عربي
Wednesday 24th of April 2024
0
نفر 0

الذمّة والعهدة

الذمّة والعهدة

العهدة تشترك مع الذمّة في كونهما وعاءين اعتباريّين ، إلّا أ نّهما يختلفان في طبيعة وظيفتهما الفقهيّة ودورهما ومضمونهما الاعتباري .
لا يوجد فقهاً ميّز ما بين الذمّة والعهدة غير الفقه الجعفري ، وهذا التمييز من ألطف التمييزات التي وجدتها في الفقه الجعفري ، إلّاأ نّه لم يكتسب صيغةً دقيقة على أيدي فقهاء الجعفريّة .
ولعلّ من أشهر الصيغ التي قيلت في مقام التمييز بين الذمّة وبين العهدة ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله (1)، من أنّ العهدة وعاءُ الأعيان الخارجيّة ، فيما الذمّة وعاء الأموال الكلّيّة ، وقد أخذ ذلك من ارتكاز باب الضمان ؛ حيث يقال للغاصب هناك حينما يغصب الكتاب وقبل أن يتلفه : « إنّ هذا الكتاب في عهدتك » ، أمّا بعد إتلافه له ، فيقال له : « إنّ قيمته في ذمّته » . وللتمييز بين التعبيرين قال الميرزا النائيني رحمه الله : إنّ العين قبل أن تتلف تكون عيناً خارجيّة وشخصيّة ، فيعبّر عنها بأ نّها في العهدة ، فالعهدة ظرفٌ للعين . أمّا بعد التلف ، فينتقل المال من العين الخارجيّة إلى الأمر الكلّي ، وهذا الأمر الكلّي يعبّر عنه بـ ( الذمّة ) .
إذن : فالذمّة وعاء الكلّيّات ، بينما العهدة وعاء الشخصيّات . وأظنّ أنّ هذا التعبير هو الذي نقل ذهن الميرزا النائيني رحمه الله إلى مثل هذه الصيغة في التفرقة بين الذمّة وبين العهدة .
إلّاأنّ ما اُفيد من أنّ الذمّة وعاء الكلّيّات لا الأعيان الشخصيّة وإن كان صحيحاً ولطيفاً ، إلّاأ نّه ليس لأجل أنّ العهدة وعاء الأعيان الشخصيّة والذمّة وعاء الاُمور الكلّيّة ؛ بل لأنّ الذمّة حيث كانت وعاء الأموال بالمعنى الحرفي - تلك الأموال التي نريد أن نصبّ عليها الملكيّة بهذا المعنى المشير إلى الخارج - وكانت هذه العين الخارجيّة عيناً خارجيّة قائمة بالفعل ، فالملك منصبّ عليها بالمعنى الاسمي ، ولا تحتاج حينئذٍ ملكيّةُ العين الخارجيّة إلى استحداث رمز يدخل في وعاء الذمّة ثمّ تنصبّ عليه هذه الملكيّة ، فإذا جاءت الحقيقة بطل الرمز ؛ فما دامت الملكيّة قد وجدت مجالاً لأن تنصبّ على المعنى الاسمي ، فلا موجب - بحسب الارتكاز العقلائي - لاستحداث رمز ومعنى حرفي لهذا المعنى الاسمي وصبّ الملكيّة على ذلك المعنى الحرفي في وعاء الذمّة استطراقاً إلى ملكيّة العين ؛ فإنّه تحصيلٌ للحاصل بالعناية والتعبّد .
ولهذا انعقد الارتكاز العقلائي على أنّ الذمّة ليست وعاءً للعين الخارجيّة ؛ على أساس أ نّها وعاءٌ رمزي للمعاني الرمزيّة ، وعاءٌ نحتاجه حينما تعوزنا الحقيقة ونريد أن نصبّ الملكيّة عليها ولا تكون موجودةً ، فنستحدث رمزاً نصبّ الملكيّة عليه بما هو معنى حرفي .
