عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

رفض دعوة الأنبياء

رفض دعوة الأنبياء

أنّ المجتمعات التي رفضت دعوة الأنبياء كثيراً ما كانت تصرّ على‌ََ التمسّك بعبادة الآباء وبدين الآباء ، بالمَثَل الأعلى‌ََ المعبود للآباء ، بل إنّ الحقيقة أنّ كلّ مثل أعلى‌ََ من هذه المثل العليا المنخفضة لا ينفك عن الثوب الديني سواء اُبرز بشكل صريح أو لم يبرز ؛ لأنّ المثل الأعلى‌ََ دائماً يحتلّ مركز الإله بحسب التعبير القرآني والإسلامي ، ودائماً تستبطن علاقة الاُمّة بمثلها الأعلى‌ََ نوعاً من العبادة ، من العبادة لهذا المثل الأعلى‌ََ ، وليس الدين بشكله العام إلّاعلاقة عابد بمعبود .
إذن المثل الأعلى‌ََ لا ينفك عن الثوب الديني سواء كان ثوباً دينياً صريحاً أو ثوباً دينياً مستتراً مبرقعاً تحت شعارات اُخرى‌ََ ، فهو في جوهره دين وفي جوهره عبادة وانسياق ، إلّاأنّ هذه الأديان التي تفرزها هذه المثل العليا المنخفضة أديان محدودة تبعاً لمحدودية نفس هذه المثل ، لما كانت هذه المثل مثلاً منخفضة ومحدودة قد حوّلت بصورة مصطنعة إلى‌ََ مطلقات ، وإلّا هي في الحقيقة ليست إلّا تصوّرات جزئية عبر الطريق الطويل الطويل للإنسان ، إلّاأ نّها حوّلت إلى‌ََ مطلقات بصورة مصطنعة .
إذن هذه المحدودية في المثل تنعكس على‌ََ الأديان التي تفرزها ، فالأديان التي تفرزها هذه المثل أو بالتعبير الأحرى‌ََ : الأديان التي يفرزها الإنسان من خلال صنع هذه المثل ، ومن خلال عملقة هذه المثل وتطويرها من تصوّرات إلى‌ََ مطلقات ، هذه الأديان تكون أدياناً محدودة ضئيلة ، أديان التجزئة ، هذه الأديان هي أديان التجزئة في مقابل دين التوحيد الذي سوف نتكلم عنه حينما نتحدّث عن مثله الأعلى‌ََ القادر على‌ََ استيعاب البشرية بأبعادها . هذه الأديان أديان التجزئة ، هذه الآلهة ، الآلهة التي يفرزها الإنسان بين حين وحين هي التي يعبّر عنها القرآن الكريم بقوله : «إن هِي إلّاأسماءٌ سمّيتُمُوها أنتُمْ وآباؤكُمْ »(1)
هذا الإله الذي يفرزه الإنسان ، هذا الدين الذي يصنعه الإنسان ، هذا المثل الأعلى‌ََ الذي هو نتاج بشري ، هذا لا يمكن أن يكون هو الدين القيّم ، لا يمكن أن يكون هو المصعِّد الحقيقي للمسيرة البشرية ؛ لأن المسيرة البشرية لا يمكن أن تخلق إلهها بيدها .
المجتمعات والاُمم التي تعيش هذا المثل الأعلى‌ََ المنخفض المستمَد من واقع الحياة ، قلنا بأ نّها تعيش حالة تكرارية ، يعني : أنّ حركة التاريخ تصبح حركة تماثلية وتكرارية ، وهذه الاُمّة تأخذ بيدها ماضيها إلى‌ََ الحاضر ، وحاضرها إلى‌ََ المستقبل . ليس لها مستقبل في الحقيقة وإنّما مستقبلها هو ماضيها .

انهيار الاُمّة واُفول المثل الأعلى المنحفض :

