عربي
Saturday 20th of April 2024
0
نفر 0

الحرية في القرآن

يزخر القرآن الكريم والسنة المطهرة بالعديد من المبادئ والأسس التي تنير الطريق للفرد المسلم وللمجتمعات المسلمة لتحقيق غايتها من الوجود فهناك مبادئ التربية الخلقية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والجنسية والروحية والجسمية ، وهناك أيضا مبادئ التربية الذاتية وغيرها ، وفي مجال التربية الإسلامية تسعى كل من هذه المبادئ للوصول بالإنسان إلى غاية خلقه ووجوده وتحقيق دور
الحرية في القرآن

يزخر القرآن الكريم والسنة المطهرة بالعديد من المبادئ والأسس التي تنير الطريق للفرد المسلم وللمجتمعات المسلمة لتحقيق غايتها من الوجود فهناك مبادئ التربية الخلقية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والجنسية والروحية والجسمية ، وهناك أيضا مبادئ التربية الذاتية وغيرها ، وفي مجال التربية الإسلامية تسعى كل من هذه المبادئ للوصول بالإنسان إلى غاية خلقه ووجوده وتحقيق دوره في الحياة ، ويحسن بالباحث قبل المضي قدما توضيح المقصود بكلمة المبادئ وماذا نعني بقولنا : أن هناك مبادئ في التربية الإسلامية ثم ما هي وظيفة مبادئ التربية الذاتية .
يقول ابن منظور : البدء فعل الشيء أول ، .. والبدء والبدئ : الأول وأبدأت بالأمر بدءا : ابتدأت به ، وبادئ الرأي : أوله وابتداؤه ، وقال الفراء : لا تهمزوا بادي الرأي أي أول الرأي لأن المعنى فيما يظهر لنا ويبدو ، وقال : ولو أراد ابتداء الرأي فهمز كان صوابا(1)
وصرح هارون بكلمة المبادئ فقال : المبدأ مبدأ الشيء أوله ومادته التي يتكون منها كالنواة مبدأ النخل ، أو يتركب منها كالحروف مبدأ الكلام ، وجمعها مبادئ ، ومبادئ العلم أو الفن أو الخلق أو الدستور أو القانون : قواعده الأساسية التي يقوم عليها ولا يخرج عنها (2)
وبالنظر إلى البحوث والدراسات التربوية المعاصرة وجد الباحث أن معظمها لم يتطرق إلى تعريف واضح محدد للمبادئ ، فتجد كتابا أو بحثا بعنوان مبادئ تربوية في كذا أو لكذا ، وإذا ما تصفحت ذلك الكتاب أو البحث تجد أن المؤلف أدرج بعض المفاهيم التربوية معتبرا إياها دون أن يوضح ماذا يقصد بهذا المصطلح التربوي ، وممن عرف هذا المصطلح عبد الرحمن النحلاوي حيث قال إن كلمة المبدأ تعبر عن : فكرة شاملة تنبثق عنها أفكار فرعية أو تنظم على ضوئها عمليات فيزيائية أو كيماوية أو تربوية أو علاقات اجتماعية ، وتأتي المبادئ على الأغلب مصرحا بها أو متضمنة في البحوث أو القصص أو التشريعات أو مجموعة مرتبة في العلوم الطبيعية ، أما مبادئ التربية الإسلامية فيجدها الباحث موزعة في القرآن والسنة (3)
وفي موضع آخر يحدد النحلاوي المبادئ التربوية الإسلامية بأنها : قواعد وقوانين تربوية عامة واسعة الشمول مقتبسة من القرآن والسنة(4)
ويرى الباحث أن التعريفات السابقة غير وافية لتعريف المبادئ التربوية الإسلامية ، وتمحيصا لما ذكر يستخرج الباحث تعريفا يراه جامعا ، فمبادئ التربية الإسلامية هي : قواعد أساسية شاملة تستنبط مباشرة من الكتاب والسنة وتنبثق عنها سلوكيات الفرد المسلم والمجتمع المسلم
ولا يقتصر غياب هذا المفهم على المؤلفات النظرية بل يتعداه إلى الواقع العملي في حياة كثير من المسلمين ، ومما يتأكد لدى كل عاقل حصيف أن المبادئ الإسلامية عموما تبقى كذلك وإن تخلى عنها أصحابها أو تهاونوا في التمسك بها والخاسر الوحيد هو من أعرض عنها ، قال تعالى : { ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم ، إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم } (5)