أمّا حيث تكون الحقيقة قائمة ويكون انصباب الملكيّة على نفس الموجود الخارجي ممكناً ، فلا وجه بعد هذا لإدخال العين إلى عالم الذمّة وتحويلها من خارج إلى رمز ومن معنى اسمي إلى معنى حرفي وصبّ الملكيّة عليها .
فالذمّة - بناءً على هذا - إنّما لا تدخلها العين الخارجيّة لهذا السبب ، لا للتقارب القائم بين عنوان العين الخارجيّة وبين عنوان العين الكلّيّة .
أمّا الفرق الحقيقي بين الذمّة وبين العهدة ، فهو ما أشرنا إليه واتّضح من خلال الكلام ، وهو : أنّ الذمّة وعاءٌ لأموال وهميّة تتعلّق بها الملكيّة . أمّا العهدة ، فهي وعاء لمسؤوليّات والتزامات . والفرق بينهما على حدّ الفرق ما بين الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة :
أ - فالذمّة وعاءٌ لمصبّ الحكم الوضعي ، أي المال الوهمي الاعتباري الذي تعلّقت به الملكيّة ، التي هي حكم وضعي .
ب - والعهدة وعاءٌ لالتزامات وتحميلات تكليفيّة ومسؤوليّات قد يوقعها الإنسان على نفسه ، وقد يوقعها القانون عليه .
فلزوم الإنفاق على الزوجة من شؤون العهدة ، واشتغال الذمّة بالنفقة من شؤون الذمّة ، وهكذا .. فدائماً : الذمّة وعاء الأموال المملوكة ، والعهدة وعاء الالتزامات المحمّلة ، إمّا من قبله ، أو من قبل قانونٍ نافذ عليه .
والعبارة التي لعلّها صارت سبباً لانتباه الميرزا النائيني رحمه الله هي ما يقوله فقهاؤنا : من أنّ العين في عهدة الغاصب ، فإذا تلفت كانت قيمتها في ذمّته‌(2) .
فتغييرهم للعبارة لم يكن من باب تحوّل الجزئي إلى الكلّي ، بل حصول تحوّل من الحكم التكليفي إلى الحكم الوضعي ؛ إذ ما دامت العين موجودةً كان هذا الشخص مسؤولاً عن إرجاعها ، وهي مسؤوليّةٌ ظرفها ووعاؤها العهدة ؛ لأنّ العهدة وعاء المسؤوليّات ، ولهذا يقول فقهاؤنا : « يكون في عهدته » .
أمّا إذا تلفت العين ، فيتولّد شغل الذمّة ويصبح مديناً في المقام بقيمته ؛ لأنّ‌ العهدة هنا لا تكفي ؛ إذ أين مملوك هذا المالك ؟ ! والعهدة إنّما هي عهدة إيصال المال إليه ، فأين ماله وقد تلف المال الخارجي ؟ ! فلا بدّ من أن نفرض له مالاً ، وليس إلّاذاك الفرض الذي يكون في وعاء الذمّة ، حيث هو وعاء الأموال ، فنفرض للغاصب مالاً فيها ونقول : « إنّ في ذمّته مالاً » ، وهو ما لا ينافي بقاء العهدة ، لكنّها عهدة المال الكلّي لا المال الشخصي ، أي أ نّه بعد أن تلفت العين اشتغلت الذمّة بالمال الكلّي والعهدة بمسؤوليّة دفع هذا المال الكلّي ، فأصبح عنده الآن عهدةٌ وذمّة .

النسبة بين الذمّة وبين العهدة:

هذا هو الفرق بين مصطلحي : ( الذمّة ) و ( العهدة ) ، والنسبة بينهما - وفق استقراء الفقه الإسلامي - هي العموم من وجه ؛ فقد تثبت عهدةٌ وذمّة ، وقد تثبت عهدةٌ ولا ذمّة ، وقد تثبت ذمّةٌ ولا عهدة .
1 - أمّا موارد اجتماع العهدة والذمّة ، فهي الغالب .
