عربي
Thursday 18th of April 2024
0
نفر 0

نحو قراءة فلسفية أعمق لخطاب النهضة الحسينية

نحو قراءة فلسفية أعمق لخطاب النهضة الحسينية.. د . محمد سعيد الأمجد لا يمكن للباحث الولوج الى آفاق العظمة عند الإمام الحسين (عليه السلام) ، إلاّ بمقدار مانملك من بعد في التصور، وانكشاف في الرؤية ، وسمو في الروح والذات... فكلما تصاعدت هذه الأبعاد ، واتسع
نحو قراءة فلسفية أعمق لخطاب النهضة الحسينية

 نحو قراءة فلسفية أعمق لخطاب النهضة الحسينية..

د . محمد سعيد الأمجد

لا يمكن للباحث الولوج الى آفاق العظمة عند الإمام الحسين (عليه السلام) ، إلاّ بمقدار مانملك من بعد في التصور، وانكشاف في الرؤية ، وسمو في الروح والذات...

فكلما تصاعدت هذه الأبعاد ، واتسعت هذه الأطر، كلما كان الانفتاح على آفاق العظمة في حياة الإمام الحسين (عليه السلام) أكثر وضوحاً ، وأبعد عمقاً ، وفي السنين الأخيرة حدث تطور فكري باتجاه قراءات جديدة للفكر العربي ، ألقت بأثرها على قراءة التاريخ الإسلامي ، وخصوص ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء ، مما أدى الى المزيد من استكناه دلالاتها في الحياة السياسية والاجتماعية والانسانية.
إن المتتبع لمراحل التاريخ الإسلامي ، يجد الكثير من الحركات التي تبنّت الدعوة إلى تنقية الفكر والعقيدة والواقع وإصلاحه ، لكنها كانت على الدوام تقع في إشكالية الفهم التجزيئي للإسلام ، وفهم مقاصده ، والخلط بين الوسائل والغايات ، فكانت تكرّس واقع الجمود في الأمة ، أو تصبح مدخلاً للتطرف والفكر التكفيري ، وشق صف الأمة .
والذي يلاحظه الباحثون والنقاد أنه قد أدّى التركيز على عنصر المأساة التي وقعت في كربلاء ، إلى اختزال تعاليم هذه المدرسة الفكرية العظيمة بعنصر المصيبة الفاجعة ، التي حلّت بالحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه ، وغابت عن أنظارنا الأهداف التي سعى مهندس وعي النهضة الى تحقيقها ، حتى خيّل للبعض أن النتائج ( الموت والسبي..) التي حصلت في كربلاء ، هي الأهداف التي سعى الإمام الحسين (عليه السلام) لتحقيقها من أول الأمر ، مع أن الإختلاف بين النتائج والأهداف يجب أن يكون من الواضحات ، فإن النتائج المأساوية قد صنعها المستبدون والطغاة ، لتعطيل حركة الإمام الحسين (عليه السلام) باتجاه الأهداف (الاصلاح والوعي الديني).
ان تأثير قضية الإمام الحسين (عليه السلام) تتجاوز زمانها ومكانها ، وهي قد أنتجت حركة فكرية ثقافية واسعة ، تطال مختلف جوانب المعرفة والحياة ، كما قدمت منظومة مناقبية جديدة ، تنبثق من روح المسؤولية والالتزام الأخلاقي ، وتجلى ذلك في أخلاقيات معسكري الحادثة ، حيث معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) وأنصاره الذين دافعوا بعز وفداء وأخلاقية عالية عن الدين والمصلحة العامة ، في مقابل من في المعسكر الآخر الذين سيطرت عليهم الأنا والمصالح والانتهازية ، على حساب ضمائرهم ودينهم وأمتهم.
فالإصلاح الذي رفع شعاره الإمام الحسين (عليه السلام) هو إحياء وتحديث لأمر أو منهج له سابقة ، لذلك يمنح الإمام الحسين (عليه السلام) هذه المسألة في نهضته بُعداً حركياً ، ينبغي أن نمضي في دراسة حركته الاصلاحية ، فنأخذ بالأهداف السياسية والإحتماعية ، ونبتعد عن النتائج التي ارتبطت بخذلان الناس ، وإرهابية السلطة الحاكمة وظروفها الزمكانية .
عندما طرح الإمام  الحسين (عليه السلام) مشروعه لم ينطلق في خطابه من حالة مذهبية ، بل من خلال البعد الانساني للإسلام ، وبخطاب إسلامي الإطار ، حسيني المفردة ، واقعي الابداع .
يقول جرهارد كنسلمان: ( إن الحسين ومن خلال ذكائه ، قاوم خصمه الذي ألب المشاعر ضد آل علي ، وكشف يزيد عبر موقفه الشريف والمتحفظ ، فلقد كان واقعيا ولقد أدرك إن بني أمية يحكمون قبضتهم على الإمبراطورية الإسلامية الواسعة) .
ولذا فقد كان الإمام الحسين (عليه السلام) إنسانياً حتى في نظرته للثورة وتفاعله معها وتفعيلها ، فقد رفض أن يخضع خضوعا كليا للحتمية الإجتماعية والتاريخية ، لأنه ربط الحتمية التاريخية بالاهداف التي وضعها جده الرسول الخاتم (صلى لله عليه وآله) ، وقد ربط الحتمية بالقيم الأخلاقية والدينية ، فولادة الإمام الحسين (عليه السلام) كانت ولادة منهج الثورة في حركتها ، نحو تحقيق الأهداف الانسانية الكبرى ، كما أن بانوراما الاستشهاد هي آلية الثورة في تجاوزها لآنية الحدث وانفتاحها على كونية الفكر ، ولما يجب عليه ان تكون الأمة .
((من كان باذلاً فينا مهجته ، وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا , فإني راحل مصُبحاً إن شاء الله تعالى )) .. بهذه الصيحة أطلق عوامل الإمتداد والتوهج ، وينحو بحركته النهضوية الكبيرة منحىً رساليا تعبدياً ، يسير وفق منهج يرسخ علاقة الإنسان بالخالق في مجمل حركته في الواقع السياسي والاجتماعي .

