عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

الإفطار في السفر

ذهبت الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة، واختاره من الصحابة: عبد الرحمن بن عوف وعمر وابنه عبد اللّه و(أبو هريرة وعائشة) وابن عباس، ومن التابعين: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السَّلام وابنه محمد الباقر ـ عليه السَّلام ـ وسعيد ب
الإفطار في السفر

ذهبت الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت عليهم السلام والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة، واختاره من الصحابة: عبد الرحمن بن عوف وعمر وابنه عبد اللّه و(أبو هريرة وعائشة) وابن عباس، ومن التابعين: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السَّلام وابنه محمد الباقر ـ عليه السَّلام ـ وسعيد بن المسيب وعطاء وعروة بن الزبير وشعبة والزهري والقاسم بن محمد بن أبي بكر ويونس بن عبيد وأصحابه(1).
اتّفقت كلمة الفقهاء على مشروعية الإفطار جوازاً أو وجوباً في السفر تبعاً للذكر الحكيم والسنّة المتواترة إلاّ انّهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة، نظير الخلاف في كون القصر فيه جائزاً أو واجباً.
وذهب جمهور أهل السنّة وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة إلى كون الإفطار رخصة وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار والصوم.
قال الجصّاص: الصوم في السفر أفضل من الإفطار، وقال مالك والثوري: الصوم في السفر أحبّ إلينا لمن قوي عليه،وقال الشافعي: إن صام في السفر أجزأه.(2)
وقال السرخسي: إنّ أداء الصوم في السفر يجوز في قول جمهور الفقهاء، وهذا قول أكثر الصحابة،وعلى قول أصحاب الظواهر لا يجوز ـ إلى أن قال: ـ إنّ الصوم في السفر أفضل من الإفطار عندنا.
وقال الشافعي: الفطر أفضل، لأنّ ظاهر ما رُوينا من آثار يدلّ على أنّ الصوم في السفر لا يجوز، فإن ترك هذا الظاهر في حقّ الجواز بقي معتبراً في أنّ الفطر أفضل، وقاس بالصلاة فانّ الاقتصار على الركعتين في السفر أفضل من الإتمام فكذلك الصوم لأنّ السفر يؤثر فيهما، قال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «إنّ اللّه وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم».(3)
وقال ابن قدامة : حكم المسافر حكم المريض في إباحة الفطر وكراهية الصوم وإجزائه إذا فعله، وإباحة الفطر ثابتة بالنص والإجماع، وأكثر أهل العلم على أنّه إن صام أجزأه ـ إلى أن قال: ـ والفطر في السفر أفضل.(4)
وقال القرطبي: واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما: الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجعل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي، قال الشافعي ومن تبعه: هو مخيّر ولم يُفضِّل وكذلك ابن عليّة.(5)
وهذه النقول وغيرها صريحة في اتّفاق الجمهور على جواز الإفطار في السفر لا على وجوبه مع اعتراف الشافعي بأنّ ظواهر الأدلّة هو المنع عن الصوم حيث قال: «لأنّ ظاهر ما روينا من الآثار يدلّ على أنّ الصوم في السفر لا يجوز».(6) وإن كان ما نقله القرطبي وغيره عنه يخالفه.
وعلى كلّ تقدير، فالمهم هو بيان ما يستفاد من الأدلّة من كون الإفطار عزيمة أو رُخصة. وسيتضح إليك انّ الإفطار عزيمة يدلّ عليها الكتاب والسنّة.

