عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

التوسّل بالصالحين ومنزلتهم

إنّ من التوسّلات الرائجة بين المسلمين منذ وقعوا في إطار التعليم الإسلامي، التوسّل بمنازل الصالحين وحقوقهم على الله، وهناك سؤال يطرح نفسه وهو أنّه: كيف يمكن أن يكون لإنسان حقّاً على الله؟ بل الحقوق كلّها لله على العباد، ولكن الإجابة على السؤال واضحة، إذ ليس معنى ذلك أنّ للعباد أو لبعضهم على الله سبحانه حقّاً ذاتياً يلزم عليه سبحانه الخروج عنه، بل لله سبحانه الحقّ كلّه، فله على الناس حقّ العبادة والطاعة إلى غير ذلك، بل المراد المقام والمنزلة الت
التوسّل بالصالحين ومنزلتهم


إنّ من التوسّلات الرائجة بين المسلمين منذ وقعوا في إطار التعليم الإسلامي، التوسّل بمنازل الصالحين وحقوقهم على الله، وهناك سؤال يطرح نفسه وهو أنّه: كيف يمكن أن يكون لإنسان حقّاً على الله؟
بل الحقوق كلّها لله على العباد، ولكن الإجابة على السؤال واضحة، إذ ليس معنى ذلك أنّ للعباد أو لبعضهم على الله سبحانه حقّاً ذاتياً يلزم عليه سبحانه الخروج عنه، بل لله سبحانه الحقّ كلّه، فله على الناس حقّ العبادة والطاعة إلى غير ذلك، بل المراد المقام والمنزلة التي منحها سبحانه عباده تكريماً لهم، وليس لأحد على الله حقّ إلاّ ما جعله الله سبحانه حقّاً على ذمّته لهم تفضّلا وتكريماً، قال سبحانه: { وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين } (1).
روى مسلم عن معاذ بن جبل (رضي الله عنه) قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هل تدري ما حقّ الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنّ حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعة قال: يا معاذ قلت: لبيك رسول الله وسعديك: هل تدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم ".
وروى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، عن أبي هريرة (رضي الله عنه)قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ثلاثة حقّ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف "(2).
فهذان الحديثان قد ثبت بهما وجود حقّ للعباد على الله تعالى، إلاّ أنّه حقّ تكريم لا حقّ إلزام وإيجاب.
إنّ للإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب كلمة قيّمة في تفسير حقّ العباد على الله وإنّ هذا الحقّ ممّا منح سبحانه تفضلا على عباده، قال: " فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت صروف قضائه ولكنّه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلا منه وتوسّعاً بما هو من المزيد أهله(3).
وقد أوضح الإمام معنى حقّ الناس على الله وأنّه ليس حقّاً ذاتياً للناس عليه بل كلّها تفضّل منه سبحانه: وترى مثله في سائر المواضع حيث نرى أنّه يقترض من العباد وهو مالك للعباد وما في أيديهم ويقول: { من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له } (4).
أفبعد هذه التصاريح على أنّ حقّ الناس على الله مقتضى تفضّله سبحانه وتكرّمه على عباده ليس لنا أن نستشكل في تصوير حقّ الناس على الله؟!
على أنّ هذا النوع من التوسّل لا يفترق عن التوسّل بذات النبي وشخصه فإنّ المنزلة والمقام مرآة لشخصه وانّ حرمة الشخص وكرامته نابعة من كرامة ذاته وفضيلتها، فلو صحّ التوسّل بالأوّل كما تعرّفت عليه من خلال الأحاديث يصح الثاني بدون إشكال، ويدل عليه من الأحاديث ما نذكره:

1 ـ التوسّل بحقّ السائلين

روى عطية بن العوفي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سُمعة إنما خرجت اتّقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تعيذني من النار وأن تغفر ذنوبي إنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت، إلاّ أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك(5).
إنّ دلالة الحديث واضحة لا يمكن لأحد التشكيك فيه، وسند الحديث صحيح ورجاله كلّهم ثقات، نعم اشتمل السند على عطية العوفي فقد وثّقه لفيف من أهل الجرح والتعديل.
قال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن معين: صالح، وقال ابن حجر: عطية بن سعيد بن جنادة العوفي الجدلي الكوفي أبو الحسن صدوق، قال ابن عدي: قد روى عن جماعة من الثقات، توفّي سنة إحدى عشرة ومائة، قال ابن سعد: خرج عطية مع ابن الأشعث فكتب الحجّاج إلى محمد بن القاسم أن يعرض عليه سبَّ علي ـ إلى أن قال: ـ كان ثقة وله أحاديث صالحة وكان أبوبكر البزّاز يعدّه في التشيّع روى عن جلّة الناس(6).
نعم، هناك من ضعّفه لا لأنّه غير صدوق بل لأنّه كان يتشيّع وليس تشيّعه إلاّ ولاؤه لعلي وأهل بيته وهل هذا ذنب؟!
إنّ لوضع الحديث دوافع خاصة توجد أكثرها في أبواب المناقب والمثالب وخصائص البلدان والقبائل، أو فيما يرجع إلى مجال العقائد، كالبدع الموروثة من اليهود والنصارى في أبواب التجسيم والجهة وصفات الجنة والنار، وأمّا مثل هذا الحديث الذي يعرب بوضوح أنّه كلام إنسان خائف من الله سبحانه ترتعد فرائصه من سماع عذابه فبعيد عن الوضع.

