عربي
Thursday 28th of March 2024
0
نفر 0

رضى الله من رضا أهل البيت

رضى الله من رضا أهل البيت


روي عن الإمام الحسين (عليه السلام)في الخُطبة المرويَّة عنه أنَّه قال : (رضى الله رضانا أهل البيت)(1). فنزيد هنا إعطاء فكرة كافية عن ذلك ، فإنْ فهم هذه الجملة يحتوي على تقسيمين :
التقسيم الأوَّل : النظر إلى معنى الرضى في هذا الجملة ، فإنَّنا تارة نفهم نفس الرضى بصفته عاطفة نفسيَّة محبوبة ، وأُخرى نفهم منها : الأمر المرضي ، يعني : الذي يتعلَّق به الرضى كما هو المُتعارف عرفاً التعبير عنه بذلك ولو مجازاً .
التقسيم الثاني : النظر إلى ما هو المُتبدأ والخبر في هذه الجملة ، فإنَّه قد يكون (رضى الله ...)مُبتدأ و (رضانا)خبر ، كما هو مُقتضى الترتيب اللفظي لهذه الجملة . كما أنَّه قد يكون العكس صحيحاً ، وهو أنْ يكون (رضا الله)خبراً مُقدَّماً و (رضانا)مُبتداً مُؤخَّراً .
وإذا لاحظنا كلا التقسيمين ، كانت الاحتمالات أربعة بضرب اثنين في اثنين ، ولكلٍّ مِن هذه المُحتملات معناها المُهمُّ .
ويُمكن أنْ نُعطي فيما يلي بعض الأمثلة لذلك في الفُهوم التالية :
الفَهم الأوَّل : أنْ يكون الرضى بمعنى الأمر المرضي ، ويكون (رضى الله)في هذه الجملة هو المُبتدأ ؛ فيكون المعنى : أنَّ الأمر الذي يرضاه الله عزَّ وجلَّ نرضاه نحن أهل البيت . وهذا هو الفَهم الاعتيادي والمُناسب مع السياق في هذه الخُطبة ، مِن حيث إنَّه (عليه السلام)يُعبِّر عن رضاه بمقتله لأنَّه أمر مرضيٌّ لله عزَّ وجلَّ
 الفَهم الثاني : أنْ يكون الرضى بمعنى الأمر المرضي ، ويكون (رضى الله)في هذه الجملة خبراً مُقدَّماً . فيكون المعنى : أنَّ الأمر الذي نرضاه نحن أهل البيت يرضاه الله عزَّ وجلَّ . أو قُلْ : هو مرضيٌّ لله عزَّ وجلَّ بدوره .
وهذا أمر صحيح وعلى القاعدة ، مُطابق لما ورد عنهم (عليهم السلام)بمضمون : (إنَّنا أعطينا الله ما يُريد فأعطانا ما نُريد)، فتكون تلك الجملة بمعنى الفقرة الثانية مِن هذه الجملة ، كما هو واضح للقارئ اللبيب.
الفَهم الثالث : أنْ يكون المُراد بالرضى معناه المُطابقي ، وليس الأمر المرضي . ويكون (رضى الله)في هذه الجملة مُبتدأ . وليس خبراً مُقدَّماً.
فيكون المعنى : أنَّ رضى الله سبحانه هو رضى أهل البيت (عليهم السلام). وهذا صحيح أيضاً ومُطابق للقاعدة . إلاَّ أنَّ الفلاسفة والمُتكلِّمين المسلمين قالوا : إنَّه ورد في الكتاب الكريم والسُّنَّة الشريفة ، نسبت كثير مِن الأُمور إلى الله سبحانه كالرضى والغضب ، والحُبِّ والبُغض ، والكِره والإرادة وغير ذلك مِن الصفات. مع أنَّه قد ثبت في مودر آخر ، أنَّ الله تعالى ليس مَحلَّاً للحوادث (2)، ويستحيل فيه ذلك : وكلُّ هذه الأُمور مِن قبيل العواطف المُتجدِّدة ، التي تستحيل على ذات الله سبحانه . فكيف صحَّ نسبتها إليه سبحانه في الكتاب والسنة ؟!
