لذلك ؟ وإذا كان الإطار اللغوي العام هو المقياس فأيّ إطار عامّ هذا ؟ هل هو الإطار اللغوي العامّ في عصر صدور النصّ ، أو يكفي الرجوع إلى الإطار اللغوي العامّ المعاصر ، بالرغم من تطوّر اللغة وحركتها ؟
كلّ هذه الأسئلة وغيرها تدرس في حدود متطلّبات عمليّة الاستنباط في البحث الاُصولي المرتبط بحجّيّة الظهور ، ولا نريد الآن إلّاإعطاء فكرة موجزة عن الظهور اللفظي بالقدر الذي قدّمناه ، لنعرف الجانب اللفظي واللغوي من عمليّة فهم النصّ ، ولكي نصل إلى الجانب الجديد الذي يعالجه كتاب « فقه الإمام الصادق » وهو الجانب الاجتماعي من هذه العمليّة .

الجانب الاجتماعي من فهم النصّ :

والسؤال الذي يجب أن نطرحه بهذا الصدد هو هذا : هل يصل الشخص الذي يحاول فهم النصّ إلى المعنى النهائي له بكلّ حدوده ، إذا أحصى الدلالات اللفظيّة من وضعيّة وسياقيّة ، واستوعب المعطى اللغوي للنصّ ؟
والجواب بالإيجاب والنفي معاً ، فالجواب بالإيجاب إذا افترضنا أنّ هذا الشخص الذي يحاول فهم النصّ الشرعي إنسان لغوي فحسب ، أي إنسان تلقّن اللغة وحياً وإلهاماً ، فهو يعرف اللغة ودلالات الألفاظ الوضعيّة والسياقيّة ، وليست له أيّ خبرة من نوع آخر ، فإنّ هذا الإنسان اللغوي الذي لا توجد له خبرة سوى الخبرة اللغويّة سوف ينتهي عمله في فهم النصّ عند جمع الدلالات الوضعيّة والسياقيّة وتحديد الظهور اللفظي على أساسها .
والجواب بالنفي إذا كان الشخص الذي يحاول فهم النصّ قد عاش الحياة الاجتماعيّة مع سائر العقلاء من أفراد نوعه في مختلف المجالات الحياتيّة ، فإنّ الأفراد الذين يعيشون حياة اجتماعيّة من هذا القبيل تتكوّن لديهم خبرة مشتركة وذهنيّة موحّدة ، إلى جانب ما يتميّز به كلّ فرد من خبرات واتّجاهات ، وتلك الخبرة المشتركة والذهنيّة الموحّدة تشكّل أساساً لمرتكزات عامّة وذوق مشترك في مجالات عديدة بما فيها المجال التشريعي والتقنيني ، والمرتكزات العامّة والذوق المشترك في المجال التشريعي والتقنيني هو ما يطلق عليه الفقهاء في الفقه اسم مناسبات الحكم والموضوع .
فيقولون - مثلاً - : إنّ الدليل إذا دلّ على أنّ من حاز ماءً من النهر أو خشباً من الغابة ملكه ، نفهم منه أنّ كلّ من حاز شيئاً من الثروات الطبيعيّة الخام ملكه ، دون فرق بين الماء والخشب وغيرها ؛ لأنّ مناسبات الحكم والموضوع لا تسمح بجعل موضوع الحكم محصوراً في نطاق الخشب والماء فحسب .
مثال آخر إذا جاءت الرواية في ثوب أصابه ماء متنجّس وأمرت بغسل الثوب ، نعرف أنّ الماء المتنجّس إذا أصاب شيئاً نجّسه ، سواء أصاب الثوب أو شيئاً آخر ؛ لأنّ مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة في الذهنيّة العرفيّة العامّة لا تقبل أنّ تنجيس الماء المتنجّس خاصّ بالثوب ، فالثوب يعتبر في الرواية قد جاء على سبيل المثال لا التحديد .
ومناسبات الحكم والموضوع هذه هي في الواقع تعبير آخر عن ذهنيّة موحّدة ، وارتكاز تشريعي عامّ على ضوئه يحكم الفقيه بأنّ الشي‌ء الذي يناسب أن يكون موضوعاً للتملّك بالحيازة أو للتنجّس بالماء المتنجّس أوسع نطاقاً من الأشياء المنصوص عليها في الصيغة اللفظيّة ، وهذا هو ما نعنيه بالفهم الاجتماعي للنصّ .