2 - وأمّا موارد انفكاك العهدة عن الذمّة - بمعنى وجود عهدة وعدم وجود ذمّة - فلها مصاديق كثيرة في الفقه ، منها :
أ - الغاصب قبل تلف العين المغصوبة ، حيث العهدة موجودة دون الذمّة ؛ لأ نّه مكلّف ومسؤول عن إيصال المال إلى صاحبه .
ب - ومنها ما لو فرض أ نّه توارد على الكتاب الواحد المغصوب أيادٍ متعدّدة وتلف في يد الأخير ، وقلنا : إنّ تكليف الأخير تكليفٌ وضعي وتكليفَ مَنْ قَبْلَه تكليفٌ صرف - كما اختار ذلك صاحب ( الجواهر )(3) - فحينئذٍ – بناءً على هذا - تكون العهدة ثابتةً من قبل الأخير بالنسبة إليه . أمّا الذمّة ، فلا ثبوت لها بالنسبة إليه ؛ ولذا يجب عليه دفع الكتاب إلى صاحبه ، ثمّ يرجع إلى ما قبل الأخير بقيمته .
ج - ما لو فرض أنّ شخصاً ضَمِنَ دَين الغير ، وقلنا في الضمان بمذهبٍ لا يقول به أكثر فقهائنا ؛ فإنّ أكثر فقهائنا يقولون : إنّ الضمان هو نقل الدَّين من ذمّةٍ إلى ذمّة(4) ، وأكثر فقهاء أهل السنّة يقولون : إنّه ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّة(5) ، وبعض الفقهاء يقولون‌ : إنّ الضمان ليس هذا ولا ذاك ، إنّما هو نقل المسؤوليّة ، أي التعهّد ، بمعنى بقاء المديون الأوّل على حاله ، مع تعهّد . (6)
وهنا ، إذا قلنا : إنّ الضمان عبارة عن التعهّد ، وعن المشاركة بالمسؤوليّة أو نقل المسؤوليّة ، فحينئذٍ تكون عهدة هذا الضامن في المقام ثابتةً بالنسبة إليه ، أمّا الذمّة فغير موجودة بالنسبة إليه .
د - من يبيع عيناً خارجيّة بعوض ؛ فإنّ هذا ليس مديوناً ، إلّاأنّ في عُهدته تسليم هذا المال إلى المشتري ؛ فهو مسؤول عن ذلك : إمّا مسؤوليّةً قانونيّةً إذا قلنا : إنّ تسليم المبيع أحد الاُمور الواجبة في نفسه قانونيّاً ، بحيث يكون ذلك من شؤون المعاملة ؛ وإمّا عبر الشرط الضمني في المعاملة . فهو على أ يّة حال يحمل في عهدته تسليم المبيع ، لكنّه لا يُسمّى ديناً .
هـ - نفقة الأقارب غير الزوجة ؛ فإنّها عهدة وليست ذمّة ؛ لأنّ ذمّته لا تشتغل ، لكنّه مسؤول مسؤوليّةً قانونيّة عن ذلك .
3 - أمّا موارد انفكاك الذمّة عن العهدة ، فكما لو فرض أنّ ذمّة زيد كانت مشغولةً لشخص ، ثمّ أصبح كافراً حربيّاً ، فهذا الكافر يسقط احترام ماله ، وهو سقوط عهدته ، لكنَّ ذمّته تبقى ثابتةً بالنسبة إلى زيد .

مقولة الذمّة بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي‌:

يختلف تصوّر الذمّة في الفقه الغربي عنه في فقهنا الإسلامي ، وهو اختلاف مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بالاختلاف في تصوّر مفهوم الدَّين نفسه ؛ حيث نتصوّر نحن الذمّةَ وعاءً للدَّين ، وهنا يبدأ رأسُ الخيط وتمييزُ تصوّرنا للدَّين عن تصوّر الفقه الغربي ، أو بالأحرى : الفقه الروماني الذي ورث عنه الفقه الغربي تصوّراته الأساسيّة ومقولاته الكلّيّة .