الرضى كما في قوله : (... رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ...)البينة آية 8.
الغضب : كما في قوله : (... فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ ...)النحل آية 106 .
الحُبُّ : كما في قوله : (... إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)البقرة آية 195 .
الكِرْه : كما في قوله : (... كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ ...)التوبة آية 46 .
الإرادة : كما في قوله : (... وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً ...)الرعد آية 11 .
وقد أجاب الفلاسفة والمُتكلِّمون بعِدَّة أجوبة عن ذلك ، كان مِن أهمِّها : أنَّه جلَّ جلاله يجعل هذه العواطف المُتجدِّدة في نفوس أوليائه وأنبيائه وأصفيائه ، فإذا علمنا أنَّ أهل البيت هُمْ أولياء الله وأصفيائه ، إذاً ؛ فيصدق : أنَّ رضى الله رضاهم أهل البيت ؛ لأنَّ رضى الله ـ كما قال الفلاسفة ـ ليس قائماً بذاته جلَّ جلاله ، بلْ قائم بذواتهم (سلام الله عليهم).
لماذا لم يعمل الامام الحسين (عليه السلام)بالتقيَّة ؟
 لا شكَّ أنَّ التقيَّة واجبة عندنا بنصِّ القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة وإجماع علمائنا . أمَّا القرآن الكريم ، ففي أكثر مِن آية واحدة كقوله تعالى : (... إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ...)(3). وأمَّا السُّنَّة الشريفة فأكثر مِن نصٍّ كقوله عليه السلام : (التقيَّة ديني ودين آبائي)(4). وقوله (عليه السلام): (لا دين لمَن لا تقيَّة له)(5).
وقوله (عليه السلام): (التقيَّة درع المؤمن الحصينة)(6)وغير ذلك . وأمَّا الإجماع فهو واضح لمَن استعرض فتاوى علمائنا ، بلْ الحكم يُعتبر مِن ضروريَّات المذهب .
إذاً ؛ فالتقيَّة واجبة . وهذا ما حدى بالمعصومين (عليهم السلام)جميعاً العمل بها إلاَّ الحسين (عليه السلام)، فلماذا لم يعمل بها هذا الإمام الجليل ؟! إذ مِن الواضح أنَّ أحداً مِن المعصومين غيره لم يتحرَّك مثل حركته ، بلْ كانت الثورات مُتعدِّدة ، والحروب في داخل البلاد الإسلاميَّة وخارجها موجودة ، وهم مُعرضون عنها لا يُشاركون بأيِّ شيء منها ، حتَّى لو كان الثوَّار والمُحاربون مِن أبناء عمومتهم كذريَّة الحسن أو الحسين ، الذين تحرَّكوا خلال العهدين الأُموي والعباسي بكثرة ، عَدَّ منهم في (مقاتل الطالبيِّين)عشرات ، إلاَّ أنَّ المعصومين (سلام الله عليهم). لم يكونوا مِن بينهم بأيِّ حال مِن الأحوال ، بل كانوا يسلكون سلوكاً مُغايراً لذلك تماماُ عملاً بالتقيَّة الواجبة ، التي يحسُّون بضرورتها التشريعيَّة والواقعيَّة (عليهم سلام الله)، لا يُستثنى مِن ذلك إلاَّ واحد مُعيَّن منهم ، هو الإمام الحسين (عليه السلام)في حركته العظيمة . فلماذا كان ذلك ؟!