وهكذا نعرف أنّ الفهم الاجتماعي للنصّ معناه فهم النصّ على ضوء ارتكاز عامّ يشترك فيه الأفراد نتيجة لخبرة عامّة وذوق موحّد ، وهو لذلك يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنصّ الذي يعني تحديد الدلالات الوضعيّة والسياقيّة للكلام .
ويأتي دور الفهم الاجتماعي للنصّ حين ينتهي دور الفهم اللفظي واللغوي له ، فإنّ الفقيه في الدرجة الاُولى يحدّد المعطى اللغوي واللفظي للنصّ ، ثمّ بعد أن يعرف معنى اللفظ يسلّط عليه الارتكاز الاجتماعي ويدرس المعنى بالذهنيّة الاجتماعيّة المشتركة « مناسبات الحكم والموضوع » فيظهر له من النصّ أشياء جديدة ، لم تكن تبدو على مستوى الدرجة الاُولى في حدود الفهم اللغوي للفظه ، ففي حدود الفهم اللفظي للصيغة القائلة : إذا حزت خشباً أو ماء ملكته .
أو الصيغة القائلة : اغسل ثوبك إذا أصابه ماء متنجّس لا تفهم إلّاحكم حيازة الخشب والماء وحكم الثوب إذا أصابه ماء متنجّس ، ولكنّ الصيغة على أساس الفهم الاجتماعي لها والأخذ بـ « مناسبات الحكم والموضوع » تكتسب ظهوراً في تعميم الحكم واتّخاذ الخشب والماء في الصيغة الاُولى ، والثوب في الصيغة الثانية مجرّد مثال للحكم العامّ .
وقد جاء في كتاب « فقه الإمام الصادق » قاعدة تعيّن حدود الفهم الاجتماعي الذي يجوز في رأي « العلّامة مغنية » الاعتماد عليه في استنباط الحكم من النصّ وتتلخّص القاعدة فيما يلي :
إذا كان النصّ مرتبطاً بالعبادات فيجب فهمه على أساس لغوي ولفظي فقط ، ولا يجوز أن يفهم على أساس ارتكاز اجتماعي مسبق .
فإذا جاء مثلاً ، أنّ من شكّ في عدد ركعات صلاة المغرب بطلت صلاته لا يمكننا أن نعمّم الحكم لصلاة الظهر مثلاً ؛ لأنّ إبطال الشكّ للصلاة أمر مرتبط بالعبادة ، ونظام العبادات نظام غيبي لا تحكم عليه الارتكازات الاجتماعيّة ولا صلة لها به ، وأمّا إذا كان النصّ مرتبطاً بمجال حياتي اجتماعي من قبيل المعاملات فيجي‌ء دور الفهم الاجتماعي للنصّ ؛ لأنّ للناسّ في هذا المجال ارتكازهم المشترك وذهنيّتهم التي حدّدتها الخبرة والتعايش .
فإذا وجد إلى جانب النصّ ارتكاز عامّ بديهي يضع للحكم حدوداً أوسع أو أضيق وفقاً لما يفهمه هذا الارتكاز من مصالح ومناسبات ، أمكن الأخذ بالحدود التي يحدّدها الارتكاز وهو معنى الفهم الاجتماعي للنصّ وتحكيم مناسبات الحكم والموضوع .
أمّا المبرّر للاعتماد على الارتكاز الاجتماعي في فهم النصّ فهو نفس مبدأ حجّيّة الظهور ؛ لأنّ هذا الارتكاز يكسب النصّ ظهوراً في المعنى الذي يتّفق معه ، وهذا الظهور حجّة لدى العقلاء كالظهور اللغوي ؛ لأنّ المتكلّم بوصفه فرداً لغويّاً يفهم كلامه فهماً لغويّاً ، وبوصفه فرداً اجتماعيّاً يفهم كلامه فهماً اجتماعيّاً ، وقد أمضى الشارع هذه الطريقة في الفهم .
وتظلّ هناك أسئلة يجب أن تدرس في مجال أوسع ، من قبيل ما هو مدى العموميّة التي يجب توفّرها في الارتكاز ومناسبات الحكم والموضوع ، لكي تكتسب هذه المناسبات القدرة على التحكيم في فهم النصّ ؟ وكيف نستفيد من الارتكاز الاجتماعي مع أنّ الارتكاز ليس ثابتاً بل هو مختلف تبعاً للظروف الفكريّة والاجتماعيّة ؟

