عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

أخلاقيات الحرب عند الإمام علي (عليه السلام)

شهدت البشرية عبر تاريخها الطويل ، ومنذ أن وطأت قَدم الإنسان هذه الأرض ، حروباً عديدة ، دينيةً تارة ، وقوميةً أُخرى ، وقَبَلية ثالثةً . وليس بالضرورة أن تكون بعض تلك الحروب غير محقّة في أهدافها ، وإن خلَّفت الويلات وتركت الآثار السلبية على حركة الإنسان التصاعدية نحو النمو والرخاء والرقي فحدَّت منها .
أخلاقيات الحرب عند الإمام علي (عليه السلام)

شهدت البشرية عبر تاريخها الطويل ، ومنذ أن وطأت قَدم الإنسان هذه الأرض ، حروباً عديدة ، دينيةً تارة ، وقوميةً أُخرى ، وقَبَلية ثالثةً . وليس بالضرورة أن تكون بعض تلك الحروب غير محقّة في أهدافها ، وإن خلَّفت الويلات وتركت الآثار السلبية على حركة الإنسان التصاعدية نحو النمو والرخاء والرقي فحدَّت منها .

وعصرنا الحاضر ـ عصر الآلة ـ الذي شهدت فيه الشعوب أعلى مستوى لها من العلم والتقدُّم في جميع المجالات ، سيَّما التسليحية منها ، كثُرت فيه الحروب والنزاعات ، واستُخدمت فيها أنواع أسلحة غريبة لا عهد للإنسانية بها ، لا تُبقي أخضراً ولا يابساً ، ولا إنساناً ولا حيواناً ، فقد استخدمت التقنية لهدم حياة الإنسان أكثر من استخدامها لبنائها .

وما يهمُّنا مع كتابة هذه السطور ، هو الوقوف على أخلاقيات المتحاربين أثناء الحرب والقتال ، بصرف النظر عن الدوافع والدواعي والأهداف المنظورة لهم ، علماً بأنَّ المؤسسات الدولية قد أولت الأهمية الكبرى لبعض جوانب ومخلّفات الحرب ، كالأسرى والمدنيين ، بحيث سعت لأن يكونوا بمعزل عن نتائج الحرب ومآسيها مهما كانت .

وعصرنا الحاضر قد شهد حروباً مدمِّرة ، حصدت أرواح الملايين من البشر ، ودمَّرت مدناً وقرى وحتى دولاً بالكامل . وكانت دوافع أغلب تلك الحروب تسلُّطية استعمارية بحتة ، يضاف إليها سلب الثروات الطبيعية من الشعوب ، ووضع اليد على المناطق الحسَّاسة والإستراتيجية ، كالممرَّات المائية . وقد مارس أرباب القوة والقهر ـ للوصول إلى أهدافهم ـ أبشع الجرائم وأخسّ الأساليب ، كقصف المدنيين ، وسبي النساء والأطفال ، وتعذيب الأسرى وحتى قتلهم في بعض الأحيان ، والأمثلة على ذلك عديدة ماثلة للعيان في عصرنا الحاضر : كممارسات الصرب في البوسنة ، والصهاينة في فلسطين المحتلَّة والمناطق الأخرى ، وما جرى ويجري في العراق وغيره ...

ولم يكن الحكَّام المسلمون قديماً وحديثاً أحسن حالاً من غيرهم ، إذ إنَّهم مارسوا الأساليب المذكورة نفسها ، واقترفوا الجرائم الفظيعة مع خصومهم ، وعاشوراء التاريخ وما جرى فيها ماثل للعيان ، والعهود التي توالت على رقاب المسلمين ، كالعهد الأُموي والعباسي ، وعهد بني مروان والحجاج ، أمثلة أخرى حيَّة على تراجع الفضيلة ، وانتهاك حقوق الإنسان .

ولكن الإنسانية عِبَر تاريخها وفي الوقت نفسه ، لم تُعدم وجود حكَّام شرفاء أبرار ـ وإن كانوا قلَّة ـ عاشوا الفضيلة والشرف في كل لحظة من لحظات حياتهم ، وكتبوا بأحرف من نور أروع المُثل في حروبهم التي قلَّما كانت حروباً هجومية ، من هؤلاء أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) الذي عاش حياة مظلومة ، قضاها في درء العدوان ودفع الفتن ، ومع ذلك اتبع سياسة رصينة ثابتة ، فلم يغدر ولم يفجر ، بل كان يبتغي من محاربة خصومه وأعدائه إنقاذ المغرَّر بهم من الضلالة ، وتثبيت قواعد دولته وإعادة الأمور والحق إلى النصاب الطبيعي .

قال (عليه السلام) : ( فَوَاللَّهِ ، مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلاَّ وأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ ، فَتَهْتَدِيَ بي وتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي ، وذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلالِهَا وَإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا ) (1) . فقد كان في حروبه كلها يكره أن يكون البادئ بالحرب ، بل كان يبادر إلى وعظ عدوه وخصمه وإرشاده ؛ مُلقياً الحجة ، ومبيّناً له فداحة النتائج ، حتى لا يتذرَّع أحد بعد وقوع الواقعة بأنَّنا لو كنا نعلم أو نعقل ما كنا من أصحاب السعير !

