عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

جنة ادم (ع)

جنة ادم (ع)

(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي فقلنا يا آدم إن هذا عدوّ لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنَّة فتشقى).(1)
(وقلنا يا آدم أسكن أنت و زوجُك الجنة و كلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين).(2)
(ويا آدم أسكن أنت وزوجُك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين).(3)
قبل أن نبدأ الحديث حول الشجرة المنهيَّة لابدَّ لنا أن نعلم أنَّ الغرض من خلق آدم هو جعل (وليس خلق) خليفة في الأرض (لا في مكان آخر غير الأرض) حيث قال سبحانه إنِّي جاعلٌ في الأرض خليفة فالله سبحانه وتعالى أمره أن يسكن الجنّة وأن يأكل منها حيث شاء رغداً وقد نهاه الله عن التقرُّب إلى الشجرة وهو تكليف ومنع ولا تكليف ولا منع في الجنَّة أصلاً فيعلم أنَّ الجنَّة لم تكن أخرويَّة بل هي جنَّة أخرى وفي الحديث أنَّها جنّة من جنّات الدنيا وكانت في الأرض والمفروض أن يبقي فيها آدم ولكنه هبط منها بسبب تصرُّفه غير الصحيح من أكله الشجرة.
قال تعالى: (فلا يخرجنكما من الجنَّة فتشقى).
فيفهم من هذا النهي أنَّه إرشادي أي أنَّ عصيانه يؤدِّي إلى الخروج من الجنة الذي ينجرُّ إلى الشَقاء والتعب الشديد الجسمي والروحي وقد مرَّ تفصيله وأيضاً العيش في الدنيا يستتبع الاكتساب والسعي لطلب الرزق وإعاشة الزوجة والعيال، ولو كان المراد من الشقاء هو ما يقابل السعادة الأخرويَّة لكان يشمل حواء أيضاً خصوصاً أنها كانت السبب الرئيسي للأكل من تلك الشجرة وكان الصحيح أن يعبَّر بـ(فتشقيا) فلِمَ أفرده سبحانه بآدم؟
على أنَّ الآيات التِّي تتلوا هذه الآية خير دليل على ما ادَّعيناه.
قال سبحانه: (إن لك ألاّ تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى).(4)
فهذه هي صفات جنَّة آدم وصفات الدنيا هي عكسها.
(ثم أسكن سبحانه آدم داراً أرغد فيها عيشه وآمن فيها محلته وحذَّره إبليس وعداوته، فاغتره عدوُّه نفاسةً عليه بدار المُقام ومرافقةِ الأبرار فباع اليقين بشكه والعزيمةَ بوهنه واستبدل بالجدل وجلاً وبالاغترار ندما ثم بسط الله سبحانه له في توبته ولقّاه كلمة رحمتِه ووعده المردَّ إلى جنتِه فأهبطه إلى دار البليةِ و تناسل الذرِّية).(5)

بنو إسرائيل والمنُّ والسلوى
وهذا النمط من الحياة نشاهده بنحو مجمل في بني إسرائيل أيضاً حيث أنَّ القرآن الكريم يبيِّن حالات بني إسرائيل قبل الهبوط في سور ثلاثة (البقرة، الأعراف، طه) هم كانوا يتنعَّمون بنفس الأسلوب الذي كان عليه آدم عليه السلام قال تعالى: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين).(6)
وقال:
(وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون* وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين).(7)
والجدير بالذكر أنَّه تعالى قد ذكر في سورة طه قصَّة بني إسرائيل وقال:
(ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم).(8)
ثمَّ شرع في الحديث عن آدم عليه السلام.
ولا يخفى عليك الانسجام الكامل بين التعابير التِّي وردت في شأن بني إسرائيل والتِّي وردت في شأن آدم وزوجته حيث قال تعالى:
(فكلوا منها حيث شئتم رغدا)
وتوجد كلمة في هذه الآيات تدلُّ على الحرية الكاملة التِّي كان يتنعَّم بها بنو إسرائيل وهي "حيث شئتم" وقد ذكرت في آيتين وهي نفسها التِّي أعطيت آدم وزوجته "حيث شئتما" وهذه أيضاً قد ذكرت في آيتين.(9)
وفي الحديث:
(وقال الصادق عليه السلام: كان ينزل المنّ على بني إسرائيل من بعد الفجر إلى طلوع الشمس فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه فلذلك يكره النوم في هذا الوقت إلى طلوع الشمس)
ثمَّ قال:
(وقال ابن جريح:.. ويوجد له طعم كالشهد المعجون بالسمن وكان الله تعالى يبعث لهم السحاب بالنهار فيدفع عنهم حر الشمس وكان ينزل عليهم في الليل من السماء عمود من نور يضئ لهم مكان السراج وإذا ولد فيهم مولود يكون عليه ثوب يطول بطوله كالجلد).(10)
وأنت تلاحظ في هذه الرواية أنَّ الصفات المتواجدة في الأرض قبل هبوط بني إسرائيل هي نفس صفات جنَّة آدم عليه السلام.