ومن هنا إذا تقدّمنا خطوة في تحليل ومراقبة ومشاهدة أوضاع هذه الاُمّة التي تتمسّك بمثل من هذا القبيل ، إذا تقدّمنا خطوة إلى‌ََ الأمام نجد أنّ هذه الاُمّة بالتدريج سوف تفقد ولاءها لهذا المثل أيضاً ، لن تظل متمسّكة بهذا المثل ؛ لأنّ هذا المثل بعد أن يفقد فاعليته وقدرته على‌ََ العطاء ، بعد أن يصبح نسخة من الواقع ، بعد أن يصبح أمراً مفروضاً ومحسوساً وملموساً ، بعد أن يصبح غير قادر على‌ََ تطوير البشرية وتصعيدها في مسارها الطويل ، تفقد هذه البشرية ، هذه الجماعة ، تفقد بالتدريج ولاءها لهذا المثل .
ومعنى‌ََ أ نّها تفقد ولاءها لهذا المثل يعني : أنّ القاعدة الجماهيرية الواسعة في هذه الاُمّة سوف تتمزّق ، سوف تتمزّق وحدتها ؛ لأنّ وحدة هذه القاعدة إنّما هي بالمثل الواحد فإذا ضاع المثل ضاعت هذه القاعدة . هذه الاُمّة بعد أن تفقد ولاءها لهذا المثل تصاب بالتشتت ، بالتمزّق ، بالتبعثر ، تكون كما وصف القرآن الكريم : «بأسُهُم بينَهُم شَدِيدٌ تحسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُم شتّى‌ََ ذلِكَ بأ نّهم قومٌ لا يَعقِلُونَ »(2). بأسهم بينهم شديد باعتبار أنّ التناقضات تبدأ في داخل هذه الاُمّة ، هذه الاُمّة التي لا يجمعها شي‌ء إلّاتماثل الوجوه وتقارب الوجوه لا يجمعها مثل أعلى‌ََ ، لا تجمعها طريقة مُثلى‌ََ ، لا يجمعها سبيل واحد ، قلوب متفرقة ، أهواء متشتتة ، أرواح متبعثرة ، عقول مجمّدة ، في حالة من هذا القبيل لا تبقى‌ََ اُمّة وإنّما يبقى‌ََ شبح اُمّة فقط .
وفي ظلّ هذا الشبح سوف ينصرف كل فرد في هذه الاُمّة ، ينصرف إلى‌ََ همومه الصغيرة ، إلى‌ََ قضاياه المحدودة ، بعده لا يوجد هناك مثل أعلى‌ََ تلتف حوله‌ الطاقات ، تلتف حوله القابليات والإمكانات ، تحشّد من أجله التضحيات ، لا يوجد هذا المثل الأعلى‌ََ ، حينما يسقط هذا المثل الأعلى‌ََ تسقط الراية التي توحّد الاُمّة ، يبقى‌ََ كل إنسان مشدوداً إلى‌ََ حاجاته المحدودة ، إلى‌ََ مصالحه الشخصية ، إلى‌ََ تفكيره في اُموره الخاصة : كيف يصبح ؟ كيف يمسي ؟ كيف يأكل ؟ كيف يشرب ؟ كيف يوفّر الراحة والاستقرار له ولأولاده ولعائلته ؟ أيّ راحة ؟ أيّ استقرار ؟ الراحة بالمعنى‌ََ الرخيص من الراحة ، والاستقرار بالمعنى‌ََ القصير من الاستقرار . يبقى‌ََ كل إنسان سجين حاجاته الخاصة ، سجين رغباته الخاصة ، يبقى‌ََ يدور ، يبقى‌ََ يلتف حول هذه الرغبات وحول هذه الحاجات لا يرى‌ََ غيرها ، إذ لا يوجد المثل ، إذ ضاع المثل وتفتّت وسقط .
الاجراءات التاريخية تجاه الاُمّة المنهارة :
في حالة من حالات هذه الاُمّة ، قلنا بأنّ الاُمّة تتحوّل إلى‌ََ شبح لا تبقى‌ََ اُمّة حقيقية ، وإنّما هناك شبح اُمّة . وقد علّمنا التاريخ أ نّه في حالة من هذا القبيل توجد ثلاثة إجراءات ، ثلاثة بدائل يمكن أن تنطبق على‌ََ حالة هذه الاُمّة الشبح :
الإجراء التاريخي الأول :
هو أن تتداعى‌ََ هذه الاُمّة أمام غزو عسكري من الخارج ؛ لأنّ هذه الاُمّة التي اُفرغت من محتواها ، التي تخلّت عن وجودها كاُمّة وبقيت كأفراد ، كل إنسان يفكّر في طعامه ، يفكّر في لباسه ، يفكّر في دار سكناه ولا يفكّر في الاُمّة ، لم يبقَ هناك من يفكّر في الاُمّة وإنّما كل إنسان يفكّر في حاجاته ، إذن في وضع من هذا القبيل يمكن أن تتداعى‌ََ هذه الاُمّة أمام غزو من الخارج . وهذا ما وقع بالفعل بعد أن فقد المسلمون مثلهم الأعلى‌ََ ، وفقدوا ولاءهم لهذا المثل الأعلى‌ََ ، ووقعوا فريسة غزو التتار حينما سقطت حضارة المسلمين بأيدي التتار . هذا هو الإجراء التاريخي الأول .
والإجراء التاريخي الثاني :
هو الذّوبان والانصهار في مثل أعلى‌ََ أجنبي ، في مثل مستورد من الخارج . هذه الاُمّة بعد أن فقدت مثلها العليا النابعة منها ، فقدت فاعليتها وأصالتها ، حينئذٍ تفتّش عن مثل أعلى‌ََ من الخارج لكي تعطيه ولاءها ، لكي تمنحه قيادتها . هذا هو الإجراء التاريخي الثاني .
والإجراء التاريخي الثالث :
أن ينشأ في أعماق هذه الاُمّة بذور إعادة المثل الأعلى‌ََ من جديد بمستوى‌ََ العصر الذي تعيشه تلك الاُمّة .
هذان الإجراءان : الإجراء الثاني والإجراء الثالث وقفت الاُمّة أمامهما على‌ََ مفترق طريقين حينما دخلت عصر الاستعمار ، حينما دخلت الاُمّة عصر الاستعمار وقفت على‌ََ مفترق طريقين : كان هناك طريق يدعوها إلى‌ََ الانصهار في مثل أعلى‌ََ من الخارج ، هذا الطريق الذي طبّقه جملة من حكّام المسلمين في بلاد المسلمين ( كرضا خان )(3) في ايران و ( أتاتورك )(4) في تركيا .
حاول هؤلاء أن يجسّدوا المثل الأعلى‌ََ للإنسان الاوروبي المنتصر ، ويطبّقوا هذا المثل الأعلى‌ََ ويكسبوا ولاء المسلمين أنفسهم لهذا المثل الأعلى‌ََ ، بعد أن ضاع المثل الأعلى‌ََ في داخل المسلمين ، بينما بوادر الفكر الإسلامي ، روّاد الفكر الإسلامي في بدايات عصر الاستعمار وفي أواخر الفترة التي سبقت عصر الاستعمار ، روّاد الفكر الإسلامي وروّاد النهضة الإسلامية أطلقوا جهودهم في سبيل الإجراء الثالث ، في سبيل إعادة الحياة إلى‌ََ الإسلام من جديد ، في سبيل انتشار هذا المثل الأعلى‌ََ وإعادة الحياة إليه وتقديمه بلغة العصر وبمستوى‌ََ العصر وبمستوى‌ََ حاجات المسلمين - الاُمّة تتحوّل إلى‌ََ شبح فتواجه أحد هذه الإجراءات الثلاثة .