2 ـ التوسّل بحقّ النبي وبحقّ من سبقه من الأنبياء

روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أنّه لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُم علي ـ رضي الله عنها ـ دخل عليها رسول الله فجلس عند رأسها فقال: رحمكِ الله يا أُمّي كنتِ أُمِّي بعد أُمِّي تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسينني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعمينني تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة.
ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله بيده ثم خلع رسول الله قميصه فألبسها إيّاه وكفّنها ببرد فوقها ثم دعا رسول الله أُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسوداً يحفرون فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حضره رسول الله بيده وأخرج ترابه بيده فلمّا فرغ دخل رسول الله فاضطجع فيه وقال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد ولقّنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي فإنّك أرحم الراحمين وكبّر عليها أربعاً وأدخلها اللحد والعباس وأبوبكر.
والاستدلال بالرواية يتوقف على تمامية الرواية سنداً ومضموناً.
أمّا المضمون فلا مجال للخدشة فيه، وأمّا السند فصحيح، رجاله كلّهم ثقاة لا يغمز في حقّ أحد منهم، نعم فيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبان والحاكم وقد عرفت كلام الذهبي فيه(7).
وقد رواه أئمة الحديث وأساتذته وإليك أسماء من وقفنا على روايتهم:
1 ـ رواه الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في المعجم الأوسط 563 ـ 753.
2 ـ رواه أبو نعيم عن طريق الطبراني في حلية الأولياء 3/121.
3 ـ رواه الحاكم في مستدركه 3/108 وهو لا يروي في هذا الكتاب إلاّ الصحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم.
4 ـ رواه ابن عبد البرّ في الاستيعاب على هامش الإصابة 4/382.
5 ـ نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/118 برقم 7.
6 ـ رواه الحافظ نور الدين الهيثمي المتوفّى 708 في معجم الزوائد ومنبع الفوائد 9/562 ـ 752، وقال: ورواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبان والحاكم.
7 ـ رواه المتّقي الهندي في كنز العمال 13/636 برقم 08637.
هؤلاء الحفّاظ نقلوا الحديث في جوامعهم وصرّحوا بأنّ رجال السند، رجال الصحيح ولو كان هناك شيء ففي روح بن صلاح وقد عرفت توثيقه من أساتذة الفن كابن حبان والحاكم.
وأمّا التوسّل بحقّ الأولياء والشخصيّات الإلهيّة ففي أدعية أئمة أهل البيت نماذج من أدعية التوسّل، وهي كثيرة وموزعة في الصحيفة العلوية(8) ودعاء عرفة(9) والصحيفة السجادية(10) وغيرها من كتب الدعاء.
وفيما يلي نذكر نماذج من تلك الأدعية:

1 ـ يقول الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء له:

"... بحقّ محمّد وآل محمّد عليك، وبحقّك العظيم عليهم أن تصلّي عليهم كما أنت أهله، وأن تعطيني أفضل ما أعطيت السائلين من عبادك الماضين من المؤمنين وأفضل ما تعطي الباقين من المؤمنين.. "(11).

2 ـ ويقول الإمام سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة:

"... اللّهمّ إنّا نتوجّه إليك ـ في هذه العشية التي فرضتها وعظّمتها ـ بمحمد نبيّك ورسولك وخيرتك من خلقك ".

3 ـ ويقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه بمناسبة حلول شهر رمضان:

"... اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ هذا الشهر وبحقّ من تعبّد فيه "(12).
إلى هنا تمّت بعض الأدلة على جواز التوسّل بالشخصيات الطاهرة التي لها منزلة ومكانة، وهناك روايات أُخرى في هذا الصدد نتركها لئلاّ يطول بنا الكلام فإنّ الغرض الإيجاز لا الإطناب.

3 ـ توسّل آدم بحقّ النبي

قد تعرّفت على حقيقة حقّ العبد على الله وربّما يحتمل أن يراد منه منزلته وجاهه عند الله وكرامته لديه قال نور الدين السمهودي:
إعلم أنّ الاستغاثة والتشفّع بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبجاهه وبركته إلى ربّه تعالى من فعل الأنبياء وسير السلف الصالح، واقع في كلّ حال، قبل خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته الدنيوية ومدّة البرزخ وعرصات القيامة.
" وإذا جاز السؤال بالأعمال ـ كما في حديث الغار الصحيح وهي مخلوقة ـ فالسؤال بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى. وفي العادة أنّ من له عند شخص قدر فتوسّل به إليه من غيبته فإنّه يجيب إكراماً للمتوسل به وقد يكون ذكر المحبوب أو المعظّم سبباً للإجابة "(13).
قال الدكتور عبد الملك السعدي: " إذا قلت: اللّهمّ إنّي توسّلت إليك بجاه فلان، لنبي أو صالح فهذا أيضاً مما ينبغي أن لا يحصل بجوازه خلاف، لأنّ الجاه ليس له ذات المتوسّل به بل مكانته ومرتبته عند الله وهي حصيلة الأعمال الصالحة لأنّ الله تعالى قال عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ { وكان عند الله وجيهاً } وقال عن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ { وجهياً في الدنيا والآخرة } فلا ينكر على من يتوسّل بالجاه إذا كنّا منصفين، لأنّه لا يحتمل نسبة التأثير إلى المتوسّل به إذ ليس هو المقصود بل المتوسّل به جاهه ومكانته عند الله لا غير(14).
وقال أيضاً في قصة استسقاء الخليفة بالعباس: " إنّ عمر لم يقل واليوم نستسقي بالعباس بن عبد المطلب بل قال: بالعباس عمّ نبيّك، فالوجاهة حصلت له لأنّه عمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الميّت وهذا اعتراف بأنّ جاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موته ما زال باقياً حتى سرى إلى عمّه العباس(15).
ونحن نضيف إلى ذلك: أنّه إذا جاز التوسّل بالقرآن ـ كما مرّ في الفصل الثاني ـ لمكانته عند الله ومنزلته لديه وهو كلام الله الصامت، فالتوسّل بالنبي الأكرم وهوكلام الله الناطق بطريق أولى.
عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اقترف آدم الخطيئة قال: ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرتَ لي، فقال الله عزّ وجلّ: يا آدم، كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: لأنّك يا ربّ لمّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، فعلمت أنّك لم تُضِفْ إلى اسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك، فقال الله عزَّ وجلّ: صدقت يا آدم. إنّه لأحبّ الخلق إليَّ وإذا سألتني بحقّه فقد غفرت لك، ولولا محمّد لما خلقتك "(16).
يقع الكلام في سند الحديث أوّلا ومتنه ثانياً.
أمّا الأوّل: فرجاله ثقاة، نعم وقع الكلام في واحد منهم وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقد قال البيهقي: وهو ضعيف، ولكن الحاكم صحّح الحديث على شرط الشيخين، ولو قلنا بأنّه لا يعتمد على تصحيح الحاكم وحده فتكون الرواية مؤيّدة، إذ ليس معنى كون الراوي ضعيفاً أن الرواية مكذوبة.
وهناك نكتة أشرنا إليها سابقاً، وهي أن لو كان التوسّل بشخص النبي أمراً منكراً بين المسلمين لما تجرّأ الواضع بوضع الحديث الذي يتضمّن ذلك الأمر المنكر، لأنّ هدفه من الوضع إقبال الناس إلى كلامه وتسليمهم بالرواية، وهذا لا يجتمع مع كون المضمون أمراً مخالفاً لما عليه المسلمون في ظرف النقل، وبذلك يُعلم أنّ الرواية سواء أكانت صحيحة أم لا، تُثْبت ما بيّناه في جواز التوسّل بذات النبي.
نعم هنا شبهات حول الرواية، تجب الإجابة عنها:

الشبهة الأُولى

إنّ الحديث يتضمّن الإقسام على الله بمخلوقاته، فالإقسام على الله بمحمد وهو مخلوق بل وأشرف المخلوقين لا يجوز، لأنّ حلف المخلوق على مخلوق حرام، فالحلف على الله بمخلوقاته من باب أولى.
يلاحظ عليه: أنّ ما استدلّ به على حرمة الإقسام على الله بمخلوقاته عن طريق أنّ الحلف بمخلوق على مخلوق حرام، مردود جداً، لأنّ القرآن مليء بالحلف بمخلوق على المخلوق، قال سبحانه:
{ والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين } (17).
{ والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلّى } (18).
{ والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر } (19).
ففي هذه الآيات حلف بمخلوق على مخلوق، والحالف هو الله والمحلوف به هو هذه الموجودات والمحلوف عليه هم الناس أو المسلمون قاطبة.
فلو كان الحلف بمخلوق على مخلوق أمراً خطيراً وبمقربة من الشرك أو هو نفسه كما يقوله بعض الناس(20).
لما حلف به سبحانه، لأنّ ماهية العمل إذا كانت ماهية شركية، فلا يفرق بينه وبين عباده كما أنّه إذا كانت ماهية الشيء ظلماً وتجاوزاً على البريء، فالله وعباده فيه سيّان، قال الله تعالى: { قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تفعلون } (21).
إنّ الحلف بهذه العظائم ذات الأسرار إنّما لأجل أحد الأمرين: إمّا للدعوة إلى التدبّر والدقة في صنعها والنواميس السائدة عليها واللطائف الموجودة فيها، أو لإظهار عظمة المحلوف به وكرامته عند الله كما هو الحال في حلفه سبحانه بحياة النبي، قال: { لعمرُك إنّهم لفي سكرتهم يعمهون } (22).
ولا عتب علينا إذا عرضنا المسألة على السنّة النبويّة، فقد جاءت فيها موارد قد ورد فيها الحلف بخلوق على مخلوق، نكتفي بما رواه مسلم في صحيحه، وما ظنّك برواية مسلم في جامعه!

1 ـ روى مسلم في صحيحه:

" جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله أيّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: أما وأبيك لَتُنَبَّأنَّهُ: أن تَصَدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء "(23).

2 ـ روى مسلم أيضاً:

" وجاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ من نجد ـ يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله: خمس صلوات في اليوم والليل.
فقال: هل عليّ غيرهنّ؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوع، وصيام شهر رمضان.
فقال: هل عليّ غيره؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوع، وذكر له رسول الله الزكاة.
فقال الرجل: هل عليَّ غيرها؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوع.
فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص.
فقال رسول الله: أفلح وأبيه(24) أن صدق.
أو قال: دخل الجنة ـ وأبيه ـ أن صدق "(25).
فإذ بطل الأصل: حرمة الحلف بمخلوق على مخلوق، بطل ما بُني عليه من حرمة الإقسام على الله بحقّ مخلوقه.
إلى هنا تمّ بيان أنّ الشبهة شبهة غير صحيحة، وإنّما دعا القائل إلى التمسّك بها لدعم رأيه المسبق.
الشبهة الثانية
إنّ الحوار الوارد في الحديث كان بعد اقتران الخطيئة ولكنّه قبل أن يخطأ، علّمه الله الأسماء كلّها، ومن جملة الأسماء اسم محمد وعَلِم أنّه نبيّ ورسول وأنّه خير الخلق أجمعين، فكان أحرى أن يقول آدم: ربّي إنّك أعلمتني به أنّه كذلك لما علّمتني الأسماء كلّها(26).
نقول على هامش الشبهة: إنّ ردّ السنّة الشريفة بمثل هذه التشكيكات، جرأة عليها إذ أيّ مانع أن يكون هنا عِلْمَين: علم جزئي وقف عليه عندما فتح عينيه على الحياة في الجنّة، وعلم واسع علّمه سبحانه بعد ذلك الظرف، عندما أراد سبحانه إثبات كرامته على الملائكة.
إنّ هذا النوع من التشكيك يستمد من إثبات الرأي والصمود على العقيدة وإن كان الحديث على خلافها.
وهناك نكتتان ننبّه عليهما:
الأُولى: إنّ أحاديث التوسّل وإن كانت تتراوح بين الصحيح والحسن والضعيف، لكن المجموع يعرف عن تضافر المضمون وتواتره، فعند ذلك تسقط المناقشة في اسنادها بعد ملاحظة ورود كمية كبيرة من الأحاديث في هذا المجال، وأنت إذا لاحظت ما مضى من الروايات، وما يوافيك تذعن بتضافر المضمون أو تواتره.
الثانية: نحن نفترض أنّ الحديث الراهن مجعول موضوع، ولكنّه يعرب عن أنّ التوسّل بالمخلوق والإقسام على الله بمخلوقاته ليس شركاً ولا ذريعة إليه، بل ولا حراماً.
وذلك لأنّه لو كان شركاً وذريعة إليه أو حراماً، لما رواه الثقاة واحد عن واحد، وهم أعرف بموازين الشرك ومعاييره، ولما أورده الأكابر من العلماء في المعاجم الحديثة، كالبيهقي في دلائل النبوة والحاكم في مستدركه، والسيوطي في تفسيره، والطبراني في المعجم الصغير، وأكابر المفسّرين في القرون الغابرة، لأنّ الشرك أمر بيّن الغي، فلا معنى ولا مسوغ لنقله بحجة أنّه رواية.
فكل ذلك يعرب عن الفكرة الخاطئة في الحكم على الحلف على الله بمخلوقاته شركاً.
