عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

نماذج الشفاعة في القران الکريم

نماذج الشفاعة في القران الکريم

الملك والسلطان الدنيوي بأنواعه وأقسامه وبجميع شؤونه، وقواه المقنّنة الحاكمة والمجرية مبتنية على حوائج الحياة، وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية والمكانية، فربّما بدّل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلّي يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضاً فإنّ الجرم والجناية عندهم يستتبع العقاب، وربّما بدّل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كأن يلحّ المحكوم الّذي يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحقّ، أو يبعث المجرم شفيعاً يتوسّط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلاً وبدلاً إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذلك المجرم، أو يستنصر قومه فينصروه فيتخلّص بذلك عن تبعة العقاب ونحو ذلك.
﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾(1)
تلك سنّة جارية وعادة دائرة بينهم، وكانت الملل القديمة من الوثنيين وغيرهم تعتقد أنّ الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطّرد فيها قانون الأسباب ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثُّر المادّي الطبيعي، فيقدّمون إلى آلهتهم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الإمداد في حوائجهم، أو يستشفعون بها، أو يفدون بشيء عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتّى إنّهم كانوا يدفنون مع الأموات أنواع الزخرف والزينة، ليكون معهم ما يتمتّعون به في آخرتهم، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم، وربّما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها، ومن الأبطال من يستنصر به الميت .
وتوجد اليوم في المتاحف بين الآثار الأرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل، ويوجد عقائد متنوّعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الإسلامية على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، بقيت بينهم بالتوارث، ربّما تلوّنت لوناً بعد لون، جيلاً بعد جيل، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية، والأقاويل الكاذبة، فقد قال عزّ من قائل: ﴿وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ ، وقال: ﴿وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ﴾، وقال﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ ، وقال: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ ، إلى غير ذلك من الآيات الّتي بيّن فيها: أنّ الموطن خال عن الأسباب الدنيوية، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية، وهذا أصل يتفرّع عليه بطلان كلّ واحد من تلك الأقاويل والأوهام على طريق الإجمال، ثمّ فصّل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ ، وقال: ﴿يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ﴾، وقال: ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا﴾ ، وقال: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ ، وقال: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ ، وقال: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ، وقال: ﴿مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ ، وقال: ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط والأسباب يوم القيامة هذا.
ثمّ إنّ القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها، بل يثبتها بعض الإثبات، قال تعالى:﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ ، وقال تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ﴾ ، وقال تعالى: ﴿قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾، وقال تعالى: ﴿لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾, وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ ، وقال: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ، وقال: ﴿لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ ، وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ ، وقال تعالى:﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ ، وقال تعالى: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾.
فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عزّ اسمه كالآيات الثلاثة الأولى وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب، غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الأصالة لله وحده من غير شريك، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه، وقد عرفت أنّ هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره، وإثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه، قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ﴾ ، وقال تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ﴾ وقال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾، وكذلك الآيات الناطقة في التوفّي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فإنّها شائعة في أسلوب القرآن، حيث ينفي كلّ كمال عن غيره تعالى، ثمّ يثبته لنفسه، ثمّ يثبته لغيره بإذنه ومشيته، فتفيد أنّ الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها واستقلالها، وإنّما تملكها بتمليك الله لها إيّاها، حتّى أنّ القرآن يثبت نوعاً من المشية في ما حكم فيه وقضى عليه بقضاء، حتم كقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾.
فقد علّق الخلود بالمشية وخاصّة في خلود الجنّة مع حكمه بأنّ العطاء غير مجذوذ، إشعاراً بأنّ قضاءه تعالى بالخلود لا يخرج الأمر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عزّ سلطانه كما يدلّ عليه قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ ، وبالجملة لا إعطاء هناك
يخرج الأمر من يده ويوجب له الفقر، ولا منع يضطره إلى حفظ ما منعه وإبطال سلطانه تعالى.