الشجرة المنهيَّة
واختلفوا في الشجرة المنهية فقيل كانت السنبلة رَوَوه عن ابن عباس، قيل هي الكرمة رَوَوه عن ابن مسعود والسدي وقيل هي شجرة الكافور وقال الشيخ في التبيان رُوي عن علي عليه السلام انَّه قال شجرة الكافور وقيل هي التينة وقيل شجرة العلم علم الخير والشر وقيل هي شجرة الخُلد التي كانت تأكل منها الملائكة.
ولا طريق إلي معرفة تلك الشجرة إلاّ أحاديث أئمتنا عليهم السلام وهي مختلفة:
فبعضها: تقول أنَّها الحنطة كالأحاديث التالية:
1- (تميم القرشي عن أبيه عن حمدان بن سليمان عن علي بن محمَّد بن الجهم قال...قال الرضا علي بن موسى عليه السلام... إن الله تبارك وتعالى قال لآدم أسكن أنت و زوجك الجنَّة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة وأشار لهما إلى شجرة الحنطة).(11)
2- (الصدوق عن أبيه عن سعد عن ابن يزيد عن ابن أبي عمير عن هشام عن الصادق عليه السلام انه قال في قوله تعالى و بدت لهما سوآتهما كانت سوآتهما لا ترى، فصارت ترى بارزة وقال الشجرة التي نهي عنها آدم هي السنبلة).(12)
3- (محمَّد بن عمر بن على بن عبد الله البصري عن محمَّد بن عبد الله بن احمد ابن جبلة عن عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه عن الرعن آبائه عن الحسين بن على عليه السلام قال كان علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة في الجامع إذ قام إليه رجل من أهل الشام..... وسأله لم صار الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين فقال من قبل السنبلة كان عليها ثلاث حبات فبادرت إليها حواء فأكلت منها حبه وأطعمت آدم حبتَين فمن أجل ذلك ورِث الذكر مثل حظِّ الأنثيين)(13)
وبعضها: تقول أنَّها شجرة الحسد:
(قال موسى بن محمَّد بن الرضا....قال أخي علي بن محمَّد عليه السلام.... الشجرة التي نهي الله عنها آدم و زوجته أن يأكلا منها شجره الحسد عهد إليهما أن لا ينظرا إلى من فضل الله على خلائقه بعين الحسد فنسي و نظر بعين الحسد و لم نجد له عزما).(14)
وأماّ الكافور والتينة والكرمة فلم أعثر على أحاديثها إلاّ أنَّه هناك حديث يجمع بين الكل وهو:
(ابن عبدوس عن ابن قتيبة عن حمدان بن سليمان عن الهروي قال قلت للرضا عليه السلام يا ابن رسول الله اخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة ومنهم من يرى أنَّها العنب ومنهم من يروي أنَّها شجره الحسد فقال كلٌّ ذلك حقٌّ قلت فما معنى هذه الوجوه على اختلافها فقال يا أبا الصلت إنَّ شجر الجنة تحمل أنواعاً فكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجر الدنيا وإنَّ آدم عليه السلام لما أكرمه الله تعالى ذكره بسجود ملائكته له وبإدخاله الجنَّة قال في نفسه هل خلق الله بشراً أفضل منِّي فعلم الله عزَّ وجلَّ ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا اله إلا الله محمَّد رسول الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجه فاطمة سيده نساء العالمين والحسن والحسين عليهما السلام سيدا شباب أهل الجنَّة فقال آدم عليه السلام يا رب من هؤلاء فقال عز وجل من ذريتك وهم خير منك ومن جميع خلقي ولولا هم ما خلقتك ولا خلقت الجنَّة والنار ولا السماء والأرض فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري فنظر إليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فتسلط الشيطان عليه حتى أكل من الشجرة التي نهى عنها و تسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة عليها السلام بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل أدم فأخرجهما الله عز وجل عن جنته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض).(15)
أقول: ويستفاد من هذا الحديث أنَّ جنَّة آدم لإنْ كانت من جنّات الدنيا لم تكن من التِّي يطلق عليها اسم الجنَّة مجازاً كما اعتقد بذلك بعض المفسِّرين بل كانت هي الجنَّة حقيقةً حيث كانت ذات وعاء أوسع من الدنيا لأنَّه قد اجتمعت جميع تلك الثمار في شجرة واحدة من أشجارها وهذا شأن عالم الوحدة.
ولا بأس ههنا أن ننقل كلمة حول الآخرة لإمامنا قدِّس سرُّه ذكرها في كتابه القيِّم شرح دعاء السحر تحت عنوان (ليس في الآخرة تزاحم بين الكثرات) قال:
(سمعت من أحد المشايخ من أرباب المعرفة رضوان الله عليه يقول: أنَّ في الجنَّة شربةً من الماء فيها جميع اللذات من المسموعات بفنونها من أنواع الموسيقى والألحان المختلفة، ومن المبصرات بأجمعها من أقسام لذات الأوجه الحسان وسائرها من الأشكال والألوان، ومن سائر الحواس على ذلك القياس حتّى الوقاعات وسائر الشهوات كلٌّ يمتاز عن الآخر. وسمعت من أحد أهل النظر رحمه الله تعالى يقول: أنَّ مقتضى تجسُّم الملكات وبروزها في النشأة الآخرة أنَّ بعضَ الناس يُحشر على صُوَرٍ مختلفة، فيكون خنزيراً وفأرة وكلباً إلى غير ذلك في آنٍ واحد. ومعلوم أنَّ ذلك لسعة الوعاء وقربها من عالم الوحدة والتَّجرد وتنزُّهها عن تزاحم عالم الطبيعة والهيولى انتهى كلامه أعلى الله مقامه).(16)
ثمَّ إنّ في الحديث قد ذكرت كلمة الحسد وهل المقصود منه الحسد المصطلح لدينا والذي هو من المحرمّات الذي هو يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب؟
قال العلاّمة المجلسي رحمه الله:
المراد بالحسد الغبطة التي لم تكن تنبغي له عليه السلام و يؤيده قوله عليه السلام وتمنَّى منزلتهم.(17)