المثل العليا المشتقّة من طموحٍ محدودٍ :

الآن تكلمنا عن اُمّةِ هذه الآلهة المنخفضة ، حينما نتقدّم خطوة ، إذا تقدمنا خطوة نجد أنّ المثل التكراري يتمزّق ، أنّ الاُمّة تفقد ولاءها ، أنّ الاُمّة تتحوّل إلى‌ََ شبح تواجه أحد هذه الاجراءات الثلاثة .
الآن نرجع إلى‌ََ الوراء خطوة، إذا رجعنا إلى‌ََ الوراء خطوة، سوف نواجه النوع الثاني من الآلهة ، من المثل العليا . أليس قلنا في البداية : إنّ المثل العليا على‌ََ ثلاثة أنواع ؟ تكلمنا الآن عن النوع الأول . إذا رجعنا خطوة إلى‌ََ الوراء - وهذا ما سوف أشرح معناه بعد لحظات - سوف نواجه النوع الثاني من الآلهة من المثل العليا .
هذا النوع الثاني يعبّر عن كل مثل أعلى‌ََ للاُمة يكون مشتقّاً من طموح الاُمّة ، من تطلّعها إلى‌ََ المستقبل . ليس هذا المثل تعبيراً تكرارياً عن الواقع بل هو تطلّع إلى‌ََ المستقبل ، تحفّز نحو الجديد ، نحو الإبداع والتطوير ، ولكنّ هذا المثل منتزع عن خطوة واحدة من المستقبل ، منتزع عن جزء من هذا الطريق الطويل المستقبلي ، أي أنّ هذا الطموح الذي منه انتزعت الاُمّة مثلها ، كان طموحاً محدوداً ، كان طموحاً مقيداً لم يستطع أن يتجاوز المسافات الطويلة ، وإنّما استطاع أن يكوّن رؤية مستقبلية محدودة ، وهذه الرؤية المستقبلية المحدودة انتزع منها مثله الأعلى‌ََ .
وفي هذا المثل الأعلى‌ََ جانب موضوعي صحيح ، ولكنّه يحتوي على‌ََ إمكانيات خطر كبير . أمّا الجانب الموضوعي الصحيح فهو أنّ الإنسان عبر مسيرته الطويلة لا يمكنه أن يستوعب برؤيته الطريق الطويل الطويل كلّه ، لا يمكنه أن يستوعب المطلق ؛ لأنّ الذهن البشري محدود ، والذهن البشري المحدود لا يمكن أن يستوعب المطلق ، وإنّما هو دائماً يستوعب نفحة من المطلق ، شيئاً من المطلق ، يأخذ بيده قبضة من هذا المطلق تنير له الطريق ، تنير له الدّرب . فكون دائرة الاستيعاب البشري محدودة ، هذا أمر طبيعي أمر صحيح وموضوعي .
ولكن الخطير في هذه المسألة أنّ هذه القبضة التي يقبضها الإنسان من المطلق ، هذه القبضة ، هذه الكومة المحدودة ، هذه الومضة من النور التي يقبضها من هذا المطلق ، يحوّلها إلى‌ََ نور السماوات والأرض ، يحوّلها إلى‌ََ مثل أعلى‌ََ ، يحوّلها إلى‌ََ مطلق .
هنا يكمن الخطر ؛ لأنّه حينما يصنع مثله الأعلى‌ََ وينتزع هذا المثل الأعلى‌ََ من تصوّر ذهني محدود للمستقبل ، لكن يحوّل هذا التصوّر الذهني المحدود إلى‌ََ مطلق ، حينئذٍ هذا المثل الأعلى‌ََ سوف يخدمه في المرحلة الحاضرة ، سوف يهيّئ له إمكانيات النمو بقدر طاقات هذا المثل ، بقدر ما يمثّل للمستقبل ، بقدر إمكاناته المستقبلية ، سوف يحرّك هذا الإنسان وينشّط هذا الإنسان ، لكن سرعان ما سوف يصل إلى‌ََ حدوده القصوى‌ََ ، إلى‌ََ حدود هذا المثل القصوى‌ََ ، وحينئذٍ سوف يتحوّل هذا المثل نفسه إلى‌ََ قيد للمسيرة ، إلى‌ََ عائق عن التطور ، إلى‌ََ مجمّد لحركة الإنسان ؛ لأنه أصبح مثلاً ، أصبح إلهاً ، أصبح ديناً ، أصبح واقعاً قائماً ، وحينئذٍ سوف يكون بنفسه عقبة أمام استمرار زحف الإنسان نحو كماله الحقيقي .