ومن هنا يظهر أنّ الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنّما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الأصالة، ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى بإذنه
فلننظر ماذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة ومتعلّقها؟ وفيمن تجري؟ وممّن تصح؟ ومتى تتحقّق؟ وما نسبتها إلى العفو والمغفرة منه تعالى؟ ونحو ذلك في أمور.
1- ما هي الشفاعة؟...
2- إشكالات الشفاعة...
3- فيمن تجري الشفاعة؟
قد عرفت أنّ تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدِّينية كلّ الملاءمة إلّا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب إبهام وعلى ذلك جرى بيان القرآن، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ ، بيّن سبحانه فيها أنّ كلّ نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب، مأخوذة بما أسلفت من الخطايا إلّا أصحاب اليمين فقد فكّوا من الرهن وأطلقوا واستقرّوا في الجنان، ثمّ ذكر أنّهم غير محجوبين عن المجرمين الّذين هم مرهونون بأعمالهم، مأخوذ عليهم في سقر، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار، وهم يجيبون بالإشارة إلى عدّة صفات ساقتهم إلى النار، فرّع على هذه الصفات بأنّه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.
ومقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متّصفين بهذه الصفات الّتي يدلّ الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة، وإذا كانوا غير متّصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة وقد فكّ الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب والآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة، المسلوكين في سقر، فهذا الفكّ والإخراج إنّما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفعون بالشفاعة، وفي الآيات تعريف أصحاب اليمين بانتفاء الأوصاف المذكورة عنهم، بيان ذلك: أنّ الآيات واقعة في سورة المدثر وهي من السور النازلة بمكة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها، ولم يشرع يومئذ الصلاة والزكاة بالكيفية الموجودة اليوم، فالمراد بالصلاة في قوله لم نك من المصلين التوجه إلى الله تعالى بالخضوع العبودي، وبإطعام المسكين مطلق الإنفاق على المحتاج في سبيل الله، دون الصلاة والزكاة المعهودتين في الشريعة الإسلامية والخوض هو الغور في ملاهي الحياة وزخارف الدنيا الصارفة للإنسان عن الإقبال على الآخرة وذكر الحساب يوم الدِّين، أو التعمُّق في الطعن في آيات الله المذكرة ليوم الحساب المبشرة المنذرة، وبالتلبس بهذه الصفات الأربع، وهي ترك الصلاة لله وترك الإنفاق في سبيل الله والخوض وبتكذيب يوم الدِّين ينهدم أركان الدِّين، وبالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فإن الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالإعراض عن الإخلاد إلى الأرض والإقبال إلى يوم لقاء الله، وهذان هما ترك الخوض وتصديق يوم الدِّين ولازم هذين عملاً التوجه إلى الله بالعبودية، والسعي في رفع حوائج جامعة الحياة وهذان هما الصلاة والإنفاق في سبيل الله، فالدِّين يتقوّم بحسب جهتي العلم والعمل بهذه الخصال الأربع، وتستلزم بقية الأركان كالتوحيد والنبوة استلزاماً هذا، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة، وهم المرضيون ديناً واعتقاداً سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن، وهم المعنيّون بالشفاعة، فالشفاعة للمذنبين من أصحاب اليمين، وقد قال تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ ، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من أهل الكبائر، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفّراً عنه، فقد بان أنّ الشفاعة لأهل الكبائر من أصحاب اليمين، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، الحديث.
ومن جهة أخرى إنّما سمي هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال وربما سموا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشأمة، وهو من الألفاظ الّتي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الإنسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله، قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾32 ، وسنبين في الآية إن شاء الله تعالى أن المراد من إيتاء الكتاب باليمين اتباع الإمام الحق، ومن إيتائه بالشمال اتباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون:﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾، وبالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضاً إلى ارتضاء الدِّين كما أنّ إليه مرجع التوصيف بالصفات الأربعة المذكورة هذا.
