عربي
Friday 19th of April 2024
0
نفر 0

الدوافع الروحية للعبادة

الدوافع الروحية للعبادة


و هناك نقطة لا بد من إثارتها في الحديث عن عبادة اللَّه في مواقع توحيده و الإخلاص له، و هي الدوافع الروحية التي تدفع الإنسان المؤمن إلى العبادة.
فهناك الدوافع المتحركة من خلال الرغبة في الحصول على الجنّة، على أساس الحصول على رضاه، و هناك الدوافع المنطلقة من خلال الرهبة من النار، على أساس البعد عن مواقع سخطه، و هناك الدوافع المنفتحة على اللَّه في مواقع ألوهيته في عظمته في كل صفاته الجمالية و الجلالية، على أساس استحقاقه للعبادة في ذاته، بعيداً عن عامل الرغبة أو الرهبة.                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 66
 و قد يخيّل لبعض الناس أن العبادة الحقيقة تتمثل في الصنف الثالث، لأنها المظهر الحيّ للخضوع للذات الإلهية، من دون أن يكون هناك أيّ شي‌ء للعنصر الذاتي للعابد، في ما يحتاج إليه من ربح لمصلحته، أو في ما يبتعد عنه من خسارة لحساب حاجته، فإن الرغبة و الرهبة حالتان إنسانيتان تحرّكان الإنسان نحو ذاته حتى في انفتاحه على اللَّه، أكثر مما تحركانه نحو اللَّه في مواقع ألوهيته.
و هذا هو الإيحاء الفكري، في ما
جاء عن الإمام علي عليه السّلام في نهج البلاغة، قال: «إنّ قوما عبدوا اللَّه رغبة فتلك عبادة التجار، و إن قوما عبدوا اللَّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا اللَّه شكرا فتلك عبادة الأحرار» «1».
فقد نلاحظ- في هذه اللفتة التعبيرية- لونا من الإيحاء بأن الإنسان الذي ينطلق من الرغبة إنسان تاجر يتحرك من الذهنية التجارية، كما أن الذي ينطلق من الرهبة عبد يتحرك من عقلية العبيد الهاربة من كل عقاب .. فليستا حالتين في العبادة، بل هما حالتان ماديتان في الاستغراق الإنساني في ذاته، في ما يجلب لها من النفع أو يدفع عنها من الضرر. و
قد نقل عنه أنه قال: «إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك و لا طمعاً في جنتك و لكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك» «2».
و لكننا لا نرى في عنصر الخوف و الطمع أيّة منافاة للمعنى العميق للعبادة، لأن الخضوع الإنساني المستغرق في ذات اللَّه- المعبود، ينطلق من التفكير في عظمته بحيث يشعر بأنه مشدود إليه في وجوده، و مفتقر إليه في حاجاته، و خاضع له في مصيره، فإن الرغبة أو الرهبة- بالمعنى المطلق- لا
__________________________________________________
 (1) نهج البلاغة، قصار الحكم/ 237.
 (2) مرآة العقول، باب النية، ج: 2 ص: 101، الطبعة القديمة.
                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 67
تتعلقان إلّا بالذي يملك الأمر كله، من خلال أنه يملك الوجود كله، بحيث لا يغيب عنه شي‌ء منه و لا يعجز عن شي‌ء فيه، و لا يعجزه أحد من المخلوقين.
و لا سيّما إذا كانت مواقع الرغبة أو الرهبة خارجة من دائرة الحس و داخلة في دائرة الغيب، مما لا يتمكن أحد من المخلوقين الوصول إليه، كما هي الجنة و النار.
و إذا كان الأمر كذلك، فلا بد من وعي مسألة العظمة في عمق مسألة الحاجة، على أساس أن ذلك هو الذي يجعله أهلا للعبادة، لأنه الذي يرجع إليه في كل شي‌ء و لا يرجع إلى غيره إلا من خلاله، و لأنه الذي يخاف منه كل شي‌ء، و لا يخاف من أحد إلّا من خلاله.
و بذلك يختزن الخوف منه و الطمع فيه معنى أهليّته للعبادة، الأمر الذي لا يسي‌ء إلى معنى العبادة بل يؤكدها بطريقة أخرى.
و قد جاء في القرآن الكريم التأكيد على استقامة العبادة في هذا الخط، و ذلك كما في قوله تعالى: تَتَجافى‌ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً [السجدة: 16] و قوله تعالى: وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] و قوله تعالى: يَبْتَغُونَ إِلى‌ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء: 57].
و على هذا الأساس، تنطلق التربية الإسلامية لتؤكد على الجانب الإنساني في التطلعات الذاتية التي يعيشها الناس في ما يتحركون فيه من قضايا و أوضاع، على أساس رغبتهم بما يصلحهم، و خوفهم مما يفسد أمورهم، فإن من الصعب عليهم أن يتجردوا عن ذلك في حركة وجودهم المنفتح على العنصر المادي، من خلال طبيعة الحس المادي في الذات. و لذلك، فقد انفتح الإسلام على هذا الجانب، فلم يبعد الإنسان عنه، و لم يجعله ضد القيمة الروحية، بل وجّهه إلى الارتباط باللَّه في مواقع الرغبة و الرهبة على مستوى                        تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 68
 الدنيا و الآخرة، و في ما هي قضايا النعمة و البلاء في الدنيا، و قضايا الجنة و النار في الآخر، على صعيد سلامة الذات في ما تحتاجه و في ما تخاف منه، مما جعل الحس الإنساني الواقعي يلتقي بالقيمة الروحية المنفتحة على اللَّه من خلال حركة الحياة في الوجود الإنساني.
و هذا هو المنهج الإنساني في تهذيب دوافع الإنسان في العمل بدلًا من إلغائها، ليتحرك الإنسان من خلال الواقع لا من خلال المثال.

 

تفسير من وحي القرآن، ج‌1، ص: 68


source : دار العرفان
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

هدم قبور البقيع ..............القصة الكاملة
الحرب العالمية في عصر الظهور
الإمام الحسن العسكري (ع) والتمهيد لولادة وغيبة ...
إنّ الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى وسفينة ...
الإمام موسى الكاظم عليه السلام والثورات العلوية
زيارة السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)
الصلاة من أهم العبادات
علة الإبطاء في الإجابة و النهي عن الفتور في ...
ألقاب الإمام الرضا عليه السلام
كلام محمد بن علي الباقر ع

 
user comment