التوسّل بمقام النبي ومنزلته عند الله
إنّ هذا النوع من التوسّل ليس قسماً آخر بل يرجع إلى التوسّل بحقهم، بل التحقيق هو: أنّ التوسّل ليس له إلاّ قسم واحد وهو توسيط قداسة النبي وشخصيته وحرمته عند الله تبارك وتعالى، حتى يستجيب دعاء الإنسان لأجلها، ولو كان لدعاء النبي أثر هو الإجابة فإنّما هو في ظلّ قداسته وشخصيته، وهناك كلمة قيّمة للشيخ محمد الفقي في هذا الصعيد نأتي بنصّها:
يمتاز الأنبياء والرسل عن سواهم بمميزات لها خطورتها وعِظَم شأنها، ويتمتعون بخصوصيات تجل عن التقدير والتعبير، فهم يتفاوتون عن الخلائق بشتّى الخوارق، ويختصّون بأنواع رائعة من المعجزات وأسمى المقامات: { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذوالفضل العظيم } (27).
والذي وهبهم هذه العطايا وأنعم عليهم بهذه الامتيازات، كتب لهم في سجل الحوائج قضاء ما يطلبون، وما يرجون لأنّهم رسله إلى خلقه يلجأ إليهم عند الشدائد، ويستغاث بهم في الملمّات وقد أكرم الله كذلك من بين خلقه، رجالا لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، واقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب والأبصار، وهم أولياؤه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلهم الحظوة لديه، والقبول عنده بتفضيل عليهم بالاستجابة لدعائهم وقبول الاستغاثة منهم.
وفي جواز التشفّع، والاستغاثة بجاهه، تواترت الأحاديث واستفاضت الأخبار، خصوصاً عندما يطول الموقف ويشتدّ الكرب ويعظهم الهول، يوم تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. فتطلب الخلائق في هذا الموقف من الأنبياء إغاثتهم، والاستشفاع بهم، فيحيلونهم كل بدوره إلى خير شفيع، وأعظم مغيث فيقصدون كعبة الشفاعة وقبلة الإغاثة، فيستجيب لرغباتهم ويسارع لإغاثتهم وإنقاذهم ويهمّ لمرضاتهم بما عهد فيه من فضل، وما عرف عنه من كرم(28).
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: أنا سيّد الناس يوم القيامة. هل تدرون بِمَ ذلك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد ويسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنوا الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وإنّه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سمّاك الله عبداً شكوراً إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي عزّ وجلّ قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنّه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله (وإنّي قد كنت كذبت ثلاث كذبات ـ فذكرهنّ أبو حيان في الحديث)، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضّلك الله برسالته وبكلامه على الناس إشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنّي قد قتلت نفساً لم أُؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلّمت الناس في المهد صبيّاً إشفع لنا ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إنّ ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله (ولم يذكر ذنباً)، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فيأتون محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقَعُ ساجداً لربّي عزّ وجلّ ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفّع، فأرفَعُ رأسي فأقولُ: أُمّتي يا ربّ أُمّتي يا ربّ، فيقال: يا محمد أدخل من أُمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة كما بين مكة وحميرا وكما بين مكّة وبصرى(29).
فالحديث يدلّ على جواز التوسّل بالمقام والمنزلة لقولهم: يا من أنت رسول وخاتم الأنبياء، كما أنّ فيه دلالة على طلب الشفاعة منه لقولهم إشفع لنا إلى ربك.
إنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء ليس بملاك جسمانيتهم فإنهم وغيرهم في ذلك المجال سواسية، وإنّما يتوسّل بهم بروحانيتهم العالية
وهي محفوظة في حال الحياة وبعد الارتحال إلى البرزخ وإلى الآخرة.
فالتفريق في التوسّل بين الحياة والممات ينشأ من نظرة مادية تعطي الأصالة للجسم والمادة ولا تقيم للمعنى والروحانية وزناً ولا قيمةً.
فالنبي الأكرم مدار الفضائل والكمالات وهو يتمتع بأروع الكرامات وكلّها ترجع إلى روحانيته ومعنويته القائمة المحفوظة في جميع الحالات.
فما هذا التفريق بين الحياة المادية والبرزخية والأُخروية؟
فمن اتّخذ الأنبياء والأولياء وغيرهم ممّن باتوا لربّهم سجّداً وقياماً، أسباباً حال حياتهم أو بعد مماتهم، ووسائل لقضاء حوائجهم ووسائط لجلب الخير ودفع الشر، لم يحيدوا عمّا تهدف إليه الشريعة ولم يتجاوزوا الخط المشروع ولم يتعدّوا مقصود الرسالة النبوية وغاياتها.
فالأسباب لا يمكن إنكارها، ولا يعقل تجاهلها، ولا يتأتّى جحودها لأنّه تعالى هو الذي خلق الأسباب والمسبّبات ورتّب النتائج على المقدّمات فمن تمسك بالأسباب فقد تمسّك بما أمر الله سبحانه.