ثمّ إنّه تعالى قال في موضع آخر من كلامه: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ ، فأثبت الشفاعة على من ارتضى، وقد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل ونحوه، كما فعله في قوله:﴿إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ ، ففهمنا أنّ المراد به ارتضاء أنفسهم أي ارتضاء دينهم لا ارتضاء عملهم، فهذه الآية أيضاً ترجع من حيث الإفادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثمّ إنّه تعالى قال ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا* وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا﴾ فهو يملك الشفاعة أي المصدر المبني للمفعول وليس كلّ مجرم بكافر محتوم له النار، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى﴾ ، فمن لم يكن مؤمناً قد عمل صالحاً فهو مجرم سواء كان لم يؤمن، أو كان قد آمن ولم يعمل صالحاً، فمن المجرمين من كان على دين الحقّ لكنّه لم يعمل صالحاً وهو الّذي قد اتخذ عند الله عهداً لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ فقوله تعالى: ﴿وَأَنْ اعْبُدُونِي﴾ عهد بمعنى الأمر وقوله تعالى: هذا صراط مستقيم، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة والنجاة، فهؤلاء قوم من أهل الإيمان يدخلون النار لسوء أعمالهم، ثمّ ينجون منها بالشفاعة، وإلى هذا المعنى يلوح قوله تعالى ﴿وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا﴾ ، فهذه الآيات أيضاً ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة، والجميع تدلّ على أنّ مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحقّ من أصحاب الكبائر، وهم الّذين ارتضى الله دينهم.
4- من تقع منه الشفاعة؟
قد عرفت أنّ الشفاعة منها تكوينية، ومنها تشريعية، فأمّا الشفاعة التكوينية فجملة الأسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه وبين الأشياء.
وأمّا الشفاعة التشريعية، وهي الواقعة في عالم التكليف والمجازات، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قرباً وزلفى، فهو شفيع متوسّط بينه وبين عبده.
ومنه التوبة كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ﴾39 ، ويعمّ شموله لجميع المعاصي حتّى الشرك.
ومنه الإيمان قال تعالى: ﴿وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ، إلى قوله: وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾.
ومنه كل عمل صالح.
قال تعالى:﴿وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ والآيات فيه كثيرة، ومنه القرآن لقوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
ومنه كلّ ما له ارتباط بعمل صالح، والمساجد والأمكنة المتبركة والأيام الشريفة، ومنه الأنبياء والرسل باستغفارهم لأممهم.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾.
ومنه الملائكة في استغفارهم للمؤمنين، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ ، وقال تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ومنه المؤمنون باستغفارهم لأنفسهم ولإخوانهم المؤمنين.
قال تعالى حكاية عنهم ﴿ َاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا﴾.
ومنها الشفيع يوم القيمة، بالمعنى الّذي عرفت، فمنهم الأنبياء، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ إلى أن قال: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾48 ، فإن منهم عيسى بن مريم وهو نبيّ، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾49، والآيتان تدلان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضاً لأنّهم قالوا إنّهم بنات الله سبحانه.
ومنهم الملائكة، قال تعالى: ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾ ، وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾. ومنهم الشهداء لدلالة قوله تعالى: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ،على تملّكهم للشفاعة لشهادتهم بالحقّ، فكلّ شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير أنّ هذه الشهادة كما مرّ في سورة الفاتحة وسيأتي في قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾شهادة الأعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال، ومن هنا يظهر أنّ المؤمنين أيضاً من الشفعاء فإنّ الله عزّ وجلّ أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ﴾ ، كما سيجيء بيانه.
5- بماذا تتعلّق الشفاعة؟
قد عرفت أنّ الشفاعة منها تكوينية تتعلّق بكلّ سبب تكويني في عالم الأسباب ومنها شفاعة تشريعية متعلّقة بالثواب والعقاب فمنها ما يتعلّق بعقاب كلّ ذنب، الشرك فما دونه كشفاعة التوبة والإيمان قبل يوم القيامة ومنها ما يتعلّق بتبعات بعض الذنوب كبعض الأعمال الصالحة، وأمّا الشفاعة المتنازع فيها وهي شفاعة الأنبياء وغيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممن استحقّه بالحساب، فقد عرفت في الأمر الثالث أنّ متعلّقها أهل المعاصي الكبيرة ممن يدين دين الحقّ وقد ارتضى الله دينه.