الكتاب وصوم رمضان في السفر

قال سبحانه: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون).(7)
(أَيّاماً مَعْدُودات فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْ عَلى سَفر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخَرَ وَعَلى الَّذينَ يُطِيقُونهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكين فَمَنْ تَطوَّعَ خَيراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون).(8)
(شَهْرُ رَمَضـانَ الَّذِي أُنْزلَ فيـهِ القُرآنُ هُدىً لِلنّـاسِ وَبَيِّنات مِنَ الهُـدى وَالْفُـرْقانِ فَمَـنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَريضاً أَوْعَلى سَفـر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّـام أُخرَ يُريـدُ اللّهُ بِكُمُ اليُسْـرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْـرَ وَلتكمِلُوا العِـدَّة وَلتُكَبّـروا اللّهَ عَـلى مـا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُـمْ تَشْكُرُون) .(9)
إنّ هذه الآيات المباركة تتضمّن أحكام الطوائف الأربع بعد التأكيد على أنّ الصوم ممّا كتب على المؤمنين كما كتب على الذين من قبلهم والكتابة آية الفرض والوجوب غالباً، وليس للمكلّف تركه، فاللّه سبحانه يخاطب قاطبة المؤمنين بقوله: (يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) . فالصيام مكتوب على الإنسان بأشكال مختلفة من غير فرق بين المُصحّ والمريض والمسافر والمُطيق، لكن يختلف امتثاله حسب اختلاف أحوال المكلّف، لأنّه ينقسم حسب العوارض إلى الأصناف الأربعة، ولكلّ صنف حكمه.
الفقيه كلّ الفقيه ما يكون بصدد فهم القرآن والسنّة سواء أوافق مذهب إمامه الذي يُقلّده أم خالف، غير انّ كثيراً من المفسرين في تفسير هذه الآيات حاولوا أن يطبقوها على مذهب إمامهم من دون أن يُمعنوا النظر في مفردات الآية وجملها حتّى يخرجوا بنتيجة واحدة من دون اختلاف وقد عرفت أقوالهم.
فنقول: الآيات المتقدّمة تبيّـن أحكام الأصناف الأربعة التي عرفت عناوينها، وإليك بيان ما يستفاد من الآيات في حقّ هؤلاء.

1. الصحيح المعافى

إنّ قوله سبحانه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهر فَلْيَصُمهُ) صريح في لزوم الصوم لمن شهد الشهر، من غير فرق بين تفسير شهود الشهر بالحضور في البلد وعدم السفر، أو برؤية الهلال، فليس للشاهد إلاّ تكليف واحد وهو صوم الشهر كلّه إذا اجتمعت فيه الشرائط.

2. المريض
3. المسافر

وقد بيّن سبحانه حكم المريض والمسافر بقوله في موردين:
ـ (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْ عَلى سَفر فعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخر) .(10)
ـ (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخر) .(11)
والمقصود فهم ما تتضمّنه الجملة في الموردين من الحكم في حقّ المريض والمسافر، فهل هو ظاهر في كون الإفطار عزيمة أو رخصة؟
والإمعان في الآية يثبت انّ الإفطار عزيمة، وذلك بوجوه أربعة:
الأوّل: وجوب الصيام في العدّة، آية لزوم الإفطار
إنّ معنى قوله سبحانه:(فَعِدَّة مِنْ أَيّام أُخر) أي «فعليه صيام عدّة أيام أُخر» أو «يلزمه صيام تلك الأيام»، وهذا هو الظاهر من أكثر المفسرين حيث يذكرون بعد قوله سبحانه :(فَعِدَّة مِنْ أَيّام أُخر) قولهم: عليه صوم أيّام أُخر. وعلى ذلك فالمتبادر من الآية هو انّه يلزمه صيام تلك الأيّام ، أو على ذمّته صيامها، هذا من جانب.
ومن جانب آخر: انّه إذا وجب صيام تلك الأيام مطلقاً، يكون الإفطار في شهر رمضان واجباً، وإلاّفلو جاز صومه، لما وجب صيام تلك الأيام (أيّام أُخر) على وجه الإطلاق فإيجاب صيامها كذلك، آية وجوب الإفطار في شهر رمضان.
الثاني: التقابل بين الجملتين يدلّ على حرمة الصوم
إذا كانت في الكلام جملتان متقابلتان فإبهام إحداهما يرتفع بظهور الأُخرى، وهذا ممّا لا سترة عليه، وعلى ضوء هذا نرفع إبهام قوله:(أو على سفر) بالجملة الأُخرى التي تقابله فنقول:
قال سبحانه في من شهد الشهر:
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْر فَلْيَصُمْه) .
ثمّ قال في من لم يشهد الشهر:
(فَمَنْ كانَ... أو عَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخر) .
فإذا كان معنى الجملة الأُولى انّ الشاهد يصوم، يكون معنى الجملة الثانية ـ بحكم التقابل ـ انّ غير الشاهد (المسافر )لا يصوم، فإذا كان الأمر في الجملة الأُولى ظاهراً في الوجوب يكون النهي في الثانية ظاهراً في التحريم.
وقد روى عبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ قال: قلت له : (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ، قال: «ما أبينها:
من شهد الشهر فليصمه ومن سافر فلا يصمه».(12)
الثالث: المكتوب عليهما من أوّل الأمر هو صيام العدّة
إنّ ظاهر قوله سبحانه: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام أُخر) هو انّ المكتوب على الصنفين من أوّل الأمر هو الصيام في أيّام أُخر، فإذا كان الصيام واجباً على عامة المكلّفين وكان المكتوب عليهم من أوّل الأمر هو الصيام في أيام أُخر، فصيامهم في شهر رمضان يكون بدعة وتشريعاً محرّماً، لاتّفاق الأُمّة على عدم وجوب صومين طول السنة.
كلمات بعض المفسرين تدعم موقفنا
إنّ لفيفاً من المفسرين عند تفسير الآية ـ حرفيّاً ـ فسروا الآية على غرار ما ذكرنا، لكن عندما وصلوا إلى بيان حكم الإفطار من العزيمة والرخصة، صدّهم فتوى إمامهم عن الإصحار بالحقيقة.
يقول الطبري: فمن كان منكم مريضاً ممن كلّف صومه أو كان صحيحاً غير مريض وكان على سفر فعدّة من أيام أُخر(يقول) فعليه صوم عدّة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره من أيام أُخر، يعني من أيّام أُخر غير أيّام مرضه أو سفره.(13)
فظاهر قوله: «فعليه صوم عدّة أيّام» أي يلزم عليهما صوم تلك العدة، ومع لزوم القضاء مطلقاً كيف يكون مخيّراً بين الإفطار والصيام؟!
قال ابن كثير:(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْعَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخر) أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر، لما في ذلك من المشقة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أُخر.(14)
وفي الوقت نفسه هو يقول بعد صفحة: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهر فلْيَصمه) فأثبت اللّه صيامه على المقيم الصحيح ورخّص فيه للمريض والمسافر.(15) فأين قوله: «لا يصومان في حال المرض والسفر» من قوله: ويرخّص فيه للمريض والمسافر؟!
فالتعبير الأوّل تعبير عن ظهور الآية جرى على قلمه بصورة عفوية من دون أن يلتفت إلى مذهب إمامه، والجملة الثانية صدرت منه ـ غفلة عمّا ذكره ـ لدعم رأي إمام مذهبه.