الوسوسة!!
الشيطان بعد أن طُرد من رحمة الله وقربه وشمله اللعن الإلهي صار عدوّاً بيِّناً للإنسان كما صرَّح بذلك القرآن الكريم في مواضعَ ثمانية بأنَّ الشيطان للإنسان عدوّاً مبينا وبخصوص إبليس قال تعالى مخاطباً لآدم:
(يا آدم إن هذا عدوّ لك و لزوجك فلا يُخرجنكما من الجنَّة فتشقى).(18)
أقول: أمّا عداوة إبليس لآدم فذلك واضح، كيف وهو الذي أبي وأستكبر ولم يُطع الله فيما أمره من السجود و لهذا فقد لعنه الله سبحانه وأبعده عن رحمته ومن الطبيعي أنَّ من يبتعد عن الخير المطلق سوف ينغمر في الشرّ المطلق.
والظاهر أنَّ الخطاب هنا خاص لآدم ويتعلق بخصوص إبليس وذلك لمكان قوله تعالى إنَّ هذا.
ثمَّ إنَّ التصريح بزوج آدم في الآية المباركة وتكرار حرف الجرّ أعني اللام في ولزوجك ربما يستهدف أمرين:
1- الإهتمام البالغ بالمسألة وعدم التهاون بها حيث أنَّ العداوة تشمل الزوجة أيضاً ومن الطبيعي أنَّ آدم كان متعلقاً بزوجته ومستأنساً بها.
2- التنبيه المسبق لآدم عمّا سيحدث و هو أنَّ زوجتَه هي التِّي سوف تدعوه إلى الأكل من تلك الشجرة.
ولكنْ: مع ذلك استطاع أن يُغوي آدم وذلك من خلال الوسوسة إليه (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى).(19)
والوسواس هو صوت الحلي والهمس الخفي ويستعين به الشيطان دائماً لإغواء الناس حيث يوسوس في صدورهم فلا بدَّ من الالتجاء و الاستعاذة بربِّ الناس لأجل النجاة من شرِّه كما قال تعالى:
(قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس).(20)
ومن الواضح أنَّ الإنسان لا يمكنه أن يعرف ربَّه إلاّ أن يعرف نفسَه مُسبقاً وبمعرفة النفس يمكنه أن ينجو من شرّ وساوس الشيطان فتأمَّل تعرف. ومن هنا نعرف السرّ في أهميَّة ذكر الله عندما يبتلى الإنسان بالشيطان لأنَّ الشيطان خنّاس فعند ذكر الله يفرّ وعند الغفلة يرجع ومن هنا سمِّيَ خنّاساً. (والمقصود الذي يخنس أي ينقبض إذا ذكر الله تعالى) وقوله تعالى:
(فلا أقسم بالخنس)
أي الكواكب التي تخنس بالنهار، والإنسان يمكنه أن يتخلص من الشيطان بمجرد أن يذكر الله:
(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).(21)
فعلى الرغم من أنَّ الله سبحانه قد حذَّر آدم من التقرُّب إلى تلك الشجرة إلاّ أن الشيطان قد استغل أسلوبه الخطير الذي هو التسويل والتزيين (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى).(22)
لأنَّ آدم عليه السلام كان يرغب في الخلود و البقاء في الجنَّة وشجرةُ الخلد تعني أنَّه سوف يُرسِّخ من خلالها جذوره في الجنَّة ومن ثمَّ سوف يصل إلى مُلكٍ لا يزول أصلاً.
ولكن كان هدف الشيطان أن يُزيل آدم وزوجته من تلك الحالة النورانيَّة التِّي شرحناها سابقاً حيث لم يكن يحتاج إلى اللباس ولم يكن يجوع حيث أنَّه لم يكن يطلق عليه الجسم بالمعنى الفعلي حتَّى يحتاج إلى الغذاء الجسماني نعم كان يتنعَّم بالأغذية الروحانية والمعنوية كما ورد في شأن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلَّم:
(إن الملائكة طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس)
ومن هنا نشاهد أنَّ الوصال في الصوم كان مباحا للنبي صلى الله عليه وآله وحرام على أمته ومعناه أنه يطوى الليل بلا أكل وشرب مع صيام النهار لا أن يكون صائما لأن الصوم في الليل لا ينعقد بل إذا دخل الليل صار الصائم مفطرا إجماعا فلما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم أمته عن الوصال قيل له انك تواصل فقال:
(إني لست كأحدكم إنِّي أظل عند ربى يطعمني و يسقيني)(23) (وقد قال صلى الله عليه وآله أن عيني تنامان ولا ينام قلبي)(24) (العطار عن أبيه عن الاشعرى عن الجامورانى عن منصور بن العباس عن عمرو بن سعيد عن الحسن بن صدقه قال قال أبو الحسن الأول عليه السلام قيلوا فان الله يُطعم الصائم و يسقيه في منامه).(25)
وإذا نجح في هذه المرحلة فسوف يمكنه أن يغويهما بسهولة في المراحل الأخرى:
(فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ما وُرِى عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلَّهما بغرور).(26)
والظاهر أنَّ آدم كان معجباً بالملائكة حيث استغلَّ الشيطان هذا الإعجاب فقال إلا أن تكونا ملكين ولو كان آدم عارفاً نفسَه حقَّ المعرفة لكان من اللازم أن لا ينخدع بمثل هذا الكلام ومن المفروض أن يَردَّ على الشيطان بأنَّه أفضل من الملك! ولكنَّه لم يكن يعرف السرّ الكامن فيه والهدف الذي خلق لأجله حقَّ المعرفة كما شرحنا سابقاً ومن هنا نراه قد اقتنع بكلام الشيطان خصوصاً عندما استعان بالقسم الكاذب وأنَّه بالفعل من الناصحين!
فماذا حدث؟ يقول سبحانه:
(فأكلا منها فبدَت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورقِ الجنة وعصى آدم ربَّه فغوى).(27)