6- متى تنفع الشفاعة؟
ونعني بها أيضاً الشفاعة الرافعة للعقاب، والّذي يدلّ عليه قوله سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ ، فالآيات كما مرّ دالّة على توصيف من تناله الشفاعة ومن يحرم منها غير أنّها تدلّ على أنّ الشفاعة إنّما تنفع في الفكّ عن هذه الرهانة والإقامة والخلود في سجن النار، وأمّا ما يتقدّم عليه من أهوال يوم القيامة وعظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدلّ الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار.و اعلم أنّه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد استقرار أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار وتعلّق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار، وذلك لمكان قوله: في جنّات، الدالّ على الاستقرار وقوله: ما سلككم فإنّ السلوك هو الإدخال لكن لا كلّ إدخال بل إدخال على سبيل النضد والجمع والنظم ففيه معنى الاستقرار وكذا قوله: فما تنفعهم، فإنّ ما لنفي الحال، فافهم ذلك.
وأمّا نشأة البرزخ وما يدلّ على حضور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام عند الموت وعند مساءلة القبر وإعانتهم إيّاه على الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ ، فليس من الشفاعة عند الله في شيء وإنّما هو من سبيل التصرّفات والحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ﴾ إلى أن قال: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ ، ومن هذا القبيل من وجه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ ، فوساطة الإمام في الدعوة، وإيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فافهم.
فتحصّل أنّ المتحصّل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة باستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار، أو إخراج بعض من كان داخلا فيها، باتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.
بعد أن بحثنا جانباً من تفسير العلّامة الطباطبائي للآيتين: 47 48 من سورة البقرة: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ نكمل تفسيره، وهنا يبحث العلّامة بحثاً روائياً وفلسفياً واجتماعياً.
بحث روائي
في أمالي الصدوق، عن الحسين بن خالد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي، فأمّا المحسنون منهم فما عليهم من سبيل، قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا عليه السلام يا بن رسول الله فما معنى قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ قال عليه السلام لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه(2)
وفي تفسير العياشي، أيضاً: عن أحدهما عليهما السلام: في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً، قال: هي الشفاعة(3)
وفي تفسير القمّي، أيضاً: في قوله تعالى: ولا تنفع الشفاعة عنده إلّا لمن أذن له. قال عليه السلام: لا يشفع أحد من أنبياء الله ورسله حتّى يأذن الله له إلّا رسول الله فإنّ الله أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة، والشفاعة له وللأئمّة من ولده ثمّ من بعد ذلك للأنبياء(4).
وفي الخصال عن عليّ عليه السلام قال قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاثة يشفعون إلى الله عزّ وجلّ فيشفعون: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء(5).
أقول: الظاهر أن المراد بالشهداء، شهداء معركة القتال كما هو المعروف في لسان الأئمّة في الأخبار لا شهداء الأعمال كما هو مصطلح القرآن.
وفي الخصال، في حديث الأربعمائة: وقال عليه السلام: لنا شفاعة ولأهل مودّتنا شفاعة(6).
أقول: وهناك روايات كثيرة في شفاعة سيدة النساء فاطمة عليها السلام وشفاعة ذريتها غير الأئمّة وشفاعة المؤمنين حتّى السقط منهم....
وفي الخصال بأسانيد عن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان يوم القيامة تجلّى الله عزّ وجلّ لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنباً ذنباً ثمّ يغفر الله له لا يطلع الله له ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ويستر عليه أن يقف عليه أحد، ثمّ يقول لسيئاته: كوني حسنات(7)
وفي الأمالي عن الصادق عليه السلام: إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتّى يطمع إبليس في رحمته(8).