والأسباب المُتصوَّرة لذلك عِدَّة أُمور مُحتملة ، وإنْ لم تكن كلُّها صحيحة ، إلاَّ أنَّنا نذكر الأُمور التي قد تخطر على بال القارئ الاعتيادي أيضاً :
الأمر الأوَّل : إنَّ الأخبار الدالَّة على وجوب التقيَّة لم تكن صادرة في زمن الحسين (عليه السلام)؛ لأنَّها إنَّما صدرت عن الإمامين الصادقين (عليهم السلام)، وهما عاشا بعد واقعة كربلاء بحوالي قرن مِن الزمن ، وإذا لم تكن هذه الأخبار موجودة ، فلا دليل على وجوب التقيَّة يوم حركة الحسين (عليه السلام)؛ ومِن هنا لم يعمل بها .
إلاَّ أنَّ هذا الوجه غير صحيح لأكثر مِن جواب واحد :
أوَّلاً : إنَّ هذه الأخبار المُشار إليها تدلُّنا على حُكم واقعي ثابت في الشريعة ، يعلم به المعصومون جميعاً (سلام الله عليهم)بما فيهم الحسين (عليه السلام)؛ فإنَّهم ـ جميعاً ـ عالمون بجميع أحكام الشريعة المُقدَّسة .
ثانياً : إنَّ الآيات الكريمة دالَّة على ذلك أيضاً ، وقد كانت موجودة ومقروءة في زمن الحسين (عليه السلام).
الأمر الثاني : إنَّ الحسين (عليه السلام)كسائر المعصومين (عليهم السلام)، عمل بالتقيَّة ردحاً طويلاً في حياته ، وإنَّما ترك العمل بها مِن ناحية واحدة فقط ، هي الناحية التي أدَّت إلى مقتله في واقعة الطَّفِّ ، وهي رفض الطلب الصادر مِن قِبَل الحاكم الأُموي بالبيعة له وتهديده بكلِّ بلاء إذا لم يُبايع ، الأمر الذي استوجب صموده (عليه السلام)ضِدَّ هذا المعنى حتَّى الموت .(7)
الأمر الثالث : إنَّ الأدلَّة في الكتاب والسُّنَّة على مشروعيَّة التقيَّة، ليست دالَّة على الإلزام والوجوب ، بلْ على الجواز على ما سنرى .
أو - بتعبير آخر ـ : إنَّ العمل بالتقيَّة رخصة لا عزيمة ؛ ومِن هنا يُمكن القول : إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام)كان مُخيَّراً يومئذ بين العمل بالتقيَّة وبين تركها ، ولم يكن يُحبُّ العمل بالتقيَّة في حَقِّه ، وما دام مُخيَّراً فقد اختار الجانب الأفضل في نظره ، وهو فعلاً الأفضل في الدنيا والأفضل في الآخرة ، وهو نيله للشهادة بعد صموده ضِدَّ الانحراف والظلم والظلال .
ومِن هنا ـ أيضاً ـ كان عمل أصحاب الأئمَّة والمعصومين عموماً ، مع العلم أنَّهم كانوا عارفين بالأحكام مُتفهِّمين للشريعة مُرتفعين في درجات الإيمان .
فعمار بن ياسر (عمار بن ياسر : هو بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين ... ابن يشجب المُذحجي ، وهو مِن السابقين الأوَّلين إلى الإسلام ، وهو حليف بني مخزوم . أُمُّه سمية وهي أوَّل مِن استُشهد في الإسلام ، وقد قال فيه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): (مَن عادى عمّاراً عاداه الله ، ومن أبغض عماراً بغضه الله)، وعن عليٍّ (عليه السلام)قال : (جاء عمار يستأذن على النبي (صلَّى الله عليه وآله)فقال : إئذنوا له مرحباً بالطيِّب المُطيَّب)، وعن عائشة قالت : قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): (ما خيّر عمار بين أمرين إلاَّ اختار أرشدهما).