الهبوط
فماذا حصل بعد الأكل؟
الذي حصل ليس هو إلاّ الهبوط من الحالة الروحانيَّة النورانيَّة إلى الحالة الجسمانية الظلمانيَّة.
وقد ذكر الله ذلك من خلال لازمه حيث قال: (فبدت لهما سوآتهما)
وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنَّما يدلُّ على تغيير حالتهما ليس إلاّ والشاهد على ذلك قوله تعالى: (وطفقا يخصفان عليهما من ورقِ الجنة) فلا يَزالا يعيشان في الجنَّة وهما خارجان منها وذلك لأنَّهم كانا يحتاجان لستر عورتهما إلى ورقها وهذا معنى الهبوط الذي يلازمه الشقاء والتعب وقد شرحناه سابقاً وسنُبيِّنه في مطاو كلامنا والدليل على ذلك قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين).(28)
تأمَّل في قوله تعالى: (فأخرجهُما ممّا كانا فيه)
فكلمة ما تُشير إلى الحالة التِّي كانا فيها وتبيِّن الصفة التِّي كانا مُتصفين بها لأنَّ الضمير في عنها يرجع إلى الجنَّة فهما قد أُزِّلا عن الجنَّة وجرّاء الإزلال و الانزلاق عن الجنَّة حصلت حالة أخرى وهي أنَّهما أخرجا ممّا كانا فيه أي من تلك النورانية التي كانا فيها (هذا ما يستفاد من الفاء في قوله تعالى (فأخرجهما).
وقد ذكر القرآن الكريم هبوط آدم في مواضع ثلاثة:
الأوَّل: بتثنية الفعل:
(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى).(29)
الثاني: بجمع الفعل:
ألف: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).(30)
ب: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون).(31)
ج: (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).(32)
ونفس الحالة ولكن بمستوى آخر قد حدثت فيما بعد لبني إسرائيل حيث لن يصبروا على طعام واحد:
(وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)
وكانوا يطلبون من موسى أن يدعوَ الله أن يُخرج لهم الأطعمة المتنوِّعة
(فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها)
وهذه الأطعمة المستخرجة من الأرض هي أطعمة الدنيا ومن هذا المنطلق صارت هي الأدنى
(قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)
ولابدَّ من الهبوط عن تلك الحالة الخاصَّة المعنويَّة لمثل هذا الإنسان الحريص على الدنيا:
(اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم)
وبطبيعة الحال لم يكن موسى عليه السلام يرغبُ لبني إسرائيل هذا الهبوط الذي يؤدِّي إلى الذلة:
(وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله).(33)