آيتان على منضدة التفسير

قد تعرّفت على أدلّة جواز التوسّل بالأنبياء والصالحين، بأقسامه المختلفة، وربّما تثار الشبهة حول التوسّل ببعض الآيات، فإكمال البحث يقتضي توضيح بعض هذه الآيات التي وقعت ذريعة للشبهة لأجل التفسير بالرأي، فحاشا أن يكون بين الآيات تهافت واختلاف بأن يدل بعضها على جواز التوسّل وبعضها الآخر على المنع، وحاشا أن تكون السنّة المتواترة على جواز التوسّل مضادّة للقرآن الكريم وإنّما استغلّهما القائل إذ ولج في تفسير الآية من غير بابها وإليك بعض هذه الآيات:

الآية الأُولى

قوله سبحانه: { قُلِ ادعوا الَّذين زعمتهم من دونه فلا يملكون كشف الضرّ عنكم ولا تحويلا * أُولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنَّ عذابَ ربِّك كان محذوراً } (30).

وتوضيح الآيتين على وجه يقلع الشبهة من رأس:

تردّ الآيتان على الذين كانوا يعبدون الوسائط والوسائل بتخيّل أنّهم يستطيعون كشف الضرّ وتحويله عنهم، وأنّهم يملكون ذلك، فلأجل تلك الغاية كانوا يعبدون الجنّ والملائكة وغيرهم لتلك الغاية، وكانوا يسمّونهم آلهة، والآيتان تحتجّ على نفي إلوهيتهم بحجة أنّ الإله المستحقّ للعبادة يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضرر، إذ هو لازم ربوبية الربّ، لكن الذين يدعون هؤلاء ويعبدونهم لا يستطيعون ذلك، أي كشف ضُرٍّ مسهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم، فعند ذلك تبطل ربوبيتهم فلا يستحقّون العبادة، وإلى ذلك المعنى يشير سبحانه بقوله: { قل ادعو الذين زعمتهم من دونه فلا يملكون كشف الضرّ عنكم ولا تحويلا }.
هذا هو الدليل الأوّل الذي أبطل به سبحانه إلوهيتهم وربوبيتهم واستحقاقهم للعبادة.
ثم إنّه سبحانه عاد إلى الاحتجاج عليهم بدليل آخر وحاصله: أنّ الذين تعبدونهم وتزعمون أنّهم يستطيعون كشف الضرّ وتحويله ـ نفس هؤلاء ـ يدعون الله تعالى ويطلبون القربة إليه بفعل الخيرات "حتى" أنّ الأقرب منهم يبتغي الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب، والجميع يرجون رحمة الله ويخافون عذابه، إنّ عذاب ربّك كان محذوراً، فإذا كان الحال كذلك فاللازم عليكم ترك عبادة هؤلاء ورفضهم الإقبال على عبادة الله تبارك وتعالى وإلى ذلك يشير قوله سبحانه في الآية الثانية:
{ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة أيّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربّك كان محذوراً }.
فأشار إليه { بأُولئك } إلى آلهتهم، وبقوله: { الذين يدعون } إلى عبادتهم لهم، ثم وصف آلهتهم بالجمل التالية وهي، هؤلاء الآلهة:
1 ـ يبتغون إلى ربّهم الوسيلة.
2 ـ الذي هو أقربهم إلى الله يبغي الوسيلة فكيف بغير الأقرب.
3 ـ والجميع الأقرب وغير الأقرب، { يرجون رحمته ويخافون عذابه إنّ عذاب ربّك كان محذوراً } فالآيتان بصدد إبطال إلوهية هؤلاء وعدم استحقاقهم للعبادة لعدم ثبوت ملاك العبادة فيهم.
فأيّ صلة للآيتين بنفي التوسّل، أي التوسّل بعباد صالحين لا يعتقد المتوسّل فيهم شيئاً من الربوبية ولا استطاعة لكشف الضر وتحويله، بل هم عباد صالحون تستجاب دعوتهم، فلو كانت الآية عامة لصورة التوسّل بدعائهم يلزم التهافت بينها وبين قوله سبحانه: { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } (31).
الإنسان المصر على عقيدته الذي لا يريد أن يعدل عنها أمام الآيات البيّنات ليس له إلاّ إخراج الآية عن مفادها وتفسيرها لأجل رأي مسبق، فشتّان بين مفاد الآية، أي عبادة الوسائط بزعم أنّهم آلهة يستطيعون لكشف الضر وتحويله وقضاء الحاجة، وبين توسيط الشخصيات الصالحين بما هم عباد الله، بما لهم منزلة وكرامة عند الله حتى يدعوا للمتوسّل أو يستجيب الله تعالى دعاءه ولأجل قربهم وكرامتهم عنده، فالآية ناظرة إلى المعنى الأوّل دون الثاني.

الآية الثانية

قال سبحانه: { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين }.
ربما يقال: إنّ التوسّل نوع من الاستعانة بغير الله سبحانه، وهو ينافي الحصر الموجود في قوله: { إيّاك نستعين }.
والجواب: أنّ الاستعانة بالناس والاستغاثة بهم لا يتنافى مع حصر الاستعانة بالله في قوله: { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين } لأنّ الاستعانة بهم (باعتقاد أنّه سبحانه هو الذي جهزهم بالقوة، فلو قاموا بعمل فإنّما يقومون به بحوله وقوّته سبحانه) يؤكد حصر الاستعانة فيه عزّ وجلّ.
وإنّما ينافي الحصر لو اعتقدنا بأنّ للأسباب والوسائط أصالة واستقلالا في العمل والتصرف، وهذا ما لا يليق أن ينسب إلى موحّد أبداً.
إنّ القرآن حافل بحصر أفعال بالله سبحانه، فينسبها إليه في صورة الحصر، ولكنّه يعود فينسبها في نفس الوقت إلى غيره وليس هناك تهافت وتضادّ بين الإسنادين والنسبتين لأنّ المحصور في الله سبحانه غير المنسوب إلى غيره.
يقول سبحانه: { إيّاك نستعين } وفي الوقت نفسه يقول عزّ وجلّ: { استعينوا بالصبر والصلاة وإنّها لكبيرة إلاّ على الخاشعين } (32).
قال الدكتور عبد الملك السعدي: أمّا من يمنع ذلك ويستدلّ بقوله: { إيّاك نعبد وإيّاك نستعين } وبقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن عباس: " وإذا استعنت فاستعن بالله " وبقوله: " لا يستغاث بي وإنّما المغيث هو الله ".
فالجواب عنه: أنّ الإعانة تكون حقيقية ومجازية، فالمعين الحقيقي هو الله وطلب الإعانة من غيره مجاز، ولولا إمداد الله له بالعون والقوّة لما استطاع أن يعينك، فالاستعانة بالإنسان هي استعانة بالقوة والملكة والسلطة التي منحه الله إياه إذ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، فالآية حصرت الاستعانة الحقيقية بالله تعالى، وكذا وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن عباس من هذا القبيل، والآية والحديث فيهما توجيه للعبد، أن لا ينسب إلى المخلوق حولا ولا قوة، ولو طلب العون المجازي منه وإذا لم توجّه
الآية والحديث هذا التوجيه فانّه ستتعارض مع قوله تعالى: { وتعاونوا على البرّ والتقوى } وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ".
أمّا الحديث الأخير فإنّه ضعيف، لأنّ في سنده ابن لهيعة فلا يقاوم الأحاديث الصحاح ولا مدلول الآية(33).
والأولى أن يعبّر عن الحقيقي والمجازي بالاستقلال وعدم الاستقلال، بالأصالة والتبع، فالله سبحانه يملك كلّ شيء استقلالا وأصالة والعبد يملك العون والقدرة، ولكن بإذنه ومشيئته في كل آن، فهو الذي أراد أن يقدر العبد ويستطيع على إقامة الفرائض والسنن.
فالعون القائم بالذات غير المفاض فهو عون الله سبحانه، وأمّا العون المفاض المحدود فهو عون العبد، فلو استعان بالعبد بما أنّه معين مستقل وبالأصالة فهو مشرك، فجعلَ المخلوق مكان الخالق ولو طلب منه بما أنّه أقدر الله عليه وأجاز له أن يعين أخاه، فقد طلب شيئاً مشروعاً وهو نفس التوحيد.
هذا من غير فرق بين من يستعين بالأحياء وبالأموات، غاية الأمر إذا كان الميت غير مستطيع على الإعانة تكون الاستعانة لغواً، وإن كان قادراً فتكون الاستعانة عقلائية، فالحياة والموت ليسا ملاكاً للتوحيد والشرك، بل ملاكاً للجدوى وعدمها.