وهذه الخصوصية المتأصلة في الحسين (عليه السلام) تولدت من عوامل أهمها: أنها كانت عملية إبداعية تكاد تتجاوز قيمة الشكل الفني لتصبح رؤيا مستقبلية للحياة ، فقيمة التحرك الحسيني والخروج لـ( الحياة ) و( الفتح ) تكاد لاتختلف عن عملية الخلق أو النشأة الأولى ، ليس فقط باعتبارها إضافة نوعية للحياة ، ولكن باعتبارها تفسيرا فلسفيا لغائية الوجود. وعندما يكون هذا الانسان إماما معصوما يمثل استيعابا كليا للوجود ، كما يمثل استيعابا كليا لحركة الحياة .
وكان من أبرز الصفات المتجليّة لدى نخبته التي تحركت معه وفق منهج إختيار وترشيح دقيق ؛ الصدق في الحركة الاصلاحية ، والاخلاص في الثورة من دون ان تشوبها أغراض ومطامع دنيوية أخرى ، والزهد في المناصب السياسية والدنيا ، والتفاني في سبيل القائد ، ويتجلى ذلك فيما أبدعه العباس وزينب وحبيب وجون وعابس وبرير وغيرهم ، والتصريحات التي انطلقت من أفواه الرجال الذين كانوا بركب  الحسين (عليه السلام) ، كمسلم وزهير وعلي الأكبر والقاسم وآخرين ، وهذه المكرمات والصفات التي لازمت الحسين (عليه السلام) وأهله وأصحابه ، وهي من العوامل المهمة في إضفاء صفة الجذابية على تلك النخب الطيبة.


أما مفردات خطابه السياسي ، فنراه يستبطن مشروعاً تحريكياً وتفجيرياً لإرادة الإنسان ، وضميره الذي استبدلته الأجهزة الحاكمة بعضوٍ آخر ، لا نبض فيه ولا حركة ولا طموح .