نتيجة الهبوط
التورُّط في الدنيا ومزاحماتها وكثراتها ومن ثمَّ السعي لتصاحبها بنحو تامّ كلٌّ يريده وهذا ما أوجد العداوة والبغضاء بين الناس:
(وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو)
وأوَّل حادث حدث هو قتل قابيل هابيل حيث يقول تعالى:
(فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين).(34)
(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحي الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون).(35)
ثمَّ إنَّ إرسال الرسل وإنزال الكتب لم يكن ضمن المُخطَّط الأوَّل، ولم يكن بني آدم يفتقر إلى الهداية بهذه الصورة لأنَّه كان يعيش عالم الأنوار ولكن حيث أنّ الإنسان قد وقع في معرض الهلاك بسبب مكائد الشيطان وحِيَلِه كان من اللازم عليه سبحانه أن يُرسل الرسل ويُنزل معهم الكتب حيناً بعد حين لئلاّ يكون للناس على الله حجّة.
ومن الطبيعي أنّهما قد ارتكبا خلافاً لأوامر الله ولهذا يقول سبحانه
(وناداهما ربُّهما ألم أنهَكُما عن تلكما الشجرةِ وأقل لكما إن الشيطانَ لكما عدوٌّ مبينٌّ قالا رَبَّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين).(36)