تعميم المثل المحدودة :

وهذا المثل الذي يعمّم خطأ ، يحوّل من محدود إلى‌ََ مطلق خطأ . التعميم فيه تارة يكون تعميماً اُفقياً خاطئاً ، واُخرى‌ََ تعميماً زمنياً خاطئاً . هناك تعميمان خاطئان لهذا المثُل : هناك تعميم اُفقي خاطئ ، وهناك تعميم زمني عمودي خاطئ.
التعميم الاُفقي الخاطئ :
أن ينتزع الإنسان من تصوّره المستقبلي مثلاً ويعتبر أنّ هذا المثل يضمّ كل قيم الإنسان التي يجاهد من أجلها ويناضل في سبيلها ، بينما هذا المثل على‌ََ الرغم من صحته إلّاأ نّه لا يمثّل إلّاجزءاً من هذه القيم . فهذا التعميم تعميم اُفقي خاطئ .
هذا المثل يكون معبّراً عن جزء من اُفق الحركة ، بينما جُرّد منه ما يملأ كلّ اُفق الحركة .
الإنسان الاُوروبي الحديث في بدايات عصر النهضة وضع مثلاً أعلى‌ََ وهو الحرّية . جعل الحرّية مثلاً أعلى‌ََ ، لأنّه رأى‌ََ أنّ الإنسان الغربي كان محطّماً ومقيّداً ، كانت على‌ََ يديه الأغلال في كل ساحات الحياة ، كان مقيّداً في عقائده العلمية والدينية بحكم الكنيسة وتعنّت الكنيسة ، كان مقيّداً في قوته ورزقه بأنظمة الإقطاع ، كان مقيّداً أينما يسير .
أراد الإنسان الاُوروبي الرائد لعصر النهضة أن يحرّر هذا الإنسان من هذه القيود ، من قيود الكنيسة ، من قيود الإقطاع . أراد أن يجعل من الإنسان كائناً مختاراً ، إذا أراد أن يفعل يفعل ، يفكّر بعقله لا بعقل غيره ، ويتصوّر ويتأمّل بذاته ولا يستمد هذا التصوّر كصيغ ناجزة من الآخرين .
وهذا شي‌ء صحيح ، إلّاأنّ الشي‌ء الخاطئ في ذلك هو التعميم الاُفقي ، فإنّ هذه الحرية بمعنى‌ََ كسر القيود عن هذا الإنسان ، هذا قيمة من القيم ، هذا إطار للقيم ، ولكن هذا وحده لا يصنع الإنسان ، ليس هذا هو المثل الأعلى‌ََ ، فإنّ هذا وحده لا يصنع الإنسان . أنت لا تستطيع أن تصنع الإنسان بأن تكسر عنه القيود وتقول له : افعل ما شئت ، لا يوجد إنسان ولا كائن ، لا يوجد إقطاعي ولا قسيس ولا سلطان ولا طاغوت يضطرّك إلى‌ََ موقف أو يفرض عليك موقفاً .
هذا وحده لا يكفي فإنّ كسر القيود إنّما يشكّل الإطار للتنمية البشرية الصالحة . يحتاج هذا إلى‌ََ مضمون ، إلى‌ََ محتوى‌ََ ، مجرّد أ نّه يستطيع أن يتصرّف ، يستطيع أن يمشي في الأسواق هذا لا يكفي ، أما كيف يمشي ؟ ما هو الهدف الذي من أجله يمشي في الأسواق ؟ المحتوى‌ََ والمضمون هذا هو الذي فات الإنسان الاُوروبي .
الإنسان الاُوروبي جعل الحرية هدفاً وهذا صحيح ، ولكنّه صيّر من هذا الهدف مثلاً أعلى‌ََ ، بينما هذا الهدف ليس إلّاإطاراً في الحقيقة ، وهذا الإطار بحاجة إلى‌ََ محتوى‌ََ وإلى‌ََ مضمون ، وإذا جرّد هذا الإطار عن محتواه سوف يؤدّي إلى‌ََ الويل والدمار ، إلى‌ََ الويل الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل وسائل الدمار ؛ لأنّ الإطار بقي بلا محتوى‌ََ ، بقي بلا مضمون . حينئذٍ هذا هو مثال للتعميم الاُفقي . التعميم الاُفقي للمثل الأعلى‌ََ .