ومِن مناقبه أنَّه قَدِم المدينة ضحى ، فقال عمار : ما لرسول الله بُدٌّ مِن أنْ نجعل له مكاناً ؛ لستضلَّ فيه ويُصلِّي فيه فجمع حجارة فبنى مسجد قِبا . وقال عبد الرحمان السلمي : شهدنا صِفِّين مع علي (عليه السلام)فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية ولا واد مِن أودية صِفِّين إلاَّ رأيت أصحاب النبي (صلَّى الله عليه وآله)يتْبعونه كأنَّه عَلَم لهم .
وشهد خزيمة بن ثابت الجمل ، وهو لا يسلُّ سيفاً ، وشِهَد صفين ولم يُقاتل وقال : لا أُقاتل حتَّى يُقتل عمار فأنظر مَن يقتله ؛ فإنِّي سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)يقول : (تقتله الفئة الباغية)فلمَّا قُتل قال خزيمة : ظهرت له الضلالة . ثمَّ تقدَّم فقاتل حتَّى قُتل : وقُتل عمار في صِفِّين وعمره يومئد 94 سنة ، وقيل : 93 سنة ، وقيل : 91 سنة .
واختلف في قاتله ، فقيل : قتله أبو العارية المزني ، وقيل : الجهني . طعنه فسقط فلمَّا وقع اكبَّ عليه آخر فاحتزَّ رأسه). (8)
وعمار عَمِل بالتقيَّة حين طلب منه مُشركو قريش الطعن بالإسلام ونبيِّ الإسلام . وبتلك المُناسبة نزلت الآية الكريمة (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ ...). (9).
في حين أنَّ عدداً مِن الآخرين تركوا العمل بها ، ودفعوا حياتهم في سبيل ذلك : كميثم التمَّار ، وسعيد بن جبير (سعيد بن جبير : لقد كان سعيد مِن التابعين ، وكان معروفاً بالزُّهد والعبادة وعلم التفسير ، وكان يُسمَّى (جَهْبد العلماء)، وكان يُصلِّي خلف الإمام زين العابدين (عليه السلام)، فأخذه خالد بن عبد الله القسري وأرسله إلى الحجَّاج فلمَّا رآه قال له : ما اسمك ؟ قال : سعيد بن جبير . قال : بلْ شقيُّ بن كُسير .
قال : إنَّ أُمِّي أعلم باسمي منك . قال : شقيت أنت شقيت أُمُّك . قال : الغيب يعلمه غيرك . قال : لأبدِّلنَّك ناراً تلظى . قال : لو علمت أنَّ ذلك بيدك لاتَّخذتك إلهاً . قال : فما قولك في محمد ؟ قال : نبيُّ الرحمة وإمام الهُدى . قال : فما قولك في علي : أهو في الجَنَّة أو في النار ؟ قال : لو دخلتها وعرفت مَن فيها عرفت أهلها . قال : فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لستْ عليهم بوكيل . قال : فأيُّهم أحبُّ إليك ؟ قال : أرضاهم للخالق . قال : فأيُّهم أرضى للخالق ؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سِرَّهم ونجواهم . قال : أبيت أنْ تُصدِّقني ! قال : بلْ لم أُحبَّ أنْ أُكذِّبك . قال الحجَّاج : فاختر أيَّ قتله أقتلك .
قال سعيد : اختر لنفسك ـ يا حجَّاج ـ فو الله ، ما تقتلني قتله إلاَّ قتلك الله مثلها في الآخرة قال : أفتُريد أنْ أعفو عنك ؟ قال : إنْ كان العفو فمِن الله . وأمَّا أنت فلا براءة لك ولا عذر . قال الحجَّاج : اذهبوا به فاقتلوه ، فلمَّا خرج من الباب ضحك .