وقال تعالى أيضا : { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم }(6) والآيتان السابقتان ـ وإن كانتا تتحدثان عن حال الكافرين أو المرتدين ـ إلا أنهما تنطبقان على واقع بعض المسلمين الذين تركوا المبادئ الإسلامية الأصيلة لينهلوا من مبادئ الشرق أو الغرب ، والاستشهاد بالآيتين هنا لبيان الحال فقط والله أعلم بالمآل . وتعتبر مبادئ التربية الإسلامية بحق عنصرا أصيلا وركنا ركينا في مسيرة المربين والمريدين يهتدي بهديها ويسار على خطاها لتؤتى العملية التربوية أكلها كل حين بإذن ربها .
أما فيما يتعلق بهذا البحث فإننا نعرف مبادئ التربية الذاتية بأنها الأسس والركائز التي تضع الفرد المسلم أمام نفسه ليرى مدى تطويعه لهذه المبادئ لتحقيق العبودية الحقة لله سبحانه وتعالى ، وهي تذكرة بدوره ووظيفته كفرد مسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما أنها تجعله يسائل نفسه دائما ويراجعها مقوما ومرشدا لكي يستفيد من ذلك في سيره إلى ربه على صراط مستقيم ، قال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيم فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون }(7)
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ،(8)
وعن النواس بن سمعان ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضرب الله تعالى مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تتعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام والسوران حدود الله تعالى والأبواب المفتحة محارم الله تعالى وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق : واعظ الله في قلب كل مسلم ، (9)
لا ريب أن مبادئ التربية الذاتية تستثير واعظ الله في قلب كل مسلم للمبادرة إلى فعل الطاعات وترك المنهيات بجميع أنواعهما ، أي لتربية ذاته وتزكيتها وتقويمها .
تتضمن الحرية تقرير المصير وهي من هذه الناحية تتفق مع التربية الذاتية ، ولذلك تعتبر الحرية إحدى العلامات المميزة للطبيعية الإنسانية وبها يقرر الفرد ما سيكونه وما سيفعله وما سيعتقده(10)
ولذا فهي من أبرز عوامل تحقيق الذات الإنسانية والتي تسعى التربية لتحقيقها لتكوين شخصية الفرد ، وقد وضع الشرع الحنيف أسسا واضحة لكل فرد لممارسة الحرية بحيث لا تستبد به رغباته وأهواؤه فتزل قدمه ويضل فكره ويخسر دنياه وآخرته .
فالحرية الفردية في الإسلام محددة بضوابط وقيود تجعلها مرتبطة بالأصل الأصيل الذي خلق الإنسان لأجله ألا وهو العبودية لله تعالى ، وهذا التشريع ليس سلبا للأفراد حريتهم بل من أجل أن يجنب البشرية الخوض في مزالق الردى ومهاوي الضلال قرونا طويلة ظلوا يتخبطون فيها ويتعثرون في تجاربهم وتؤدي بهم هذه التجارب إلى دمار الأجيال(11)
ومن فوائد هذا التشريع أيضا أن تراعى حقوق المجتمع ومتطلباته التي قد تتعارض أحيانا مع حق الفرد وحريته ، وقد صور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تصويرا بليغا فقال : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا،
فليس هناك فرد يعيش لوحده يفعل ما يشاء وقتما يريد بحجة أن له حرية شخصية يتصرف بها وفق هواه ، بل أن القضية مرتبطة بأفراد آخرين يتأثر كل منهم بحرية الآخر ، وهذا هو المنهج الذي ينبغي أن يراعى في جانب الحرية ، يقول محمد قطب : ليس هناك مصلحة لفرد هي مصلحته وحده وشأنه بمفرده ، كل مصلحة هي مصلحتهم جميعا ـ أي جميع الأفراد ـ وكل ضرر هو ضرر يصيبهم جميعا ولا يستطيع أحد أن يتخل عن مسئوليته في هذا السبيل (12)
ولما كانت الحرية بهذه الدرجة من الحساسية وكانت بحاجة إلى مستوى معين من التوازن ، فإن على كل فرد مراعاة ذلك في الأقوال والأفعال وتوظيف هذا المبدأ ـ مبدأ الحرية ـ وفق مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد كفل الدين الإسلامي ممثلا في الكتاب والسنة تحقيق هذا المبدأ في نفوس معتنقيه ، ويبرز ذلك في عدة جوانب منها : حرية العقيدة والعبادة .