1 - إنّ الدَّين في الفقه الإسلامي - بحسب ما يعزّزه الارتكاز المعاش والأساليب التي تعبّر عنه ، والتي وردت في تمام النصوص الدينيّة المنقولة عن سيّد المرسلين صلى الله عليه و آله وعن الأئمّة عليهم السلام - عبارة عن مالكيّة مالٍ ملحوظٍ بنحو المعنى الحرفي ، وهذا المال حيث كان ملحوظاً بالمعنى الحرفي لا الاسمي ، كان محتاجاً إلى سند يشدّ إليه ويربط به ، وهذا السند هو المدين ، والشدّ يكون بلحاظ وعاءٍ هو وعاء الذمّة ؛ فالدَّين يرجع إلى ملكيّة مالٍ ، إلّاأنّ هذا المال مالٌ بنحو المعنى الحرفي .
من هنا ، لم تكن الملكيّة في الفقه الإسلامي مقصورةً على خصوص الأعيان الخارجيّة ، ولم تكن حقّاً عينيّاً محضاً كما هي الحال في الفقه الغربي ؛ فما يبدو من الباحثين المقارنين للفقه الغربي بالفقه الإسلامي من الاعتراف بأنَّ الملكيّة في الفقه الإسلامي حقّ عيني‌(7) - فهو بذلك من الملكيّة في الفقه الإسلامي كما في الفقه الغربي - خطأٌ ناتجٌ عن عدم استيعاب مفهوم الدَّين في الفقه الإسلامي ، وإلّا فالملكيّة حقٌّ ، وقد تكون متعلّقةً بعين خارجيّة ، وقد تكون متعلّقة بمالٍ ذمّي ؛ أي أ نّها حقّ يتعلّق : إمّا بالمعنى الحرفي للمال ، أو بالمعنى الاسمي له ، وليست مخصوصةً بالأموال بوجودها الخارجي .
هذا هو الدَّين في تصوّر الفقه الإسلامي .
2 - أمّا الدَّين في مفهوم الفقه الغربي ، فهو عبارة عن مجرّد التزام من المدين بأن يدفع ديناراً مثلاً للدائن ، وهذا الالتزام هو العلاقة التي بلحاظها ينتزع عنوان المديونيّة من الملتزم وعنوان الدائنيّة من الملتزم له ، دون أن يكون هناك ملكيّة ومالك ومملوك بالفعل .
وهذا الالتزام يشبهه في فقهنا الإسلامي شرطُ التمليك فيما لو فرض أنْ شرط أحدها على الآخر في المعاملة أن يملّكه مالاً بنحو شرط الفعل ، لا بنحو شرط النتيجة ، إلّاأنّ هذا الالتزام عندهم يكفي لتصحيح عنوان الدائنيّة والمدينيّة ؛ ولهذا يسمّون هذا الدَّين شخصيّاً ؛ باعتبار كونه علاقةً قائمة بين الشخصين‌(8) .
وهذا التصوّر للدَّين في الفقه الغربي تترتّب عليه عدّة اُمور :
الأمر الأوّل :
استغناء الدَّين عن الوعاء الذي كان يحتاج إليه في الفقه الإسلامي ؛ لأنّ الدَّين بمفهومه في الفقه الإسلامي عبارة عن مالٍ مملوك ، وهذا المال المملوك ملحوظ بنحو المعنى الحرفي وليس له وجودٌ في الخارج . إذن : فأين يوجد هذا المال المملوك ؟ ! وإذا لم يكن له وجود خارجي فما معنى كونه مملوكاً ؟ !
إنّ معنى ذلك هو أ نّه مملوك استطراقاً إلى أن يتحوّل إلى موجود خارجي ، وهذه الاستطراقيّة تجعله مشدوداً إلى شخص ؛ لأجل أن يقوم ذلك الشخص بتحويله إلى ذلك المال الخارجي . من هنا تصوّرنا مملوكاً عليه ، أي صار هذا المال مملوكاً على ذلك الشخص ، وهو ما لا يتصوّر إلّابأن يكون هذا المال موجوداً في حيازة ذلك الشخص حتّى يكون مملوكاً عليه . وحيث لا حيازة خارجيّة ، فلا بدَّ من فرض حيازةٍ اعتباريّة ملتصقة بذات الشخص عينه ، فيكون هذا المال موجوداً في ذلك الوعاء الاعتباري حتّى يصحّ أن يقال : إنّنا ملكنا هذا المال .