مرّكزاً على فرصة الخلود والرجوع الى الحق ، وتصويرها على أنها فرصة بيد إنسان ذلك العصر وكل عصر ، والمطلوب منه أن ينظر إلى نفسه نظرة موضوعية لا تجزيئية , ويرى موقعه من حركة التاريخ وسير أحداثه , ويعي هذا الموقع وعياً عملياً يدعوه إلى البذل والتضحية ونكران الذات ، ليتحول فعله الى إرادة جماهيرية فاعلة ، تستنزل المفهوم إلى أرض الصراع وواقع المواجهة , ليتحرك (مفهوم الإرادة) على شكل واقع قيمي معطاء ، يدير كفة الصراع باتجاه طرف الحق والخير والفضيلة ، خلافا لأولئك متذبذبي الإرداة , محدودي العطاء , مشلولي القدرة على التصميم , فإنهم لن ينالوا شيئاً من هذا الفتح الحضاري العظيم الذي لا يزال يدوّي في عالم الخنوع ، رمزاً لكل الأحرار والرساليين ، وهذه هي الفلسفة التي حاولت أدبيات النهضة الحسينية أن تركّزها في وجدان الأمة وذهنيّتها ، من خلال الفعّاليات المختلفة لرمزها الشهيد على أرض كربلاء .
فالخطاب الحسيني كان يمتح من عناصره الزمنية أي من بؤرة الصراع نفسها ، ففي زمن الإمام الحسين (عليه السلام) كانت القيادة الشرعية مشخّصة ، والحق واضحاً , إذ لم تكن لعبة خلافة يزيد لتنطلي على أبسط أفراد المجتمع , لما رأوه من نزقه وطيشه واستبداده , ولكن الأمة كانت مبتلية بمرض آخر ، وهو ضعف الإرادة الذاتية ، وضمور قدرة الفرد على اتّخاد القرار الحاسم , نتيجة الترغيب والترهيب اللذّين كانت تمارسهما السلطة بحق الشعب ، فتولى الإمامة وهو يجد أمامه أمة خائرة في إرادتها ، متميّعة في ضميرها , ذليلة في موقفها , تلهث وراء المصالح الشخصية ، أو سبل الحفاظ على حياتها ، وحينما يبلغ الإعتداء حد تشويه ملامح هذه الرؤية ، وضياع رسمها بشكل تام ، أو استبدالها برؤىً وضعية غير معتمدة على خلفية شرعية , يتحتم على الرساليين أنّ ينطلقوا لإزاحة التشويه الملامحي ، وإعادة بناء الرؤية عبر أطروحة تطبيقية تعيد لها نصابها الواقعي .
وبما أن تشويه هذه الرؤية ليس نظرياً فالمطلوب ـ حسب التشخيص الحسيني ـ ليس إلقاء المحاضرات ، أو تبيين المفاهيم والتصوّرات , بل المطلوب هو فعل يهزّ ضمير الأمة ، ويزلزل سكون الواقع ، ويبعث في الأجساد الميّتة ـ بفعل التضليل الدعائي للسلطة ـ الرغبة والنزعة إلى تغيير الواقع واستبدال مفاصله الشوهاء ، وذلك عن طريق تحريك الإرادة الذاتية للإنسان المسلم ، وإعادة محوريتها في صنع الحدث ، وتحويل مسار التاريخ بالاتجاه المثمر لخير الإنسانية ، فالمطلوب إذاً لعلاج الواقع ـ حسب تحليل الإمام (عليه السلام) ـ هو التغيير الذي يسير وفق إيقاع خطى قافلة الإمامة والقيادة الشرعية , ليكون التغيير مقدمة نحو تحريك الإنسان وارادته ، كي يستقبل عهد التغيير الشامل ، والانتصار الأخير للإرادة الإلهية .


والدليل على هذا الربط أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان يطلق على خروجه وحركته (فتحاً): ((ومن تخلّف عني لم يبلغ الفتح)) ، مع أنها تفضي إلى الموت والشهادة .

وكانت نتائج الوعي الحسيني تتوزع على محورين أساسين :
وعي الذات : حيث كانت أغلب الشخصيات - فردا أو مجتمعا- لا يعرفون حقيقة ذواتهم ، فهناك في الواقع مستويان من الشخصية ، الشخصية الظاهرية ، والشخصية الحقيقية .

الشخصية الظاهرية هي : الشخصية التي تظهر على السطح في الظروف الطبيعية والأجواء الاعتيادية .

أما الشخصية الحقيقية فهي : تلك الجوانب الخفيّة من الشخصية التي لا تظهر إلاّ في الظروف الإستثنائية الخاصة .