1ـ حرية العقيدة :

بادئ ذي بدء يقرر الإسلام حرية اعتناق الإسلام فلا يكره أحدا على تبديل عقيدته وإن كان يدعو إلى ذلك ، وفرق بين الإكراه على الإسلام والدعوة إليه . قال تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } وقال أيضا : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر }. فأمر الهدى والضلال أو الإيمان والكفر بيد كل إنسان ولا حق لأحد مهما كان أن يكره غيره أو يجبره قسرا على ذلك فإن فعل فهو مستبد ظالم . يقول سيد قطب – رحمه الله - : إن حرية الاعتقاد هي أول حقوق الإنسان التي يثبت له بها وصف إنسان ، فالذي يسلب إنسانا حرية الاعتقاد إنما يسلبه إنسانيته ابتداء ، ومع حرية الاعتقاد حرية الدعوة للعقيدة والأمن من الأذى والفتنة وإلا فهي حرية بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة ... ، وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان واحترام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما يختص بالهدى والضلال في الاعتقاد وتحميله تبعة عمله وحساب نفسه وهذه هي أخص خصائص التحرر الإنساني ، التحرر الذي تنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب متعسفة ونظم مذلة لا تسمح لهذا الكائن الذي كرمه الله – باختياره لعقيدته – أن ينطوي ضميره على تصور للحياة ونظمها غير ما تمليه عليه الدولة بشتى أجهزتها التوجيهية وما تمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها ، فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا وهو يحرمه من الإيمان بإله للكون يصرف هذا الكون ، وإما أن يتعرض للموت بشتى الوسائل والأسباب (13)
إن استشعار المؤمن لحرية العقيدة التي كفلها الإسلام يزيده يقينا بالهدى الذي منحه الله عز وجل له واختاره من بين كثير من الناس للاعتناق به ، ونداء الفطرة الذي أوجد في كل إنسان يقوده بسهولة إلى التشبث بالمنهج الحق دون عناء أو مشقة ، بل ويتحمل في سبيله كل المصاعب والآلام والعقبات التي يضعها الطغاة لصرفه عن مسايرة فطرته والتمشي بموجبها ، والسبب الكامن وراء ذلك أنه لا يمكن له أن يتخلى عن تلك الفطرة التي غرست في كيانه وأصبحت جزءا لا يتجزأ من نفسه التي بين جنبيه .

نماذج واقعية في تطبيق حرية العقيدة :

وفيما يلي يستعرض الباحث تطبيقات واقعية لحرية العقيدة في حياة أفراد من خير القرون :
وهذا بلال وخباب وآل ياسر وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يعذبون في ذات الله من أجل أن يتنازلوا عن حريتهم ومع ذلك صبروا وتحملوا الشدائد حتى لقي بعضهم حتفه وهو في ذلك العذاب ، وبقي البعض يحدث عما لقيه من العنت والشدة ، وكلهم قد لقي الله وهو راض عنه .