أمّا إذا لم يكن عندنا باب اسمه : باب ( الملكيّة ) و ( المالكيّة ) و ( المملوكيّة ) ، وإنّما مجرّد التزام من قبل شخص بأن يملك وأن يدفع ديناراً إلى آخر ، فلا نحتاج هنا إلى فرض وعاءٍ لهذا الدينار ، بل هناك التزامٌ فحسب ، ولهذا الالتزام وعاءٌ خارجي تكويني هو نفس الملتزم ، فلا نحتاج إلى فرض وعاءٍ اعتباري . من هنا استغنى الفقه الغربي عن ذلك الوعاء الذي احتاج إليه الفقه الإسلامي .
الأمر الثاني :
ومن جملة الآثار المترتّبة على هذا الفرق في تصوّر الدَّين ما أشرنا إليه في بداية الحديث : من أنّ الدَّين - بحسب تصوّر الفقه الغربي - أصبح عبارةً عن علاقة بين الدائن والمدين ؛ لأنَّ هذه العلاقة جوهرُها عبارةٌ عن هذا الالتزام ، أي الالتزام بأن يدفع ديناراً إلى شخص آخر ، وهذا الالتزام كان يشدّ الدائن والمدين بحبل ؛ ولهذا قلنا : إنّهم يعبّرون عن الدَّين بـ ( الحقّ الشخصي ) ؛ لأنّه علاقة وسلطنة لشخص على آخر ، بخلاف الملكيّة عندهم ؛ فإنّها علاقة قائمة بين الشخص والمال الخارجي ، أي بينه وبين هذا الكتاب مثلاً ، أو بينه وبين هذه الخشبة .
أمّا في باب الدَّين ، فحيث قالوا : إنّه منتزع عن مجرّد التزام شخص بأن يدفع مالاً إلى آخر ، فهذا الالتزام إذن علاقة شخصيّة تشدّ الملتزم بالملتزم به ، وهي كالخيط الذي يطوَّق به المدين ويمسك به الدائن من الطرف الآخر ، وحيث كانت المدينيّة والدائنيّة تستلزمان - بحسب الارتكاز العقلائي - شيئاً من المقهوريّة في هذا الطرف والقاهريّة في الطرف الآخر ، وحيث تصوّرنا الدَّين بوصفه علاقةً قائمة بين الطرفين ، ساعد هذا التسلسل في التصوّر الذهني على تصوّر الدائن ذا سلطنةٍ على المدين وأنّ له نحو قاهريّة عليه ، فكان الالتزام حبلاً يُشدّ على رقبة المدين يمسكه الدائن بيده .
من هنا ، كان الفقه الروماني الذي ورثه الفقه الغربي يرى أنّ للدائن حقّ التحكّم بالمدين على فرض تخلّف الأخير عن الوفاء ، فكأ نّه يبقى رهيناً له ؛ لأنّ الدَّين علاقة بين الشخصين ، مظهرها هنا المقهوريّة ، ومظهرها هناك القاهريّة ، فيكون المدين مقهوراً ومسلَّطاً عليه ، ويكون الدائن متسلّطاً ، وقد تنتهي هذه القاهريّة - كما انتهت في تشريعات الفقه الروماني الذي ورثه الفقه الغربي - إلى تجويز الاسترقاق‌(9)
بل أحياناً إلى ما هو أشدّ من ذلك ، وذلك كلّه من تبعات‌ تصوير كون الدَّين علاقةً شخصيّة تظهر في هذا الطرف بمظهر المقهوريّة وتظهر في الطرف الآخر بمظهر القاهريّة .