فأُخبر الحجَّاج بذلك فأمر بردِّه وقال : ما أضحكك ؟! قال : عجبت مِن جُرأتك على الله وحِلم الله عنك . فأمر الحجَّاج بالنطع فبًسط ، فقال : أقتلوه . قال سعيد : وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مُسلماً وما أنا مِن المُشركين . قال : شدُّوا به لغير القبلة ! قال سعيد : فأينما تولُّوا فثمَّ وجه الله . قال : كبُّوه على وجهه . قال سعيد : منها خلقناكم وفيها نُعيدكم ومنها نُخرجكم تارة أُخرى . قال الحجَّاج : اذبحوه . قال سعيد : أمَّا أنَّي أَشهد وأحاجُّ أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ، وأنَّ محمداً عبده ورسوله .
خُذْها منِّي حتَّى تلقاني يوم القيامة . ثمَّ دعا سعيد الله فقال : اللَّهمَّ لا تُسلِّطه على أحد يقتله بعدي ، فذبح على النطع رحمه الله . ولم يعش الحجَّاج بعده إلاَّ خمس عشرة ليلة ظلَّ يُنادي فيها مالي ولسعيد بن جبير كلَّما أردت النوم أخذ برجلي .)(10)
وعمل بالتقية حجر بن عدي ، وزيد بن علي الشهيد وغيرهم .
ولو كانت التقيَّة واجبة إلزاماً لكان حال هؤلاء وغيرهم على باطل ، مع العلم أنَّهم لا شكَّ على حقٍّ ؛ لأنَّهم مُتَّفقهون بالأحكام الإسلاميَّة جزماً . ولاشكَّ أنَّها - مع ذلك - مشروعة ؛ فيتعيَّن أنْ تكون مشروعة بنحو التخيير لا بنحو الإلزام .
ومِمَّا دلَّ على ذلك ما روي عن رجلين مِن أهل الكوفة أُخِذا . فقيل لهما : ابريا مِن أمير المؤمنين (عليه السلام). فبرئ واحد منهما وآبى الآخر . فخُلِّي سبيل الذي برئ . وقُتِل الآخر . فقال الإمام الباقر (عليه السلام): (أمَّا الذي برئ فرجل فقيه في دينه ، وأمَّا الذي لم يبرأ فرجل تعجَّل إلى الجنَّة)(11).
ولذا يُمكن القول : بأنَّه لم يثبت أنَّ ترك التقيَّة حرام ، إلاَّ قوله في أحدى الروايات : (التقيَّة ديني ودين آبائي)و (لا دين لمَن لا تقيَّة له)(12).
وهي لا شكَّ دالَّة على الإلزام . إلاَّ أنَّها ساقطة بالمُعارضة مع الروايات الدالَّة على الرخصة ، كالرواية السابقة (13)، فيبقى حُكم التقيَّة على التخيير .
والآيات الكريمة أيضاً غير دالَّة على الإلزام ، منها قوله تعالى : (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ)(14).
وقوله تعالى : (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(15).
وفي كلتا الآيتين يُعتبَر حًكم التقيَّة استثناء مِن أمر حرام وهو : موالاة الكافرين في الآية الأُولى ، والكفر في الآية الثانية . والاستثناء مِن مورد الحضر أو الحُرمة لا يدلُّ على أكثر مِن الجواز ، وذلك كما قال الفقهاء حول قول تعالى : (... وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ...)(16)، فإنَّ حكم الصيد في استثناء مِن جانب حُرمته في حال الإحرام مع احتمال استمراره بعده ؛ فيكون دالَّاً على مُجرَّد الجواز .
نعم ، قد تكون التقيَّة واجبة إلزاماً ، فيما إذا توقَّف عليها هدف اجتماعيٌّ عامٌّ مُهمٌّ ، كالمُحافظة على بَيضة الإسلام ، إلاَّ أنَّه لم يكن الأمر يومئد هكذا ، بلْ بالعكس على ما سوف نعرف ، فإنَّ حفظ الإسلام يومئذ كان مُتوقِّفاً على التضحية لا على التقيَّة .