2ـ حرية العبادة :

أما الحرية في العبادة فهي فرع من الحرية في العقيدة ، وحيث أن العبادة هي فعل للمأمورات وترك للمنهيات فقد وضع لنا صلى الله عليه وسلم القاعدة في ذلك قائلا : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم...
وهذا الحديث كما قال النووي في شرح مسلم : من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام(14)
ومن أحكامه ودلائله أنه يتعين على كل مسلم : الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معانيه ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب ما ينهى عنه فيكون همته مصروفة إلى ذلك لا إلى غيره وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة (15) ومن هذا الحديث يتبين لنا عدة أمور هي :

1ـ أن ما نهى عنه الشارع الحكيم يتركه الفرد المسلم بالكلية.
2ـ أن يجتهد في فعل كل الأوامر.
3ـ أن ما أمر به يفعله قدر الاستطاعة .

فالواجب إذن على كل مكلف أن يجتنب المنهيات والمحرمات والمكروهات ، مع المبادرة إلى فعل الطاعات والمسارعة إلى الخيرات وتنويع القربات لتمتلئ الصحائف بالحسنات ، ولو تتبعنا شعائر الإسلام وفرائضه لوجدناها كثيرة جدا وكذلك الواجبات والسنن والمستحبات ، ولا يمكن لفرد أن يقوم بها كلها في وقت واحد وفي ساعة واحدة ، ومن أمثلة ذلك : الصلاة والصيام والزكاة والحج والصدقة وزيارة المريض وقيام الليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقراءة القرآن وتشييع الجنازة وإكرام الضيف وتعليم الجاهل ومساعدة الجيران والجهاد في سبيل الله ومخالطة الناس للنصح والإرشاد وغير ذلك من أمور العبادة ، وفي ذلك يظهر مبدأ الفروق الفردية بين العباد ، كما يظهر مبدأ الحرية في العبادة ، فقد يكون لعبد من العباد أن يكثر من النوافل آناء الليل وأطراف النهار وآخر رغبته في الإكثار من قراءة القرآن ، وفرد ثالث يكثر من الصدقة ورابع مشتغل بتعليم عوام الناس أمور دينهم وخامس آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله ، ....وهكذا .
ولكن ذلك لا يمنع أن تجتمع بعض هذه الأمور أو كلها لشخص واحد وقليل ما هم .
روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أنفق زوجين في سبيل الله نودي يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ، قال أبو بكر الصديق : يا رسول الله : ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعم وأرجو أن تكون منهم،
قال النووي: قال العلماء معناه من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ذلك(16)
ويقول الإمام المقدسي : وقد كانت أحوال المتعبدين من السلف مختلفة ، فمنهم من كان يغلب على حاله التلاوة حتى يختم كل يوم ختمة أو ختمتين أو ثلاثا وكان فيهم من يكثر التسبيح ومنهم من يكثر الصلاة ومنهم من يكثر الطواف بالبيت(17)

الميزان الصحيح لأفضل العبادة :