التعميم الزمني الخاطئ :

وأمّا التعميم الزمني أيضاً ، كذلك على‌ََ مرّ التاريخ توجد خطوات ناجحة تاريخياً ، ولكنّها لا يجوز أن تحوّل من حدودها كخطوة إلى‌ََ مطلق ، إلى‌ََ مثل أعلى‌ََ . يجب أن تكون ممارسة تلك الخطوة ضمن المثل الأعلى‌ََ لا أن تحوّل هذه الخطوة إلى‌ََ مثل أعلى‌ََ .
حينما اجتمع في التاريخ مجموعة من الاُسر فشكّلوا القبيلة، حينما اجتمعت مجموعة من القبائل فشكّلت عشيرة ، حينما اجتمعت مجموعة من العشائر فشكّلت اُمّة ، هذه الخطوات صحيحة في تقدّم البشرية وتوحيد البشرية ، ولكن كل خطوة من هذه الخطوات لا يجب أن تتحوّل إلى‌ََ مثل أعلى‌ََ ، لا يجوز أن تتحوّل إلى‌ََ مطلق ، لا يجوز أن تكون العشيرة هي المطلق الذي يحارب من أجله هذا الإنسان ، وإنّما المطلق الذي يحارب من أجله الإنسان هو ذاك المطلق الحقيقي ، يبقى‌ََ هو اللَّه سبحانه وتعالى‌ََ .
الخطوة تبقى‌ََ كاُسلوب ولكن المطلق يبقى‌ََ هو اللَّه سبحانه وتعالى‌ََ . هذا التعميم الزمني أيضاً هو شكل من التعميم الخاطي‌ء . حينما يحوّل هذا المثل المنتزع من خطوة محدودة عبر الزمن يحوّل إلى‌ََ مثل أعلى‌ََ .
وحال هذا الإنسان الذي يحوّل هذه الرؤية المحدودة في عبر الزمن ، يحوّلها إلى‌ََ مطلق حاله حال الإنسان الذي يتطلّع إلى‌ََ الاُفق فلا تساعد عينه إلّا على‌ََ النظر إلى‌ََ مسافة محدّدة ، فيخيّل له بأنّ الدنيا تنتهي عند الاُفق الذي يراه ، أنّ السماء تنطبق على‌ََ الأرض على‌ََ مسافة قريبة منه ، وقد يخيّل له وجود الماء ، وجود السراب على‌ََ مقربة منه ، إلّاأنّ هذا في الحقيقة ناشئ من عجز عينه عن أن يتابع المسافة الأرضية الطويلة الأمد .
كذلك هنا ، هذا الإنسان الذي يقف على‌ََ طريق التاريخ الطويل ، على‌ََ طريق المسيرة البشرية ، له اُفق بحكم قصوره الذهني ، بحكم محدودية الذهن البشري ، له اُفق كذاك الاُفق الجغرافي ، ولكن هذا الاُفق يجب أن يتعامل معه كاُفق لا كمطلق ، كما إنّنا نحن على‌ََ الصعيد الجغرافي لا نتعامل مع هذا الاُفق الذي نراه على‌ََ بعد عشرين متراً أو مئتي متر أ نّه نهاية الأرض ، وإنّما نتعامل معه كاُفق ، كذلك أيضاً هنا يجب أن يتعامل هذا الإنسان معه كاُفق ، لا يحوّل هذا الاُفق التاريخي إلى‌ََ مثل أعلى‌ََ وإلّا كان من قبيل من يسير نحو سراب .
انظروا إلى‌ََ التمثيل الرائع في قوله سبحانه وتعالى‌ََ : «والذين كَفَروا أعمالُهُمْ كَسَرابٍ بَقِيعَةٍ يحسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتى‌ََ إذا جاءَهُ لم يَجِدْهُ شَيئاً ووَجَدَ اللَّه عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ واللَّه سَرِيعُ الحِسابِ »(5).
يعبّر القرآن عن كلّ هذه المثل المصطنعة من دون اللَّه سبحانه وتعالى‌ََ بأ نّها كبيت العنكبوت. يقول سبحانه وتعالى‌ََ : «مَثَلُ الذينَ اتّخذوا مِنْ دونِ اللَّه أولياءَ » مُثُل عليا ومطلقات مصطنعة «مَثَلُ الذِينَ اتّخَذُوا مِن دُونِ اللَّه أولِياءَ كَمَثَلِ العنكبُوتِ اتّخَذَتْ بيتاً وإنّ أوهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لو كانُوا يَعْلَمُونَ »(6).