ورغم انفتاح الفقه الغربي - وريث الفقه الروماني - على مفاهيم العدالة التي تأبى جعل المدين تحت رحمة الدائن بهذا الشكل يتحكّم به كما يشاء ويسترقّه كما يشاء ، إلّاأنّ هذا الفقه لم يرفع يده عن التصوّر الأساس لمفهوم الدَّين الموروث عن الفقه الروماني ، فبقي يحافظ على كونه التزاماً ، والالتزام يتحوّل إلى خيط وحبل ، وهذا الحبل يشدّ المدين بالدائن ؛ فهو حقٌ شخصيٌّ مظهره هناك المقهوريّة ومظهره هنا القاهريّة .
لكن رغم ذلك ، قام الفقه الغربي بممارسة تفكيك غريب ؛ حيث فرّق بين خطّ المديونيّة وخطّ المقهوريّة : فخطّ المديونيّة هو ذات الإنسان ، أمّا خطّ المقهوريّة والمسؤوليّة فهو ماله لا ذاته‌(10) .
من هنا : حيث تمّ التفريق بين اللازم والملزوم ، تحفّظ الفقه الغربي على جوهر العلاقة ، لكنّه لم يقبل الخلط بين المديونيّة والمقهوريّة ؛ فالمديون هو ذات الإنسان ، أمّا المقهور فهو الذي يقع تحت السيطرة والتحكّم ، فليس هو المديون عينه وإنّما ماله ، ففرّق ما بينهما بذلك .
أمّا بناءً على تصوّرات الفقه الإسلامي للدَّين ، فهي أكثر راحةً - من بداياتها - من مثل هذه التصوّرات التي تؤدّي إلى مثل هذه المضاعفات ؛ وذلك أنّ الدَّين - بحسب الفقه الإسلامي - ليس علاقةً قائمةً وحبلاً ممدوداً بين الدائن والمدين ، بل هو مالكيّةُ الدائن لمالٍ ذمّي بالمعنى الحرفي ؛ فالعلاقة والسلطة - على تقديرهما - إنّما هما سلطة لهذا الشخص على هذا المال بنحو المعنى‌ الحرفي المعرّف والمشير إلى مالٍ خارجي لزيدٍ على وجه الإبهام . وعلى فرض أنّ زيداً هو المدين وعمرواً هو الدائن ، فعمرو هنا ليس له سلطة على زيد ، وليس له حبل مشدود برقبته ، وإنّما له سيطرة على معنىً حرفي مشير إلى مالٍ خارجي لزيد على وجه الإبهام . نعم ، حيث إنّ هذا المعنى الحرفي إنّما جُعِل وتُصُوِّر لأجل أن ينتهي إلى معنى اسمي ويتحوّل إليه ، لا لأجل أن يبقى معنى حرفيّاً على الإطلاق ، لذا تتحدّد مسؤوليّة المدين بمقدار تحويل المعنى الحرفي إلى الاسمي لا أكثر ؛ فيتعهّد حينئذٍ بأن يحوّل هذا المعنى الحرفي إلى اسمي : فإن أمكن ذلك فهو ، وإلّا : «فَنَظِرَةٌ إِلَى‌ََ مَيْسَرَة »كما جاء في القرآن الكريم‌ .
وأظنّ أنّ تصوّر الفقه الغربي كان منسجماً مع طبيعة الوضع الاجتماعي الذي كان يغلب الدائن فيه على المدين ، أي أنّ ذاك الوضع هو الذي خلق في ذهن الفقه الروماني هذا النوع من التصوّرات ، والتي ورثها الفقه الغربي فيما بعد . وحينما تغيّرت الظروف الاجتماعيّة للفقه الغربي وأراد التحرّر من ذلك النوع من الظلم ، بقي محتفظاً بتلك التصوّرات ، غاية الأمر أدخل عليها بعض التعديلات التي أشرنا إليها .
الأمر الثالث :
إنّ الدَّين حيث كان عبارةً عن مجرّد التزام شخص بأن يدفع ديناراً إلى آخر ، استحال على الفقه الروماني تصوّر كيف ينتقل الدّين من شخص إلى آخر.