الفهم الاجتماعي للنصّ والقياس :

وعلى ضوء ما تقدّم يمكننا أن نميّز بين الفهم الاجتماعي للنصّ والقياس الذي ثبتت حرمته في الفقه الجعفري ، فإنّ الفهم الاجتماعي للنصّ لا يعدو أن يكون عملاً بظهور الدليل ، وحين نعمّم الحكم مثلاً - لغير ما ذكر في النصّ - لا نريد بذلك أن نقيس غير المنصوص على المنصوص ، بل نستند في التعميم إلى الارتكاز الذي يشكّل قرينة على أنّ ما ذكر في النصّ إنّما جاء على سبيل المثال ، فيكون الدليل نفسه ظاهراً في الحكم العامّ .

المشكلة التي تحلّ على هذا الضوء :

وبالرغم من أ نّي أتحدّث الآن عن الفهم الاجتماعي للنصّ بتحفّظ فإنّي اُؤمن أنّ القاعدة التي وضعها شيخنا الحجّة المحقّق « مغنية » لهذا الفهم الاجتماعي تحلّ مشكلة كبيرة في الفقه ،
وهذه المشكلة هي : أنّ كثيراً من الأحكام بيّنت عن طريق الجواب على أسئلة الرواة ولم تبيّن بصورة ابتدائيّة وبلغة تقنينيّة ، والرواة إنّما يسألون في الغالب عن الحالات الخاصّة التي يحتاجون إلى معرفة حكمها ، فيجي‌ء الجواب وفقاً لحدود السؤال مبيّناً للحكم في الحالة المسؤول عنها ، فإذا اقتصرنا في استنباط الحكم من النصّ على الفهم اللغوي فحسب.
كان معنى ذلك أن نجعل تلك الأحكام في أكثر الأحيان وقفاً على الحالات الخاصّة التي مني بها السائل في حياته العمليّة وأبرزها في سؤاله ، مع أ نّنا قد نكون واثقين بأنّ بيان الأحكام على تلك الحالات الخاصّة لم يكن في جميع الموارد نتيجة لاختصاصها بها ، وإنّما نشأ عن اختصاص السؤال بتلك الحالات ، وأمّا إذا فهمنا النصّ فهماً اجتماعيّاً فسوف نكون أقرب إلى واقع الحدود المحتملة لتلك الأحكام .
المصدر :
من مقال للسيد محمد باقر الصدر قدس سره نشر في مجلّة ( رسالة الإسلام ) ، السنة الاُولى 1967 م ، العدد / 3

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الحسين(ع) إماماً و مصباح الهداية
عاشوراء مِرآة للتاريخ
الارتباط بالمطلق مشكلة ذات حدين
الشخصية القرآنية
أهداف التربية في الإسلام
التبرج والحجاب
العلامات التي تسبق مباشرة ظهور الإمام المهدي
شهر رمضان شهر التوبة والاستغفار
القرآن معجزة خالدة
و العاقبة للمتقین

 
user comment