أقول: والروايات الثلاث الأخيرة من المطلقات والأخبار الدالّة على وقوع شفاعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة من طرق أئمّة أهل البيت وكذا من طرق أهل السنّة والجماعة بالغة حدّ التواتر، وهي من حيث المجموع إنّما تدلّ على معنى واحد وهو الشفاعة على المذنبين من أهل الإيمان إمّا بالتخليص من دخول النار وإمّا بالإخراج منها بعد الدخول فيها، والمتيقّن منها عدم خلود المذنبين من أهل الإيمان في النار وقد عرفت أنّ القرآن أيضاً لا يدلّ على أزيد من ذلك.
بحث فلسفي
البراهين العقلية وإن قصرت عن إعطاء التفاصيل الواردة كتاباً وسنّة في المعاد لعدم نيلها المقدّمات المتوسّطة في الاستنتاج على ما ذكره الشيخ ابن سينا لكنّها تنال ما يستقبله الإنسان من كمالاته العقلية والمثالية في صراطي السعادة والشقاوة بعد مفارقة نفسه بدنه من جهّة التجرُّد العقلي والمثالي الناهض عليهما البرهان.
فالإنسان في بادىء أمره يحصل له من كلّ فعل يفعله هيئة نفسانية وحال من أحوال السعادة والشقاوة، ونعني بالسعادة ما هو خير له من حيث إنّه إنسان، وبالشقاوة ما يقابل ذلك، ثمّ تصير تلك الأحوال بتكرُّرها ملكة راسخة، ثمّ يتحصّل منها صورة سعيدة أو شقية للنفس تكون مبدأ لهيئات وصور نفسانية، فإن كانت سعيدة فآثارها وجودية ملائمة للصورة الجديدة، وللنفس الّتي هي بمنزلة المادّة القابلة لها، وإن كانت شقية فآثارها أمور عدمية ترجع بالتحليل إلى الفقدان والشر، فالنفس السعيدة تلتذّ بآثارها بما هي إنسان، وتلتذّ بها بما هي إنسان سعيد بالفعل، والنفس الشقية وإن كانت آثارها مستأنسة لها وملائمة بما أنّها مبدأ لها لكنّها تتألّم بها بما أنّها إنسان، هذا بالنسبة إلى النفوس الكاملة في جانب السعادة والشقاوة، أعني الإنسان السعيد ذاتاً والصالح عملاً والإنسان الشقي ذاتاً والطالح عملاً، وأمّا الناقصة في سعادتها وشقاوتها فالإنسان السعيد ذاتاً الشقي فعلاً بمعنى أن يكون ذاته ذات صورة سعيدة بالاعتقاد الحقّ الثابت غير أنّ في نفسه هيئات شقية ردية من الذنوب والآثام اكتسبتها حين تعلّقها بالبدن الدنيوي وارتضاعها من ثدي الاختيار، فهي أمور قسرية غير ملائمة لذاته، وقد أقيم البرهان على أنّ القسر لا يدوم، فهذه النفس سترزق التطهُّر منها في برزخ أو قيامة على حسب قوّة رسوخها في النفس، وكذلك الأمر فيما للنفس الشقية من الهيئات العارضة السعيدة فإنّها ستسلب عنها وتزول سريعاً أو بطيئاً، وأمّا النفس الّتي لم تتمّ لها فعلية السعادة والشقاوة في الحياة الدنيا حتّى فارقت البدن مستضعفة ناقصة فهي من المرجئين لأمر الله عزّ وجلّ، فهذا ما يقتضيه البراهين في المجازاة بالثواب والعقاب المقتضية لكونها من لوازم الأعمال ونتائجها، لوجوب رجوع الروابط الوضعية الاعتبارية بالآخرة إلى روابط حقيقية وجودية هذا.
ثمّ إنّ البراهين قائمة على أنّ الكمال الوجودي مختلف بحسب مراتب الكمال والنقص والشدّة والضعف وهو التشكيك خاصّة في النور المجرّد فلهذه النفوس مراتب مختلفة في القرب والبعد من مبدإ الكمال ومنتهاه في سيرها الارتقائي وعودها إلى ما بدأت منها وهي
بعضها فوق بعض، وهذه شأن العلل الفاعلية بمعنى ما به ووسائط الفيض، فلبعض النفوس وهي النفوس التامة الكاملة كنفوس الأنبياء عليهم السلام وخاصّة من هو في أرقى درجات الكمال والفعلية وساطة في زوال الهيئات الشقية الردية القسرية من نفوس الضعفاء، ومن دونهم من السعداء إذا لزمتها قسراً، وهذه هي الشفاعة الخاصّة بأصحاب الذنوب.