ونقل الدَّين من شخصٍ إلى آخر له معنيان : تارةً تبديل المدين ، واُخرى‌ تبديل الدائن : فتارةً نفرض أنّ مالاً يملكه زيد في ذمّة عمرو ، فنبدّل المدين ؛ فنجعل مكان عمرو خالداً . واُخرى‌ نجعل مكان زيد - الدائن - حسيناً .
إذن : تارةً يكون التبديل تبديلاً في الدائن ، واُخرى‌ تبديلاً في المدين ، وتبديل الدائن يسمّيه الفقه الغربي : ( حوالة الحقّ ) ، فيما يسمّي تبديل المدين : ( حوالة الدَّين ) ، إلّاأنّ حوالة الحقّ وحوالة الدَّين قد أصبحتا من المستحيلات أمام الفقه الروماني ؛ لأنّ الدَّين التزام عمرو لزيد بدينار ، وهو أمرٌ قائم بطرفين : الملتزِم والملتزَم له ، ولو بُدّل المدين نقول : « التزام بكر لزيد » لا « التزام عمرو لزيد » ، وهذا فردٌ آخر من الالتزام . وكذا لو بدّلنا الدائن ، نقول : « الالتزام لعمرو » لا « لزيد » ، وهذا فردٌ آخر من الالتزام .
إذن : ذاك الفرد من الدَّين غير قابل للانتقال في المقام ، لا من طرف المدين ( حوالة الدَّين ) ولا من طرف الدائن ( حوالة الحقّ ) .
من هنا بقي الفقه الروماني لا يقرّ بالحوالة - لا حوالة الدَّين ولا حوالة الحقّ - بوجهٍ من الوجوه ، مع شعوره بضرورتها ، وكان العقلاء يتعاملون خارجاً عبر الاحتيال ، كما يحتال فقهاؤنا في موارد الربا ؛ فيطبّقون موارد الحوالة الخارجيّة على غير باب الحوالة ، وكانوا يرجعون المسألة إلى باب التوكيل مثلاً ، ونحو ذلك .
نعم ، يقرّ الفقه الغربي ويعترف هنا بالنسبة إلى الوارث ، أي أنّ الوارث ينتقل إليه الحقّ الشخصي للمورّث، بل سلّم أخيراً بأ نّه ينتقل إليه أيضاً الدَّين على المورّث بحيث يكون مديوناً ، وهذا من شواهد كون باب الإرث من الامتداد الذي تحدّثنا عنه سابقاً ؛ فكأنّ الوارث امتدادٌ للمورّث . من هنا ، لم‌ يشعر الفقه الروماني بالاستحالة ، بل قال بأنّ هذا ليس تحميلاً لشخص ، بل هو امتدادٌ للمورّث ؛ فاستثنى لذلك هذا المورد من قانون الاستحالة عنده . وبهذا سلّم الفقه الجرماني بالحوالة دون الفقه اللاتيني : فسلّم أوّلاً بحوالة الحقّ - أي تبديل الدائن - ثمّ سلّم بعد هذا بحوالة الدَّين .
وقد قيل : إنّ الالتزام له نظرتان : نظرة ذاتيّة ، ونظرة مادّيّة : فالنظرة الذاتيّة تعني الالتزام ، كالتزام زيد لعمرو بدرهم . أمّا النظرة المادّيّة ، فالمقصود منها النظرة الماليّة .
وهذا الالتزام له ثلاثة أطراف : ملتزم ، وملتزم له ، وملتزم به . وهذه الأطراف الثلاثة تعدّ مقوّمةً بالنظرة الذاتيّة ؛ أمّا بالنظرة المادّيّة ، فهناك طرفٌ واحد مقوّم ، وهو الملتزم به ، أي الدرهم أو الدينار ، أمّا الطرفان الآخران ، فليسا مهمّين بحسب هذه النظرة .
من هنا ، شقّقوه وجزّأوه وحلّلوه إلى مطلبين بغية تعقّل مفهوم الحوالة التي لا تحتاج إلى هذا المقدار من التكلّف ، فقالوا بعدم قابليّة الجانب الذاتي فيه للنقل .