تقدير «فافطر» لتطبيق الآية على المذهب

ثمّ إنّ بعض المفسرين لما أدرك ظهور الآية في لزوم الإفطار وصيام أيّام أُخر مكان الأيّام التي أفطر فيها، حاول أن يطبِّق الآية على مذهب الترخيص فقدّر بعد قوله: «أو على سفر» لفظة «فأفطَرَ» وقال: «فأفطَرَ» فعدّة من أيّام أُخر، وكأنّ الصيام كتب عليهم أيضاً في شهر رمضان لكن لهم الخيار، فإذا أفطروا يجب عليهم صيام العدة وإن لم يفطروا فلا، وليس هذا إلاّ لغاية تطبيق الآية على المذهب دون تفسير الآية برأسها، وها نحن نذكر نماذج من كلماتهم:
1. إنّ الإمام الرازي ممّن ذكر دليل القائل بكون الإفطار عزيمة لا رخصة ومع ذلك اختار المذهب الآخر بحجّة انّ في الآية تقديراً أعني: «فافطر»، أو انّ القضاء يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر، يقول:
ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنّه يجب على المريض والمسافر أن يفطر أو يصوم عدّة من أيّام أُخر وهو قول ابن عباس وابن عمر.
وذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ الإفطار رخصة، فإن شاء أفطر وإن شاء صام.

احتجّ الجمهور بوجوه:

الأوّل: انّ في الآية إضماراً، لأنّ التقدير: فافطر فعدة من أيّام أُخر.
الثاني: ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط، قال: القضاء إنّما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر.
الثالث: ما رواه ابن داود في سننه عن هشام... انّ حمزة الأسلمي سأل النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ وقال: يا رسول اللّه هل أصوم على السفر؟ فقال ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : صم إن شئت وأفطر إن شئت.(16)
يلاحظ على الوجه الأوّل: انّ الإضمار على خلاف الظاهر. ولا دليل على تقديره سوى تطبيق الآية على المذهب الفقهي.
وعلى الوجه الثاني: فهو ادّعاء بلا دليل، وظاهر الآية والروايات التي ستوافيك انّ السفر لا يجتمع مع الصوم سواء أفطر أو لا.
وأمّا الوجه الثالث: فسيوافيك حال الرواية، فانتظر.
2. قال صاحب المنار في تطبيق الآية على فتوى مذهب الجمهور : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْ عَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخر) أي من كان كذلك «فافطر» فعليه صيام عدّة من أيّام أُخر غير تلك الأيّام المعدودات، فالواجب عليه القضاء ـ إذا أفطر ـ بعدد الأيام التي لم يصمها.(17)
أقول: ما ساق صاحبَ المنار إلى تقدير قوله«فافطر» أو قوله:«إذا أفطر» إلاّ وقوفه على دلالة الآية على لزوم الإفطار وانّ الواجب عليه هو صوم عدّة أيّام أُخر، فحاول بتقدير «إذا أفطر» أن يصرف الآية عن ظهورها ويجعلها ظاهرةً في التخيير بين صيام رمضان وصيام عدّة أيّام أُخر.
والعجب انّه يصرّح في موضع آخر من كلامه بأنّه «تأويل»، ومعنى كلامه عندئذ انّه صرفٌ للآية عن ظاهرها بلا دليل.
يقول: اختلف السلف في هذه المسألة فقالت طائفة: لا يجزي الصوم عن الفرض، بل من صام في السفر وجب عليه قضاؤه في الحضر، لظاهر قوله تعالى: (فعِدّة من أَيّام أُخر) ... ظاهره فَعَليه عدّة أو فالواجب عدة، وتأوّله الجمهور بأنّ التقدير: فأفطر فعدة.(18)
ولا ينقضي تعجّبي منه، حيث إنّه يصفه بأنّه تأويل ـ و مع ذلك يصرّ على صحة فتوى الجمهور، ومع أنّه يندّد في ثنايا تفسيره بجملة من المقلّدين لأئمّة مذاهبهم حيث يؤوّلون ظواهر الآية تطبيقاً لها لفتوى مذهب إمامهم، ويقول في مسألة الطلاق ثلاثاً ـ التي اختار فيها تبعاً لظاهر القرآن بأنّه لايقع إلاّ مرة واحدة ـ : ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم فانّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها، لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب اللّه وسنّة رسوله.(19)
وقد ردّ غير واحد من علماء الإمامية على من قدّر «فأفطر» بغية إثبات التخيير.
يقول الشيخ الطوسي: وفي هذه الآية دلالة على أنّ المسافر والمريض يجب عليهما الإفطار، لأنّه تعالى أوجب عليهما القضاء مطلقاً، وكلّ من أوجب عليه القضاء بنفس السفر والمرض، أوجب الإفطار...
فان قدّروا في الآية «فافطر» كان ذلك على خلاف الآية. وبوجوب الإفطار في السفر قال عمر بن الخطاب (وقد ذكر أسماء عدّة من الصحابة والتابعين القائلين بوجوب الإفطار الذين ذكرنا أسماءهم في صدر البحث).(20)
يقول العلاّمة الطباطبائي: (فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام أُخر) «الفاء» للتفريع، والجملة متفرعة على قوله:«كتب» و قوله:«معدودات» أي انّ الصيام مكتوب مفروض عليهم فيها.
ثمّ يقول: وقد قدّر القائلون بالرخصة في الآية تقديراً فقالوا: إنّ التقديرفمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدّة من أيّام أُخر.
ويرد عليه أوّلاً: انّ التقدير كما صرّحوا به خلاف الظاهر لا يصار إليه إلاّ بقرينة، ولا قرينة من نفس الكلام عليه.
وثانياً: انّ الكلام على تقدير تسليم التقدير لا يدلّ على الرخصة، فانّ المقام كما ذكروه مقام تشريع وغاية ما يدلّ عليه قولنا: «فمن كان مريضاً أو على سفر فافطر» هو، انّ الإفطار لا يقع معصية، بل جائزاً بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب والاستحباب والإباحة، وأمّا كونه جائزاً بالمعنى الأخصّ فلا دليل عليه من الكلام ألبتة، بل الدليل على خلافه، فانّ بناء الكلام على عدم بيان ما يجب بيانه في مقام التشريع لا يليق بالمشرّع الحكيم وهو ظاهر.(21)
الرابع: ذكر المريض و المسافر في سياق واحد
إنّ الآية ذكرت المريض والمسافر في سياق واحد وحكم عليهما بحكم واحد وقال:(فعدّة من أيّام أُخر)فهل الرخصة في حقّ المسافر فقط، أو تعمّ المسافر والمريض؟
فالأوّل يستلزم التفكيك، فانّ ظاهر الآية انّ الصنفين في الحكم على غرار واحد لا يختلفان، فالحكم بجواز الإفطار في المسافر دون المريض لا يناسب ظاهر الآية.
وأمّا الثاني فهل يصحّ لفقيه أن يُفتي بالترخيص في المريض إذا كان الصوم ضاراً أو شاقاً عليه؟! فانّ الإضرار بالنفس حرام في الشريعة المقدسة كما أنّ الإحراج في امتثال الفرائض ليس مكتوباً ولا مجعولاً في الشرع، قال سبحانه: (وَما جَعلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج).(22)
إلى هنا تبين حكم المسافر والمريض، وإليك حكم الصنف الرابع.