المقارنة بين المُثُل المنخفضة والمحدودة :

إذا قارنّا بين هذين النوعين من المثل العليا : المثل العليا المشتقة من الواقع والمثل العليا المشتقة من طموح محدود ، يمكننا أن نلاحظ أنّ تلك المثل العليا المشتقة من الواقع كثيراً ما تكون قد مرّت بمرحلة هذه المثل العليا التي هي تعبّر عن طموح محدود ، يعني كثيراً ما تكون تلك المثل من النوع الأول امتداداً للمثل من النوع الثاني ، بأن يبدأ المثل ويبدأ هذا المثل الأعلى‌ََ مشتقاً من طموح ، لكن حينما يتحقق هذا الطموح المحدود ، حينما تصل البشرية إلى‌ََ النقطة التي أثارت هذا المثل ، يتحوّل هذا المثل إلى‌ََ واقع محدود بحسب الخارج ، حينئذٍ يصبح مثلاً تكرارياً .
من هنا قلنا في ما سبق : إنّنا لو رجعنا خطوة إلى‌ََ الوراء بالنسبة إلى‌ََ آلهة النوع الأول ، مُثل النوع الأول ، لو رجعنا خطوة إلى‌ََ الوراء لوجدنا آلهة النوع الثاني ، فالمسألة في كثير من الأحيان تبدأ هكذا ، تبدأ بمثل أعلى‌ََ له طموح مشتق من طموح مستقبلي ، ثمّ يتحوّل هذا المثل الأعلى‌ََ إلى‌ََ مثل تكراري ، ثمّ يتمزّق هذا المثل التكراري كما قلنا وتتحوّل الاُمّة إلى‌ََ شبح اُمّة .

مراحل انقلاب القسم الثاني من المثل :