الأمر الرابع : مِن أسباب ترك الإمام الحسين (عليه السلام)للعمل بالتقيَّة : إنَّنا حتَّى لو تنزَّلنا عمَّا قلناه في الأمر الثالث ، وفرضنا التقيَّة إلزاميَّة . إلاَّ أنَّ هذا الحكم بالإلزام ساقط بالمُزاحمة مع الأهمِّ ، إذ مِن الواضح مِن سياق الآيات أنَّ الأمر بالتقيَّة إنَّما هو في موارد فرديَّة مُتفرِّقة ، والإمام الحسين (عليه السلام)واجه قضايا عامَّة تقتضي ترك التقيَّة والعمل بالتضحية :
أهمُّها : الطلب منه بمُبايعة الحاكم الأُموي ـ يومئذ ـ يزيد بن مُعاوية (17).
وهو ما يترتَّب عليه نتائج وخيمة بالغة في الأهمِّيَّة ، قد تؤدِّي إلى اندراس الإسلام الحقيقي ، مُنذ عصره إلى يوم القيامة .
ومِن القضايا العامَّة المُهمَّة التي واجهها (سلام الله عليه)طلب أهل الكوفة لمُبايعتهم له وولايته الفعليَّة عليهم (18).
وهو حُكم عامٌّ ومُهمٌّ شرعاً ومُتقدِّم على حُكم التقيَّة .
وكلا الأمرين لم يواجهه أحد مِن أولاده المعصومين التسعة (عليهم السلام)؛ ومِن هنا كان عملهم بالتقيَّة مُتعيِّناً ، ومِن المُمكن القول : إنَّهم لو واجهوا ما واجهه الحسين (عليه السلام)لكان ردَّ فعلهم كردِّ فعله تماماً .
الأمر الخامس : إنَّ الحسين (عليه السلام)عَلِم ـ علماً طبيعيَّاً أو إلهاميَّاً ـ أنَّه سوف يموت على كلِّ حال حتَّى في مكَّة ، فضلاً عن غيرها مِن بلاد الله ؛ ولذا ورد عنه : (أنَّهم سوف يقتلوني حتَّى لو وجدوني مُتعلِّقاً بأستار الكعبة)(19)
ومَن يكون حاله هو العلم اليقين بموته ، يرتفع عنه حُكم التقيَّة مِن قاتله ، وله أنْ يفعل ما يشاء . تصوَّر شخصاً محكوماً عليه بالإعدام ، وسوف يصعد عمَّا قليل على خشبة المشنقة ، فعندئذ تهون الدنيا في نظره ، ويُمكنه أنْ يفعل أو يقول ما يشاء تجاه جلاَّديه ؛ لأنَّهم سوف لن يزيدوا على قتله على أيَّ حال .
فعلى ذلك كان حال الإمام الحسين (عليه السلام)، ومعه فضَّل أنْ يموت بهذا الشكل عن أنْ يموت خامل الذِّكر مُحوَّطاً بالذلة والنسيان .
إلاَّ أنَّ هذا الوجه بمُجرَّده لا يتمُّ ؛ لأنَّه (عليه السلام)لو كان قد قَبِل بالمُباعية لكفُّوا عن العزم على قتله ، وهذا واضح لديه ولدى غيره .
إذاً ؛ فالعلم بموته إنَّما بصفته رافضاً للمُبايعة صامداً ضدَّها . إذاً فيرجع هذا الوجه إلى وجه آخر مِمَّا ذكرناه كالوجه الرابع السابق .
الأمر السادس : إنَّ حُكم التقيَّة وإنْ كان نافذ المفعول عليه (عليه السلام)وغيره مِن البشر ، إلاَّ أنَّه مُخصَّص في حقِّه (عليه السلام)فهو خارج عن حكمها بالتخصيص والاستثناء . وقد ثبت لديه التخصص ، إمَّا بالإلهام ، وأمَّا بالرواية عن جَدِّه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)(20)؛ ولذا لم تكن التقيَّة في حقِّه واجبة ولا تركها عليه حراماً .