وإن سأل سائل ما هو الميزان الصحيح لأفضلية العبادة ؟ وما هي القربات التي يحبها الله أفضل من غيرها كي يستزيد منها المرء ؟ وما هو الأنفع والأحق بالإيثار والتخصيص في منازل العبودية ؟ والجواب على ذلك جد يسير فإن : أفضل العبادة في كل وقت وحال : إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه(18)
فكل زمان أو مكان له عبادة أفضل من غيرها ، فمن كان بجوار الكعبة فالأفضل له أن يطوف بدلا من الجلوس لقراءة القرآن ، ومن تيسر له الوقوف بعرفة فذلك أفضل من حضور مجلس للذكر ، وأفضل العبادات في وقت الجهاد : الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن والطمأنينة ، والأفضل في وقت حضور الضيف القيام بحقه من إكرام وغيره والانشغال به عن حق الأهل والأولاد ، والأفضل وقت السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن وترك الزوجة والفراش ، والأفضل وقت انتشار غياهب الجهل وظلماته هو الدعوة إلى الله والنصح والإرشاد وإن أدى ذلك إلى التقصير في زيارة الأقارب وخاصة البعيدين منهم ، فهذا هو العبد الحر أو ما يسميه العزى العبد المطلق الذي : لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه ، فهذا هو المتحقق بـ { إياك نعبد وإياك نستعين } حقا ، القائم بهما صدقا ، ملبسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا ، لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم ، حر مجرد ، دائر مع الأمر حيث دار يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه ، يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله فهو لله وبالله ومع الله(19)
تلك هي الصورة المثالية في حرية العبادة أو ما ينبغي أن يكون ، أما التطبيق العملي للحرية الذاتية في العبادة في واقع المسلمين فيتمثل في قوله تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } (20)فالخلق ثلاثة أصناف في العبادة : ظالم ومقتصد وسابق فالظالم لنفسه العاصي بترك مأمور أو فعل محظور ، والمقتصد المؤدي للواجبات والتارك للمحرمات والسابق بالخيرات المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب والتارك للمحرم والمكروه
وحرية العبادة التي هي حق لكل فرد في المجتمع المسلم لها تأثير بالغ في عبادته وتؤثر مباشرة في شخصيته ، فإذا أدى العبد ما افترض الله عليه من العبادات أمكنه بلا حرج أن يتنقل بين العبادات الأخرى فيما تميل إليها نفسه وتشتاق إليها روحه أكثر من غيرها ، وبذلك يقبل عليها بنفس مطمئنة راضية ويندفع في آدائها بكل رغبة وارتياح .
ويستنبط الباحث حرية العقيدة والعبادة معا في القرآن من قوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ، كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } (21)
المصادر :
1- لسان العرب : محمد بن منظور ، دار صادر ، بيروت 1300 هـ ، 15 جزءا ، 10 /27
2- المعجم الوسيط : عبد السلام هارون وآخرون ، طهران ، المكتبة العلمية ، 10 / 42
3- التربية الإسلامية والمشكلات المعاصرة : عبد الرحمن النحلاوي ، ص 55
4- الإصلاح التربوي والاجتماعي والسياسي من خلال المبادئ والاتجاهات التربوية عند التاج السبكي : عبد الرحمن النحلاوي ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، 1410 هـ ، ص 50
5- آل عمران : 176 ، 177
6- محمد : 32
7- الأنعام : 153
8- أحمد : 1/ 435
9- أحمد : 4/182 وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 3782
10- فلسفة التربية : فينكس ، 1402 هـ ، ص 422
11- المسئولية : محمد أمين المصري ، الكويت ، دار الأرقم ، الطبعة الثانية ، 1400 هـ ، ص 156
12- الإنسان بين المادية والإسلام : محمد قطب ، دار الشروق ، بيروت ، الطبعة السادسة ، 1400 هـ ، ص 168
13- في ظلال القرآن ، مرجع سابق 1/291 .
14- صحيح مسلم بشرح النووي: ، 1407 هـ ، 9 أجزاء 5/102
15- جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم : 1382هـ ، ص 79
16- صحيح مسلم بشرح النووي : مرجع سابق ، 4/116
17- مختصر منهاج القاصدين : المقدسي أحمد بن عبد الرحمن المقدسي مكة دار الباز 1398هـ ، ص 65
18- تهذيب مدارج السالكين : عبد المنعم العزى ، جدة ،دار المطبوعات الحديثة ، 1405 هـ ، ص 72
19- تهذيب مدارج السالكين : عبد المنعم العزى ، جدة ، دار المطبوعات الحديثة ، 1405 هـ ، ص 73
20- فاطر : 32
21- الإسراء : 18 ـ20


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

علي الأكبر شبيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
تربية أطفالنا في ظلّ الإسلام
الإيمان بالإمام المهدي (عج)
حديث الغدير في مصادر أهل السنة
عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
خصال الإمام
أدعية الإمام الرضا ( عليه السلام )
ما هو اسم الحسين عليه السلام
سورة الناس
نقد الذات

 
user comment