بحث اجتماعي
الّذي تعطيه أصول الاجتماع أنّ المجتمع الإنساني لا يقدر على حفظ حياته وإدامة وجوده إلّا بقوانين موضوعة معتبرة بينهم، لها النظارة في حاله، والحكومة في أعمال الأفراد وشؤونهم، تنشأ عن فطرة المجتمع وغريزة الأفراد المجتمعين بحسب الشرائط الموجودة، فتسير بهدايتها جميع طبقات الاجتماع كلّ على حسب ما يلائم شأنه ويناسب موقعه فيسير المجتمع بذلك سيراً حثيثاً ويتولّد بتألّف أطرافه وتفاعل متفرّقاته العدل الاجتماعي وهي موضوعة على مصالح ومنافع مادّية يحتاج إليها ارتقاء الاجتماع المادّي، وعلى كمالات معنوية كالأخلاق الحسنة الفاضلة الّتي يدعو إليها صلاح الاجتماع كالصدق في القول والوفاء بالعهد والنصح وغير ذلك.
وحيث كانت القوانين والأحكام وضعية غير حقيقية احتاجت إلى تتميم تأثيرها، بوضع أحكام مقرّرة أخرى في المجازاة لتكون هي الحافظة لحماها عن تعدّي الأفراد المتهوّسين وتساهل آخرين، ولذلك كلّما قويت حكومة أيّ حكومة كانت على إجراء مقرّرات الجزاء لم يتوقّف المجتمع في سيره ولا ضلّ سائره عن طريقه ومقصده، وكلّما ضعفت اشتدّ الهرج والمرج في داخله وانحرف عن مسيره فمن التعاليم اللازمة تثبيتها في الاجتماع تلقين أمر الجزاء، وإيجاد الإيمان به في نفوس الأفراد، ومن الواجب الاحتراز من أن يدخل في نفوسهم رجاء التخلُّص عن حكم الجزاء، وتبعة المخالفة والعصيان، بشفاعة أو رشوة أو بشيء من الحيل والدسائس المهلكة،
ولذلك نقموا على الديانة المسيحية ما وقع فيها أنّ المسيح فدى الناس في معاصيهم بصلبه، فالناس يتّكلون عليه في تخليصهم من يد القضاء يوم القيامة ويكون الدِّين إذ ذاك هادما للإنسانية، مؤخّراً للمدنية، راجعاً بالإنسان القهقرى كما قيل.
وأنّ الإحصاء يدلّ من أنّ المتدينين أكثر كذباً وأبعد من العدل من غيرهم وليس ذلك إلّا أنّهم يتّكلون بحقّية دينهم، وادخار الشفاعة في حقّهم ليوم القيامة، فلا يبالون ما يعملون بخلاف غيرهم، فإنّهم خلوا وغرائزهم وفطرهم ولم يبطل حكمها
بما بطل به في المتديّنين فحكمت بقبح التخلّف عمّا يخالف حكم الإنسانية والمدنية الفاضلة.
وبذلك عوّل جمع من الباحثين في تأويل ما ورد في خصوص الشفاعة في الإسلام وقد نطق به الكتاب وتواترت عليه السنة.
ولعمري لا الإسلام تثبت الشفاعة بالمعنى الّذي فسّروها به، ولا الشفاعة الّتي تثبتها تؤثّر الأثر الّذي زعموه لها، فمن الواجب أن يحصل الباحث في المعارف الدينية وتطبيق ما شرّعه الإسلام على هيكل الاجتماع الصالح والمدنية الفاضلة تمام ما رامه الإسلام من الأصول والقوانين المنطبقة على الاجتماع كيفية ذلك التطبيق، ثمّ يحصل ما هي الشفاعة الموعودة وما هو محلّها وموقعها بين المعارف الّتي جاء بها.