التوسّل بالنبي متواتر إجمالا

إنّ هناك لفيفاً من التوسّلات المبثوثة في كتب التاريخ والتفسير والسيرة وغيرها وهي بأجمعها تدلّ على جريان السيرة بالتوسّل إلى الرسول، وهي تدل على جواز التوسّل بدعاء الرسول أو بذاته أو بمنزلته حياً وميتاً، والكل يعرب عن كونه أمراً رائجاً بين المسلمين غير منكر، وانّما حدث الإنكار في الآونة الأخيرة أي بعد سبعة قرون متكاملة فلم ينبس فيها أحد ببنت شفة بالإنكار أبداً.
نعم هناك لفيف يمنعون التوسّل، ولكنّهم لمّا وقعوا أمام هذه الروايات الهائلة الدالة على جواز التوسّل بدعائه أو بذاته وشخصه حيّاً وميتاً، حاولوا أن يناقشوا في أسناد هذه الروايات، غافلين عن أنّ هذه الروايات مستفيضة، بل متواترة في مفادها الإجمالية أي جواز التوسّل بنفسه، ولا وجه للمناقشة في اسنادها وقال ابن تيميّة: " والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المودطئة قصداً أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعاً "(34).
وأنت إذا لاحظت ما سبق من الصحاح والحسان وما نذكره الآن تذعن على تواتره الإجمالي:

1 ـ توسّل الأعرابي بالنبي نفسه

روى جمع من المحدثين أنّ أعرابياً دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وقال: لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صغير يغط، ثم أنشأ يقول:
أتيناك والعذراء تَدمي لبانها وقد شغلت أُم الصبي عن الطفل
وليس لنا إلاّ إليك فرارنا وأين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟
فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجر رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه وقال: اللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً... فما ردّ النبي يديه حتى ألفت السماء... ثم قال: لله درّ أبي طالب، لو كان حياً لقرّت عيناه. من ينشدنا قوله؟
فقام علي بن أبي طالب عليهما السلام وقال: كأنّك تريد يا رسول الله قوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطوف به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أجل.
فأنشد علي (عليه السلام) أبياتاً من القصيدة، والرسول يستغفر لأبي طالب على المنبر، ثم قام رجل من كنانة وأنشد يقول:
لك الحمد والحمد ممّن شكر سقينا بوجه النبي المطر(35)
دلالة الحديث:
إنّ الإمعان في مجموع الرواية يعرب عن أنّ الأعرابي توسّل بشخص النبي وطلب منه قضاء حاجته، والدليل على ذلك الأُمور التالية:
أ ـ أتيناك وما لنا بعير يئط.
ب ـ أتيناك والعذراء تدمى لبانها.
ج ـ وليس لنا إلاّ إليك فرارنا.
د ـ وأين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟
هـ ـ إنشاء علي بن أبي طالب شعر والده، وهو يتضمّن قوله: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه.

2 ـ شعر صفية في رثاء النبي

أنشدت صفية بنت عبد المطلب عمّة النبي قصيدة بعد وفاة النبي في رثائه (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاء فيها قولها:
ألا يا رسول الله أنت رجاؤنا وكنت بنا برّاً ولم تك جافيا
وكنت بنا برّاً رؤوفاً نبيّنا ليبك عليك اليوم من كان باكيا(36)
إنّنا نستنتج من هذه المقطوعة الشعرية ـ التي أُنشدت على مسمع من الصحابة وسجّلها المؤرخون وأصحاب السير ـ أمرين:
الأوّل: إنّ مخاطبة الأرواح ـ وبالخصوص مخاطبة رسول الله بعد وفاته ـ كان أمراً جائزاً وجارياً وقولها: " يا رسول الله " لم يكن لغواً ولا شركاً.
الثاني: إنّ قولها: " أنت رجاؤنا " يدل على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أمل المجتمع الإسلامي في كل العصور والأحوال، ولم تنقطع الروابط والعلاقات معه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بعد وفاته.

3 ـ خبر العتيق

روى الإمام القسطلاني في المواهب اللدنية: وقف أعرابي على قبره الشريف (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: اللّهمّ إنّك أمرت بعتق العبيد وهذا حبيبك وأنا عبدك فأعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا سألت العتق لك وحدك؟ هلاّ سألت العتق لجميع المؤمنين إذهب فقد أعتقتك.
ثمّ أنشد القسطلاني البيتين المشهورين وهما:
إنّ الملوك إذا شابت عبيدهم في رقّهم أعتقوهم عتق أحرار
وأنت يا سيدي أولى بذا، كرماً قد شِبتُ في الرقّ فاعتقني من النار(37)

4 ـ خبر حاتم الأصم

نقل في المواهب عن الحسن البصري، قال: وقف حاتم الأصم على قبره (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا ربّ إنّا زرنا قبر نبيّك (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا تردّنا خائبين، فنودي يا هذا ما أذنّا لك في زيارة قبر حبيبنا إلاّ وقد قبلناك فارجع أنت ومن معك من الزوّار مغفوراً لكم.
ثم ذكر في المواهب كثيراً من البركات التي حصلت له ببركة توسّله بالنبي(38).

5 ـ اللّهمّ ربّ جبرئيل وميكائيل

روى النووي أنّ النبي أمر أن يقول العبد بعد ركعتين الفجر: اللّهمّ ربّ جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ومحمد أجرني من النار (أو) أعوذ بك من النار. وخصّ هؤلاء بالذكر للتوسّل بهم في قبول الدعاء وإلاّ فهو سبحانه ربّ جميع المخلوقات.
والحديث صحّحه الحاكم، وقال ابن حجر: إنّه حسن(39).

6 ـ حديث السؤال بالأنبياء

يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جدّه أنّ أبا بكر الصدّيق أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّي أتعلّم القرآن وينفلت منّي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " قل: اللّهمّ إنّي أسألك بمحمد نبيّك، وإبراهيم خليلك، وبموسى نجيّك، وعيسى روحك وكلمتك، وبتوراة موسى، وانجيل عيسى، وفرقان محمد وبكل وحي أوحيته وقضاءً قضيته... ".
قال ابن تيمية: هذا الحديث ذكره زرين بن معاوية العبدري في جامعه. ونقله ابن الأثير في جامع الأُصول، ولم يعزه لا هذا، ولا هذا إلى كتاب من كتب المسلمين، لكنّه رواه من صنَّف في عمل يوم وليلة كابن السنّي، وأبي نعيم. وقد رواه أبو الشيخ الاصبهاني في كتاب "فضائل الأعمال"(40).

7 ـ حديث دعاء حفظ القرآن

ذكر موسى بن عبد الرحمن الصنعاني صاحب التفسير باسناده عن ابن عباس مرفوعاً، أنّه قال: من سرّه أن يوعيه الله القرآن فليكتب هذا الدعاء: "... اللّهمّ إنّي أسألك بأنّك مسؤول لم يُسأل مثلك ولا يسأل وأسألك بمحمد نبيّك، وإبراهيم خليلك، وبموسى نجيّك، وعيسى روحك وكلمتك ووجيهك... "(41).