في هذه الفترة الزمنية تمرّ الاُمّة بمراحلٍ في الحقيقة ، يمكننا تلخيصها في أربعة مراحل :
المرحلة الاُولى‌ََ :
هي مرحلة فاعلية هذا المثل لحكم أ نّه قد بدأ مشتقّاً من طموح مستقبلي ومن نظرة مستقبلية ، فهذا المثل يكون له في المرحلة الاُولى‌ََ فاعلية وعطاء وتجديد بقدر ما له من ارتباط بالمستقبل .
ولكن طبعاً هذه الفاعلية وهذا العطاء وهذا التجديد هو عطاء يسمّيه القرآن بالعاجل ، هذه مكاسب عاجلة وليست مكاسب على‌ََ الخط الطويل . هذه المكاسب مكاسب عاجلة . لأنّ عمر هذا المثل قصير ، لأنّ عطاء هذا المثل محدود ، لأنّ هذا المثل سوف يتحوّل في لحظة من اللحظات إلى‌ََ قوة إبادة لكل‌ ما أعطاه من مكاسب ، ولهذا يسمّى‌ََ هذا بالعاجل .
انظروا إلى‌ََ قوله سبحانه وتعالى‌ََ : «مَنْ كانَ يُريدُ العاجِلَةَ عَجّلْنا لَهُ فيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُريدُ ثُمّ جَعلنا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاها مَذمُوماً مَدحُوراً * وَمَنْ أرادَ الآخِرةَ وَسَعى‌ََ لها سَعْيَها وهُو مُؤمِنٌ فاُولئكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاءِ مِن عَطاءِ رَبِّكَ وما كَانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً »(7).
اللَّه سبحانه وتعالى‌ََ خير محض ، عطاء محض ، جود كلّه ، فبقدر ما تتبنّى‌ََ الاُمّة مثلاً قابلاً للتحريك ، اللَّه سبحانه وتعالى‌ََ أيضاً يعطي ، لكنه يعطي بقدر قابلية هذا المثل ، يعطي شيئاً عاجلاً لا أكثر .
في حالة من هذا القبيل تكون السلطة التي تمثّل هذا المثل ، تكون هذه السلطة ذات مثل أعلى‌ََ ، ذات مثل يعطي ويبدع ، وتكون قيادة موجّهة للاُمة في حدود هذا المثل ، وتكون للاُمة دور المشاركة في صنع هذا المثل وفي تحقيق هذا المثل .
هذه المرحلة سوف تؤدّي إلى‌ََ مكاسب ، ولكنّها في النظر القرآني العميق الطويل الأمد مكاسب عاجلة تعقبها جهنم ، جهنم في الدنيا وجهنم في الآخرة . هذه هي المرحلة الاُولى‌ََ ، مرحلة الإبداع والتجديد .
المرحلة الثانية :
حينما يتجمّد هذا المثل الأعلى‌ََ ، حينما يستنفد طاقته وقدرته على‌ََ العطاء ، حينئذٍ يتحوّل هذا المثل إلى‌ََ تمثال ، لا يبقى‌ََ مثلاً وإنّما سوف يتحوّل إلى‌ََ تمثال . والقادة الذين كانوا يعطون ويوجّهون على‌ََ أساسه يتحوّلون إلى‌ََ سادة وكبراء لا إلى‌ََ قادة ، وجمهور الاُمّة يتحوّل إلى‌ََ مطيعين ومنقادين لا إلى‌ََ مشاركين في الإبداع والتطوير . وهذه المرحلة هي المرحلة التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله : «وقَالوا رَبَّنا إنّا أَطَعْنا سادَتَنا وكُبراءَنا فأضَلُّونا السَّبِيلا »(8).
المرحلة الثالثة :
ثمّ تأتي المرحلة الثالثة ، مرحلة الامتداد التاريخي لهؤلاء ، هذه السلطة
يتحوّل إلى‌ََ طبقة ، بعد ذلك تتوارث مقاعدها عائلياً أو طبقياً وراثياً بشكل من أشكال الوراثة ، وحينئذٍ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة المترفة المنعّمة الخالية من الأغراض الكبيرة ، المشغولة بهمومها الصغيرة ، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله : «وكَذلِكَ ما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ في قَريةٍ مِن نذِير إلّاقال مُتْرَفُوهَا إنّا وَجَدْنا آباءَنا على‌ََ اُمّةٍ وإنّا على‌ََ آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ »(9).
هؤلاء نتاج آباء ، هؤلاء امتداد تاريخي لآباء لهم تاريخ وهم امتداد تاريخي ، وهذا الامتداد التاريخي تحوّل من مستوى‌ََ مُثُل وعطاء إلى‌ََ مستوى‌ََ طبقة مترفة تتوارث هذا المقعد بشكل من أشكال التوارث . هذه هي المرحلة الثالثة .
المرحلة الرابعة :
ثمّ حينما تتفتت الاُمّة ، حينما تتمزّق الاُمّة ، حينما تفقد ولاءها لذلك المثل التكراري على‌ََ ضوء ما قلناه ، تدخل في مرحلة رابعة وهي أخطر مراحلها . ففي هذه المرحلة يسيطر عليها مجرموها ، يسيطر عليها اُناس لا يرعون إلّاً ولا ذمّة ، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى‌ََ : «وكَذلِكَ جَعَلنَا في كُلِّ قَريَةٍ أكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فيها ومَا يَمكُرُونَ إلّابأَنْفُسِهِمْ »(10).
حينئذٍ يسيطر مجموعة من هؤلاء المجرمين .
يسيطر ( هتلر ) والنازية مثلاً في جزء من أوروبا لكي يحطّم كلّ ما في أوروبا من خير وكلّ ما في أوروبا من إبداع ، لكي يقضي على‌ََ كلّ تبعات ذلك المثل الأعلى‌ََ الذي رفعه الإنسان الاُوروبي الحديث ، والذي تحوّل بالتدريج إلى‌ََ مثل تكراري ثمّ تفسّخ هذا المثل لكن بقيت مكاسبه في المجتمع الاُوروبي . يأتي شخص كهتلر لكي يمزّق كلّ تلك المكاسب ويقضي على‌ََ كلّ تلك المكاسب .