4. المطيق

هذا هو الصنف الرابع الذي يبيّن سبحانه حكمه بقوله: (وَعَلى الّذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين) .
والمراد هو الشيخ الكبير والشيخة الكبيرة اللّذين لا يستطيعان أن يصوما أو لا يستطيعان إلاّ بمشقة كبيرة، والظاهر هو الثاني، لأنّ الإطاقة في اللغة أدنى درجات المكنة والقدرة على الشيء، فلا تقول العرب أطاق إلاّ إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف بحيث يتحمّل به مشقة كثيرة.
وعلى كلّ تقدير فالواجب عليه فدية طعام، وقد اختلفوا في مقدار الفدية على نحو مذكور في الفقه، فمنهم من قال: نصف صاع وهم أهل الرأي، وقال الشافعي: مدّ عن كلّ يوم، وهو المذهب المنصور عند الإمامية.
لكن الاكتفاء بهذا المقدار أمر جائز، غير انّ من قدر على الزائد من هذا المقدار فهو خير، كما يقول سبحانه: (فَمَن تَطوّع خيراً فهو خيرٌ له) أي أطعم أكثر من مسكين فهو خير.
ثمّ إنّ هنا تفسيرين آخرين للتطوّع:
1. الجملة ناظرة إلى المطيق والمقصود مـن جمع بين الصوم والصـدقة فهو خير.
يلاحظ عليه بأنّه بعيد عن ظاهر الآية، فانّ المفروض انّ الشيخ لا يطيق الصوم إلاّ ببذل عامة جهده وطاقته فهل يستحبّ له الجمع بين الصوم والصدقة؟!
أضف إلى ذلك انّ المستطيع يجب عليه الصوم وحده ولا يستحب له الفدية ولكن الشيخ الكبير يستحب له مع الصوم، الفدية!!
2. الجملة ناظرة إلى أصحاب الأعذار، أعني: المريض والمسافر، والمقصود: إن زادا على تلك الأيام المعدودات فهو خير له، لأنّ فائدته وثوابه له، و«الفاء» في قوله: (فمن تطوع) يدلّ على هذا، لأنّها تفريع على حصر الفرضية في الأيام المعدودات.(23)
يلاحظ عليه بأنّه كيف تكون الجملة ناظرة إلى أصحاب الأعذار ـ مع توسط حكم الصنف الرابع بينهما حيث قال: (فَمَنْ كان مِنْكُمْ مريضاً أَوْ عَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخر)، (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ، (فمن تطوع خير فهو خير له) .
والظاهر انّه يرجع إلى الصنف الرابع، والجملة تفريع على حصر الفرض في طعام مسكين، والمقصود: فمن تطوّع بزيادة إطعام المسكين فهو خير له.
إلى هنا تمّ حكم الأصناف الأربعة.
بقي الكلام في تفسير قوله سبحانه(وان تصوموا خير لكم) فنقول:
من هو المخاطب في قوله: (وان تصوموا خير لكم)؟
ثمّ إنّه سبحانه بعدما بيّن أحكام الأصناف الأربعة خاطب عامة المؤمنين مرّة أُخرى بقوله:
(وَإن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) .
وهذا الخطاب على غرار الخطاب السابق، أعني قوله:
(يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام) .
والفرق بين الخطابين انّ الخطاب السابق خطاب قبل التفصيل ودعوة إلى الصوم والخطاب اللاحق خطاب بعد تفصيل أحكام الأصناف الأربعة، فتكون النتيجة:
وان تصوموا أيّها المكلّفون على النحو المذكور في الآية خير لكم، أي: يصوم الشاهد، ويفطر المريض والمسافر ويصوم في أيّام أُخر ويفدي المطيق.
وأمّا من يقول بالرخصة في المريض والمسافر أو في خصوص المسافر يتخذ ذلك ذريعة للرخصة ويقول «إنّ الخطاب فيها لأهل الرخص، وانّ الصيام في رمضان خير لهم من الترخّص بالإفطار».(24)