قبول توبة آدم لا ينافي هبوطه
قال تعالى:
(ثم اجتباه ربُّه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعاً بعضُكم لبعض عدوٌّ فإمّا يأتينكم مني هدىً فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرضَ عن ذِكري فإن له معيشةً ضنكا ونحشُره يوم القيامة أعمى قال ربِّ لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسِيتها وكذلك اليومَ تُنسى).(37)
الآيات تدلُّ على أنَّ الله سبحانه اجتبى آدم فتاب عليه وهذا لا ينافي بقائه خارج الجنَّة لأنَّ قبول التوبة شيء والرجوع إلى الجنَّة شيء آخر ولتوضيح ذلك نذكر مثالاً فنقول:
لو أنَّ رجلاًَ كان يسكن مع أبيه في البيت من دون أن يدفع مبلغاً مقابل سكناه بل يتمتَّع بجميع ما في بيت أبيه من غير مقابل ثمَّ إنَّه وبسوء تصرُّفه نازع أباه وتشاجر معه وجرّاء ذلك طرده أبوه من البيت وحرمه من جميع تلك التسهيلات التي كان يتنعَّم بها فاضطرَّ إلى العيش في مكان ضيِّق وذلك مقابل إيجار وتحمُّل المشاق والصعوبات فابتلى بمصيبتين:
1-الحرمان من أبيه كمصدر للعاطفة والحنان (وهو أمرٌ معنوي بحت).
2-الخسارة المالية التي يتحمَّلها اثر إخراجه من البيت (وهو أمر مادِّي).
فلو فرض أنَّه اعتذر من أبيه، وطلب منه قبولَ عذره وأصرَّ على ذلك وبالفعل اكتسب رضاه، فهذا لا يعني أنَّه سوف يرجعه إلى البيت مرَّةً ثانية حيث لا تلازم بينهما بل الخير والمصلحة في بقائه خارج البيت لعلَّه يَعتبر فيسعى لإرجاع نفسه إلى ما كان فيه مرَّةً أخرى.
فإذاً قبول عذره قد حلَّ مشكلةً واحدةً من مشاكله أعني المشكلة المعنوية وهي الأهمّ ولكن تبقى المشكلة الثانية ولكن المشكلة الأولى باقية على ما كانت، وحلُّها الحاسم يتطلَّب السعي والجدّ في كسب الرضا القلبي للأب مضافاً إلى جبر ما حدث كي لا يبقى شيء من الخجل أصلاً.
ولو فُرض أنَّ الأب أرجعه إلى بيته مباشرةً فلا جدوى في ذلك حيث لا رغد في هذا العيش بعد ما حدث من التقصير.
ومن هنا صار الأصلح (بعد الخروج) البقاء خارج البيت والسعي للوصول إليه مرَّةً ثانية ولكن بالسعي المتواصل.
وعلى ضوء المثال الذي بيَّناه نقول:
بعد أن أكل آدم من الشجرة حدثت له مشكلتان:
1- ابتعد عن رحمة ربِّه.
2- ابتلى بالهبوط وعاش في عالم الدنيا الذي ليس هو إلاّ متاع.
فبعد أن رجع إلى ربِّه وتاب وقبلت توبته اقترب إلى ربِّه مرَّةً ثانية وعاش في ظل رحمته ولكن هذا لا يعني أنَّه رجع إلى ما كان فيه بل لم يكن الرجوع حينئذٍ يُجديه بعد اللتيا والتي حيث الخجل من ربِّه العطوف في حقِّه فكان الحلُّ الوحيد للرجوع إلى جنته هو أداء تكاليفه (والخير فيما حدث) لا(الخير في حدوثه). فمادام حدث ما حدث فلا بدَّ من حلٍّ!! فيا ترى ما هو الحل؟ هذا ما سنبيِّنه فيما بعد.
ولأنَّ إبليس نجح في إغوائه لآدم عليه السلام واستطاع أن يخرجه من الجنَّة ويورِّطه في عالم الكثرة والاختلاف صار الدنيا متاعاً للإنسان ووسيلةً لرُقيِّه أو انحطاطه فهو:

متاع الغرور
القرآن الكريم عندما يريد أن يميِّز بين الآخرة والدنيا يُطلق كلمة المتاع على الحياة الدنيوية:(زين للناس حبّ الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن المآب).(38)
فتلك الأمور كلُّها هي متاع الحياة الدنيا وقال تعالى:
(وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع).(39)
ومن ناحية أخرى يوصف الدنيا بأنَّها متاع الغرور:
(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).(40)
قال صاحب المفردات "الراغب الإصفهاني" في معنى كلمة الغرور:
(غرر: يقال غررت فلانا" أصبت غرته ونلت منه ما أريده والغرة غفلة في اليقظة والغرار غفلة مع غفوة.. فالغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل الدنيا تغر وتضر وتمر).
وعندما يبيِّن القرآن الكريم كيفيَّة إغواء الشيطان يقول:
(واستفزز من استطعت منهم بصوتك و اجلب عليهم بخيلك و رجلك و شاركهم في الأموال و الأولاد و عدهم و ما يعدهم الشيطان الا غرورا).(41)
(يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا).(42)
وبالنسبة إلى إغوائه آدم وحواء قال:
(فدلاهما بغرور).(43)
ومن هنا نشاهد أنَّه تعالى يخاطب رسوله:
(لا يغرنَّك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد)(44)
(قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)(45)
(لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا).(46)
المصادر :
1- طه 116-117.
2- البقرة 35.
3- الأعراف 19.
4- طه 118-119.
5- بحار الأنوار ج11 ص122 رواية 56 باب1.
6- البقرة 57، 58.
7- الأعراف/160،161.
8- طه 80.
9- وهما (وقلنا يا آدم أسكن أنت و زوجُك الجنة و كلا منها رغداً حيث شئتما) (ويا آدم أسكن أنت و زوجُك الجنة فكلا من حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين).
10- بحار الأنوار ج 13 ص 167 باب 6.
11- بحار الأنوار ج 24 ص 401 رواية 130 باب 67، ج 36 ص 123 رواية 66 باب 39.
12- بحار الأنوار ج 11 ص 145 رواية 14 باب 2.
13- بحار الأنوار ج 11 ص 167 رواية 13 باب 2.
14- بحار الأنوار ج 10 ص 386 رواية 1 باب 23.
15- بحار الأنوار ج11 ص164 رواية9 باب3.
16- شرح دعاء السحر للإمام الخميني ص 39، 40.
17- بحار الأنوار ج 11 ص 165 رواية 9 باب 3.
18- طه 117.
19- طه120.
20- الناس 1-6.
21- الأعراف 199.
22- طه120.
23- بحار الأنوار ج 16 ص 389 رواية 96 باب 11.
24- بحار الأنوار ج 67 ص 253 رواية 88 باب 12.
25- بحار الأنوار ج 96 ص 290 رواية 8 باب 36.
26- الأعراف 20-21.
27- طه 121.
28- البقرة 36.
29- طه 123.
30- البقرة 36.
31- البقرة 38.
32- الأعراف 24.
33- البقرة 57-61.
34- المائدة 30-32.
35- المائدة 32.
36- الأعراف 22.
37- طه 122-126.
38- آل عمران 14.
39- الرعد 26.
40- آل عمران 185.
41- الإسراء 64.
42- النساء 120.
43- الأعراف 22.
44- آل عمران 197.
45- الأعراف16، 17.
46- النساء 118.


source : دار العرفان
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

صلاة ألف ركعة
العلاقة بين المصحف العلوي والقرآن المتداول اليوم
في رحاب نهج البلاغة – الأول
حد الفقر الذی یجوز معه اخذ الزکاة
ومن وصيّة له لولده الحسن (عليهما السلام): [يذكر ...
شبهات حول المهدي
الدفن في البقيع
ليلة القدر خصائصها وأسرارها
آداب الزوجین
مفاتيح الجنان(600_700)

 
user comment