المثل الأعلى الحقيقي :

الآن نصل إلى‌ََ النوع الثالث من المُثُل العليا . النوع الثالث من المُثُل العليا هو المثل الأعلى‌ََ الحقيقي وهو اللَّه سبحانه وتعالى‌ََ ، في هذا المثل التناقض الذي واجهناه سوف يُحَلّ بأروع صورة . كنا نجد تناقضاً ، وحاصل هذا التناقض هو أنّ الوجود الذهني للإنسان محدود، والمثل يجب أن يكون غير محدود، فكيف يمكن توفير المحدود وغير المحدود؟ وكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود؟
هذا التنسيق بين المحدود وغير المحدود سوف نجده في المثل الأعلى‌ََ الذي هو اللَّه سبحانه وتعالى‌ََ . لماذا ؟ لأنّ هذا المثل الأعلى‌ََ ليس من نتاج انسان ، ليس إفرازاً ذهنياً للإنسان ، بل هو مثل أعلى‌ََ عيني له واقع عيني ، هو موجود مطلق في الخارج ، له قدرته المطلقة وله علمه المطلق وله عدله المطلق .
هذا الموجود العيني بواقع العين يكون مثلاً أعلى‌ََ ؛ لأنّه مطلق ، لكن الإنسان حينما يريد أن يستلهم من هذا النور ، حينما يريد أن يمسك بحزمة من هذا النور ، طبعاً هو لا يمسك إلّابالمقيد ، إلّابقدر محدود من هذا النور ، إلّاأ نّه يميّز ، يميّز بين ما يمسك به وبين مثله الأعلى‌ََ . المثل الأعلى‌ََ خارج حدود ذهنه ، لكنه يمسك بحزمة من النور ، هذه الحزمة مقيدة لكن المثل الأعلى‌ََ مطلق .
ومن هنا حرص الإسلام على‌ََ التمييز دائماً بين الوجود الذهني وما بين اللَّه سبحانه وتعالى‌ََ ، بين المثل الأعلى‌ََ . فرّق حتى‌ََ بين الاسم والمسمّى‌ََ ، وأكد على‌ََ أ نّه لا يجوز عبادة الاسم ، وإنّما العبادة تكون للمسمّى‌ََ ؛ لأنّ الاسم ليس إلّاوجوداً ذهنياً ، إلّاواجهة ذهنية للََّه‌سبحانه وتعالى‌ََ ، بينما الواجهات الذهنية دائماً محدودة ، العبادة يجب أن تكون للمسمّى‌ََ لا للاسم ؛ لأنّ المسمّى‌ََ هو المطلق ، أمّا الاسم فهو مقيد ومحدود . الواجهات الذهنية تبقى‌ََ كواجهات ذهنية محدودة مرحلية ، وأمّا صفة المثل الأعلى‌ََ تبقى‌ََ قائمة باللَّه سبحانه وتعالى‌ََ المصدر :
1- النجم : 23
2- الحشر : 14
3- رضا خان ( 1878 - 1944 ) نصب نفسه امبراطوراً لايران من عام ( 1925 - 1941 )
4- مصطفى كمال اتاتورك ( 1881 - 1938 ) ، أول من اسس الجمهورية على أنقاض الحكم العثماني سنة 1923
5- النور : 39
6- العنكبوت : 41
7- الإسراء : 18 - 20
8- الأحزاب : 67
9- الزخرف : 23
10- الأنعام : 123

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الوهابية ومجزرة الحرم الشريف
السيد أبو الحسن جلوة الزواري
الاسرة والغزو الثقافي
هل يمكن أن نكون سعداء في حياتنا؟
الإمام الصادق عليه السلام والتفسير العرفاني
تكوين الأسرة المسلمة
ماذا يحب الرجل في المرأه ..
كلامه عليه السلام في النساء – الثاني
الغناء والرقص زمن الدولة الاموية
قصة مريم في القرآن

 
user comment