وهذا هو الخطأ التاريخي الذي وقع فيه المجتمع آنذاك ، فقد كانت معرفة هذا المجتمع بذاته محدودة بشخصيته الظاهرية المحبة والمرتبطة بالإمام الحسين (عليه السلام) ، والراغبة في الدفاع عنه والتضحية لأجله ، ولكنه كان يجهل شخصيته الحقيقيّة والتي حقيقتها الضعف والخوف ، والحب المحدود للإمام الحسين (عليه السلام) .
وكانت نتيجة هذا الجهل المطبق بالذات ، الوقوع في أكبر خطأ تاريخي عرفه الإسلام ، وذلك عندما صاغ أهدافه وتطلعاته السياسية ، بإقامة الحكم الإسلامي بقيادة الإمام الحسين (عليه السلام) بناءً على شخصيته الظاهرية ، فوجه كثير من رجالات الكوفة ومن حولها الدعوة المؤكدة والمتكررة للإمام الحسين (عليه السلام) بالقدوم لهم ، وقدموا الوعود المغلّظة والمشددة بنصرته ، والصمود معه حتى الشهادة ، وهو ما كان مخالفا لما حصل منهم لاحقا ، إذ أسلموا الإمام الحسين (عليه السلام) للموت وتركوه وحيداً وغريبا ومحاصرا ، يستغيث : (( ألا من ناصرا ينصرنا )) ، فلا يجد منهم إلا التخاذل .
أما المحور الثاني فهو وعي الواقع : حيث كان هناك قطاع من المسلمين ما زال يعاني خللا في تشخيص الواقع وظروفه الموضوعية ، وتحديد اتجاهاته وتقييم شخوصه ، فأين هو الحق وأين هو الباطل ؟ ومن هو يزيد ومن هو الحسين ؟ وفي الحقيقة لا يمكن إدراك المغزى العميق لما تمثله النهضة الحسينية من الوعي بالقدرات التنظيمية الهائلة في رص الواقع الـشعبي ، وتأليفه في جماعة عضوية متطابقة ، الاّ بمعرفة الوضع السياسي ، وبشاعة الإرهاب الـذي كـانـت تـمارسه السلطة ضدهم ، ولمحات سريعة تكفي لاعطائنا مدلولات عن معاناة الشعب السياسية والأمنية ، والإمكانات الهائلة التي وفرتها النهضة الحسينية في إعادة بناء الكتلة الإجتماعية ووعيها بواقعها .
والنتيجة أننا كمسلمين وكبشر تواجهنا في الحياة وفي كل جيل من أجيالنا مشاكل وتحديات في مجال الحرية والكرامة والفكر والسلوك ، فقد نُبْتلى بالّذين يريدون فرض العبوديّة والذلّ والتبعية علينا في حياتنا العامّة والخاصّة ، وقد تواجهنا في الحياة قضيّة العدالة في مسألة الحكم والحاكم الّذي يفرض علينا الظلم ، في ما يُشَرِّع من قوانين ، أو ما يتحرَّك به من مشاريع ، أو ينشئه من علاقات ويقيمه من معاهدات وتحالفات ، وهذا ما يبعث فينا ضرورة تفعيل الدعوة إلى القراءة الجديدة لأحداث كربلاء ، حتى يمكننا أن نخرج أكثر وعياً و فهماً لحركة الجماهير وطبيعة الأدوار التي قاموا بها ، والتي تُشكّل لنا المرشد والموجّه في عملنا السياسي والإجتماعي والثقافي ، وهنا نحن بحاجة إلى عاملي العقل والعاطفة ، لصياغة هذه الخلفية ، بحيث يكون العقل كالمسطرة الحازمة والدقيقة في الفصل بين معقدات الأمور ، وتكون العاطفة كالشحنة المكثفة من الطاقة التي تدفع الإنسان للصمود أمام الآخرين

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

قراءة جديدة في كتاب نهج البلاغة
كلمات في الإمام الرضا ( ع )
الزهراء بعد الرسول الله صلوات الله عليهما
قم وأهلها فی روایات أهل البیت (علیهم السلام)
النص على إمامته
المسيح.. في كربلاء
معاشرة فاطمة ( عليها السلام ) للإمام علي ( عليه ...
البعثة النبوية المباركة
مرقد الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع)
آداب الأخوة عند الإمام علي ( عليه السلام )

 
user comment