وربَّما عُدَّ مِن الأدلَّة في هذا الصدد ، ما ورد مِن بكاء النبي (صلَّى الله عليه وآله)على مقتل الحسين (عليه السلام)يوم ميلاده (21)، لعلمه المُسبق بذلك ، وهو ما يُستفاد ولهذا بكاه عدد مِن الصحابة (رضوان الله عليهم)، منهم سلمان الفارسي حيث مرَّ على كربلاء حين مجيئه إلى المدائن ، فقال هذه مصارع إخواني ، وهذا موضع مَناحتهم ومِهراق دمائهم ، يُقتل بها ابن خير الأوَّلين والآخرين . (رجال الكشِّي ص13 ط هند)، وكذا بكاه أمير المؤمنين في مسيره إلى صِفِّين نزل فيها ، وأومأ بيده إلى موضع منها ، فقال : (ههنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم ـ ثمَّ أشار إلى موضع آخر وقال : ـ ههنا مِهراق دمائهم ثقل لآل محمد ينزل ، ههنا ـ ثمَّ قال : ـ واهٍ لك يا تربة ، ليحشرنَّ منك أقواماً يدخلون الجنَّة بغير حساب)وأرسل عبرته وبكى مَن معه لبكائه وأعلم الخواصَّ مِن صَحبه بأنَّ ولده الحسين يُقتل ههنا في عُصبة مِن أهل بيته وصحبه هُمْ سادة الشهداء لا يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق (22)
بلْ يتعدَّى الأمر إلى الأنبياء السابقين على نبيِّنا الأعظم وآله وعليه السلام ، فلقد بكاه آدم (عليه السلام)والخليل إبراهيم معه ، فإنَّه كالشهيد مع الأنبياء مُقبلاً غير مُدبِر ، وكأنِّي أنظر إلى بُقعته وما مِن نبيٍّ إلاَّ وزارها وقال : (إنَّك لبُقعة كثيرة الخير ، فيك يُدفن القمر الزاهر)(23)
منه جواز حركته واحترام ثورته ؛ فيكون مُخصِّصاً لما دلَّ على حُرمة التقيَّة لو وجد .
وهذا الوجه أكيد الصحَّة ، لو تمَّ بالدليل كون التقيَّة عزيمة لا رُخصة ، وهو الوجه الذي يشمل أهله وأصحابه وأهل بيته ، الذين رافقوه في حركته وآزروه في ثورته ؛ فإنَّ التقيَّة إنْ كانت واجبة في حقِّهم أساساً ، فهي لم تكن واجبة عندئذ ، بلْ مُستثناة عنهم بأمر إمامهم الحسين نفسه ؛ حيث أوجب عليهم المسير معه والقتل بين يديه (24)
بلْ التقيَّة لم تكن واجبة مِن هذه الناحية على أيِّ واحد مِن البشر على الإطلاق ؛ تمسُّكاً بما ورد عنه (سلام الله عليه): (مَن سمع واعيتنا ولم ينصرنا اكبَّه الله في النار)(25).
وهو دالٌّ بوضوح على لزوم نصره ووجوب ترك التقيَّة مِن هذه الناحية ، وكذلك ما ورد عنه أنَّه قال (عليه السلام)حيث بقي وحيداً بعد مقتل أصحابه وأهل بيته : (هل مِن ناصر ينصرنا وهل مِن ذابٍّ عن حرم رسول الله)(26)، وسنذكر بعونه تعالى أنَّ هذا إنَّما قال الحسين (عليه السلام)لأجل إقامة الحُجَّة على الآخرين
 كما يشمل أهله وأصحابه (رضوان الله عليهم)وجوه أُخرى لترك التقيَّة مِمَّا سبق ، كالأمر الثالث الذي ذكرناه وهو كونها تخيريَّة وليس إلزاميَّة ، والأمر الثاني والأمر الرابع ، فراجع .