8 ـ حديث استفتاح اليهود على المشركين بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان... فكلّما التقوا هزمت يهود، فعاذت بهذا الدعاء: " اللّهمّ إنّا نسألك بحقّ محمد النبي الأُمّي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلاّ نصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان... فلما بُعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كفروا به فأنزل الله تعالى: { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا... }(42)

 

9 ـ توسّل الشافعي بآل البيت

ذكر ابن حجر المكي في كتابه المسمّى بـ "الصواعق المحرقة" من أشعار الإمام الشافعي هذين البيتين:
آل النـبي ذريـعـتي وهـم إلـيـه وسيـلتي
أرجو بهم أُعطى غداً بيدي اليمين صحيفتي(43)

10 ـ استسقاء بلال بن حرث

روى البيهقي وابن أبي شيبة أنّ الناس أصابهم قحط في خلافة عمر (رضي الله عنه)، فجاء بلال بن الحرث (رضي الله عنه) وكان من أصحاب النبي إلى قبر النبي، وقالوا: يا رسول الله استسق لأُمتك فانّهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام وأخبره بأنّهم سيسقون(44) ففيه النداء بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) والخطاب بالطلب منه أن يستسقي لأُمّته.
ومراده من الاستسقاء بقرينة الحال دعاؤه سبحانه أن ينزل رحمته إليهم لا أن يصلّي صلاة الاستسقاء وليس العبرة بنوم بلال، وإنما العبرة بعمل ذلك الصحابي الذي كان في بعض غزواته(45).
قال زيني دحلان: ومن تتبع أذكار السلف والخلف وأدعيتهم وأورادهم وجد فيها شيئاً كثيراً في التوسّل ولم ينكر عليهم أحد في ذلك حتى جاء هؤلاء المنكرون، ولو تتبّعنا من أكابر الأُمّة في التوسّل لامتلأت بذلك الصحف، وفيما ذكر كفاية ومقنع لمن كان بمرأى من التوفيق ومسمع(46).

تلك عشرة كاملة

ونلفت نظر القارئ بأنّ الاحتجاج بهذه الأحاديث العشرة الكاملة وما قبلها مبني على أمرين أُشير إليهما فيما سبق:
1 ـ إنّ أصل التوسّل إذا كان شركاً أو محرّماً، لم يتجرأ الوضّاع على أن يجعله أساساً لما يريده من الوضع والدس، فهذا يعرب عن أنّ أساس (جواز التوسّل) كان أمراً مسلّماً فبنى عليه ما بنى من القصص والروايات لو افترضنا عدم صحتها، لكن أنّى لنا، هذه الفرية.
2 ـ إنّ مجموع الروايات العشرة وما تقدّم عليها من الصحاح والحسان يثبت كون التوسّل بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعامة صوره أمر أُستُفيض جوازه من النبي والصحابة بل تواتر إجمالا وإن كانت الخصوصيات غير متواترة.
وليس المورد ممّا يقبل الجرح والدقّة في اسناد الروايات، إذ ليس المقصود الإذعان بصحة كل ما جاء فيها من الخصوصيات وإنّما المقصود ثبوت جواز التوسّل بصورة عامة ببركة هذه الحكايات والقصص وإن كان بعضها ضعيف السند عند البعض وصحيحاً عند آخر.

ما أُلّف حول التوسّل بقلم علماء الإسلام

لقد أُلّف حول التوسّل بخير الأنام وأولياء الله الكرام كتباً ورسائل قام بتأليفها لفيف من علماء الإسلام وأكابرهم الذين يعتمد على أقوالهم وآرائهم فأحببت أن أنوّه ببعض أسمائها حتى يقف القارئ عليها، فلو أراد التوسّع فعليه الرجوع إليها:
1 ـ كتاب الوفاء في فضائل المصطفى: لابن الجوزي المتوفى سنة 975 هـ، وقد أفرد باباً حول التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وباباً حول الاستشفاء بقبره الشريف.
2 ـ مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام: تأليف محمد بن نعمان المالكي المتوفى سنة 736 هـ، وقد نقل السمهودي في كتاب وفاء الوفا، باب التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذا الكتاب نقلا كثيراً.
3 ـ البيان والاختصار: لابن داود المالكي الشاذلي، وقد ذكر فيه توسّل العلماء والصلحاء بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في المحن والأزمات.
4 ـ شفاء السقام: لتقي الدين السبكي المتوفى عام 567 هـ، وقد تحدّث عن التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل تحليلي رائع من ص 120 ـ 133.
5 ـ وفاء الوفا لأخبار دار المصطفى: للسيد نور الدين السمهودي المتوفى سنة 911 هـ، وقد بحث عن التوسّل بحثاً واسعاً في الجزء الرابع من ص 134 ـ 194.
6 ـ المواهب اللدنية: لأبي العباس القسطلاني المتوفى سنة 932 هـ، وسيوافيك كلامه في التوسّل.
7 ـ شرح المواهب اللدنية: للزرقاني المالكي المصري المتوفى سنة 1122 هـ، وفي الجزء الثامن، ص 317.
8 ـ صلح الإخوان: للخالدي البغدادي المتوفّى سنة 1299 هـ، وله أيضاً رسالة خاصة في الردّ على الآلوسي حول موضوع التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد طبعت الرسالة في سنة 6130 هـ.
9 ـ كنز المطالب: للعدوي الحمزاوي المتوفى سنة 1303 هـ.
10 ـ فرقان القرآن: للعزامي الشافعي القضاعي، وقد طبع هذا الكتاب مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي في 041 صفحة.
أيُّها القارئ الكريم: إنّ مطالعة هذه الكتب ـ وخاصة تلك التي تحدّثت بالتفصيل عن التوسّل، ويأتي كتاب صلح الإخوان وفرقان القرآن في طليعتها ـ أنّ مطالعة هذه الكتب يثبت جريان سيرة المسلمين ـ في كلّ عصر ومصر ـ على التوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لنقتصر بهذا المقدار وفيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.