يلاحظ عليه بأنّ التفسير نابع من محاولة إخضاع الآية على المذهب الفقهي، وهو التخيير بين الصوم والإفطار، ولكنّه غير تام لوجهين:
1. انّ صرف الخطاب العام إلى الصنف الخاص، تفسير بلا دليل ومن شعب التفسير بالرأي.
2. لو كان الخطاب لأهل الرخص كان اللازم أن يقول: وان يصوم المسافر خير من الإفطار ويبيّن الحكم باللفظ الغائب، لا بالخطاب الحاضر.
بل الظاهر ـ كما مرّ ـ انّه تأكيد على امتثال الفريضة وانّ الصوم خير، فله أثره الجميل في النفس فانّ التنزّه عن الاسترسال في استيفاء اللذائذ الجسمانية، وكبح جماح الشهوات يورث التقوى والتجافي عن الاخلاد إلى الأرض.
ولغاية الإيضاح نقول إنّ الآية الثانية، تتشكل من أربع فقرات بعد بيان انّ الواجب لا يتجاوز عن كونه أيّاماً معدودات.
الأُولى: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْ عَلى سَفَرفَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخَر) .
الثانية: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطيقُونَهُ فِدْيَة طَعام مِسْكين) .
الثالثة: ( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) .
الرابعة: (وَإِنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
وجاءت الفقرات الثلاث الأُول بصيغة الغائب بخلاف الأخيرة فجاءت بصيغة الخطاب.
وهذا دليل على أنّه منقطع عن المقاطع الثلاثة وتأكيد للخطاب الأوّل بعد التفصيل أعني قوله سبحانه:(يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيام) .
ثمّ إنّه سبحانه ذكر في الآية الثالثة: (يُريدُ اللّه بِكُمُ اليُسر ولا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْر) .
وهو بيان لحكمة رفع الصيام عن الأصناف الثلاثة، أي أُمروا بالإفطار لأجل اليسر ودفع العسر،من غير فرق بين المريض والمسافر ومن يشق عليه .
المصادر :
1- المحلّى :6/258.
2- أحكام القرآن:1/215.
3- المبسوط للسرخسي:3/91ـ92.
4- الشرح الكبير في ذيل المغني:3/17ـ19.
5- الجامع لأحكام القرآن:2/280.
6- المبسوط:3/91.
7- البقرة:183.
8- البقرة:184.
9- البقرة:185.
10- البقرة:184.
11- البقرة:185.
12- الوسائل:7، الباب1 من أبواب من يصحّ منه الصوم، الحديث8.
13- تفسير الطبري:2/77.
14- تفسير القرآن العظيم:1/376.
15- المصدر نفسه:1/378.
16- التفسير الكبير:5/74و76.
17- تفسير المنار:2/150.
18- تفسير المنار:2/153.
19- تفسير المنار:2/386.
20- التبيان:2/150.
21- الميزان:2/11.
22- الحج:78.
23- تفسير المنار:2/158.
24- تفسير المنار:2/158، نقله عن بعض المفسرين وردّ عليه بقوله: وهذا غير مطرد ولا متفق عليه.


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

مبادئ المعرفة ومعرفة الوجود والإنسان لدى الإمام ...
أعمال الليلة الاولى من شهر رمضان المبارك
خصائص الأسرة المسلمة
مؤتمر مبلغي المجمع العالمي لأهل البيت (ع) في ...
الحُضور في مواضع التهم
إصدار كتاب "ضوابط الاصول" في 6 مجلدات
الجزع على الميت
ابن حجر و التوسّل
من هم المخلدون في النار؟
فضائح القساوسة الجنسية ...الزواج الطريق الاسلم

 
user comment