والسرُّ في سقوط التقيَّة ، كما أشرنا عن جميع البشر في ذلك العصر ، مِن هذه الجهة ، لا ينبغي أنْ يكون خافياً وحاصله : إنَّ الناس لو كانوا قد استجابوا بكثرة وزخم حقيقيَّين ، وإذا كانت أعداد مُهمَّة منهم قد أدركت مصالحها الواقعيَّة في نصر الحسين (عليه السلام)لتحقُّق النصر العسكري له فعلاً ، ولفشل عدوِّه الأُموي الظالم .
بلْ في المُستطاع القول : بأنَّه مع حُسن التأييد يكون زعيماً فعليَّاً على كلِّ بلاد الإسلام ، فيحكمها بالعدل وبشريعة جَدِّه رسول الله ، غير أنَّ المُجتمع في ذلك الحين كان مُتخاذلاً جاهلاً ، ولله في خلقه شؤون .
المصادر :
1- بحار الانوار 44/367
 2- كشف المُراد للعلاَّمة ص 294
 3- سورة آل عمران آية 28 .
 4- أصول الكافي ج2ص219حديث 12 - باقتضاب - طهران .
5- أصول الكافي ج2ص217 الحديث الثاني - بتصرُّف واقتضاب - مُختصر بصائر الدرجات ص101 .
 6- أصول الكافي ج2 ص221حديث 23 - بتصرُّف واقتضاب .
7- البحار للمجلسي ج4ص326 مناقب ابن شهرآشوب ج2ص208 اللهوف لابن طاووس ص11 .
 8- أُسد الغابة ج4 ص 43. بتصرُّف واقتضاب .
9- سورة النحل آية 106 وهو قوله تعالى :
10- وفيات الأعيان لابن خلكان ج2 ص372 ط بيروت مُقارنة بمروج الذهب للمسعودي ج3 ص164 .
 11- أصول الكافي ج2ص221 حديث 21 ط طهران
12- أصول الكافي ج2 ص224 حديث 2 ط طهران .
13- رواية الرجلين اللذين أُخِذا مِن أهل الكوفة .
14- سورة آل عمران آية 28 .
 15- سورة النحل . آية 106.
 16- سورة المائدة آية 2 .
 17- البداية والنهاية لابن كثير ج2ص146 - مروج الذهب للمسعودي ج3 ص65 .
 18- اللهوف لابن طاووس ص14 - تاريخ الفتوح لابن أعثم ج5 ص46 - أسرار الشهادة للدربندي ص199 .
 19- مرآة العقول للمجلسي ج2ص194- مُثير الأحزان لابن نما الحلِّي ص41 . بالمضمون ، مِن الشبكة .
20- البحار للمجلسي ج44 ص328 - أسرار الشهادة للدربندي ص224
 21- الخصائص الكبرى ج 2 ص125 - أمالي الصدوق ص118 الحديث 5 - البحار للمجلسي ج44ص250- تاريخ أبن عساكر ترجمة الإمام الحسين ص183.
 22- مقتل المُقرَّم نقلاً عن كامل الزيارات ص27
 23- كامل الزيارات لابن قولويه 67.
 24- مُثير الأحزان لابن نما ص 39 البحار للمجلسي ج45 ص86 أمالي الصدوق ص131 .
 25- أمالي الصدوق ص 132 - مقتل الخوارزمي ج1 ص227 البحار ج44 ص315 .
 26- اللهوف لابن طاووس ص 49 كشف الغمَّة للأربلي ج2 ص262 .

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الفرق بين علوم القرآن والتفسير
وتسلّط‌ ارباب‌ السوء
اليقين والقناعة والصبر والشکر
القصيدة التائية لدعبل الخزاعي
في رحاب أدعية الإمام الحسين (عليه السلام)
أقوال أهل البيت عليهم السلام في شهر رمضان
آيات ومعجزات خاصة بالمهدي المنتظر
علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
أوصاف جهنم في القرآن الكريم
ألقاب الإمام الرضا عليه السلام

 
user comment