كلام لابن حجر حول التوسّل

قال: وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرّع والاستغاثة والتشفّع والتوسّل به (صلى الله عليه وآله وسلم) فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه.
واعلم أنّ الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ: الاستغاثة أو التوسّل أو التشفّع أو التجوّه أو التوجّه، لأنّهما من الجاه والوجاهة، ومعناه: علو القدر والمنزلة.
وقد يتوسّل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثم إنّ كلاًّ من الاستغاثة والتوسّل والتشفّع والتوجّه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ذكره في "تحقيق النصرة" و "مصباح الظلام" واقع في كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدّة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة.
فأمّا الحالة الأُولى فحسبك ما قدمته في المقصد الأوّل من استشفاع آدم (عليه السلام) به لما أُخرج من الجنّة، وقول الله تعالى له: يا آدم لو تشفّعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفّعناك.
وفي حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقي وغيرهما: وإن سألتني بحقّه فقد غفرت لك. ويرحم الله ابن جابر حيث قال:
به قد أجاب الله آدم إذ دعا ونجا في بطن السفينة نوح
وما ضرت النار الخليل لنوره ومن أجله نال الفداء ذبيح
وصحّ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا ربّ، أسألك بحقّ محمد لما غفرت لي، قال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفتَ محمّداً ولم أخلقه؟ قال: يا ربّ إنّك لمّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك، رفعت رأسي فرأيت قوائم العرش مكتوباً عليها لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، فعرفت أنّك لا تضيف إلى اسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك. فقال الله تعالى: صدقتَ يا آدم، إنّه لأحبّ الخلق إليّ، وإذ سألتني بحقّه، فقد غفرت لك ولولا محمّد ما خلقتك ". ذكره الطبري، وزاد فيه: " وهو آخر الأنبياء من ذريتك "(47).
وأمّا التوسّل بعد خلقه في مدّة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به (صلى الله عليه وآله وسلم) عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع ونحو ذلك ممّا ذكرته في مقصد المعجزات ومقصد العبادات في الاستسقاء، ومن ذلك استغاثة ذوي العاهات به، وحسبك ما رواه النسائي والترمذي عن عثمان بن حنيف أنّ رجلا ضريراً أتى (صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: " اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّك في حاجتي لتقضى، اللّهمّ شفّعه فيّ، وصحّحه البيهقي وزاد: فقام وقد أبصر.
وأمّا التوسّل به (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موته في البرزخ وهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء وفي كتاب "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" للشيخ أبي عبد الله بن النعمان طُرَف من ذلك.
إنّ لابن حجر العسقلاني مقاماً شامخاً عند أهل الحديث، لا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل وهو خريت فن الحديث وأُستاذه فكلامه يعرب عن تسلميه صحة ما نقل من الأحاديث وتقدّم جميعها في الفصول السابقة.
أخي العزيز لقد عالجت مسألة التوسّل على ضوء الكتاب والسنّة ولم أخرج عنهما قدر شعرة، وإن ذكرت من غيرهما شيئاً فإنّما هو لأجل إيضاح ما ورد في الكتاب والسنّة لقد ذكرت ما ذكرت من النصوص بعد التأكد من مصادرها ولم أعتمد على قول الآخرين إلاّ في موارد نادرة، كما صُنت قلمي ويراعي عمّا لا يناسب أدب الكتاب الإسلامي فإن وجد في هذه الرسالة شيء يتضمّن قسوة في الكلام فإنّما هو عن قوة العارض ووضوح الحجة والله سبحانه من وراء القصد.
المصادر :
1- الروم/47
2- الترغيب والترهيب: 3/43، والنووي على مسلم: 1/231.
3- نهج البلاغة قسم الخطب ـ الخطبة 216.
4- البقرة/245 و الحديد/11
5- ابن ماجة: السنن: 1/256 برقم 778، الإمام أحمد: المسند: 3/21.
6- ابن حجر: تقريب التهذيب: 2/24 برقم 216، وتهذيب التهذيب: 7/227 برقم 413.
7- لاحظ للوقوف على حال روح بن صلاح المصري ميزان الاعتدال: 2/85 برقم 2801.
8- وهي المجموعة التي تضم بعض أدعية الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) جمعها الشيخ عبد الله السماهيجي.
9- وهو دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في عرفات، يوم عرفة.
10- وهو بعض أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام).
11- الصحيفة العلوية للسماهيجي: 51.
12- الصحيفة السجادية: دعاء رقم 44.
13- السمهودي: وفاء الوفا: 4/1372.
14- عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق: 45.
15- المصدر نفسه: 49.
16- البيهقي: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن حسن البيهقي (ت384 ـ 458 هـ) طبع دار الكتب العلمية بيروت: 5/489 ولاحظ الدر المنثور: 1/59 .
17- التين/1 ـ 3
18- الليل/1 ـ 2
19- الفجر/1 ـ 4
20- الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 217.
21- الأعراف/28
22- الحجر/72
23- صحيح مسلم: 3/94 كتاب الزكاة، باب أفضل الصدقة.
24- أي حلفاً بأبيه، فالواو للقسم.
25- صحيح مسلم ج 1، باب ما هو الاسلام: 32.
26- الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 218.
27- الحديد/21
28- محمد الفقي (من علماء الأزهر الشريف): التوسّل والزيارة: 161.
29- البخاري: الصحيح: 6/84 ـ 85، صحيح مسلم: 1/127 ـ 130، مسند أحمد: 2/412.
30- الإسراء/56 ـ 57
31- النساء/64
32- البقرة/45
33- الدكتور عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق: 53 ـ 54.
34- ابن تيميّة: مقدمة في اصول التفسير: 24.
35- السيرة الحلبية: 1/116، لاحظ فتح الباري: 2/494، والقصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام: 1/272 ـ 280.
36- ذخائر العقبى للحافظ الطبري: 252، مجمع الزوائد: 9/36، في هذا المصدر هكذا (كنت رجاؤنا).
37- القسطلاني: المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: 4/584 طـ. دار الكتب الإسلامي.
38- المصدر نفسه.
39- زيني دحلان: 30، والرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 306 عن كتاب الأذكار للنووي.
40- الرفاعي: التوصّل إلى حقيقة التوسّل: 310.
41- الرفاعي: التوصّل إلى حقيقة التوسّل: 310.
42- (البقرة/89) المصدر نفسه، نقلا عن الحاكم في المستدرك على الصحيحين.
43- ابن حجر: الصواعق المحرقة: 180، طـ. مكتبة القاهرة، تحقيق عبد الوهاب.
44- زيني دحلان: الدرر السنية: 18.
45- جمال الدين المزي: 4/282، ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق الكبير: 3/301 ـ 303.
46- زيني دحلان: الدرر السنية: 31.
47- القسطلاني (851 ـ 923 هـ): المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: 4/593 ـ 595.


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

طرق الكسب المشروع
الرجل والمرأة في المجتمع
ليالي القدر ليالي التقدير والإبرام والإمضاء
تفسير آية الوضوء
النظر إلى الحبيب يخفف الألم
الشيخ محمد بن يعقوب الكليني
ما يحتاجه الطفل بعد الولادة
الظواهري: البغدادي كذّاب؛ خالف اوامرنا بعدم ...
لماذا تتغير المرأة بعد الزواج ؟
ثمان وثمانون وصية في التربية

 
user comment