ولا يخفى ما في مخاطبة هؤلاء من صعوبة ؛ حيث الجهل المطبق والضلال المبين ، خصوصاً في مثل تلك الظروف . قال (عليه السلام) في جملة ما أوصى به معقل بن قيس الرياحي حين أنفذه إلى الشام : ( فَإِذَا لَقِيتَ الْعَدُوَّ فَقِفْ مِنْ أَصْحَابِكَ وَسَطاً ، ولا تَدْنُ مِنَ الْقَوْمِ دُنُوَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِبَ الْحَرْبَ ، ولا تَبَاعَدْ عَنْهُمْ تَبَاعُدَ مَنْ يَهَابُ الْبَأْسَ ، حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي ولا يَحْمِلَنَّكُمُ شَنَآنُهُمْ عَلَى قِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ وَالإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ ) (2) .

وقال (عليه السلام) مخاطباً جنده قبل لقاء العدو في صِفِّين : ( لا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَءوكُمْ فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ وتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ ) (3) .

ويذكر أرباب التاريخ أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما خرج لمحاربة معاوية في صِفِّين ، وكان جند معاوية قد غلبوا جند الإمام إلى شريعة الفرات ؛ بغية منع الماء عنهم حتى يموتوا عطشاً ، رفض الإمام أن يعامل العدو بالمثل بعدما أزاحه عن شريعة الماء مع قدرته على ذلك .

وهكذا لم يكن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عدوانياً في أي معركة من معاركه ؛ لأنَّه كان واثقاً من نفسه أنَّه على الحق ويقاتل من أجله ، ولذلك كان يتقدَّم نحو خصمه بقَدم ثابتة وبرباطة جأش ، لا يأبه معها للجيوش المتجمهرة التي تريد النيل منه ، والتي لا تجد حرجاً في منع الماء عنه وعن جنده ، وتتَّبع سياسة الغدر والخداع ، وتستفيد من الممارسات المشينة كملاحقة الأسرى والمدنيين والمدبرين من المعركة وإيذاء الجرحى .

وكانت الجيوش تلجأ إلى مثل تلك الأمور عند الإحساس بالهزيمة ، أو بقصد إدخال الرعب والقلق النفسي في قلوب المقاتلين للسيطرة على أرض المعركة عند بدئها .

قال (عليه السلام) : ( فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ ـ بِإِذْنِ اللَّهِ ـ فَلا تَقْتُلُوا مُدْبِراً ، ولا تُصِيبُوا مُعْوِراً ، ولا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ ) (4) .

ولم تقتصر الجرائم من قبل الأعداء على المجروحين والأسرى ، بل كانت تتعدَّى إلى النساء والأطفال والشيوخ ؛ إمعاناً في الثأر للهزيمة وإسقاطاً للمعنويات ، مع العلم أنَّ النساء ليس عليهنّ جناح حتى ولو سَبَبْنَ واعتدين ، فلا يصح الرد عليهنّ فضلاً عن المبادرة إلى إيذائهن وتعذيبهنّ ، ولقد كان العرب يعيِّرون الرجل الذي يرفع يده على المرأة ، بل يعيِّرون حتى أبناءه من بعده .

وإلى هذا أشار الإمام (عليه السلام) في الوصية الرابعة عشر ، حيث قال : ( ولا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى وإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ ؛ فَإِنَّهُنَّ ضَعِيفَاتُ الْقُوَى والأَنْفُسِ والْعُقُولِ ، إِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْهُنَّ وإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفَهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ ، فَيُعَيَّرُ بِهَا وعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ ) (5) .

ولم يكن عموم المدنيِّين البعيدين عن ساحة الحرب والنزال ، بمعزلٍ عن نتائج الحرب المروعة ، بل كانت بعض الجيوش تصب جام غضبها ونقمتها عليهم لفقدها بعض المواقع ، أو لمقتل قائد من قوادها ، أو لخسارتها الحرب ، وكأنَّ الناس عليهم أن يدفعوا الضريبة رغم بُعدهم عن ساحة الحرب .

وقد لفت أمير المؤمنين (عليه السلام) نظرَ أصحابه وأهل بيته إلى خطورة هذا الأمر ، وحذّرهم من الوقوع فيه ؛ لأنَّ فيه إغضاباً لله تعالى ، وذلك عندما أُلقي القبض على عبد الرحمان بن ملجم بعد أن ضرب الإمام (عليه السلام) في محرابه .

قال (عليه السلام) : ( يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، لا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً ، تَقُولُونَ : قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ . أَلا لا تَقْتُلُنَّ بِي إِلاَّ قَاتِلِي ، انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ ولا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ( صلّى الله عليه وآله ) يَقُولُ : إِيَّاكُمْ والْمُثْلَةَ ولَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ ) (6) .

 

ختاماً أقول:

عِشتَ الحقيقة في حياتك وتسنَّمتَ ذروة المجد في زمن الانحدار ، كنت عظيماً وبعض الناس دونك أقزام تتوسَّل في رفعتها الرذيلة .

ــــــــــــــ

* تمّ تنسيق وتقويم النص في شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي.

1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة : 55 .

2ـ نهج البلاغة ، من وصية له : 13 .

3ـ نهج البلاغة ، من وصية له : 14 .

4 ـ م . ن .

5 ـ م . ن .

6 ـ نهج البلاغة ، من وصية له : 47 .


source : alhassanain
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

لهفي عليك.. يا أبا عبدالله
القرآن و القواعد
التعامل مع القرآن بين الواقع والمفروض
علاج الامراض النفسیة بذکر الله
هدم قبور البقيع ..............القصة الكاملة
الحرب العالمية في عصر الظهور
الإمام الحسن العسكري (ع) والتمهيد لولادة وغيبة ...
إنّ الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة ...
الإمام موسى الكاظم عليه السلام والثورات العلوية
زيارة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)

 
user comment