أمّا الجانب الموضوعي - أو المادّي - فيَقبل ؛ ومن هنا أجازوا حوالة الحقّ ، ثمّ حوالة الدَّين . وإنّما جازت حوالة الحقّ أوّلاً باعتبار أنّ طرفيّة الدائن للمال أضعف من طرفيّة المدين له‌(11)
أي أنّ التصاق الالتزام بالملتزَم له أهون من التصاقه بالملتزِم . من هنا استعدّوا أوّلاً للتنازل عن علاقته بالملتزَم له قبل أن يغدوا مستعدّين ثانياً للتنازل عن علاقته بالملتزِم .
هذه هي مسيرة هذه المسألة في الفقه الروماني ثمّ الغربي ، نتيجةً لمعنى الدَّين في هذا الفقه .
أمّا الفقه الإسلامي ، فلم يعش هذه المشكلة من أوّل الأمر ؛ وذلك لأنّ الدّين عنده لم يكن عبارة عن التزام ، وإنّما هو ملك مالٍ في الذمّة ، فيكون نقله على حدّ نقل الأموال الخارجيّة دون مواجهة أيّة مشكلة في المقام ، فواقع الأمر ليس وصول الفقه الإسلامي قبل 1300 عام إلى ما وصل إليه الفقه الجرماني اليوم‌(12)
وإنّما هو عدم إحساس الفقه الإسلامي بوجود مشكلة من الأساس ، تلك المشكلة التي ظلّ يعيشها الفقه الروماني ، ثمّ الفقه الغربي اللاتيني ، ثمّ الفقه الجرماني ؛ فلا موضوع لهذه المشكلة في الفقه الإسلامي ، تبعاً لاختلاف صورة الدَّين اختلافاً أساسيّاً في الفقهين معاً .
المصادر :
1- منية الطالب في شرح المكاسب 1 : 308 ؛ المكاسب والبيع ( النائيني ) 1 : 352 ؛ حاشية كتاب المكاسب ( الإصفهاني ) 2 : 313 ، 325 و 3 : 110
2- المباني في شرح العروة الوثقى ( المضاربة والمساقاة ) : 466 . وقد تعرّض الشهيد الصدر قدس سره لهذا البحث في أبحاثه الاُصوليّة ، فراجع : مباحث الاُصول ق 2 ، 4 : 291 ، 292 ، 598
3- جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 26 : 113 ، 37 : 34
4- الخلاف 3 : 314 ؛ المكاسب والبيع ( النائيني ) 2 : 297 ؛ مصباح الفقاهة 2 : 229 . وراجع : البنك اللاربوي في الإسلام : 231 ، الملحق ( 9 )
5- المجموع ( النووي ) 13 : 434 - 435 ؛ بدائع الصنائع ( الكاشاني ) 6 : 10 ؛ المغني والشرح الكبير ( موفّق الدين وشمس الدين ابنا قدامة ) 5 : 59 ؛ الموسوعة الفقهيّة 18 : 170
6- ردّ المحتار على الردّ المختار ( حاشية ابن عابدين ) 4 : 291 ؛ المدخل الفقهي العام 3 : 63
7- مصادر الحقّ في الفقه الإسلامي 1 : 25
8- الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 1 : 107 - 109
9- المصدر السابق 1 : 107
10- المصدر السابق 1 : 108 - 109 ، الهامش
11- الوسيط في شرح القانون المدني الجديد 3 : 418
12- المدخل الفقهي العامّ 3 : 57

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

و العاقبة للمتقین
فلسفة الصوم من منظور علمي
سمات الغضب عند المراھقین والشباب
القرائن المفيدة لمعنى الحاكمية في حديث الغدير
حجّ الإمام عليّ(عليه السلام)
ادخال ما لیس من الدین فی الدین
مرقدها (زينب الکبري سلام الله عليها)
السعادة في النظام الاخلاقي الاسلامي
تنشيط نظام المناعة بالصيام
المقام العلمي للإمام الباقر عليه السلام

 
user comment