فيعلم أوّلاً: أنّ الّذي يثبته القرآن من الشفاعة هو أنّ المؤمنين لا يخلدون في النار يوم القيامة بشرط أن يلاقوا ربّهم بالإيمان المرضي والدِّين الحقّ فهو وعد وعده القرآن مشروطاً ثمّ نطق بأنّ الإيمان من حيث بقائه على خطر عظيم من جهة الذنوب ولا سيّما الكبائر ولا سيّما الإدمان منها والإمرار فيها، فهو على شفا جرف الهلاك الدائم، وبذلك يتحصّل رجاء النجاة وخوف الهلاك، ويسلك نفس المؤمن بين الخوف والرجاء فيعبد ربّه رغبة ورهبة، ويسير في حياته سيراً معتدلاً غير منحرف لا إلى خمود القنوط ولا إلى كسل الوثوق.
وثانياً: أنّ الإسلام قد وضع من القوانين الاجتماعية من مادّياتها ومعنوياتها ما يستوعب جميع الحركات والسكنات الفردية والاجتماعية، ثمّ اعتبر لكلّ مادّة من موادّها ما هو المناسب له من التبعة والجزاء من دية وحدّ وتعزير إلى أن ينتهي إلى تحريم مزايا الاجتماع واللوم والذّم والتقبيح، ثمّ تحفّظ على ذلك بعد تحكيم حكومة أولياء الأمر، بتسليط الكلّ على الكلّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثمّ أحيا ذلك بنفخ روح الدعوة الدينية المضمنة بالإنذار والتبشير بالعقاب والثواب في الآخرة، وبنى أساس تربيته بتلقين معارف المبدأ والمعاد على هذا الترتيب.
فهذا ما يرومه الإسلام بتعليمه، جاء به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصدّقه التجارب الواقع في عهده وعهد من يليه حتّى أثبت به أيدي الولاة في السلطنة الأموية ومن شايعهم في استبدادهم ولعبهم بأحكام الدِّين وإبطالهم الحدود والسياسات الدينية حتّى آل الأمر إلى ما آل إليه اليوم وارتفعت أعلام الحرّية وظهرت المدنية الغربية ولم يبق من الدِّين بين المسلمين إلّا كصبابة في إناء فهذا الضعف البيّن في سياسة الدِّين وارتجاع المسلمين القهقرى هو الموجب لتنزّلهم في الفضائل والفواضل وانحطاطهم في الأخلاق والآداب الشريفة وانغمارهم في الملاهي والشهوات وخوضهم في الفواحش والمنكرات، هو الّذي أجرأهم على انتهاك كلّ حرمة واقتراف كلّ ما يستشنعه حتّى غير المنتحل بالدِّين لا ما يتخيّله المعترض من استناد الفساد إلى بعض المعارف الدينية الّتي لا غاية لها وفيها إلّا سعادة الإنسان في آجله وعاجله والله المعين، والإحصاء الّذي ذكروها إنّما وقع على جمعية المتدينين وليس عليهم قيّم ولا حافظ قوي وعلى جمعية غير المنتحلين، والتعليم والتربية الاجتماعيان قيّمان عليهم حافظان لصلاحهم الاجتماعي فلا يفيد فيما أراده شيئاً.
المصادر :
1- سورة البقرة، الآيتان: 47 48.
2- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 56.
3- تفسير العيّاشي، محمّد بن مسعود العيّاشي، ج2، ص 314.
4- تفسير القمّي، علي بن إبراهيم القمّي، ج2، ص 201.
5- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 156.
6- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 624.
7- عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج1، ص 36.
8- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 274.

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

التقشف في ایطاليا
في الدعاء لأخيك بظهر الغيب
علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
تربية أطفالنا في ظلّ الإسلام
الإيمان بالإمام المهدي (عج)
حديث الغدير في مصادر أهل السنة
عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
خصال الإمام
أدعية الإمام الرضا ( عليه السلام )
ما هو اسم الحسين عليه السلام

 
user comment